بحث حول أثر النشاط الحقوقي القضائي على الحقوق الاجتماعية في أمريكا اللاتينية .

في الساعة 9:00 من صباح يوم الجمعة 12 تموز 2009، دخل نيلسون بينيلا، الذي كان آنذاك رئيس المحكمة الدستورية الكولومبية،[1] قاعة المحكمة في قلب بوغوتا. واعتلى المنصة، محاطاً باثنين آخرين من قضاة المحكمة ، أمام حوالي 300 منا نحن المحتشدون في القاعة – من محامين وناشطين وقادة شعبيين وصحافيين ومسؤولين حكوميين وأكاديميين – وافتتح جلسة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السلطة الدستورية في كولومبيا أو في أمريكا اللاتينية.

وكان لويس ألفونسو هويوس، مدير الوكالة المكلفة شؤون نحو خمسة ملايين نازح داخلي من جراء النزاع المسلح في كولومبيا[2]، قد أمضى اليوم بأكمله معتلياً المنصة يدلي بشهادته بشكل علني حيال ما فعلته الحكومة وما فشلت في القيام به من أجل النازحين. وبينما كان هويوس يعرض الإحصاءات والشرائح على برنامج “باوربوينت” رداً على أسئلة طرحتها المحكمة والمنظمات غير الحكومية التي كانت حاضرة، كان بإمكاننا من داخل المحكمة سماع صيحات النازحين في ساحة بوليفار المجاورة ، احتجاجاً على إهمال الدولة ولا مبالاتها بقضيتهم.

كان المسار الذي قاد إلى جلسة الاستماع  بدأ قبل خمس سنوات، في كانون الثاني 2004، عندما جمعت المحكمة الدستورية الكولومبية شكاوى دستورية لـ1150 أسرة نازحة وأصدرت حكمها الأكثر طموحاً خلال مسيرتها التي بدأت قبل عقدين وهو الحكم رقم T-025 الصادر عام 2004،[3] وينص على أنّ حالة الطوارئ الإنسانية الناجمة عن النزوح القسري تشكل “وضعاً منافياً للدستور”، أي انتهاكاً واسع النطاق لحقوق الإنسان مرتبطاً بالفشل المنهجي لإجراءات الدولة.[4] وكما أظهرت الشكاوى التي وصلت إلى المحكمة من جميع أرجاء البلد، لم تكن هناك سياسة حكومية جادة ومنسقة لتقديم المساعدات الطارئة إلى النازحين داخلياً،[5] كما لم تتوفر معلومات موثوقة عن عدد النازحين أو الظروف التي يواجهونها.[6] بالإضافة إلى ذلك، بدا واضحاً أن الموازنة المخصصة لهذه القضية لم تكن  كافية.[7] ومن أجل القضاء على جذور هذا الوضع، أمرت المحكمة باتخاذ مجموعة من التدابير الهيكلية التي، كما سنرى، استغرق تنفيذها وقتاً طويلاً ولا تزال عملية متابعتها مستمرة حتى اليوم.[8]

لم يكن الحكم T-025 القرار الهيكلي الأول الصادر عن المحكمة الدستورية الكولومبية الذي يعلن وجود وضع مناف للدستور.[9] فمنذ عام 1997، أصدرت المحكمة سبعة قرارات من هذا النوع في ظروف متنوعة إلى حد كبير، بما في ذلك عدم الالتزام بإدراج العديد من الموظفين الرسميين في نظام الضمان الاجتماعي،[10] والاكتظاظ الكبير في السجون،[11] وعدم توافر الحماية للمدافعين عن حقوق الإنسان،[12] وعدم الإعلان عن دعوة مفتوحة لترشيحات علنية لكتاب العدل.[13] وفي قرارات أخرى، جمعت المحكمة شكاوى دستورية مختلفة وأمرت بتدابير هيكلية طويلة الأجل من دون الإعلان رسمياً عن وجود وضع مناف للدستور. كما قامت بالأمر عينه مؤخراً في الحكم T-76014[14] أصدرته عام 2008 أدى إلى حلّ اثنتين وعشرين شكوى بشأن حالات فشل منهجية في نظام الرعاية الصحية.[15]

تركز هذه المقالة على قرارات المحكمة الدستورية الكولومبية في هذه الحالات التي أسمّيها “قضايا هيكلية”. فبالنسبة إليّ هذه الحالات هي إجراءات قضائية (1) تؤثر على عدد كبير من الأشخاص الذين يدّعون حدوث انتهاك لحقوقهم، سواء بشكل مباشر أو من خلال منظمات تتولى التقاضي؛ (2) تطال وكالات حكومية متعددة ثبتت مسؤوليتها عن حالات فشل للسياسة العامة تساهم في انتهاك هذه الحقوق؛ و (3) تنطوي على تدابير هيكلية وإنذارات قضائية، أي أوامر إنفاذ توجّه بموجبها المحاكم مختلف الوكالات الحكومية اتخاذ إجراءات منسقة لحماية كامل الشريحة المتضررة وليس فقط أصحاب الشكوى المحددين في القضية.[16]

أعتقد أن هذا التنوع في النشاط الحقوقي القضائي، وإن كان واضحاً بشكل خاص في اجتهادات المحكمة الدستورية الكولومبية، هو جزء من اتجاه ناشئ في أمريكا اللاتينية وأنحاء أخرى من بلدان الجنوب. يتجلى هذا النوع من الدستورانية التقدمية الجديدة بشكل واضح في  التدخل القضائي في قضايا هيكلية تتصدى لانتهاكات واسعة النطاق للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بتسميات وخصائص مختلفة في أجزاء مختلفة من بلدان الجنوب.[17] ومن بين أشهر الأمثلة على ذلك، اجتهادات المحكمة العليا في الهند التي تناولت مشاكل اجتماعية أساسية مثل الجوع والأمّية؛ وترافقت هذه الأحكام مع إنشاء لجان استشارية قضائية تراقب تنفيذها.[18] وعلى غرار ذلك، أصبحت المحكمة الدستورية لجنوب أفريقيا منتدى مؤَسَسِياً مركزياً لتعزيز الحقوق  مثل الإسكان والرعاية الصحية، ولإلزام الدولة باتخاذ إجراءات ضد الرواسب الاقتصادية والاجتماعية للفصل العنصري.[19] وقد أثارت المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا أيضاً اهتماماً دولياً في الأوساط القضائية والبحثية، كما يتجلى في اهتمام الباحثين الأمريكيين والأوروبيين بالمحكمة والاعتماد على اجتهاداتها في النظرية الدستورية في الولايات المتحدة وأوروبا.[20]

برز النشاط القضائي في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في أمريكا اللاتينية بشكل متزايد على مدى العقدين الماضيين، وذلك بعناوين مختلفة بينها “التقاضي الاستراتيجي”[21] و”القضايا الجماعية”[22] و”قانون المصلحة العامة” على النمط الأمريكي.[23] وفي بلدان مختلفة مثل البرازيل وكوستاريكا، كانت قرارات المحاكم حاسمة في تحديد كيفية توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل الرعاية الصحية.[24] وفي الأرجنتين، نظرت بعض المحاكم في قضايا هيكلية واختبرت آليات عامة لمراقبة تنفيذ الأحكام المرتبطة بحالات مناصرة أو نشاط حقوقي مثل حكم فيربيتسكي (Verbitsky)[25] بشأن اكتظاظ السجون، وحكم رياشويلو (Riachuelo)[26] بشأن التدهور البيئي.[27]

تزايدت الدراسات والأبحاث حول إمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بما يتناسب مع انتشار الأحكام المتصلة بالنشاط الحقوقي في أمريكا اللاتينية ومناطق أخرى.[28] وقد هيمن منظوران تحليليان على هذه الدراسات. أولاً، ركزت بعض المساهمات الرئيسية على بناء قضية نظرية لإمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في ضوء متطلبات النظرية الديمقراطية وواقع السياقات الاجتماعية الذي يتسم بتفاوتات اقتصادية وسياسية عميقة.[29]

ثانياً، دخلت دراسات عدة النقاش من منظار مبادئ حقوق الإنسان، مما منح دقة أكبر للمعايير القضائية لصون الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وعزز استخدام هذه الحقوق في الأجهزة القضائية وهيئات المراقبة على المستويين الوطني والدولي.[30]

عززت هذه المنظورات الوضوح المفاهيمي وإمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. غير أن التركيز شبه الحصري على مرحلة إنتاج الأحكام أدى إلى نشوء بقعة عمياء في التحليل والتطبيق: مرحلة تنفيذ الأحكام. لهذا السبب، ليس لدينا دراسات منهجية عن مصير القرارات المتصلة بالنشاط الحقوقي بعد صدورها.[31] ما هو مصير الأوامر الواردة في هذه الأحكام بعد مغادرتها قاعة المحكمة؟ وإلى أي مدى يحترم المسؤولون الحكوميون الأحكام ويتبنون مسارات سلوكية جديدة من أجل حماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟ ما هو تأثير هذه القرارات على الدولة والمجتمع المدني والحركات الاجتماعية والرأي العام؟ وأخيراً هل تسهم هذه الأحكام فعلاً في إنفاذ الحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟ سأتناول هذه الأسئلة في هذه المقالة. وللمساعدة في فهم تعقيدات تنفيذ الأحكام المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، سأتبع خطّين . سأبدأ بوضع إطار عمل تحليلي لفهم آثار هذه القرارات. لذلك، أقدّم  في الجزء الأول تصنيفاً لتلك الآثار وأناقش الانعكاسات المنهجية  للدراسات الاجتماعية القانونية على الأثر القضائي.

إزاء هذه الخلفية التحليلية، أتطرق في الجزء الثاني إلى سؤال توضيحي: ما الذي يفسر اختلاف مستويات تأثير القرارات المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟ لماذا لدى بعض القرارات آثار عميقة ومتنوّعة، في حين أن البعض الآخر يبقى مجرد حبر على ورق؟ وبما أن مصير القرارات القضائية يتوقف على ردود مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة – مثل استراتيجيات النشطاء والمتقاضين بعد صدور الحكم، وردود الفعل الحكومية حيال أوامر المحكمة، ودور المحاكم في مرحلة التنفيذ، فتعدد الأسباب يجعل هذه الأسئلة مستعصية ما لم يتم حصر التحليل بمجموعة معينة من المتغيرات. وبالتالي، سأركز على العوامل التي تقع ضمن اختصاص المحكمة. وإذا ما اعتبرنا جميع الأمور الأخرى متساوية، ثمة سؤال مثير للقلق: أي نوع من القرارات القضائية قد يكون لها أثر أوسع نطاقاً على إنفاذ الحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟ أو بمعنى أكثر جزماً ما الذي يمكن أن تفعله المحاكم لتعزيز تأثير أحكامها المتعلقة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟
 

ليكون تحليلي مستنداً إلى التجربة، سأعتمد  أدلة وردت في إحدى الدراسات المقارنة لتأثير أحكام المحكمة الدستورية الكولومبية في قضايا هيكلية. وقد نتجت دراسة الحالة المحورية عن مشروع تعاوني مع ديانا رودريغيز-فرانكو، عاين بشكل مفصل  السنوات الست الأولى من تنفيذ الحكم T-025.[32] قارنت التأثير العالي نسبياً للقضية T-025 والآثار الأكثر تواضعاً لحكمين هيكليين آخرين: T-153[33] وT-760. القرار T-153 صدر عام 1998 وأعلنت فيه المحكمة الدستورية الكولومبية أن الأوضاع المأساوية لنزلاء السجون المكتظة  بلغت حداً “ينافي الدستور”.[34] وعلى الرغم من أن المحكمة أصدرت عددا من الأوامر القصيرة الأجل الرامية إلى التصدي لأخطر أوجه الخلل الإداري وعيوب الموازنة التي تكمن وراء اكتظاظ السجون، غير أنها لم تنجح في إنشاء آلية مراقبة فعالة. ويساعد هذا التقصير في تفسير التأثير الضعيف للقرار بشكل عام. ولإظهار التباين مع الحكم T-153، قمت أيضاً بتحليل حكم أحدث هم الحكم T-760، المتعلق بالحق في الرعاية الصحية. وعلى الرغم من أن المحكمة التي أصدرت ذلك الحكم لم تستخدم رسمياً تصنيف الأوضاع المنافية للدستور، غير أنها أصدرت مجموعة من تدابير الانتصاف الهيكلية وأطلقت عملية مراقبة طموحة لا تختلف عن تلك التي تضمنها الحكم T-025.[35] اتُخذت هذه الإجراءات من أجل دفع الحكومة إلى تذليل العقبات الإدارية والتشريعية القديمة التي لطالما عرقلت نظام الرعاية الصحية وأغرقت المحاكم بآلاف العرائض المقدمة من مرضى للحصول على أدوية وعلاجات أساسية.[36] على الرغم من ذلك، فقدت عملية المراقبة زخمها بسرعة، ولم يكن لهذا القرار سوى أثر متوسط، يقع بين أثري الحكمين T-025 وT-153.وتماشياً مع هيكل هذه المقالة، تتألف حجتي من شقين. أولاً، أنّه لتحديد المجموعة الكاملة للآثار المترتبة على قرارات المحاكم، لا بد لدراسات تقييم الأثر (Impact studies) أن توسّع مجالات رؤيتها النظرية والمنهجية التقليدية. ,بالإضافة إلى الآثار المادية المباشرة لأوامر المحاكم – أي الآثار التي تترتّب مباشرة عن تنفيذ تلك الأوامر  – ينبغي إيلاء الاهتمام بالآثار الأوسع نطاقاً، بما في ذلك آثار غير مباشرة ورمزية  بالأهمية نفسها. واستناداً إلى أدلة مستمدّة من دراسة حالة، أفترض أنّ النطاق المحتمل للآثار ذات الصلة يشمل – بالإضافة إلى الإجراءات الحكومية التي كلّفت بها المحكمة تحديدًا – إعادة تأطير القضايا الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها مشاكل تتعلق بحقوق الإنسان، وتعزيز القدرات المؤسسية للدولة من أجل معالجة تلك المشاكل، وتشكيل تحالفات مناصرة للمشاركة في عملية التنفيذ، وتعزيز المداولات العامة والبحث الجماعي عن حلول لمسائل معقدة متصلة بالتوزيع الذي ترتكز علي القضايا الهيكلية المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

ثانياً، وفيما يتعلق بالعوامل التي تتحكم بها المحكمة والتي من شأنها تعزيز التأثير العام لحكم معين، هناك اثنان مهمان هما (1) نوع الأوامر التي تصدر عن المحاكم و(2) توافر المتابعة من جانب المحكمة وطبيعتها . وأرجّح أن يكون التأثير أكبر عندما تشارك المحاكم في “نشاط حقوقي حواري”[37] (dialogic activism) من خلال آليتين مؤسسيتين. أولاً، تحدد القرارات الحوارية أهدافاً واسعة ومسارات تنفیذ واضحة خلال  مهل محددة وتقديم تقاریر مرحلیة، بینما تُترك القرارات الجوھریة والنتائج المفصلة لھیئات حكومیة. ولا يتفق  هذا النوع من الأوامر فقط مع مبدأ فصل السلطات بل  يمكنه أيضاً أن يعزز الفعالية الشاملة لقرار معين. ثانياً، يشجع النهج الحواري في القضايا المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية اعتماد  آليات متابعة تشاركية مثل جلسات استماع عامة، ولجان متابعةتعينها المحاكم، ودعوات  للمجتمع المدني والوكالات الحكومية لتقديم معلومات ذات صلة والمشاركة في مناقشات ترعاها المحكمة – مما يؤدي إلى تعميق التداول الديمقراطي وتعزيز أثر تدخلات المحاكم.

أولاً. البقعة العمياء في النقاش حول إمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية: تأثير الأحكام

أ. تأثير الأحكام المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية: إطار عمل تحليلي

تقدّم أبحاث ومراجع عريقة متعددة التخصصات حول المحاكم والتحوّل الاجتماعي إطار عمل مفاهيمياً ومنهجياً مفيداً لتقييم آثار الموجة الأخيرة من الدعاوى القضائية والنشاط الحقوقي القضائي المتصل بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فقد استطلعت المراجع والدراسات أثر القرارات القضائية البارزة بشأن مجموعة متنوعة من المواضيع، بما في ذلك المساواة بين الجنسين في سوق العمل[38] والتمييز العنصري[39] واكتظاظ  السجون.[40] ومن وجهات نظر مختلفة، قدّمت تلك الدراسات  تفسيرات نظرية وتقييماً عمليًا لنتائج “ثورة الحقوق”[41] و”الاعتماد على القضاء  للفصل في مسائل السياسة العامة”[42] (juristocracy) والذي تجلّى  في التدخل المتزايد للقضاة  في مسائل سياسية واجتماعية أساسية.

يمكن تصنيف دراسات الأثر القضائي ضمن مجموعتين، وذلك تبعاً لنوع التأثيرات التي تركز عليها الدراسات. فمن جهة، يركز بعض المؤلفين اهتمامهم على الآثار المباشرة والملموسة للقرارات القضائية. يتبع هؤلاء منظوراً واقعياً حديثاً (neorealist) يعتبر القانون كمجموعة من القواعد التي تحدد السلوك البشري، فيطبّقون اختباراً صارماً للعلاقة السببية من أجل قياس أثر التدخلات القضائية: فأي  حكم يكون فعالاً إذا أحدث  تغييراً ملحوظاً في سلوك الأشخاص الذين يستهدفهم بشكل مباشر.[43] على سبيل المثال، يمكن حل مسألة تحديد آثار الحكم T-025 من خلال تحليل تأثيره على سلوك السلطات الحكومية المسؤولة عن السياسة العامة المتصلة بالنزوح القسري، وبالتالي عن طريق تقييم عواقبه على النازحين داخلياً.

وتستلهم هذه المقاربة عملها الأساسي من  دراسة روزنبرغ لآثار قرارات المحكمة العليا الأمريكية .[44] في قضية براون ضد مجلس التعلیم[45] فخلافاً لوجھة النظر التقلیدیة حيال قضية براون التي رأت أنّ القرار يحدث  ثورة في العلاقات بين الأعراق في الولایات المتحدة ويساهم في ولادة حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي.، خلصت دراسة روزنبرغ التجريبية إلى أن الحكم لم يكن له أثر يذكر، وأن الإيمان بالمحاكم كآليات للتغيير الاجتماعي كان “أملاً أجوفاً”.[46] وبرأي روزنبرغ فإن إنهاء التمييز العنصري إنما نتج عن التعبئة السياسية في الستينيات وما نتج عنها من تشريعات مناهضة للتمييز (وليس عن القرار القضائي الهيكلي) حققت إلغاء الفصل العنصري.[47]

من جهة أخرى، انتقد باحثون آخرون متأثرون بتصوّر بنائي للعلاقة بين القانون والمجتمع[48] روزنبرغ والواقعيين الجدد بسبب تركيزهم بشكل حصري على الآثار المباشرة والمادية للأحكام. ووفقاً لهؤلاء النقّاد، لا تولّد القوانين والقرارات القضائية تحولاً اجتماعياً فقط عندما تُحدث تغييرات في سلوك المجموعات والأفراد المعنيين مباشرة بالقضية، وإنما أيضاً عندما تحدث تحولات غير مباشرة في العلاقات الاجتماعية أو عندما تغير تصورات الجهات الفاعلة الاجتماعية وتشرّع نظرة المتقاضين.[49] وبالعودة إلى الحكم T-025،  وأبعد من آثاره المباشرة والمادية، من الممكن أن يكون  قد أدى إلى آثار غير مباشرة أو رمزية لا تقل أهمية. فعلى سبيل المثال، ربما أسهم في تغيير نظرة الرأي العام إلى لطابع الطارئ والخطير للنزوح القسري في كولومبيا، أو شرّع المطالب وعزز القوة التفاوضية للمنظمات غير الحكومية والوكالات الدولية لحقوق الإنسان التي كانت تضغط على الحكومة الكولومبية لبذل المزيد من الجهود لخدمة النازحين داخلياً.

من الدراسات البارزة التي تستخدم المنهج البنائي (constructivist approach) دراسة ماكين حول تأثيرات الاستراتیجیات القانونیة التي تستخدمھا الحرکة النسائیة في نضالها من أجل المساواة في الأجور في الولایات المتحدة.[50]  خلص  ماکين إلى أن التأثیرات غير المباشرة للتقاضي والنشاط الحقوقي القضائي قد تکون أکثر أھمیة من تلك المباشرة التي يركّز عليها الواقعيون الجدد [51] (neorealists). بالتالي، و”على الرغم من أن الانتصارات القضائية غالباً ما لا  تُترجم تلقائياً بالتغيير الاجتماعي المنشود، غير أنها قد تساعد في إعادة تحديد شروط الصراعات الآنية والطويلة الأجل بين الفئات الاجتماعية.”[52]

تسير هذه الاختلافات المفاهيمية جنباً إلى جنب مع الخلافات المنهجية. ينطوي اليقين المعرفي (النزعة الوضعية المعرفية)  لدى الواقعيين الجدد على تركيز شبه حصري على تقنيات البحث الكمية التي تسمح بقياس التأثيرات المادية المباشرة. ويتجلى ذلك في دراسات الأثر المستوحاة من تيار  القانون والاقتصاد الذي يميل إلى مشاركة روزنبرغ شكوكه، كما يتجلى في الأبحاث الاقتصادية بشأن النشاط الحقوقي للمحكمة الدستورية الكولومبية.[53]

على النقيض من ذلك، يوسّع النهج البنائي نطاق استراتيجيات البحث لتشمل التقنيات النوعية التي ترصد التأثيرات غير المباشرة والرمزية لقرار معين؛ وتوضع على قدم المساواة مع التقنيات الكمية مثل تحليلات المؤشرات الاجتماعية وقياس التغطية الصحافية قبل القرار وبعده. وتقوم إحدى تلك التقنيات على استخدام مقابلات معمّقة مع موظفين حكوميين وناشطين وأفراد من الشريحة  المستفيدة. وتبحث  تلك المقابلات تأثير القرار على تصورات هؤلاء الأفراد لأوضاعهم والاستراتيجيات المستخدمة للتأثير على أوضاعهم.

لتوضيح وإبراز الفرق بين هذين المنظورين، وضعت تصنيفاً للآثار قيد الدرس كماهو مبيّن في الجدول 1.

الجدول 1. أنواع آثار القرارات القضائية وأمثلة عنها

 مباشرةغير مباشرة
ماديةتصميم سياسة عامة، بحسب  ما يأمر به الحكمتشكيل تحالفات لنشطاء من أجل التأثير على القضية موضوع البحث
رمزيةتحديد المشكلة واعتبارها انتهاكاً للحقوقتحويل الرأي العام بمدى إلحاح المشكلة وخطورتها

من جهة، وكما هو مبيّن في المحور الأفقي للجدول، قد يكون للأحكام آثار مباشرة أو غير مباشرة، حيث تشمل الأولى  الإجراءات الصادرة عن المحكمة والتي تؤثر على المشاركين في القضية، سواء كانوا متقاضين أو مستفيدين أو وكالات حكومية مستهدفة بأوامر المحكمة. وفي القضايا موضوع البحث، شملت الآثار المباشرة للأحكام الهيكلية الصادرة عن المحكمة الدستورية الكولومبية قرار الحكومة بإعلان حالة طوارئ اقتصادية في أواخر عام 2009، مما سمح لها بإصدار سلسلة من المراسيم التي تهدف ظاهرياً إلى إصلاح أزمة نظام الرعاية الصحية والامتثال لبعض أوامر المحكمة المضمّنة في الحكم T-760.[54] وعلى غرار ذلك، وامتثالاً للأمر الرئيسي في الحكم T-153، أصدر مجلس التخطيط الحكومي وثيقة تتضمّن  استراتيجية سياسة عامة للتصدي لمسألة اكتظاظ السجون.[55]

تشمل الآثار غير المباشرة جميع أنواع العواقب المترتّبة على القرار وإن لم تتضمّنها أوامر المحكمة . وهي لا تؤثر على أطراف القضية فحسب، وإنما أيضاً على الجهات الفاعلة الاجتماعية الأخرى. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تدفع تدابير الانتصاف القضائية الوكالات الحكومية المتعاطفة والمنظمات غير الحكومية إلى اغتنام الفرصة التي أتاحها القرار والمشاركة في عملية المتابعة بما يتجاوز الأهداف الأصلية للمحكمة . فوجود مكتب لأمين المظالم في كولومبيا مثلاً يشكّل ضغطاً على الحكومة لإصلاح السجون في أعقاب القرار المتصل باكتظاظ السجون،[56] كما تم تشكيل عدة تحالفات لمنظمات غير حكومية للدفاع عن إصلاح الرعاية الصحية في إطار نموذج الحكم T-760.[57]

من جهة أخرى، وكما يتضح من المحور العمودي للجدول، يمكن للقرارات القضائية أن تولّد آثاراً مادية أو رمزية.[58] تنطوي الأولى على تغييرات ملموسة في سلوك الجماعات أو الأفراد. وتتألف الآثار الرمزية من تغييرات في الأفكار والتصورات والبنى الاجتماعية الجماعية المتعلقة بموضوع التقاضي. ومن الناحية الاجتماعية، فإنها تنطوي على تغييرات ثقافية أو أيديولوجية فيما يتعلق بالمشكلة التي تطرحها القضية.[59]

على سبيل المثال، عندما تجتذب القرارات والأحكام القضائية انتباه وسائل الإعلام، فهي قد تؤثر على فهم كل من وسائل الإعلام والجمهور للمسألة المطروحة. وهذا ما حصل في حالة القرار T-760 الذي أدى إلى إعادة تأطير مسألة الرعاية الصحية في كولومبيا.[60] ويشير تحليلي لمضمون الأخبار والمقالات المنشورة في وسيلتين إعلاميتين رئيسيتين في البلاد إلى أنه قبل صدور قرار المحكمة الدستورية، كان الإطار الأكثر شيوعاً للحديث عن هذه المسألة هو اعتبارها “أزمة مؤسسية” (وذلك في 60% من المقالات المنشورة بين 2004 ومنتصف 2008). ويمكن رؤية عملية إعادة التأطير بوضوح في التغطية الصحافية في أعقاب القرار: ففي الفترة الممتدة من منتصف عام 2008 إلى أواخر عام 2010، وضعت الصحافة الغالبية العظمى (72%) من المقالات في إطار “الحق في الصحة”.[61]

وكما هو واضح في الجدول، فإن تقاطع التصنيفين يؤدي إلى أربعة أنواع من الآثار: الآثار المادية المباشرة (صياغة سياسة ما بأمر من المحكمة)؛ الآثار المادية غير المباشرة (تدخل جهات فاعلة جديدة في النقاش)؛ الآثار الرمزية المباشرة (إعادة صياغة التغطية الإعلامية)؛ والآثار الرمزية غير المباشرة (تحول الرأي العام بشأن هذه المسألة).

مع أخذ هذا التصنيف بعين الاعتبار، دعونا نعود إلى التناقض بين النهج الواقعي الجديد والنهج البنائي. ففي حين أن الواقعيين الجدد يركزون على التأثيرات المادية المباشرة، أي على إنفاذ الحكم،[62] فإن البنائيين (constructivists)  ينظرون إلى  الأنواع الأربعة  كلها.[63] وذلك يفسر لماذا يمكن للواقعيين الجدد اعتبار حكم معين غير فعال بينما يراه البنائيون فعالاً، إلى حد أن ما تعتبره المجموعة الثانية أثراً يشمل مروحة أوسع من الآثار.

وفي هذا السياق، يخلص أي تحليل مبني على نهج الواقعيين الجديد إلى أن جميع القضايا البارزة تقريباً في الاجتهادات المتعلقة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لم يكن لها تأثير يذكر. فلنأخذ على سبيل المثال حكم المحكمة الدستورية لجنوب أفريقيا المعروف بشأن الحق في السكن في قضية غروتبوم.[64] فواقعة وفاة المدعية إيرين غروتبوم في كوخ في انتظار منزل لائق بعد ثماني سنوات من فوزها في القضية، تشير إلى أن الحكم كان بلا جدوى، إذ لم تتحقق آثاره المادية المباشرة المتوقعة.[65] بيد أن هذا الاستنتاج يتجاهل النتائج المهمة للقضية حيث يُغفل على سبيل المثال  مختلف الآثار غير المباشرة والآثار الرمزية الناجمة عنه. وتشمل تلك الآثار تدفق قضايا مماثلة حيث تمكنت أوساط محلية في أجزاء مختلفة من جنوب أفريقيا من وقف عمليات إخلاء ووضع سياسات طوارئ للإسكان .[66]

تجد دراستي لتأثير القرارات الهيكلية الصادرة عن المحكمة الدستورية الكولومبية دعماً بالوقائع للنهج البنائي. في الواقع، تشير دراسات حالات قمت بها إلى أن الآثار غير المباشرة والرمزية قد تترتب عليها عواقب قانونية واجتماعية عميقة بقدر الآثار المادية المباشرة للقرار. وقد كانت الأشكال المختلفة من التأثير القضائي أكثر وضوحاً في عملية الرصد التي استغرقت سبع سنوات للحكم T-025 والتي توضح التصنيف المذكور أعلاه.

ب. آثار الأحكام المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية: الحكم T-025

ضمنت المحكمة الدستورية الكولومبية الحكم T-025 ثلاثة أوامر رئيسية. أولاً، كلفت الحكومة بوضع خطة عمل متماسكة لمعالجة حالة الطوارئ الإنسانية للأشخاص النازحين داخلياً والتغلب على الوضع المنافي للدستور.[67] ثانياً، أمرت الإدارة بحساب الميزانية اللازمة لتنفيذ خطة التحرك هذه واستطلاع جميع السبل الممكنة لإنفاق المبلغ المحسوب على برامج للنازحين.[68] ثالثاً، أوعزت إلى الحكومة بضمان حماية الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة (“الجوهر الأساسي” “essential core“) في أبرز الحقوق الأساسية – الغذاء والتعليم والرعاية الصحية والأرض والسكن.[69] وقد تم توجيه هذه الأوامر كلها إلى جميع الوكالات العامة ذات الصلة، بما في ذلك الهيئات الحكومية الوطنية والسلطات المحلية.[70]

بعد سبع سنوات، أية آثار تركتها تلك الأوامر وتلك التي أعقبتها؟ تظهر المقابلات التي أجريت مع الجهات الفاعلة الرئيسية، وتحليل مضمون التغطية الصحافية، ودراسة المداخلات والمشاركات خلال الاجتماعات والجلسات التي تعقدها المحكمة، والبيانات المستخرجة من مستندات  القضية، وجود ستة آثار رئيسية، على النحو المبيّن في الجدول 2.

الجدول 2. آثار الحكم T-025

 مباشرة

 

 غير مباشرة
ماديةكسر الجمودسياسات عامة

تنسيق

تشارك

 
رمزيةقطاعية  
  إعادة تأطير

المصدر: مقتبس من سيزار رودريغيز غارافيتو وديانا رودريغيز فرانكو، CORTES Y CAMBIO SOCIAL: CÓMO LA CORTE CONSTITUCIONAL TRANSFORMÓ EL DESPLAZAMIENTO FORZADO EN COLOMBIA [المحاكم والتغيير الاجتماعي: كيف تمكنت المحكمة الدستورية من تغيير النزوح القسري في كولومبيا] (2010). 

  1. الأثر المتصل بكسر الجمود – تمثل الأثر الفوري للحكم T-025 في كسر الجمود في النظم البيروقراطية الحكومية المسؤولة عن شؤون النازحين.[71] فمن خلال الطلب من الحكومة صياغة سياسة متماسكة لحماية حقوق النازحين وتحديد المواعيد النهائية لتحقيق تقدّم، استخدمت المحكمة الدستورية الكولومبية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كحقوق لكسر الجمود[72] -كنقاط تأثير لكسر الجمود المؤسسي ودفع الحكومة إلى العمل. فكان ذلك، بناء على التصنيف أعلاه، تأثيراً مادياً مباشراً للحكم.

سلط العديد من الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات الضوء على هذا التأثير. فعلى سبيل المثال، أوضح المحامي المسؤول عن قضايا النازحين داخلياً في مكتب أمين المظالم الكولومبي كيف شكّلت المواعيد النهائية المتأخرة لتقديم التقارير إلى المحكمة حافزاً فعالاً للوكالات الحكومية ذات الصلة. ويتذكر أنه “في الاجتماعات التحضيرية المشتركة بين الوكالات التي تسبق عقد اجتماعات المتابعة مع المحكمة، كان مسؤولو إنفاذ القوانين الوطنيون والمحليون يشيرون إلى أنه كان عليهم الإسراع لأنهم ذاهبون إلى المحكمة أو لأنهم سيفوتون الموعد النهائي للمحكمة.”[73] وكما سنرى لاحقاً، ظلت المحكمة تضغط على الحكومة من خلال أوامر واجتماعات المتابعة، الأمر الذي دفع الأخيرة أكثر إلى التحرّك.[74] بناءً عليه، وكما جاء في افتتاحية إحدى الصحف في عام 2007، أن الحكم كان أساسياً في” تحريك موقف الحكومة. فقد أدت الأوامر الدورية الصادرة عن المحكمة، إلى فتح الباب أمام شكاوى ضد مسؤولين حكوميين تتهمهم  بازدراء المحكمة– فضلاً عن تقارير رئيسية صادرة عن النائب العام والمراقب وأمين المظالم بشأن عيوب في عملية التنفيذ –  أبقت  الضغط على الحكومة للوفاء بالتزاماتها“.[75]

  1. الأثر المتصل بالتنسيق – لم ينبع فشل السياسات الهيكلية الكامن وراء حالة الطوارئ الإنسانية للنازحين داخلياً من تقاعس المؤسسات ذات الصلة فحسب، وإنما أيضاً من انعدام التنسيق فيما بينها.[76] ومن خلال الطلب من هذه المؤسسات التعاون بشأن تصميم وتمويل وتنفيذ سياسة موحدة بشأن النازحين داخلياً، عززت المحكمة الدستورية الكولومبية هذا النوع من التنسيق، سواء فيما بين الوكالات المستهدفة بشكل مباشر بالقرار أو فيما بين الوكالات المرتبطة بشكل غير مباشر بالقضية. بالتالي، وكما هو مبيّن في الجدول 2، كان لذلك تأثير مادي لديه مظاهر مباشرة وغير مباشرة.

وحسب ما قاله مسؤول في وزارة التربية والتعليم، “لقد أبلغنا الحكم بضرورة ترتيب بيتنا الداخلي. كما  سمح لنا في الحكومة بتحديد المهام وتوزيعها وتحديد المهام التي تتطلب أداء جماعياً وتعاونياً.”[77] وكانت النتيجة، وإن لم تكن مثالية، إنشاء لجنة تنسيق مشتركة بين الوكالات، تجتمع بانتظام وتقدم تقاريرها إلى المحكمة.[78]

  1. الأثر المتصل بالسياسات –كان للحكم T-025 أثر كبير على تصميم سياسة وطنية طويلة الأجل بشأن النازحين داخلياً، فضلاً عن إنشاء آليات لتنفيذ البرنامج وتمويله ورصده. بالفعل، بعد عام واحد من صدور الحكم، وفي رد مباشر على الأمر الأول للمحكمة، أصدرت الحكومة الخطة الوطنية للرعاية الشاملة للأشخاص النازحين بسبب العنف.[79] ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من الأهمية الظاهرية لهذا التطور، غير أنه يكشف أيضاً  وجود عواقب رمزية للحكم. فالحكومة اعتمدت صراحة اللغة والإطار القانوني للنهج الحقوقي (“Enfoque de derechos” – “rights approach“) المتبع من قبل المحكمة في أوراق ولوائح السياسات الراهنة واللاحقة[80] -ومن هنا جاء إدراج هذا الأثر كأثر وسطي في الجدول 2.

بالإضافة إلى ذلك، كان للحكم T-025 تأثير مباشر على تخصيص الحكومة  للأموال للبرامج التي تستهدف النازحين داخلياً، وذلك بسبب أمر المحكمة الثاني. فالحكم دفع الإدارة إلى مضاعفة الميزانية المخصصة لهذه البرامج ثلاث مرات عام 2004، كما كان له تأثير تصاعدي على الميزانية منذ ذلك الوقت.[81] وكانت الميزانية الوطنية لعام 2010 لبرامج النازحين داخلياً، وإن كانت لا تزال غير كافية، تساوي أكثر من عشرة أضعاف ميزانية عام 2003.[82]

  1. الأثر المتصل بالتشارك – فتحت متابعة الحكم T-025  باب الإجراءات القضائية وعملية وضع السياسات أمام طائفة واسعة من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. وكان هذا التأثير المادي الرئيسي ناتجاً مباشرةً عن الحكم ونتيجة غير مباشرة وغير متوقعة له. فمنذ البداية، لم تتعلق أوامر المحكمة الدستورية فقط بالوكالات الحكومية الأساسية المسؤولة عن النازحين داخلياً -وزارة الداخلية والوكالة الاجتماعية (الوكالة المسؤولة عن برامج مكافحة الفقر) – وإنما أيضاً بجميع الجهات الأخرى التي تضطلع بمسؤوليات ذات صلة على المستوى الوطني والمحلي.[83]

ومن المثير للاهتمام أنه من بين النتائج غير المباشرة للحكم، تشكيل منظمات أهلية وائتلافات للمشاركة في عملية الرصد. فضمت منظمات غير حكومية مثل CODGES وDeJusticia وViva la Ciudadanía جهودها إلى جهود المنظمات الشعبية وبعض القطاعات في الكنيسة الكاثوليكية والأوساط الأكاديمية، لإنشاء تحالف موجه خصيصاً للمساهمة في تنفيذ الحكم T-025: لجنة رصد السياسة العامة بشأن النزوح القسري.[84] وفي تأثير عكسي صادم، اعترفت المحكمة الدستورية في وقت لاحق باللجنة كطرف مشارك في إجراءات متابعة الحكم واعتمدت إلى حد كبير على البيانات والتوصيات التي قدمتها اللجنة.[85] لذلك، وعلى الرغم من أن اللجنة لم تعيّن رسمياً من قبل المحكمة الدستورية، غير أنها قد اضطلعت عملياً بدور مماثل لدور لجان المراقبة التي أنشأتها المحكمة العليا الهندية للإشراف على تنفيذ قرارها.[86]

وكما هو مبين أدناه، شجعت المحكمة الدستورية مشاركة أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني وتحاورها من خلال جلسات استماع والتماسات دورية للحصول على المعلومات، مما عزز نمط النشاط القضائي الحقوقي والحواري الذي يمكنه، باعتقادي، أن يعزز تأثير الأحكام المتصلة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

  1. الأثر القطاعي – يستهدف كل حكم متصل بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية قطاعات معينة من السكان بوصفهم مستفيدين، سواء كانوا مواطنين بلا مأوى يطالبون بحقهم في السكن اللائق، كما في قضية غروتبوم؛ أو مرضى مستائين يطالبون المحكمة بإنفاذ حقهم في الرعاية الصحية، كما في القضية T-760؛ أو أشخاصاً محتجزين في سجون مكتظة يطالبون المحكمة بظروف احتجاز لائقة. لذلك، فالسؤال الرئيسي هو ما هي الآثار التي يتركها حكم معين على ظروف ذلك القطاع الاجتماعي المحدد. في هذه الحالة، هل ساهم الحكم T-025 في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للنازحين الكولومبيين؟

لا توجد إجابة حاسمة على هذا السؤال، إذ إن محاولات الإجابة محفوفة بصعوبات منهجية. على وجه التحديد، تتمثل إحدى السمات المحددة للفشل المنهجي للسياسات في الافتقار إلى بيانات موثوقة عن ظروف السكان المتضررين. بالفعل، كان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى إعلان المحكمة الدستورية لوضع مناف للدستور في الحكم T-025.[87] لذلك، فإننا نفتقر إلى أساس مرجعي لإجراء مقارنات مع الوضع الاجتماعي والاقتصادي للنازحين بعد القرار.

لكن، نظراً إلى أن الجمعية الأهلية المذكورة أعلاه، أي لجنة الرصد المعنية بالسياسة العامة بشأن النزوح القسري، تجمع بيانات مسح نوعية، يمكن على الأقل تكوين فكرة عن تطور ظروف النازحين داخلياً بعد صدور الحكم. تظهر الأرقام الأخيرة أن الوضع قد تغيّر قليلاً: فعلى الرغم من أن إمكانية الحصول على التعليم والرعاية الصحية قد تحسنت بشكل كبير، مما يعود بالنفع على حوالي 80% من النازحين داخلياً،[88] إلا أن حالة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأخرى لا تزال غير مرضية. وكمثال توضيحي، يعيش 98% من النازحين داخلياً في الفقر، و5.5% فقط لديهم مساكن ملائمة، و0.2% فقط من الأسر النازحة تلقت مساعدة إنسانية طارئة على النحو المحدد بتكليف قانوني في الأشهر التالية مباشرة لنزوحهم القسري.[89] 

إعادة نشر بواسطة محاماة نت