بحث قانوني هام عن السرية المصرفية وغسيل الأموال

قبل الخوض في مناقشة الإشكالية المطروحة، لابد من الوقوف على ماهية السر المصرفي. في هذا الإطار يعرف السر المصرفي بأنه كل أمر أو معلومات أو وقائع تتصل بعلم البنك من خلال عملية مصرفية يقوم بها العميل و التي تتعلق بودائعه و قيمة مبالغه و التسهيلات المصرفية و القروض الممنوحة له و ضماناتهـا و الشيكـات التي يسحبها العميل على الـبنك وغيرها([1])
.
و عليه فالعمليات المصرفية هي تلك العلاقات التي تجمع البنك بعملائه بحيث يقوم كل طرف منهما باحترام التزاماته تجاه الآخر، والمتمثلة بالنسبة للبنك في الحفاظ على السر المصرفي مستندة على النص القانوني تحت طائلة مقاضاتها إذا ما خرقته، حتى إذا لم تضمن عقودها مع الزبناء أو العملاء بندا صريحا ينص على المحافظة على هذا المبدأ. إلا أنه لا يجب أن يحمل تفسير المبدأ على إطلاقه بشكل يستغله العملاء كذريعة لإخفـاء أموالهـم المشبوهـة و بالتالي الإضرار بالمصالح العليا للدولة و المجتمع.
أثارت هذه الإشكالية العديد من النقاشات، حول سرية الحسابات المصرفية بالبنوك وانعكاساتها على مواجهة عمليات غسل الأموال([2])، حيث اختلفت الآراء حول هذا الموضوع وذلك بين مؤيد للسرية المصرفية ومعارض لها.

فالاتجاه المؤيد للسرية المصرفية يستند على مبدأ هام هو حماية الحق في الخصوصية للزبون، وبذلك فلكل شخص الحق في حماية حرمة حياته الخاصة بما فيها شؤونه المالية والاقتصادية كمعاملاته مع البنوك([3]). و يضيف القائلون بهذا الاتجاه بأن سرية الحسابات المصرفية لها دور إيجابي على الاقتصاد الوطني، وذلك لما يترتب عليها من جذب لرؤوس الأموال سواء المحلية أو الأجنبية، وأيضا تدعيما للثقة في الاقتصاد، وفي الجهاز المصرفي، وفي توفير مناخ اقتصادي سليم يساعد على تنميته وإصلاحه([4]).

ففي الوقت الحالي، يلاحظ أن معظم البنوك تحرص على تحقيق وتكريس قدر من السرية المصرفية وعدم تقديم المعلومات عن الزبناء إلا لمن تحددهم القوانين واللوائح بحكم طبيعة أعمالهم. وبهذا يمكن القول بأن البنوك تلتزم بموجب القواعد العامة في القانون والأعراف المصرفية، بحفظ أسرار الزبناء وعملياتهم المصرفية، ما لم يكن هناك نص في القانون أو في الاتفاق يقضي بغير ذلك)[5](.

أما الاتجاه المعارض والذي يرى في السرية المصرفية حاجزا لكشف حسابات أصحاب الدخول غير المشروعة إلا وفق شروط ومساطر دقيقة ومعقدة، من شأنه أن يساهم في استفحال عمليات غسل الأموال.
و بخصوص موقفنا فهو موقف توفيقي يجمع بين السرية المصرفية كمبدأ و الكشف عنها كاستثناء لأجهزة محددة بشكل دقيق لتأكد من مشروعية مصدر الأموال، حفاظـا على السمعـة و الثقة التي يتمتع بها العميل.

إذا تبث أن السرية المصرفية هي مبدأ قائم ومستقر في المعاملات المصرفية، مع استثناء تجاوز هذه السرية في حالات محددة بنص القانون، و هنا يمكن أن نتساءل هل يمكن استبعاد مبدأ السرية المصرفية في حالات الاشتباه بوجود غسيل أموال؟ وهل يمكن مساءلة البنوك عن عدم إبلاغها عن هاته العمليات المشبوهة إلى السلطات المختصة أم لا؟

تختلف تشريعات الدول في الإجابة على هذا التساؤل، وذلك راجع لاختلاف اتجاهاتها بخصوص مبدأ سرية الحسابات المصرفية. فبعض التشريعات تأخذ بنظام “السرية المطلقة للحسابات المصرفية” وتتمسك بالمبدأ المذكور حتى ولو ثبت وقوع عمليات غسل الأموال ومن أمثلة هذه الدول سويسرا([6]) لوكسمبورغ ولبنان([7])، و البعض الآخر من التشريعات الحديثة خففت من هذا المبدأ من خلال السماح للبنوك بالإفصاح عن المعلومات البنكية عن الزبناء وحساباتهم ومعاملاتهم وفق شروط قانونية محددة، ومن أمثلة الدول التي تبنت هذا الاتجاه التشريع الأمريكي([8])، التشريع المكسيكي([9]) والتشريع الإنجليزي والمصري([10]).

و تعتبر فرنسا أقل تشددا من باقي الدول المجاورة لها([11])، في ما يخص السرية و التـي لا تتوفر على قانون خاص يعالج السرية المصرفية كما هو عليه الحال في سويسرا. في الوقت الذي يحمي فيه القانون الجنائي الفرنسي هذه السرية، حيث يعتبر موجب التكتم أساسا متبعا في الأعمال المصرفية لدرجة أن جميع المصاريف تقيدت به محافظة على مصالحها الشخصية فكانت غايتها الحفاظ على المهنة المصرفية أشد تأثيرا من النصوص القانونية. والسائد في فرنسا هو أنه إذا كان التستر واجبا في التعامل مع المصارف تجاه الغير فلا يجوز ذلك أمام القضاء([12]).

فالسر المصرفي في فرنسا لم يكن ممنوعا على القضاء والدوائر المالية والإدارات العامة التي كان يحق لها الإطلاع على مجمل العمليات الجارية مع المصرف.
أما عن موقف المشرع المغربي من السرية المصرفية فيتجلى في المادة 13 في فقرتها الثالثة من القانون رقم 43.05 المتعلق بغسيل الأموال التي جاء فيها:”….. لا يمكن للأشخاص الخاضعين الاحتجاج بالسر المهني أمام الوحدة أو أمام سلطات الإشراف والمراقبة المكلفة من طرفها”. بهذا يكون رفع السر المهني شرطا جوهريا لتمكين السلطات المختصة من الحصول على المعلومات الكفيلة بمحاربة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، بحيث لا يجوز للأشخاص الخاضعين لهذا القانون الاحتجاج بالسر المهني أمام الوحدة و سلطات القضائية و بنك المغرب.

ويعزز هذا التوجه، المقتضيات المنصوص عليها في القانون 34.03([13])، وخاصة المادة 79 من هذا القانون التي تنص على الإلزام بالكتمان بالسر المهني على “جميع الأشخاص الذين يشاركون بأي وجه من الوجوه في إدارة مؤسسة ائتمان أو تسييرها أو تدبيرها أو يكونون مستخدمين لديها… وبوجه عام كل شخص يدعى بوجه من الوجوه للإطلاع على المعلومات المتعلقة بالمؤسسات المذكورة أو لاستغلالها… تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في(الفصل 446 ق.ج)”، إلا أن هذا المقتضى يرد عليه الاستثناء الوارد في المادة 80 من نفس القانون والتي تنص على أنه: ” زيادة على الحالات المنصوص عليها في القانون، لا يجوز الاحتجاج بالسر المهني على بنك المغرب والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية”.

وكما أوردت المادة 24 من قانون غسيل الأموال استثناءًا ثانياً، والتي تتعلق بتبادل المعلومات المرتبطة بمكافحة غسيل الأموال في إطار الاتفاقيات الدولية المنضمة إليها المملكة المغربية والمنشورة بصفة قانونية أو تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل، وفي إطار احترام المقتضيات القانونية الجاري بها العمل.

1 – عصام ماجد زايد الحموري، السرية المصرفية بين الحماية القانونية و عمليات غسيل الأموال- دراسة قانونية www.arablawinfo.com مقارنة-، ص 3، مقال منشور بالموقع
2 – سعود ذياب العتيبي، أثر السرية المصرفية على مكافحة جرائم غسل الاموال، رسالة ماجستر، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، سنة 2007،ص 144.
[3]- صفوت عبد السلام عوض الله، المرجع السابق، ص 92.
2 – طلال طلب الشرفات، مسؤولية البنوك عن غسل الأموال وكيفية مواجهتها، ص 26 ، منشور بموقع
www.arablawinfo.com ، تم الولوج للموقع بتاريخ 12/06/2008 على الساعة 21h15.
. ماجد عمار، السرية المصرفية و مشكلة غسل الأموال، دار النهضة العربية القاهرة، 1990، ص: 82-83- [5]
[6] – المادة 37 من القانون الفيدرالي بتاريخ 17/11/1943 “كل شخص بصفته عضوا لجهاز مصرفي أو مستخدما في مصرف أو مدققا أو مساعد مدقق عضوا في لجنة المصارف، أفشى عن قصد بموجب التكتم الملزم به عملا بهذا القانون أو المهنة، أو حرض على ارتكاب هذه الجريمة أو حاول التحريض عليها يعاقب بغرامة لا تتجاوز 20.000 فرنك أو بحبس لا يتجاوز ستة أشهر ويمكن الجمع بين العقوبتين.
[7]- المادة 579 من قانون الصادر بتاريخ 3 أيلول 1956 من قانون العقوبات اللبناني التي تعاقب على إفشاء الأسرار من الأفراد الذين يعملون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم أو مهنتهم أو فنهم، دون أن يكون هناك سبب شرعي أو استعماله لمنفعة خاصة أو لمنفعة أخرى.
[8]- أصدر الكونجرس الأمريكي قانون سرية البنوك ( Bank secrecy BAS ) والمعروف بقانون عن العملة والثقافات الأجنبية، وذلك بهدف ردع غاسلي الأموال من القيام باستغلال البنوك كقنوات لغسل الأموال.
“Money Laundering: A Banker’s Guide to Avoiding Problems”, Office of the Comptroller of the Currency Washington, DC December 2002, p 9.
[9]- Jorge Anaya Ayala, ricardo Trejo, Rafael Fernadez de lara, « politicas contra el lavado de dinero aplicables a instituciones de cridito y sociedades financieras de objeto limitado », boletin Mexicano de derecho comparado, nueva serie, ano XLI, num.121 enero-abril de 2008, p 16.
[10]- طبقت مصر نظام سرية الحسابات المصرفية عام 1990 بموجب القانون رقم 205، ثم تعدل هذا الأخير بقانون رقم 97 لعام 1992بشأن سرية الحسابات في البنوك، حيث لا يجوز الإطلاع عليها إلا في حالات خاصة بناء على حكم قضائي أو حكم محكمين… ثم جاء تعديل سنة 1992 في القانون رقم 97 بحيث يسمح للنائب العام أو من يفوضه بالإطلاع على حسابات أو وودائع أو أمانات أو خزائن العملاء وتؤدي كثرة الاستثناءات والتعديلات في القانون المصري إلى الكشف على حسابات العملاء بسهولة مما يوضح التردد في منح الحصانة للأموال المودعة في البنوك المصرية.
[11]- سعود ذياب العتيبي، المرجع السابق، ص 146.
[12]- فقد يتنازل الزبون عن سر المهنة الذي وضع لمصلحته ويعفي المصرف من واجب التكتم، ولكن حتى ولو رفض العميل إعفاء المصرف من الشهادة فإنه يعود للمحاكم عندئذ حق تقدير النتائج التي قد تترتب عن عدم أداء الشهادة قياسيا على القرائن التي يمكن استنباطها.
[13]- ظهير شريف رقم 1.05.178 صادر في 15 محرم 1427 (فبراير 2006) بتنفيذ القانون 34.03 المتعلق بمؤسسات الإئتمان والهيئات المعتبرة في حكمها.