اذا انعقد العقد باتفاق الطرفين على المسائل الجوهرية مع الاحتفاظ بالمسائل التفصيلية للاتفاق عليها في وقت لاحق، فهذا يعني استمرار كل من المتعاقدين بالتفاوض حتى الوصول الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية. لذا سينشأ على عاتق كل من المتعاقدين التزام بالتفاوض يتحدد مضمونه بقيام كل منهما ببذل جهد معقول وسلوك المسلك الذي يقتضيه مبدأ حسن النية والثقة المشروعة بين الافراد، ويتجسد ذلك باتخاذ مواقف من شأنها ان تذلل العقبات وتقرب وجهات النظر للوصول الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية(1). ولا نغفل الاشارة الى ان الالتزام بالتفاوض هو مجرد التزام بوسيلة، بمعنى ان المتعاقدين لا يلتزمان بضرورة التوصل الى اتفاق حول المسائل التي يتفاوضان بشأنها، ولكن اذا أخل أي منهما بالتزامه كأن يمتنع عن مناقشة البنود المتعلقة بالموضوع محل التفاوض، او يدخل في التفاوض ويشارك في مناقشة الامور التفصيلية الا انه لا يبذل العناية المطلوبة لانجاح المفاوضات، فهنا تقوم مسؤوليته العقدية لان الالتزام بالتفاوض التزام عقدي(2).

من هنا، فان الالتزام بالتفاوض بالمعنى المتقدم يختلف عن الالتزام بالتفاوض الذي ينشأ في الفترة السابقة على العقد والذي يستند الى مبدأ حسن النية في تكوين العقد، ويكون جزاء الاخلال به وفقاً لاحكام المسؤولية التقصيرية. ولما كان الالتزام بالتفاوض التزام بوسيلة، فان المفاوضات قد لا تنتهي بالتوصل لاتفاق حول المسائل التفصيلية، وحينئذٍ لا يكون امام المتعاقدين الا اللجوء الى المحكمة المختصة لتفصل في الخلاف حول هذه العناصر الثانوية وهذا ما أشارت له (م86/ف2) من القانون المدني العراقي اذ جاء في شطرها الأخير ما نصه:((…. واذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها فان المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة الموضوع ولاحكام القانون والعرف والعدالة ))(3).

والقاضي لا يتدخل لحسم الخلاف حول المسائل التفصيلية الا بناء على طلب يقدمه أحد العاقدين او كليهما، بعد ان يعجزا بمفردهما عن الوصول الى اتفاق بشأن هذه المسائل، ويتعيّن على القاضي قبل البدء في تنظيم المسائل المختلف عليها ان يحدد نوعها وهل هي ذات صفة جوهرية ام ثانوية ؟ فاذا كانت المسائل المختلف عليها جوهرية فعندئذ لا يوجد مبرر لتدخله، اذ العقد لم ينعقد بعد والطرفان ما زالا في مرحلة التفاوض، ومن ثم يجب ان يترك لهما تنظيم المسائل المعلقة، اما اذا كانت المسائل المتروكة ثانوية فحينئذ يشرع القاضي بتنظيمها(4). ويسترشد القاضي عند اكمال نطاق العقد بتنظيم المسائل التفصيلية بعدة موجهات هي طبيعة المعاملة واحكام القانون والعرف والعدالة(5). وحري بالذكر بعد هذا، ان الفقه قد ناقش دور القاضي وفقاً لحكم ( م86/ف2) مدني عراقي، وفيما اذا كان يساهم بموجب هذه السلطة الممنوحة له في تكوين العقد، فذهب جانب من الفقه الى ان المشرع قد جعل للقاضي بموجب هذا النص دوراً في تكوين العقد مخالفاً بذلك الاصول العامة والتي تقصر دور القاضي على التفسير(6).

بينما يرى الرأي الغالب في الفقه، وهو ما نميل اليه ونؤيده، ان السلطة الممنوحة للقاضي بموجب هذه المادة تجاوز سلطته العادية في تفسير ارادة المتعاقدين وتمتد لاستكمال ما نقص منها، غير ان هذا لايعني ان القاضي يساهم في صنع العقد، ذلك ان تدخله يأتي لاحقاً على انعقاد العقد وليس سابقاً عليه(7).فالعقد في الحالة التي نحن بصددها قد أنعقد بعد أن أتفق المتعاقدان على المسائل الجوهرية، لذا فان ما يحتفظ به المتعاقدين من مسائل تفصيلية لا يؤثر على جوهر العقد أو مضمونه اياً كان تنظيم هذه المسائل، وما يرجح هذا الاستدلال ان المتعاقدين لم يعلقا ابرام العقد على حدوث اتفاق بشأنها، فالصفة الثانوية لهذه المسائل هو الذي يبرر انعقاد العقد دون اتفاق بشأنها، وهو يشير الى ان أرادة المتعاقدين قد اتجهت الى ترك تسوية هذه المسائل للقاضي اذا ما ثار خلاف بشأنها(8).

وخلاصة الأمر، ان القاضي عندما يكمل نطاق العقد بتنظيم المسائل التفصيلية وفقاً لحكم (م86/ف2) مدني عراقي، فانه لا يساهم في تكوين العقد وانما يساهم في تحديد نطاق العقد وما ينتجه من التزامات تحكم المسائل التفصيلية التي ترك المتعاقدان تنظيمها، فإرادة القاضي تتدخل الى جانب ارادة المتعاقدين في تنظيم بعض مسائل العقد بعد ان يكون الاخير قد أكتمل نشوؤه باتفاق المتعاقدين على المسائل ذات الصفة الجوهرية، ولانرى ضيراً في اعطاء القاضي مثل هذه السلطة، ذلك ان لجوء المتعاقدين للمحكمة المختصة بعد فشلهما في التوصل الى اتفاق بشأن المسائل التفصيلية دليل على تسليمهما بقدرة القاضي على ايجاد حل لهذه المسائل بالنظر لما يتمتع به من قدرات تؤهله لذلك، كما ان هذه السلطة تعزز الدور الايجابي للقاضي وتعطيه دوراً مهماً في تحديد مضمون العقد.

_________________

1- انظر: د. صالح ناصر العتيبي، مرجع سابق، ص82.

2- انظر: د. مصطفى الجمال ، السعي الى التعاقد ، مرجع سابق ،ص186.

3- وقد قضت محكمة النقض المصرية في هذا المعنى بما نصه: (( اذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا ان العقد لايتم الا عند عدم الاتفاق عليها اعتبر العقد قد تم، واذا قام بينهما خلاف على المسائل التي أرجأ الاتفاق عليها كان لهما ان يلجأى الى المحكمة للفصل فيه )) طعن رقم 1466 لسنة 48 ق، جلسة 23/1/1980، س31، ص255. اشار اليه المستشار عبد المنعم دسوقي، قضاء النقض في المواد المدنية، ط3، ج2، مجلد1، دون سنة نشر، ص221.

4- انظر: د. محمد عبد الظاهر حسين، مرجع سابق، ص27. وقد قضت محكمة النقض المصرية في هذا المعنى بما نصه: (( ان الحكم المطعون فيه، اذا اعتبر الاتفاق بين الطرفين على الارض المبيعة والثمن، مع ارجاء تحرير عقد البيع النهائي الى ان تقوم به الادارة القانونية للجنة الاصلاح الزراعي بالشروط التي يراها فيه، انه لا يعدو ان يكون مشروعاً لعقد بيع، دون ان يبحث فيما اذا كانت الشروط المرجأة جوهرية ام ثانوية، فانه يكون متسماً بالقصور مما يتعين معه نقضه )) طعن رقم 352 لسنة 39ق، جلسة 16/1/1975، مجموعة الاحكام الصادرة من الدائرة المدنية والتجارية ومن دائرة الاحوال الشخصية، س26، ص183.

5- وسنتحدث عن هذه الموجهات بالتفصيل في المبحث الاول من الفصل الثاني من هذا الباب.

6- انظر: د. عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، مرجع سابق، ص278. وعبد الرحمن سعودي، سلطة القاضي في تعديل مضمون العقد، اطروحة دكتوراه قدمت الى كلية الحقوق بجامعة القاهرة، دون ذكر سنة، ص20-21.

7- انظر: د. محمد كامل مرسي، شرح القانون المدني الجديد، ج1، الالتزامات، 1954، دون مكان نشر، ص120. ود. سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، نظرية العقد والارادة المنفردة، دون مكان نشر، 1987، ص86. ود. حسام الاهواني، مرجع سابق، ص70. ود. ياسر الصيرفي، مرجع سابق، ص19.

8- انظر: د. ياسر الصيرفي، مرجع سابق، ص19. وقد جاء في المذكرة الايضاحية للقانون المدني المصري ما نصه:(( وفي هذه الحالة يتولى القاضي امر الفصل في المسائل التفصيلية التي ارجئ الاتفاق عليها ما لم يتراضى العاقدان بشأنها. وعلى هذا النحو يتسع نطاق مهمة القاضي، فلا يقتصر على تفسير ارادة المتعاقدين، بل يستكمل ما نقص منها )). مجموعة الاعمال التحضيرية للقانون المدني المصري، ج2، ص46.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .