ماهية الحرفي في فقه القضاء التونسي

مقال حول: ماهية الحرفي في فقه القضاء التونسي

ماهية الحرفي في فقه القضاء التونسي

الاستاذ رياض عجرود

لا يخفى على أحد أنّ قطاع الحرف والحرفيّين تبوّأ منذ عشرات السنين مرتبة ودورا هاميّن في بلادنا سواء من الناحية الاقتصاديّة أو من الناحية الاجتماعيّة وهو ما أدّى بالمشرّع إلى تخصيصه بعديد النصوص التشريعيّة سواء من حيث التنظيم أو التشجيع (1).

غير أنّ اللاّفت للنظر أنّه إلى حدّ تاريخ غير بعيد فإنّ القانون لم يعرّف الحرف والحرفيّين على عكس ما هو الأمر مثلا بالنسبة لعديد المهن الأخرى سواء التجاريّة أو غيرها.

فباستثناء ما تضمّنه بصفة عرضيّة الفصل 1 ثالثا من الأمر العليّ الصادر في 17 /6/1937 والمتعلّق بالتعاضديّات الحرفيّة من أنّ هذه الأخيرة لا يمكن أن تضمّ إلاّ العاملين من جنس الذكور أو الإناث من الفرنسيّين أو التونسيّين الذين يمارسون عملا يدويّا بصفة شخصيّة ولحسابهم الخاص دون أن يكونوا تحت إمرة مؤجّر وذلك بمنازلهم أو خارجها وباستعمال الآلات أو دونها والذين يبيعون فقط منتوج عملهم… (2) كان تنظيم المشرع لقطاع الحرف والحرفييّن وتشجيعه لهما متزامنا مع غياب نصّ قانوني يشكّل مرجعا عامّا لتعريفهما.

ولعلّ هذا ما دفع المشرّع في سنة 1983 إلى سنّ القانون عدد 106 المؤرخ في 3 ديسمبر1983 والمتعلّق بالقانون الأساسي للحرفيّين والذي تضمّن تعريفا لقطاع الحرف والحرفي والمؤسّسة الحرفيّة في فصوله الأوّل والثاني والثالث كالتالي :

– الفصل الأوّل: ” يقصد بقطاع الحرف حسب مفهوم هذا القانون جميع نشاطات الإنتاج والتحويل والتصليح وإسداء الخدمات التي تعتمد أساسا على العمل اليدوي والتي يتعاطاها أصحابها كمهن رئيسيّة مستمرّة تابعة لإحدى الفروع التي يقع ضبط قائمتها بقرار من وزير السياحة والصناعات التقليديّة. ويتعيّن أن تقع ممارسة هذا النشاط :

– إمّا مباشرة من طرف حرفيّ حسب تعريف الفصل 2 من هذا القانون أو تحت مراقبته

أو في إطار مؤسّسة حرفيّة حسب تعريف الفصل 7 من هذا القانون” .

– الفصل الثاني: ” تطلق كلمة حرفيّ حسب مفهوم هذا القانون على كلّ عامل مستقلّ بذاته يمارس نشاطا في الصناعات الحرفيّة كما وقع ضبطها بالفصل الأوّل من هذا القانون ويثبت كفاءة مهنيّة يقع ضبط شروطها بأمر”.

– الفصل الثالث : ” تعتبر مؤسّسة للصناعات الحرفيّة حسب مفهوم هذا القانون كلّ مؤسّسة فرديّة أو شركة أشخاص أو تعاضديّة تتميّز بالخاصيّات التالية :

ممارسة نشاط في قطاع الصناعات الحرفيّة حسب التعريف الوارد بالفصل الأوّل من هذا القانون.

تشغيل أقلّ من 10 أشخاص بقطع النظر عن رئيس المؤسّسة وعن أفراد أسرته من آباء وأبناء وزوج وذلك عندما يكون لرئيس المؤسّسة صفة الحرفي إلاّ إذا رخّص وزير السياحة والصناعات التقليديّة في تجاوز ذلك العدد بعد أخذ رأي اللجنة الجهويّة للصناعات الحرفيّة المشار إليها بالفصل 5 وحسب الشروط المنصوص عليها بالفصلين 10 و11 من هذا القانون.

ج- تسيير المؤسّسة من طرف حرفي حسب تعريف الباب الثاني من هذا القانون أو بمشاركة حرفي واحد على الأقلّ يتولّى التسيير الفنيّ للمؤسّسة عندما لا يكون لرئيسها صفة الحرفي غير أنّه لا يمكن لأيّ حرفيّ أن يتولّى تسيير أكثر من مؤسّسة واحدة عدا الحالات الاستثنائيّة التي يرخّص فيها وزير السياحة والصناعات التقليديّة “.

وفي نفس السياق الرامي لمزيد الإحاطة بقطاع الحرف والحرفيّين وتنظيمه وتشجيعه سنّ المشرّع بعد ما يزيد عن العشرين عاما قانونا جديدا هو القانون عدد 15 لسنة 2005 المؤرّخ في 16 فيفري2005 والمتعلّق بتنظيم قطاع الحرف ألغى به قانون 1983 وعوّضه.

وبقراءة هذا القانون الجديد وباستثناء ما استحدثه واضعوه من تمييز اقتصادي وثقافي بين صنفين صلب قطاع الحرف صنف الحرف الصغرى وصنف الصناعات التقليديّة نلاحظ أنّ التعريف القانونيّ القديم للحرفة والحرفيّ لم يطرأ عليهما تغيير جوهريّ ذلك أنّ المشرّع :

– نصّ أنّ قطاع الحرف حسب مفهوم هذا القانون يشمل أنشطة الحرف الصغرى والصناعات التقليديّة التي تمارس من أصحابها سواء كانوا أشخاصا طبيعيّين أو معنويين ( مؤسّسات) بصفة رئيسيّة ومستمرّة وعلى وجه الاحتراف أو بحكم العادة للتحصيل منها على ربح ( الفصل 2) وتتمثّل هذه الأنشطة :

بالنسبة للحرف الصغرى في أنشطة الإنتاج أو التحويل أو الإصلاح أو إسداء الخدمات التي تعتمد أساسا على العمل اليدوي ( الفصل 12)

وبالنسبة للصنعات التقليديّة في نفس هذه الأنشطة اليدويّة باستثناء إسداء الخدمات والتي تلبّي حاجيات نفعيّة أو وظيفيّة أو تزويقيّة تحمل طابعا فنيّا وثقافيّا مستوحى من الهويّة والتراث الوطني بالنسبة لصنف الصناعات التقليديّة) ( الفصل16)

– و نصّ أيضا أنّ المقصود من الحرفيّ حسب مفهوم نفس القانون كلّ شخص طبيعي مستقلّ بذاته يمارس لحسابه الخاص نشاطا حرفيّا على معنى الفصل 2 أعلاه وأنّ المقصود بالمؤسّسة الحرفيّة كلّ شخص معنوي يمارس النشاط الحرفيّ على معنى نفس الفصل في شكل تعاضديّة أو شركة وفقا لأحكام مجلّة الشركات التجاريّة ( الفصل 5).

هذا إذن هو تعريف الحرفيّ كيفما رآه القانون سنة 1983 بعد سكوته طويلا عنه وهو نفس التعريف الذي كرسّه أيضا في 2005 .

إنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد هذا العرض التاريخي الموجز لتعريف القانون للحرفيّ هو ماذا كان تعريف فقه القضاء للحرفيّ إزاء سكوت القانون عن تعريفه إلى حدّ سنة 1983 وبعده ؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يمرّ عبر تحديد المقصود من فقه القضاء.

عرّف المعجم القانوني لجمعيّة ” هنري كابيتان” فقه القضاء بأنّه ” مجموعة قرارات المحاكم الصادرة في فترة معيّنة إمّا في مادّة وإمّا في فرع من فروع القانون وإمّا في القانون برمّته ” ( 3) .

وعرّف الفقيهان ” جورج ريبير ” وجون بولانجي” فقه القضاء بأنّه يعني جملة الأحكام التي بتّت في مسألة معيّنة بتواتر يحمل على الاعتقاد بأنّ نفس الحلّ المعتمد سيطبّق حتما لو طرحت من جديد نفس الصعوبة “( 4) .

وفي تونس تضمّن الفقه أنّ المقصود عادة بفقه القضاء هو مجموعة القرارا ت والأحكام الصادرة عن المحاكم وبصفة أدقّ الحلّ المتواتر الذي يبرزه اجتهاد القضاء في مسألة معيّنة (5).

بعد هذا التعريف لفقه القضاء فإنّ الباحث فيما نشر من فقه القضاء و بعض ما لم ينشر منه يلمس أنّّ مسالة تعريف الحرفيّ طرحت على المحاكم في قضايا لا تحصى ولا تعدّ .

وقد كانت كلّ هذه القضايا أو تكاد متعلّقة بالجواب عمّا إذا كان المتسوّغ لعقار معدّ لممارسة نشاط مهنيّ ما حرفيّا أم لا وتبعا لذلك عن ماهية القواعد القانونيّة المنطبقة على عقد تسويغه هل هي القواعد العامّة للكراء الواردة بمجلّة الالتزامات والعقود أم هي القواعد الخاصّة الواردة بالتشريعات المنظّمة لعلاقة المتسوّغين بالمسوّغين للمحلاّت المعدّة للاستعمال المهني (6).

وإذا استثنينا المرّات التي عمدت فيها المحاكم دون سبب واضح إلى عدم تعريف الحرفيّ والاقتصار ببساطة على التأكيد على أنّ النشاط الذي يمارسه متسوّغ محلّ النزاع حرفيّ أو ليس حرفيّا هكذا بدون توضيح للأسباب التي أوصلتها لهذه النتيجة (7) فإنّه في معظم القضايا ورغم الفراغ الذي شاب القانون لسنين عديدة من جهة تعريف الحرفيّ عرّفت محاكمنا بنفسها واجتهادا منها الحرفيّ.

غير أنّ ما يلفت الانتباه إلى جانب هذا هو أنّه بعد صدور قانون 1983 المتعلّق بالقانون الأساسي للحرفيّ ورغم أنّه تضمّن تعريفا قانونيّا لهذا الأخير واصل فقه القضاء لمدّة طويلة تعريف الحرفيّ بمعزل عن ذلك التعريف وكأنّه تجاهله أو هجره بل و خالفه أيضا .

ومن كلّ هذا تبدو دراسة موضوع تعريف الحرفيّ في فقه القضاء ذات أهميّة على الصعيدين النظري والعملي فمن الناحية النظريّة نرى أنّ فقه القضاء سعى جاهدا بشكل مستقلّ رغم الصعوبة التي اعترضته وحتّى بعد انقضائها إلى تعريف الحرفيّ تعريفا يميّزه عن غيره ممّن قد يشبهونه أمّا من الناحية العمليّة فإنّ هذا السعي كان له أثر واضح ومباشر في التطبيق العملي لقواعد قانونيّة على الحرفي دون أخرى.

لهذا كلّه فإنّ السؤال الذي تعنى هذه المحاضرة بالجواب عنه هو كيف عرّف فقه القضاء الحرفيّ ؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال يستوجب التعرّض لمضمون تعريف الحرفيّ المتواتر في فقه القضاء ( الجزء الأوّل ) و للمنهجيّة التي اتبعها قضاتنا عادة للوصول إلى هذا التعريف ( الجزء الثاني).

الجزء الأوّل : مضمون التعريف :

إنّ المطّلع على الأحكام والقرارات الصادرة عن محاكمنا والتي تضمّنت تعريفا للحرفيّ يلاحظ أنّها تضمّنت عناصر مستقرّة لهذا التعريف وذلك سواء في غياب تعريف القانون له أو بعد وجود هذا التعريف.

ويمكن تجميع هذه العناصر في صنفين الأوّل شخصي ( أ) والثاني موضوعي (ب).

الفقرة الأولى : الصنف الشخصيّ :

يضمّ هذا الصنف ثلاثة عناصر تتمثّل في أنّ الحرفيّ عامل مستقلّ بذاته وأنّه عامل يدويّ يمتاز بصنعة أو بمهارة شخصيّة.

وقد اعتمد فقه القضاء أوّل هذه الصفات للحرفي صلب حكم أصدرته محكمة تونس يوم 9 ماي 1955 إذ رأت أنّه بالنظر لعدم وجود نصّ قانوني مناسب لتعريف الحرفي يتوجّب تكييف هذا الأخير بأنّه كلّ عامل مستقلّ يقوم بنفسه ولحسابه الخاص بعمل يدويّ (8) .

ويعني استقلال الحرفيّ في عمله أن يعمل لحسابه الخاص وهو ما يمكّن من تمييزه عن غيره من العمّال اليدويّين الذين لا يعملون لحسابهم الخاص ويكونون بذلك أجراء لغيرهم.

من جهة أخرى تمّ اعتماد صفتي العامل اليدوي والمهارة الشخصيّة للحرفي من محاكمنا في عديد المناسبات من ذلك ما قرّرته :

– محكمة الاستئناف بصفاقس في قرارها الصادر في 14-4-1977 تحت عدد 3115 الذي ورد به :” أنّ الشأن في الحرف الاعتماد في القيام بها على الخبرة البسيطة والعمل اليدوي كالحلاقة وما شابهها ” (9).

– محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 27/10/1988 تحت عدد 15915 الذي قضى برفض تعقيب حكم نهائيّ انبنى على أنّ المكرى هو محلّ حرفة إصلاح كهرباء السيّارات وأنّ النشاط المتعاطي فيه مرتكز على أساس مهارة صاحبه في عمله (10)

– المحكمة الابتدائيّة بتونس في حكمها الصادر في 18/4/1991 تحت عدد 12/21912 الذي ورد به :” وحيث انحصر النزاع بينهما في معرفة ما إذا كان النشاط الذي يمارسه المتسوّغ بالمكرى هو نشاط تجاريّ أم أنّه نشاط حرفيّ يعتمد على البراعة اليدويّة”(11)

– محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 10/10/1995 تحت عدد 40274 الذي تضمّن أنّ إصلاح السيّارات هو عمل حرفيّ يدويّ يعتمد بالأساس على مهارة المصلح الشخصيّة وجودة الخدمات التي يسديها لحرفائه (12).

– محكمة الابتدائيّة بتونس في حكمها الصادر في 26/4/2002 تحت عدد 11/45533 الذي تضمّن سنده : ” وحيث لا نزاع بين الطرفين في أنّ المستأنفة تستغلّ المكرى في نشاط خياطة الملابس وأنّ هذا النشاط قوامه المهارة اليدويّة والإبداع وأنّ ما تحيكه المستأنفة هو ثمرة مجهود يدوي …(13).

واضح إذن أنّ فقه القضاء استقرّ على اعتماد صفة العامل اليدوي لتعريف الحرفي وهي صفة استنبطها حال غياب التعريف القانوني للحرفي وتلاقى في اعتمادها مع هذا التعريف الواقع سنّه 1983 وبعدها سنة 2005 وكذلك مع فقه القضاء الفرنسي (14) .

غير أنّه وإن كان من الواضح فائدة اعتماد هذه الصفة لتمييز الحرفيّ عن غيره من العاملين غير اليدويين كأصحاب المهن الحرّة مـثلا فإنّ استعمال عبارات عـامّة من الـمحاكـم

عند تكريس هذه الصفة تفسح المجال أمام التساؤل عمّا تعني مثلا عابرات ” العمل اليدوي العادي” وهل أنّ الحرفيّ الذي يستعمل بمناسبة عمله اليدوي موادّ أوّليّة وآلات يمكن أن يفقد صفته كحرفي ويجعله صناعيّا مثلا ؟.

لم يتوسّع فقه قضائنا في تفسير العمل اليدوي للحرفي واكتفى باعتماده عنصر لتعريف هذا الأخير وذلك على عكس فقه القضاء الفرنسي الذي كثيرا ما فسّر هذا العنصر بأن جعله يتناقض مع تحقيق الربح من استعمال المواد الأوّليّة اللازمة لقيامه بعمله أو من تشغيل عدد كبير من الأجراء و استعمال عديد الآلات فيه (15).

و مثلما هو الأمر بالنسبة لصفة العامل اليدوي تميّز فقه القضاء عن اعتماده لعنصر المهارة أو البراعة الشخصيّة للحرفي بانعدام الدقّة بالنظر لاكتفائه باستعمال عبارات مثل ” الخبرة أو المهارة أو البراعة البسيطة ” دون تفسير ذلك أو التوسّع فيه .

إنّ المقصود بهذه العبارات المتواترة في فقه القضاء هو بدون شكّ ما يمكن التعبير عنه بالصنعة أو الحذق الذين يمتاز بهما الحرفيّ في عمله اليدوي .

بهذا الخصوص فإنّ ملاحظتين على الأقلّ تفرضان نفسيهما :

– الأولى هي أنّ نعت فقه القضاء لهذه الصنعة أو الحذق بالبساطة من شأنه أن يوحي بضرورة الإعراض عن وصف العامل اليدوي بالحرفي كلّما كان ذا صنعة عالية أو حذق كبير لعمله وهو الأمر الذي نشكّ فيه ولا يستقيم بأيّ حال.

– والثانية هي أنّ هذا العنصر يعدّ من قبيل التقييم لمهارة الحرفي أو براعته اليدويّة ولا يصلح أن يكون معيارا لتعريفه .

وزيادة على هذه العناصر الشخصيّة التي اعتمدها لتعريف الحرفي استقرّ فقه القضاء على اعتماد عنصرين آخرين يمكن تصنيفهما في صنف موضوعي.

الفقرة الثانية- الصنف الموضوعي:

بالنسبة لفقه قضائنا وحتّى يمكن إضفاء صفة الحرفيّ على العامل اليدوي ذي البراعة الذي يعمل لحسابه الخاص يجب أن لا يقوم هذا العامل ببعض الأعمال وهي من جهة أولى أعمال الإنتاج أي الصنع و التحويل ومن جهة ثانية أعمال المضاربة التي تنتج عن الشراء لغاية البيع أو الكراء للغير.

1- أعمال الإنتاج :

استقرّ فقه قضائنا عند تعريف الحرفيّ على أنّه لا يكفي لهذا الأخير أن يكون عاملا يدويّا مستقلاّ بذاته ويتمتّع بخبرة أو مهارة ما في عمله بل يجب أيضا أن لا يتمثّل عمله أو يشمل قياما بأعمال الإنتاج كما عرفّها الفصل 2 من المجلّة التجاريّة أوغيرها والتي عرّفها الفقه بأنّها أعمال تجاريّة بطبيعتها وتجعل من يقوم بها على وجه الاحتراف تاجرا.

ولعلّ من أبلغ الأمثلة الدالّة على هذا الموقف لفقه قضائنا الحكم الاستئنافي الذي أصدرته المحكمة الابتدائيّة بتونس في 18/4/1991 تحت عدد12/21912 (16) والذي تضمّن ما يلي:

” وحيث لا نزاع بين الطرفين في أنّ المستأنف تسوّغ من المستأنف ضدّه المحلّ التجاريّ الكائن بـ… لمباشرة صناعة الحرير التقليديّة… وإنّما انحصر النزاع بينهما حول معرفة ما إذا كان النشاط الذي يمارسه المستأنف بالمكرى هو نشاط تجاري يكسبه صفة التاجر أم أنّه حرفة تعتمد على البراعة اليدويّة.

وحيث يتّضح بالرجوع إلى تقرير الخبير المنتدب من قبل المحكمة وإلى أوراق الملفّ أنّ المستأنف يشتري الحرير الخام ثمّ يقوم بتحويله إلى نسيج حريري يبيع جزء منه للتجّار على حالته تلك ويقوم بخياطة الجزء المتبقّي في شكل ملابس وفوطة أو سفساري وللمحلّ واجهة بلّوريّة بها ثلاثة مرافع لعرض الإنتاج للبيع…

وحيث يستخلص ممّا سبق بيانه أنّ المستأنف يحوّل مادّة الحرير إلى منتوجات يتولّى بيعها للغير وبالتالي فالنشاط الذي يمارسه يكتسي صبغة تجاريّة ويوصف متعاطيه بالتاجر على معنى الفصل 2 من م ت …

وحيث أنّ محكمة البداية قد جانبت الصواب لمّا اعتبرت أنّ صناعة الحرير لا تعطي لممارسها صفة التاجر… “.

في هذا الحكم إذن عاينت المحكمة النشاط الذي يمارس بالمكرى لكنّها لم تتوقّف عند هذه المعاينة وبحثت عن كنه هذا النشاط . ولمّا تبيّن لها أنّه يتمثّل في شراء المتسوّغ لموادّ يحوّلها إلى أقمشة يبيع بعضها على حالها لبعض التجاّر ويحيك البعض الآخر بنفسه ليعرضها بعد ذلك على العموم قرّرت المحكمة أنّ النشاط موضوع النزاع هو نشاط تجاري على معنى الفصل 2 من المجلّة التجاريّة وليس حرفيّا ويجعل صاحبه تاجرا (17) .

بقراءة عكسيّة لهذا الموقف المستقرّ في فقه قضائنا يكون حرفيّا فقط العامل اليدوي الذي لا يشتري الموادّ الأوّلية الصالحة لعمله بنفسه والذي يقتصر عمله على تحويل الموادّ التي يجلبها إليه زبائنه وهو ما يسمّى بالعامل بالقطعة.

2- أعمال المضاربة :

تماما مثلما هو الأمر بالنسبة لأعمال الإنتاج رأى فقه القضاء أنّ صفة الحرفيّ تتنافى واحتراف أعمال الشراء قصد البيع أو الكراء للغير أو ما سمّاه الفقه أعمال المضاربة.

يبدو هذا واضحا ومستقرّا من خلال العديد من الأحكام والقرارات الصادرة خاصّة عن محكمة التعقيب.

فقد رأت محكمة التعقيب أنّ الميكانيكيّ ليس حرفيّا لأنّه يعمد كثيرا خلال نشاط التصليح إلى شراء قطع الغيار وتركيبها وقبض ثمنها من حرفائه وذلك :

– في قرارها الصادر في 4/11/1976 تحت عدد 22 (18) والذي ورد بسنده :” لا خلاف أيضا في أنّ المحلّ هو محلّ أعدّه المتسوّغ لإصلاح السيّارات ممّا يتّضح معه أنّه يشغل به عمل ميكانيكيّ يتطلّب زيادة على المهارة الفنيّة اقتناء قطع الغيار وبيعها وتركيبها ليتمّ الإصلاح وعلى هذا الاعتبار فإنّ المتسوّغ إنّما يشغل به اسما تجاريّا بدون شكّ …”

– وفي قرارها الصادر في 24/5/1989 تحت عدد 16566 (19) والذي ورد بسنده أيضا: ” وإنّ أمثال المكرى في قضيّة الحال من المحلاّت التجاريّة وهو المتعاطى به إصلاح الآلات الميكانيكيّة فإنّ هذا الأمر يتمثّل عادة في إصلاح الآلات الميكانيكيّة وتزويدها بقطع الغيار المجلوبة له من صاحب الآلة تارة والتي يزوّدها به من عنده ويقبض ثمنها من صاحبها تارة أخرى ممّا يشكّل هذا الأمر عملا تجاريّا ويضفي بالتالي على صاحب الورشة صبغة التاجر…”.

وعلى نفس المنوال كيّفت محكمة التعقيب حلاّقة النساء بكونها تاجرة لأنّها إلى جانب أعمال الحلاقة وهي أعمال يدويّة بدون شكّ تشتري موادّ تجميل وعطورا لإعادة بيعها لحريفاتها كما تشتري فساتين العرائس وتسوّغها لهنّ ، كلّ ذلك صلب قرارها الصادر في 28/3/1990 تحت عدد 18735 (20) الذي ورد به :

” … وفي قضيّة الحال فإنّ المكترية ( حلاّقة نساء) كما سلفت الإشارة إليه تشتري المواد المذكورة ثمّ تبيعها أو تضعها وتستعملها في عمليّات تجميل النساء سواء في شعورهنّ أو وجوههنّ … وتقبض ثمنا مقابلها ومقابل عملها ولم يكن دورها مقتصرا على قصّ الشعر وتسريحه أو تقليم الأظافر فحسب وتنتهي مهمّتها فيما تقوم به من أعمال الحلاقة كما أنّها من جهة أخرى تشتري أكسية العرائس ومختلف أنواع المصوغ المزيّف ثمّ تبيع هذا المصوغ بمناسبات الأفراح ممّا يعتبر ذلك من الأعمال التجاريّة التي تجعل من ممارسة النشاط بالمكرى اكتساب المكترية حقّ الملكيّة التجاريّة بالكراء التي ينطبق في شأنها القانون عدد 37 لسنة 1977 المؤرّخ في 25/5/1977 “.

وبطريقة عكسيّة قرّرت محكمة التعقيب صلب قرارها الصادر في 27/10/1988 تحت عدد 15915 (21) أنّه عندما لا يكون النشاط من قبيل شراء المكاسب لتأجيرها فإنّه يكون حرفيّا لا تجاريّا.

وقد أيّدت محكمة القانون في هذا القرار موقف محكمة الموضوع التي رأت ” أنّ صفة التاجر تؤخذ من نوع النشاط وخصائصه وأنّ مجرّد التصريح لا يغيّر من الصبغة الحقيقيّة للنشاط الذي هو إصلاح المعدّات الكهربائيّة وحتّى شحن مولّدات كهرباء السيّارات فلم يكن من قبيل شراء المكاسب لتأجيرها كما وقع الإدّعاء به وإنّما يدخل ضمن العمل الأساسي للمدّعي وهو إصلاح كهرباء السيّارات”.

وقد انتهت محكمة التعقيب في نفس القرار إلى أنّ الحكم المنتقد لمّا اعتبر المكرى محلّ حرفة بالاعتماد على حقيقة النشاط المتعاطى به يكون قد برّر قضاءه تبريرا قانونيّا وواقعيّا صحيحا ليس فيه خرق للقانون.

تلك هي إذن العناصر التي اعتمدتها محاكمنا بشكل يكاد يكون مستقرّا لتعريف الحرفيّ سواء حال سكوت القانون عن تعريفه أو بعد قانون1983. لكنّ ما يلفت الانتباه في عمل تلك المحاكم هو أنّها لتعريف الحرفيّ من خلال تلك العناصر التي استنبطتها انتهجت منهجيّة خاصّة.

الجزء الثاني : منهجيّة التعريف :

إنّ التدقيق في مضمون تعريف الحرفي الذي استقرّت عليه محاكمنا سواء قبل صدور قانون 1983 أو بعده يظهر أنّها انتهجت في هذا التعريف وتحديدا في بحثها عن عناصره سواء المتعلّقة بشخص المتسوّغ أو بالنشاط الذي يمارسه بالمكرى وفي تطبيقها على النزاعات المعروضة عليها منهجيّة تميّزت غالبا بالإقصاء ( أ ) والتجريد ( ب).

الفقرة الأولى : الإقصاء :

يلمس الدارس لفقه القضاء هذا الإقصاء من جهة أولى فيما يخصّ قانون 1983 الذي تضمّن تعريفا قانونيّا للحرفيّ (1) وأيضا فيما يخصّ نظريّة التبعيّة المدنيّة التي كرّسها الفقه (2).

1) إقصاء قانون 1983 :

عند التعرّض لتعريف فقه القضاء للحرفيّ كان واضحا أنّ المحاكم استقرّت على إنكار صفة الحرفي على من يقوم على وجه الاحتراف بأعمال الإنتاج أي الصنع والتحويل ولو بصفة يدويّة .

وإذا وجد هذا الموقف تفسيرا له قبل صدور قانون 1983 الذي عرّف الحرفيّ بأنّه من يحترف أنشطة الإنتاج أو التحويل التي تعتمد أساسا على العمل اليدوي ( الفصلان 1 و2) فما هو تفسير استمرار هذا الموقف بعد صدور ذلك القانون وتحديدا صلب حكم المحكمة الابتدائيّة بتونس الصادر في 18/4/1991 تحت عدد 12/21912 ؟

ذلك أنّ هنالك تجاهلا تامّا لهذا القانون من هذه المحكمة وغيرها من المحاكم وتعارضا واضحا بين ما ورد بحكمها وما تضمّنه ذلك القانون. فهل لهذا التجاهل وهذا التعارض تفسير؟

إنّ إعراض المحكمة الابتدائيّة بتونس وغيرها من المحاكم عن التعريف القانوني الذي تضمّنه قانون 1983 للحرفة والحرفيّ يرجع على ما يبدو للأسباب التالية :

أوّلا: أنّه سبق لمحكمة تونس في حكم أصدرته في 9 ماي1955 أن اعتبرت أنّ الأمر العليّ الصادر في 17/6/1937 والمتعلّق بالتعاضديّات الحرفيّة لا يمكن أن يؤوّل على أنّه التشريع المنظّم للحرفيّن لأنّ أحكامه لم تتعلّق إلاّ ببعض الجوانب الاقتصاديّة لنشاط هؤلاء ( 22)،

وثانيا: أنّ قانون 1983 استعمل دائما في فصوله 1 و2 و7 التي عرّفت تباعا الحرف والحرفيّ والمؤسّسة الحرفيّة عبارات ” يقصد ( بكذا ) حسب مفهوم هذا القانون …”،

وثالثا: أنّ الأحكام التي تضمّنها هذا القانون اكتست صبغة تنظيميّة من ذلك إحداث بطاقة مهنيّة للحرفي ولجنة جهويّة للصناعات الحرفيّة ودفتر لتسجيل المؤسّسات الحرفيّة …،

ورابعا : أنّ الغاية الأولى من ذلك القانون لم تكن على ما يبدو إعطاء تعريف دقيق لمفاهيم قانونيّة بل كانت حصر قطاع الحرف الصغرى لتخصيصها ببعض الامتيازات و التشجيعات لغاية النهوض بها (23).

كلّ هذه الأسباب أوحت على ما يبدو لمحاكمنا بعد صدور قانون 1983 ورغم نفاذ أحكامه بأنّ تعريفه للحرفة والحرفي ليس دقيقا أو عامّا بشكل يسمح باعتماده قانونا في حلّ المسائل التي طرحت على تلك المحاكم.

هذا هو الموقف المتواتر الذي يفهم ضمنيّا من فقه قضائنا بخصوص مسألة تعريف الحرفيّ.

غير أنّه وإن أمكن تفسير هذا الموقف لمحاكمنا بما سلف ذكره إلاّ أنّ ذلك لا يبرّر تجاهلها كليّا لقانون ساري النفاذ حتّى وإن كان قاصرا عن حلّ النزاعات التي عرضت عليها.

كان إذن لزاما أن ترجع هذه المحاكم لهذا القانون وتتفحّص أحكامه ومعايير تعريفه للحرفي وتحاول تطبيقه على النزاعات التي عرضت عليها سواء عن طريق التأويل أو بدونه وإن هي رأت أنّه لا يمكن اعتماده فكان لزاما عليها تبرير ذلك صراحة.

كلّ هذا جعل على ما يبدو الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب لا تنهج نفس النهج وذلك في قراراها الصادر في 2 أكتوبر2003 تحت عدد 51406 (24) الذي طرحت فيه مسألة تكييف النشاط المهني للخبير المحاسب ومعرفة هل أنّ تسويغ المحلّ الذي يمارس فيه هذا النشاط يخضع لقانون 1976 أم لقانون 1977.

بالإطّلاع على مضمون هذا القرار يتّضح أنّ الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب أرادت تصحيح الموقف السائد في فقه القضاء بخصوص مسألة تعريف الحرفيّ وذلك من الناحيتين المنهجيّة والموضوعيّة.

فمن الناحية المنهجيّة رجعت هذه الدوائر لقانون 1983 ولمفهوم الحرفيّ الذي ورد به وذلك لأوّل مرّة منذ صدور هذا القانون وكأنّنا بها أرادت بما لقراراتها من سلطة معنويّة على المحاكم وضع حدّ لتجاهل هذه الأخيرة لذلك القانون والمفاهيم التي وردت به ودعوتها لاعتمادهم في المستقبل.

أمّا من الناحية الموضوعيّة فإنّ الجديد في هذا القرار هو أنّه لأوّل مرّة أيضا قام بمقابلة كلمة الحرفي المذكورة بقانون 1976 بمثيلتها المذكورة بقانون1977 لينتهي إلى القول :

– أوّلا : إنّ المقصود منهما ليس واحدا

– وثانيا : إنّ المقصود بالأولى المهنة غير التجاريّة كالمهن الحرّة وغيرها من المهن التي تكتسي صبغة مدنيّة وتقوم بالأساس على النشاط الذهني لصاحبها وفي حين أنّ المقصود بالحرفة في قانون 1977 هو المعنى الوارد بقانون 1983 أي الحرفة التي يمكن أن تكسب صاحبها صفة التاجر والملكيّة التجاريّة إذ غلبت عليها المضاربة على اليد العاملة والمواد المحوّلة أو المنتجة .

إنّ أقلّ ما يمكن قوله في هذه المقابلة بين الكلمتين والنتيجة التي أدّت إليها حسب الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب هي أنّها غير مألوفة في فقه قضائنا كما أنّها تخلق صعوبة جديدة فبعد أن كان الهدف هو تحديد تعريف عامّ ووحيد للحرفي من خلال تمييزه عمّن يشبهه من أصحاب المهن الأخرى بقصد معرفة أيّ القانونين قانون 1976 أو قانون 1977 ينطبق على تسويغه لمحلّ نشاطه آل الأمر إلى وجود تعريفين اثنين للحرفي من خلال هذين القانونين.

ولعلّ تناول هذا القرار بالدرس والتعليق عليه من الفقهاء واعتماده من عدمه من المحاكم في المستقبل خاصّة بعد أن ألغي قانون 1983 وعوّض بقانون 2005 المتعلّق بقطاع الحرف يكشف أكثر عن مواطن قوّة وضعف الحلّ الذي وضعته الدوائر المجتمعة في ذلك القرار.

2) إقصاء نظريّة التبعيّة :

لقد تمّ التعرّض عند الحديث عن العناصر الموضوعيّة التي تكوّن منها تعريف المحاكم للحرفي عن كيف أنّ هذه المحاكم تواترت على اعتبار أنّه لا يصحّ إضفاء صفة الحرفيّ على من يقوم بأعمال الإنتاج أي الصنع والتحويل وبالشراء لغاية البيع أو الكراء أو ما يسمّى بالمضاربة وهي كلّها أعمال تجاريّة بطبيعتها تضمّنها الفصل 2 من المجلّة التجاريّة.

وقد تعدّدت الأمثلة على ذلك في الأحكام والقرارات التي تمّ ذكرها من ذلك أنّ فقه القضاء اعتبر أنّ الميكانيكيّ الذي يتطلّب عمله في الإصلاح شراء قطع الغيار وبيعها لحرفائه بعد تركيبها لا يعدّ حرفيّا ( 25) تماما مثل النجّار الذي يتمثّل عمله في شراء الخشب وتحويله إلى منتوجات مختلفة يبيعها لحرفائه (26) أو النسّاج الذي تتطلّب مهنته جلب الموادّ الأوّلية وتحويلها إلى منتوجات مختلفة وعرضها فيما بعد للبيع (27) أو الحلاّقة التي تشتري موادّ التجميل ثمّ تبيعها أو تستعملها في عمليّات تجميل النساء وتقبض ثمنا مقابلها ومقابل عملها ولم يكن دورها مقتصرا على قصّ الشعر أو تقليم الأظافر فحسب (28).

كما هو واضح إذن استبعدت المحاكم أعمال الإنتاج والمضاربة من دائرة الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الحرفيّ واعتبرت أنّ من يقوم بهذه الأعمال ولو بمناسبة قيامه بعمله الحرفيّ اليدوي يفقد صفته كحرفيّ ويصبح تاجرا.

نتج هذا الموقف عن تطبيق فقه القضاء لمعيار غياب أعمال الإنتاج والمضاربة من دائرة العمل الحرفي تطبيقا صارما وعن إقصاء نظريّة التبعيّة المدنيّة ( la théorie de l accessoire civil)التي يعرفها القانون الفرنسي.

وتتمثّل هذه النظريّة التي كثيرا ما استعملتها المحاكم الفرنسيّة ( 29) في القول بإمكان اعتبار أعمال تجاريّة بطبيعتها أعمالا غير تجاريّة أي مدنيّة وذلك بالنظر للنشاط الأصلي المدني ( الحرفي) لمن يقوم بها ولتبعيّتها لهذا النشاط (30).

هذه النظريّة تقابلها في القانون التجاري نظريّة الأعمال التجاريّة بالتبعيّة les actes de commerce par accessoire) ) التي رغم كونها أعمالا مدنيّة بطبيعتها وغير تجاريّة بالمرّة اعتبرت تجاريّة بالنظر لكون من يقوم بها تاجر ولكون القيام بها تمّ بمناسبة تعاطي التجارة ولحاجة هذه الأخيرة.

وقد ذهب الفقه الفرنسي في تطبيقه لنظريّة التبعيّة المدنيّة إلى حدّ القول بأنّه لا يهمّ إن كان شراء الحرفيّ للموادّ الأوّليّة أو لبضائع ذا أهميّة إذ المهمّ أن يكون هذا الشراء لازما لممارسة النشاط المهني أي أن يكون تابعا لهذا النشاط ذلك أنّ الحرفي يعيش بصفة أساسيّة من دخل عمله اليدوي وليس من المضاربة على الموادّ الأوّليّة التي يستعملها (31).

إنّ اعتماد محاكمنا لهذه النظريّة كان من شأنه أن يغيّر تماما الحلّ الذي تضمّنته أحكامها المتواترة والمتمثّل في إنكار صفة الحرفي لمن يقوم بمناسبة عمله اليدوي بأعمال الإنتاج أو المضاربة.

وما يدعو للاستغراب إزاء استقرار موقف فقه قضائنا المذكور هو أنّه نجد اعتمادا في فقه القضاء لنظريّة التبعيّة المدنيّة منذ 1976 وذلك على الأقلّ في قرار أصدرته محكمة التعقيب في 12/2/1976 تحت عدد 10926 ( 32) وأوردت بسنده :” أنّه كان من المتعيّن على محكمة الموضوع أن توضّح هل أنّ تعاطي المعقّب عليه ( نجّار) لصنع تلك الموادّ ( بعض الموادّ الخشبيّة) وتحويلها وبيعها كان له من الأهميّة والاعتبار بما من شأنه أن يتغلّب على النشاط المهني الذي يباشره المعقّب عليه أصالة بالمكرى أم أنّ مباشرته لصنع تلك الموادّ كان عملا إضافيّا بسيطا لا تأثير له على تغيير صبغة النشاط المهني الأصلي ولا يخرجه عن صبغته المهنيّة “.

ولعلّ عدم وجود أيّ صدى لهذه النظريّة صلب الأحكام الصادرة بعد هذا القرار وأهميّة استعمالها على وجه الفصل في أمثال القضايا الصادرة فيها تلك الأحكام هما الذين جعلا محكمة التعقيب تتبنّى من جديد وبأكثر وضوح وشموليّة تلك النظريّة وذلك في مناسبتين على الأقلّ :

–الأولى صلب قرارها الصادر في 10/10/1995 تحت عدد 40274 (33) الذي ورد به : ” أنّ إصلاح الدرّاجات هو عمل حرفيّ يدويّ يعتمد بالأساس على مهارة المصلح الشخصيّة وجودة الخدمات التي يسديها لحرفائه ولا يتكوّن منه أصل تجاريّ على معنى الفصل 1 من قانون25 ماي1977 إلاّ إذا اختفت منه هذه المظاهر واكتسى صبغة المشروع الاقتصاديّ الذي تقع فيه المضاربة على العمّال المستخدمين والمعدّات المستعملة والمواد المستهلكة في البيع والشراء وصارت هي العناصر الغالبة والمعوّل عليها في مختلف النشاط الممارس بالمكرى “.

– والثانية صلب القرار الصادر عن دوائرها المجتمعة في 2/10/2003 تحت عدد 51406 (34) والذي تضمّن أنّه يستخلص من التعريف الوارد بقانون 1983 وبالقانون عدد 37 لسنة 1977 المؤرّخ في 25/5/1977 والمتعلّق بالحقّ في تجديد الكراء لأصحاب الملك التجاري أنّ الحرفة عمل يدويّ بالأساس إلاّ أنّه يمكن أن يكتسي طابعا تجاريّا إذا ما غلبت عليه المضاربة على اليد العاملة ومواد الإنتاج أو التحويل.

إلى جانب هذا الإقصاء بفرعيه الذي امتازت به منهجيّة فقه قضائنا في تعريف الحرفيّ والذي لم يعد يجد له تفسيرا أو مبرّرا بعد هذين القرارين الذين أصدرتهما محكمة التعقيب وخاصّة ذلك الصادر عن دوائرها المجتمعة تميّزت نفس المنهجيّة بتجريد كثيرا ما نهجته المحاكم بما فيها محكمة التعقيب.

الفقرة الثانية : التجريد :

يتجلّى هذا التجريد في منهجيّة تعريف فقه القضاء للحرفيّ ممّا قامت به المحاكم في عديد المناسبات ومن العبارات التي استعملتها .

ذلك أنّه إذا استثنينا الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائيّة بتونس في 18/4/1991 تحت عـدد 12/21912 (35) وقرار محكمة التعقيب الصادر في 28/3/1991 تحـت عـدد 18735 (36) الذين سبق التعرّض لهما والذين تضمّنا فحصا لواقع النشاط الذي كان يمارس بالفعل بالمكرى موضوع النزاع استعملت محاكمنا مرارا وتكرارا عند تعريفها للحرفة والحرفيّ عبارات معيّنة اتّسمت ببعد عن الواقعيّة وبتعميم يمكّنان من وصف طريقتها في ذلك التعريف بالتجريد.

ومن بين الشواهد على هذه الطريقة ما أوردته محكمة التعقيب بعدد من قراراتها كالتالي:

– ” أنّ الطاعن يستغلّ بالمكرى المتداعى في شأنه صناعة النسيج التي تتطلّب جلب الموادّ الأوّلية وتحويلها إلى منسوجات مختلفة وعرضها فيما بعد للبيع فتكون والحالة ما ذكر أحكام الملك التجاري هي المنطبقة على عقد التسويغ المتعلّق بمحلّ النزاع “(37) ،

– و ” أنّ النجارة هي من قبيل الصناعات على معنى الفصل 2 من المجلّة التجاريّة ذلك أنّ عمل النجّار يتمثّل في شراء الخشب وتحويله إلى مصنوعات وبيعها …” ( 38) ،

– و” أنّ أمثال المكرى في قضيّة الحال من المحلاّت التجاريّة وهو المتعاطى به إصلاح الآلات الميكانيكيّة فإنّ هذا الأمر يتمثّل عادة في إصلاح هذه الآلات …” (39) ،

– و” حيث لا يخلو استغلال الموازين في محلّ عموميّ أن يكون إمّا ببيعها أو إصلاحها أو بالأمرين معا وهو الأرجح وفي كلا الحالتين يفترض وجوبا وجود اسم تجاريّ مستغلّ به..” (40) .

– و” …لا خلاف أيضا في أنّ المحلّ هو محلّ أعدّه المتسوّغ لإصلاح السيّارات ممّا يتّضح معه أنّه يشغل به عمل ميكانيكيّ يتطلّب زيادة على المهارة الفنيّة اقتناء قطع الغيار وبيعها وتركيبها ليتمّ الإصلاح وعلى هذا الاعتبار فإنّ المتسوّغ إنّما يشغل به اسما تجاريّا بدون شكّ…” (41) .

هكذا إذن عرّف فقه القضاء الحرفة والحرفيّ في العديد من المناسبات بطريقة تجريديّة ( in abstracto ) تمثّلت في أنّ المحاكم تساءلت في معظم الأحيان و في المطلق عن ماهية الأعمال التي يتمثّل فيها عادة النشاط المعروض عليها أو يتطلّبها أو قد يتطلّبها أو يشملها لتضفي بعد ذلك صفة الحرفيّ أو غيره على من يمارس هذا النشاط.

وقد نتج عن استعمال المحاكم لهذه الطريقة في تعريف الحرفة والحرفيّ إقصاء عديد الحرفيّين الذين لا يقومون فعلا بالأعمال التي كانت موضوع افتراض أو تكهّن أو ترجيح من المحاكم.

من ذلك مثلا الميكانيكيّون وهم كثر الذين يقتصرون في عملهم على استعمال قطع الغيار التي يجلبها لهم أصحاب السيّارات أو العديد من النسّاجين والخيّاطين الذين يعملون بالقطعة أي باستعمال ما أمدّهم به الحرفاء من مادّة أوليّة أو أقمشة.

ففي هذه الحالات لا وجود ولا لزوم لقيام هؤلاء بأعمال الإنتاج أو التحويل أو الشراء لغاية البيع التي كثيرا ما افترضتها المحاكم في أنشطتهم أو رجّحت وجودها ضمنها.

والملاحظ في الطريقة التي استعملتها المحاكم في تعريفها للحرفيّ أنّها مرّت عبر الافتراض والتكهّن والترجيح لما يمكن أن يكون من متعلّقات النشاط موضوع النزاع أو من مشمولاته والحال أنّه كان من الأنسب البحث والنظر بصفة واقعيّة ( in concreto) في الأعمال التي يمارسها المتسوّغ فعلا في مكراه للوصول إلى تكييف هذه الأعمال وتبعا لذلك تعريف صاحبها بأنّه حرفيّ أو ليس حرفيّا.

ذلك أنّ هذا النهج الواقعيّ في تعريف الحرفيّ – والذي استقرّ عليه فقه القضاء الفرنسي مثلا (42) – يجد سندا له في بلادنا في قرار محكمة التعقيب الصادر في 28/10/1976 تحت عدد 155 والذي ورد بسنده :

” لكن حيث أنّ المعتبر في تعيين صبغة المحلّ في مثل صورة قضيّة الحال إنّما هو التحقّق من النشاط الذي يتعاطاه المتسوّغ بالمكرى ومعرفة ما إذا كان هذا النشاط قاصرا على تعاطي مهنة اللّحام العادي البسيط أو أنّه يشمل مع ذلك بعض المعاملات التجاريّة ممّا يكون معه على محكمة الموضوع أن تبحث قبل البتّ في الأصل عن النشاط المادي الذي يتعاطاه المتسوّغ بالمكرى والتحقّق من نوعه “.

” وحيث أنّه متى تبيّن أنّ محكمة الموضوع لم تقم بهذا الواجب الأساسي لتحقيق الحالة واقتصرت في تعليل رأيها على مجرّد الاستنتاج بدون أن تركّز وجهة نظرها على أيّ أساس من الواقع فإنّ قرارها يكون قاصر التعليل …” (43).

 

شارك المقالة

1 تعليق

  1. سفيان الفخفاخ

    22 مارس، 2019 at 6:30 م

    أين قائمة المراجع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.