الولاية على الغير
الدكتور عادل عامر
من عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بخلقه ، أنّه خلق الإنسان أطوارًا وأركبه طباقًا ، ونقله من حالٍ إلى حال . فهو يخرج من بطن أمه ضعيفًا ، نحيفًا ، وهن القوى ، ثم يشب قليلاً حتى يكون صغيرًا ، ثم حدثًا ، ثم مراهقًا ، ثم شابًا ، كما قال تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوةٍ } [ الروم : 54] .
وكما ابتدأ ضعيفًا فإن الله يصيّره من بعد قوّته ضعيفًا هرمًا ، حتى لا يكاد يدبّر أموره ، ولا يلبي شئونه ، وكما قال أسامة بن منقذ وقد أعياه حمل القلم بعد ما شاخ :
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلمًا من بعد حـمل القنا في لبّة الأسد
وكذلك فإن الله يبتلي بعض عباده بأنواع من العاهات ، كالجنون ونحوه ، مما يفقد الإنسان تمييزه ، ولا ريب أن هؤلاء ليسوا بأهلٍ للتصرُّف .
فمن رحمة الله تعالى أن اعتبرت الشريعة الإسلامية الولاية على الغير في حال عجزه عن النظر في مصالحه .
ونتناول في هذه الدراسة الولاية الجبريّة على الغير في الأمور الماليّة وذلك من خلال ما سيأتيك تباعًا من تمهيدٍ وفصولٍ ثلاثة . وفق الله الجميع لهداه .

التمهيد : تعريف الولاية :
أولاً : الولاية في اللغة :
الولاية – بكسر الواو – مصدر وَلِي ، ووَلَي( ) – والثانية قليلة الاستعمال( ) – يلي وهي تعني القيام على الغير وتدبيره( ) .
وتكون الولاية بمعنى القرابة والنّصرة ، والمحبة( ) . فتأتي الواو مفتوحة ومكسورة( ) .
وكلا المعنيين مراعى في الولاية : لأنّها تحتاج من الوليّ إلى التدبير والعمل .. كما تحتاج إلى نصرة المولى عليه ، والنّسب دَعَامَة قويّة من دعائم تحقيق هذه النصرة( ) .
وإن كان الأوّل هو المقصود بهذا البحث .
ثانيًا : الولاية في الاصطلاح :
هي حَقُّ تنفيذ القول على الغير ، شاء الغير أو أبى( ) . فيكون الوليّ من له حق القول على الغير .
وقد انتقد الشيخ مصطفى الزرقا هذا التعريف ، إذ قال : ( وهذا التعريف غير سديد ؛ لأنه يعرف الولاية ببيان حكمها . لا بشرح حقيقتها ) أ.هـ . ( )
واختار أن يكون التعريف هو : قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شئونه الشخصية والمالية( ) .
والحقيقة أن التعريف ببيان الحكم أو اللوازم الخارجية – وهو الذي يسمّيه علماء المنطق بالحد الرسمي( ) – نوع معتبر من أنواع المعرفات ، فلا ضير في استعماله .

الفصل الأول : من تثبت عليه الولاية :
تثبت الولاية الصغير ، والمجنون – ومن في حكمه – والمملوك ، والسفيه ، فهؤلاء تثبت عليهم الولاية . ونفاذ تصرّفاتهم خاضع لعدة اعتبارات . وهناك من لا يولي عليه لكنه يُمنع من التصرف بنوع ، أو أنواع من التصرفات كالمريض مرض الموت ، والمفلس ، وغيرهما ، وهذا القسم الأخير غير داخل في بحثنا إذ أنّه لا يولي عليهم .
وسنستعرض الآن هذه الأصناف الأربعة :
أولاً : الصغير ..
الصغير في اللغة : ضد الكبير( ) .
وهو في عرف الفقهاء : من لم يبلغ من ذكرٍ وأنثى( ) .
والصغير تثبت عليه الولاية باتفاق أهل العلم( ) ؛ لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] .
فلمّا بين أنه لا يجوز دفع المال قبل بلوغ النكاح وإيناس الرشد دلّ ذلك على ثبوت الوليّ لغير البالغ( ) .
ثانيًا : المجنون …
المجنون في اللغة من أصابه الجنون .
والجنون استتار العقل . واختلاطه ، وفساده( ) .
وهو في عرف الفقهاء : زوال العقل وفساده( ) .
وقد اتفق الفقهاء على إثبات الولاية على المجنون( ) .
وفي حكم المجنون المعتوه ، ومن أصابه الخرف لكبر سنه .
فإنّ العته نوع من الجنون ؛ إذ هو زوال العقل( ) .
إلاّ أنّ الحنفية فرّقوا بينهما فجعلوا العته نوعًا مختلفًا ؛ فهو عندهم من كان قليل الفهم ، مختلط الكلام ، فاسد التدبير ، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون( ) .
إلاّ أنه على هذا الاعتبار أيضًا فإنّ المعتوه تثبت عليه الولاية ؛ إذ أن الحنفية يلحقونه بالصبي المميّز( ) .
ثالثًا المملوك …
المملوك تثبت عليه الولاية باتفاق( ) ؛ وذلك لعجزه ونقصان رتبته حكمًا ؛ قال تعالى : { ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء } [ النحل : 75 ] .
رابعًا السَّفِيْه …
يقال سَفِه فلان سَفَاهةً فهو سَفِيه( ) .
والسَّفَه نقص في العقل ، وهو ضد الحلم( ) .
وفي الاصطلاح : خفّةٌ تبعث على العمل في المال بخلاف مقتضى العقل والشرع( ) .
وقد اختلف الفقهاء في السَّفيه هل يحجر عليه – مما يترتب عليه إقامة ولي عليه – على قولين :
القول الأول : لا يحجر على الحر البالغ . وإن كان سفيهًا . وإنّما يوقف تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلم إليه ماله . وإن كان مبذرًا .
وبه قال أبو حنيفة( ) .
القول الثاني : يحجر على السّفيه مطلقًا . وبه قاله أبو يوسف ومحمد بن الحسن( ) ، وهو مذهب المالكية( ) والشافعية( ) والحنابلة( )
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بعدّة أدلة منها ما يلي :
1- عمومات الأدلة في البيع والهبة والإقرار من نحو قوله تعالى : { وأحل الله البيع } [ القرة : 282 ] . فقد شرع الله هذه التصرفات شرعًا عامًا والحجر على السفيه يناقض هذه الأدلة( ) .
يمكن أن يناقش : بأن عمومات النصوص خص منها المجنون والصغير بالاتفاق ، فليكن السفيه مخصوصًا كذلك بالأدلة الدالة على الحجر عليه .
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً ذكر للنبي أنه يخدع في البيع فقال إذا بايعت فقل : لا خلابة( ) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان يبايع وكان في عقدته( ) ضعف ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع ، فقال يا رسول الله إنّي لا أصبر عن البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت غير تارك للبيع فقل هاء وهاء ولا خلابة( )( ) ففي الحديثين دليل على أنّه لا يحجر على الكبير ولو تبين سفهه( ) .
نوقش : بأن عدم الحجر عليه لا يدل على منع الحجر على السفيه ، لأنه لو كان الحجر عليه لا يصح لأنكر عليهم طلبهم الحجر عليه( ) . 3- أن في الحجر عليه سلبٌ لولايته ، وسلبها إهدار لآدميته وإلحاق بالبهائم وهو أشد ضررًا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى . فلا يحجر عليه ولو كان مبذرًا منعًا للضرر الأعلى( ) .
يمكن أن يناقش : بأن الحجر عليه لحظ نفسه حفظًا لأمواله ، وإلحاقه بالبهائم منتقضٌ بالعبد والصغير والمجنون فإنهم يحجر عليه مع آدميتهم .
4- أن منع المال منه يُرادُ منه التأديب ، ومنع المال منه بعد بلوغ خمسٍ وعشرين لا فائدة منه إذ لا يتأدب بعد هذا السن غالبًا ، إذ قد يصير جَدًّا في مثل هذا السن( ) .
نوقش : أنّ ما ذكر من كونه جدًّا مُتَصَوَّرٌ فيمن له دون هذا السن فإن المرأة تكون
جَدّةً لإحدى وعشرين سنَة( ) فظهر بهذا عدم صحة تعليق الحكم بهذا الوصف وهو بلوغ خمس وعشرين سنة .
5- أن السَّفيه حرٌ بالغ عاقل مُكَلَّف ، فلا يحجر عليه كالرشيد( ) .
نوقش : بأن القياس منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة فإنه بالغ حر عاقل مكلف ويمنع من ماله لسفهه اتفاقًا . وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها ( ).
واستدل أصحاب القول الثاني بعدّة أدلة منها ما يلي :
1- قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 60 ] .
فقد علّق الدفع على شرطين ، والحكم المعلّق على شرطين لا يثبت بدونهما فلا يدفع المال إلا للرشيد البالغ( ) .
2- قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا } [ النساء : 5 ] .
فقد بين أنّ السفيه لا يجوز دفع ماله إليه( ) ، فدلّ على أن سبب الحجر هو السَّفَه( ) .
نوقش :
1- بأن المراد بالسفهاء النساء والأولاد الصغار( ) .
2- كما نوقش بأن المراد لا تؤتوهم مال أنفسكم ؛ لأنّ الله سبحانه أضاف المال إلى المعطي( ) .
وأجيب : بأن القول بأنّ السفهاء النساء غير صحيح ؛ فإنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات( ) .
كما أجيب بأنّ إضافة المال للمخاطبين لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم مع كونها للسفهاء( ) .
3- قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يُمِلَّ هو فليملل وليه بالعدل } [ البقرة : 282 ] .
فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف ، وكان معنى الضعيف راجعًا إلى الصغير ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ؛ لأن السفه اسم ذمٍّ ولا يذم الإنسان على مالم يكتسبه( ) .
4- روى عروة بن الزبير أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع بيعًا ، فقال علي رضي الله عنه لآتينَّ عثمان ليحجُر عليك . فأتى عبد الله بن جعفر الزُّبيرَ ، فقال قد ابتعت بيعًا ، وإنّ عليًا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليَّ . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فقال عثمان : كيف أحجُر على رجلٍ شريكه الزبير( ) .
وهذه قصة يشتهر مثلها ، ولم يخالفها أحدٌ في عصرهم ، فتكون إجماعًا( ) .
5- أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير وعدم الرشد الذي يوجد فيهم غالبًا فوجب أن يكون الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرًا( ) .
الترجيح :
بعد تأمُّلِ ما سبق يظهر لي رجحان القول الثاني لشهرة الحجر على السَّفيه عند الصحابة كما في حديث لا خلابة ، وقصة عبد الله بن جعفر ، مع ما ورد على أدلة القول الأوّل من مناقشات ، والله أعلم .

الفصل الثاني : الأحق بالولاية
يُقَسِّم فقهاء المذهب الحنفي الولاية إلى قسمين : ولاية على النفس ، وولاية على المال( ) والولاية على النفس هي الإشراف على شئون القاصر الشخصية من صيانة ، وحفظ ، وتأديب ، وتعليم ، وتزويج ، وتطبيب( ) .
والولاية على المال هي الإشراف على شئون القاصر المالية من حفظ المال ، وإبرام العقود ، وسائر التصرفات المتعلِّقَة بالمال( ) .
أما الجمهور فإنَّ الوليّ على النفس عندهم هو الولي على المال . ويظهر ذلك من خلال تأمل ما يلي :
1- أنني لم أجد منهم من قَسَّم الولاية إلى قسمين كما فعل فقهاء الحنفية .
2- أنّ الولي على المال عندهم( ) هو الذي يملك حق الإجبار على التزويج ، كلّ على حسب ما اختاره من ترتيب الأولياء . وهذا يعني أن الوليَّ على النفس هو الولي على المال .
3- أنّ المالكية قسَّموا الحجر إلى قسمين : حجرٌ بالنسبة للنفس ، وحجر بالنسبة للمال .
وعنوا بالحجر على النفس تدبير نفس الصبيّ وصيانته وجعلوا الوليّ فيهما واحدًا( ) .
4- وأن الحنابلة جعلوا الولي على المال في باب الحجر هو الولي على النفس ، الذي من حقّه الإذن في الإجراء الطبي للقاصر ، فقد قال ابن قدامة( ) – رحمه الله – : ( وإن قطع طرفًا من إنسان فيه أكلة ، أو سلعة ، بإذنه ، وهو كبير عاقل فلا ضمان عليه ، .. إن كان من قُطِعَت منه صبيًّا أو مجنونًا . وقطعها أجنبيٌّ ، فعليه القصاص ؛ لأنّه لا ولاية له عليه ، وإن قطعها وليّه ، وهو الأب ، أو وصيُّه ، أو الحاكم , أو أمينه المتولي عليه ، فلا ضمان عليه .. ) أ.هـ . ( )
وقد قال قبل ذلك في باب الحجر : ( ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر ، إلا الأب أو وصيّه بعده ، أو الحاكم عند عدمهما ) أ.هـ( )
فبناء على ما سبق فقد اختلف الفقهاء في الأحقِّ بالولاية على أربعة أقوال :
القول الأول : أن الولاية تثبت للأب ، ثم لوصيّه ، ثم الحاكم ، وهو مذهب المالكية( ) ، والحنابلة( ) .
القول الثاني : أنها بعد الأب للجد – أب الأب – ثم وصيّ من تأخر موته منهما ، ثم الحاكم ، وهو مذهب الشافعي( ) ، ورواية عن الإمام أحمد( ) .
القول الثالث : أنّ الولاية – على النفس – تكون للأقرب فالأقرب من العصبات بالنفس على ترتيبهم في الإرث ، والولاية على المال تكون للأب ، ثم وصيّه ثم الجد – أب الأب – ثم وصيه ، ثم القاضي . وهو مذهب الحنفية( ) .
القول الرابع : أنّ الولاية تثبت للأم بعد الأب والجد ، ثمّ تكون للأقرب من العصبات بالنفس ، وهو قول أبي سعيد الإصطخري( )( ) من الشافعية ، ورواية عن أحمد( ) ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية( )( ) .
الأدلة :
استدل الفريق الأول بعدّة أدلة منها :
1- أنّ الولد موهوب لأبيه ؛ قال تعالى : { ووهبنا له يحيى } [ الأنبياء : 90 ] .
وقال زكريا : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] ، ولا
شك أن الموهوب وليّ على الهبة( ) .
2- أنّ الأب أكمل نظرًا . وأشد شفقة من غيره . وهذا يستلزم توليته على ولده( ) .
3- وأمّا تقديم الوصيّ بعد الأب : فلأنه نائب الأب ، فأشبه وكيله في الحياة ( ) .
4- وأمّا الحاكم ؛ فلأنه ولي من لا ولي له( ) ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا : (( السلطان وليُّ من لا ولي له )) ( ) .
واستدل الفريق الثاني بما استدل به الفريق الأول .
1- كما استدل على ولاية الجد بأنّه أبٌ في الحقيقة وإن علا ؛ لأن له إيلادًا( ) ؛ قال تعالى : ل{ ملّة أبيكم إبراهيم } [ الحج : 78 ] . وإذا ثبتت الولاية للأب فليكن الجد كذلك لاشتراكهما في الأبوّة .
ونوقش :
بأن الجد لا يدلي بنفسه وإنما يدلي بالأب فهو كالأخ ، والأخ وسائر العصبات لا ولاية لهم( ) .
2- واستدلوا بأن الجد أشفق من غيره فوجب تقديمه( ) .
ونوقش :
بأنّ الأب لا يوصي لغير الجد إلاّ لسبب اطَّلع عليه( ) .
واستدل الفريق الثالث بعدة أدلة منها ما يلي :
1- أن الولاية مبناها على الشفقة ، والعصبة أشفق من غيرهم( ) .
ويمكن أن يناقش :
بأن الأم أكثر شفقةً فتقديمها في الولاية أحق .
2- وأن الأب لا يوصي لغير الجد مع وجوده – إلا لسبب اطلع عليه( ) .
ويمكن أن يناقش :
بأن الولاية مبناها على الشفقة ، وشفقة الجد على أولاد ابنه أكبر من شفقة الوصيّ غالبًا .
واستدل الفريق الرابع بعدة أدلة منها :
ما استدلوا بأن الأم أحد الأبوين فتثبت لها الولاية كالأب( ) .
ولكمال شفقتها فهي أولى من الوصي الأجنبي( ) .
واستدلوا لولاية العصبة بحجر الابن على أبيه عند خرفه( ) .
الترجيح :
الراجح من الأقوال السابقة هو القول الرابع ؛ وذلك لقوة أدلته ولمطابقته للحاجة والواقع ؛ إذ أقارب القاصر أشفق عليه ، وأعلم بحاجته من الوصي الأجنبي والحاكم ، ثم إنه لا يحتاج إلى الرفع إلى الحاكم إذا لم يوجد أحدٌ من عصباته ، وأما الأقوال الأخرى فإنّه لا يقام وليّ لمن فقد أباه ، أو أباه وجده ، إلا من قبل الحاكم وفي هذا من المشقة ما فيه .
وجميع ما سبق في الصغير ، ومن بلغ مجنونًا أو سفيهًا ، أما من جُنّ بعد بلوغه أو خَرِف( ) ، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين :
القول الأول : أنّه لا يحجر عليه إلاّ الحاكم ولا تكون ولايته إلاّ للحاكم ، وهو مذهب الشافعية( ) . والحنابلة( ) .
القول الثاني : أن ولايته تعود لمن كان وليًّا عليه في صغره وهو مذهب المالكية( ) ، وقول أبي يحيى البلخي من الشافعية( ) ، وهو قولٌ للحنابلة( ) .
الأدلة :
استدل الفريق الأول بعدّة أدلة منها ما يلي :
1- أنّ ولاية أوليائه انتهت ببلوغه( ) .
2- ولأن الحجر عليه يفتقر إلى الحاكم( ) .
واستدل الفريق الثاني بأن أولياءه أشفق( ) .
الترجيح :
عند التأمل في القولين السابقين وما في الأوّل من احتياط ، وما في الثاني من رعاية لمصلحة القاصر ، يظهر لي أن الأولى جعل الحجر بيد الحاكم ، وعليه أن يفوّضه لمن يختاره من أقارب القاصر لكونهم أشفق . وقد أشار إلى ذلك الشافعي( ) رحمه الله تعالى .
مسألة :
لا خلاف بين أهل العلم أنّ الوليّ على العبد سيّده( ) .

الفصل الثالث : انتهاء الولاية
لا خلاف بين أهل العلم أن الولاية على المجنون تنتهي بإفاقته عند الشافعية والحنفية واشترط المالكية والحنابلة الرشد مع الإفاقة( ) .
وأما الصغير فقد اختلف الفقهاء بم تنتهي الولاية عليه ، على قولين :
القول الأول : تنتهي الولاية عليه ببلوغه . وهو قول أبي حنيفة .
القول الثاني : تنتهي بالبلوغ رشيدًا وهو قول الجمهور .
وقد سبق بيان ذلك مستوفى( ) .
كما اختلف الفقهاء هل يحتاج إنهاء الولاية عليه إلى حكم حاكم بذلك أم لا على أقوال ثلاثة :
القول الأول : أنها تنتهي بفك القاضي الحجر عنه وهو قولٌ للشافعية( ) .
القول الثاني : تنتهي بنفس بلوغه رشيدًا وهو قول محمّد بن الحسن( ) ، ومذهب الشافعية( ) والحنابلة( ) .
القول الثالث : التفصيل فإن كان ذا أبٍ فتنتهي الولاية عليه ببلوغه رشيدًا ، وإن كان وليُّه الوصيّ فلا بُدّ مع ذلك من فكَّ الولي للحجر عنه وكل ذلك دون إذن قاض( ) وهو مذهب المالكية .
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بأنّ الرُّشد يحتاج إلى نظرٍ واجتهاد( ) .
واستدل أصحاب القول الثاني بعدة أدلة منها ما يلي :
1- قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] .
فلم تشترط الآية فكّ قاضٍ أو وصيٍّ أو غيرهما فالقول به زيادة على النص( ) .
2- أنه حجرٌ ثبت بغير حاكم لقم يتوقف زواله على إزالة الحاكم . كحجر المجنون( ) .
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي :
أنّ الأب لمَّا أدخل ولده في ولاية الوصي صار بمنزلة ما لو حجر عليه وهو إذا حجر عليه صار لا ينطلق إلا بإطلاقه( ) .
الترجيح :
الظاهر من الأقوال السابقة هو عدم احتياج إنهاء الولاية إلى حكم حاكم ولا فكّ وصيّ ؛ فإنّ الله تعالى لم يشترط ذلك ، ولأن إقامة الولي عليه كانت بسبب صغره ، فتزول بزوال الصّغر .
سواء في ذلك ولاية الأب أو الوصي والله أعلم .
وأما السفيه فإن من رأى الحجر عليه ، أنهى الولاية عليه برشده ، إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا هل يحتاج ذلك لحكم حاكم أم لا ؟ على أقوال القول الأول : أنّ الولاية عليه تنتهي بظهور الرشد دون حكم وهو قول محمد بن الحسن( ) .
القول الثاني : أنه لا بد مع رشده من حكم حاكم بفك الحجر عنه . وهو قول أبي يوسف( ) ، ومذهب الشافعية( ) والمالكية( ) .
القول الثالث : التفصيل ، فإن كان الحجر عليه بعد بلوغه فلا ينفك عنه إلا بحكم القاضي ، وإن استصحب السفه بعد بلوغه فإنه ينفك عنه الحجر برشده . وهو مذهب الحنابلة( ) .
وعند تأمل هذه الأقوال وما وجهت به نجد أن تعليلاتهم تدور حول سبب الحجر عليه فإن كان السفة فإن رشده يرفعه ، وإن كان حكم القاضي فالحكم لا يرتفع إلا بحكم .
والذي يظهر لي رجحان القول الثالث إذ من بلغ غير رشيد فهو مشمول بالآية { فإن آنستم منهم رشدًا } [ النساء : 6 ] . فيكفي رشده لإطلاقه وتسليم ماله له . وأمّا من حجر عليه الحاكم فإن الحكم لا يرتفع إلا بحكم وفي هذا جمع بين الأقوال كما ترى والله أعلم .
… وبعد فهذه الجولة السريعة هي ما تيسر إعداده في هذا الموضوع – على أنه ستتبعه دراسة في آثار الولاية وما تقتضيه – أسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه ، والحمد لله رب العالمين .