هل سمعت عن التغرير؟ وما موقف القانون منه؟

المحامي صلاح بن خليفة المقبالي

العقد شريعة المتعاقدين، عبارة شائعة أو كما يحلو لأهل القانون أن يسموها بقانون العقد، فهي قاعدة اصطلحها أهل القانون للتعبير عن أن ما جاء في بنود العقد من شروط وقواعد والتزامات متقابلة تكوّن القانون الحاكم للعلاقة التعاقدية التي اجتمعا فيها وتلاقت إرادتهما عليها، فعند الخلاف يحتكم إليها وتكون هي المطبقة للفصل بينهما شريطة ألا تخالف القواعد القانونية الآمرة بالدولة وألا تخالف النظام العام ولا تنحرف عن الآداب العامة، وتطبيقها بهذه الصورة يكون تغليباً من قبل القضاء لمبدأ استقرت عليه جل القوانين المعاصرة وهو مبدأ “سلطان الإرادة”، وغنيّ عن البيان أن هذا المبدأ ليس وليد الدول المدنية الحديثة ولا التنظيمات القانونية المتطورة، وإنما منبعه من قوله تعالى في محكم التنزيل: “يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود …” – الآية (1) من سورة المائدة –، وحديث خير البرية الذي لا ينطق عن الهوى، المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قال: “… المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً ” – رواه الترمذي في سننه –، ومن ذلك يتجلى أن هذا المبدأ وهو ما اتجهت إليه إرادة الأطراف يكون ملزما لهما، ولكن هل هذا الأمر على إطلاقه؟ ألا يوجد عليه استثناء أو خروج؟ والجواب سيكون في الأسطر القادمة تباعاً، إذ بداية الأمر لابد أن يعلم الجميع أن العقود لا تنعقد صحيحة إلا إذا ما كانت صادرة عن إرادة حرة غير معيبة ومن شخص يملك الأهلية الكاملة للتعاقد، والتي حددها القانون المدني العماني بإتمام الثامنة عشرة من العمر، وليس مجرد بلوغها وإنما يجب أن يتمها حتى يكون كامل الأهلية، وتكون عقوده صحيحة، والأهلية ليست هي مجال الحديث في هذه الزاوية، فمجالها هو الحديث عن الاستثناءات على مبدأ سلطان الإرادة، وهو ما يطلق عليه القانون عيوب الإرادة، والتي نستهل الحديث عنها تباعاً في الزوايا القانونية القادمة عبر “أثير”، نبدأها بما يعرف بـ”التغرير والغبن”.

فالتغرير كما عرفته نصوص قانون المعاملات المدنية العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (29/2013) في المادة (103)، بأن: (التغرير هو أن يخدع أحد المتعاقدين الآخر بوسائل احتيالية قولية أو فعلية تحمله على إبرام عقد لم يكن ليبرمه لولاها. ويعد تغريراً تعمد السكوت لإخفاء أمر إذا ثبت أن المغرور لو علم به ما كان ليبرم العقد.)

فمن هذا التعريف الذي جاء به قانون المعاملات المدنية العماني – والذي يتفق مع التعريفات التي وضعتها معظم التشريعات القانونية في الدول الأخرى، بالإضافة إلى أنه يتفق مع ما عرفه شراح القانون للتغرير – يتضح بأن القانون عند تعريفه للتغرير بيّن ماهية التغرير بصورة واضحة تمنعها من الالتباس مع غيرها، فالتغرير هو الخداع الذي يقوم به أحد الأشخاص على شخص آخر ليدفع بهذا الأخير ليبرم عقداً معه، ولكن هذا الخداع لا يكفي وحده مجرداً ليعد تغريراً فهو يجب أن يكون مقروناً باستخدام وسائل احتيالية، فشرط اعتبار الخداع تغريراً أن يقدم المحتال على استخدام وسائل احتيالية، وهي تتساوى سواء كانت هذه الوسائل قولية بالمعنى الدارج بالكلام المعسول والذي يريك أن المتعاقد عليه غير ما هو عليه أو أنه أفضل ما ستجده، أو أن تكون فعلية أي بالتغيير في ماهية الشيء على سبيل المثال ليقع في وجدان المتعاقد الآخر أن ما يتعاقد عليه هو شيء ذو قيمة عالية، فيقدم على إبرام العقد، إلا أن المادة ذاتها لم تترك الأمر على إطلاقه فليس مجرد استخدام الوسائل الاحتيالية كافيا على أن تعد تغريراً فيجب أن يكون التعاقد لم يكن ليحصل لولا أن استخدم المتعاقد الآخر هذه الوسائل الاحتيالية، والتي بسبب استخدامها التبس الأمر على الثاني ودفعه إلى إبرام العقد كأن يكون العقد بيعاً على سبيل المثال،

وفي عجز المادة سالفة الذكر وضعت حكماً حازماً على من يتعمد إخفاء عيب أو أمرٍ في المعقود عليه لو علمه المتعاقد الآخر لما أقدم على إبرام ذلك العقد، وبالمثال يتضح المقال، فلو أقدم شخص على بيع سيارته التي تعطل بها ناقل الحركة – الجير – بصورة تؤثر على السيارة وإذا استمرت ستعطل المحرك، وقام هذا الأخير بعمل صيانة عادية له دون أن يقوم بإصلاح أصل المشكلة، وأقدم على بيع السيارة إلى شخص آخر وزينها له بمعسول الكلام أنه لا يوجد أفضل منها – هبة ريح – دون أن يخبر المشتري أن ناقل الحركة بالمركبة معطل، وأن به مشاكل قد تؤدي إلى تلف محرك السيارة، وبهذه الوسائل أقدم المتعاقد الآخر على إبرام العقد على اعتبار أنه سيشتري سيارة لا يوجد بها عطل بهذا الحجم، فإن سكوت البائع عن الإدلاء بهذه المعلومة المهمة للمشتري يعد تغريراً منه.

ولكن السؤال في هذا الشأن هو: ما أثر التغرير على العقد المبرم بين الطرفين هل يجعله باطلاً أم ماذا؟ وجواب ذلك صرحت به المادة (104) من قانون المعاملات المدنية العماني، التي نصت على أن: (التغرير يسلب العقد لزومه، ويجعل للمغرور الحق في طلب فسخه) فالتغرير بحكم هذه المادة يجعل من العقد غير ملزم للمغرور، وبيان ذلك أن الأصل في العقود أنها تكون ملزمة لطرفي التعاقد بها – البائع والمشتري على سبيل المثال – وفي حالة ما إذا تم العقد باستخدام التغرير فإنه لا يكون ملزماً للمغرور فلا يلزم بأن يقوم بأداء الالتزام العقدي الواقع عليه للطرف الآخر الذي غرر به، ومن ذلك فإنه يكون من حق المغرور أن يلجأ للقضاء بطلب فسخ العقد الذي أبرمه بسبب التغرير، وليس للطرف الآخر أن يطلب التعويض عن الفسخ أو أن يدفع بأن المغرور لم ينفذ الالتزام الواجب عليه في العقد، فالتغرير يسلب العقد لزومه، ويجعل منه قابلاً للفسخ، وذلك بسبب أن إرادة المتعاقد المغرور لم تكن حرة عند التعاقد وهذه الأخيرة هي المعتبرة لسلامة العقود فلا بد أن يتم التعاقد بإرادة حرة خالية مما يشوبها، ولا يغيّر من حكم التغرير وجعل العقد غير ملزم إذا ما كان استخدام الوسائل الاحتيالية على المغرور من قبل طرف ثالث عن العقد – أي ليس البائع مثلاً – فهو يكون تغريراً يسلب العقد لزموه ويجعل منه قابلاً للفسخ، ويأخذ ذات حكم التغرير الموقع من قبل أحد المتاقدين على الآخر ليغرر به ويدفعه إلى التعاقد، ولكن بشرط أن يكون المتعاقد الآخر عالماً بالتغرير وقت العقد وسكت عنه، وهذا ما نصت عليه المادة (105) من قانون المعاملات المدنية: (إذا لم يكن التغرير صادراً من أحد المتعاقدين، وأثبت المغرور أن المتعاقد الآخر كان يعلم بالتغرير وقت العقد جاز للمغرور فسخه.).

ويثور في الذهن سؤال: هل يلزم أن يكون التغرير مقروناً بعدم التساوي في الأداءات المتقابلة التي يؤديها كل طرف من أطراف العقد للآخر؟ أم أن التغرير المجرد وحده كافٍ لجعل العقد غير ملزم؟ وجواب ذلك أنه وبخلاف ما نهجه كثير من الأنظمة القانونية والتي ألزمت أن يكون التغرير مقروناً بغبن للقضاء بفسخ العقد، فإن قانون المعاملات المدنية وفق القراءة لأحكام مواده يتضح بأنه خلا من هذا التقييد وعدّ أن التغرير المجرد وحده كافٍ ليجعل العقد غير ملزم وقابل للفسخ لمصلحة المغرور، ولكن هل العكس صحيح، أي هل يكون الغبن كافٍ لطلب الفسخ؟

إعادة نشر بواسطة محاماة نت