أراد المشرع المصرى أن يواكب مقتضيات القانون النموذجى الذى أقرته الأمم المتحدة عام 1985 للتحكيم التجارى الدولى (يونيسترال)، فتشكلت لجنة بوزارة العدل عام 1986 استمر عملها قرابة تسع سنوات، وأرسلت لمجلس الشعب مشروعًا بقانون جديد للتحكيم فى المنازعات المدنية والتجارية، وفى 22 مايو صدر القانون رقم 27 لسنة 1994، وذلك بهدف مواجهة التطورات العالمية فى مجال التحكيم، وفى هذا العام 2019 تحتفل مصر بمرور 25 عامًا منذ صدوره ، وقد تم استحداث مصطلح جديد طوال هذه السنوات هو «قضاء التحكيم» بقالة أن المحكم هو صنو القاضى، وأن ما تصدره هيئات التحكيم من أحكام تعرض على القضاء لإضفاء الصيغة التنفيذية لها، كما نيط بالقضاء نظر دعاوى بطلان أحكام التحكيم فى حالات معينة حددها قانون التحكيم، فضلا عن دوره فى تعيين أحد المحكمين أو المحكم المرجح حال الخلاف بين طرفى التحكيم لتعيينه، وغيرها من الدلالات الواضحة أن ثمة قضاء للتحكيم قد أثبت جدارة ومصداقية وثقة فى مصر.

وقد أشارت المذكرة الإيضاحية لقانون التحكيم – حينئذ – أن الهدف من إصداره هو وقوع تغيير جوهرى فى السياسة الاقتصادية فى مصر عرفت فيه الخروج من العزلة التى فرضتها عليها الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة ،الأمر الذى أدى إلى انفتاح يهدف إلى جذب رؤوس الأموال العربية والأجنبية للمشاركة فى مشروعات التنمية، وأضافت المذكرة الإيضاحية أن إصدار هذا القانون يبث طمأنينة وثقة فى نفس المستثمر الأجنبى، لأن التحكيم هو الأسلوب السائد فى مجالات التجارة الدولية، متجنبًا اللجوء إلى القضاء الوطنى للدول الأطراف فى العقود الدولية.

وخلال 25 عامًا تفاعلت المنصات التحكيمية فى مصر مع هذا القانون الجديد، فتناوله كثير من فقهاء القانون بالشرح والتحليل، وصدرت بناء عليه عديد من الأحكام سواء من التحكيم المؤسسى (Institutional) فى الهيئات والمراكز المعتمدة وكذلك من التحكيم الحر (Ad hoc) ، كما أعملت الأحكام القضائية سلطانها سواء فى محاكم الاستئناف – لاسيما محكمة استئناف القاهرة التى اختصتها المادة (9) من القانون بنظر دعاوى بطلان أحكام التحكيم التجارى الدولى – ومحكمة النقض التى أرست كثيًرا من المبادئ المهمة وصوبت مسارات التحكيم نحو غايات المشرع واعتبارات العدالة، وكذلك محاكم مجلس الدولة التى ساهمت بقدر وافر فى مسيرة تطبيق قانون التحكيم فى المنازعات الإدارية، وتأتى المحكمة الدستورية العليا لتصيغ بأحكامها أسس التحكيم وغاياته الرضائية الطوعية، ولا يمكن أن ننسى دور هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية فى هذا الشأن، وإجمالا فقد تحققت خلال تلك السنوات الخمس وعشرين كثيرًا من غايات وأهداف قانون التحكيم.

ولئن كان لهذا القانون إيجابيات كثيرة ومؤثرة فى ضوء ما تناولته آراء الفقهاء وأحكام القضاء وما أثبتته التجارب العملية، والاتفاقيات الدولية الشارعة، والتشريعات المقارنة فى مختلف دول العالم، إلا أنه يتعين – ووفقًا للغايات التشريعية – ضرورة مراجعة نصوصه فى ظل المتغيرات الدولية فى مجالات موضوعاته المتعلقة بالسيادة الوطنية، والعناية بصياغة العقود الدولية التى تبرمها الدولة والتى تشترط اللجوء للتحكيم الدولى دون المحاكم المحلية، ومع ما يمكن أن يترتب على ذلك من عدم تكافؤ فى المراكز القانونية للدول المصدرة للتكنولوجيا بصفة خاصة، والدول التى يتم فيها تنفيذ مشروعات دولية مشتركة، وما أسفرت عنه القضايا التحكيمية الدولية من خسارة لعديد منها، كذلك فيما يتعلق بمؤهلات من يباشر التحكيم، وذلك لمكافحة ظاهرة انتشار المراكز الوهمية التى تمنح مناصب مستشارين للتحكيم دون أى سند من قانون أو واقع، ويمكن كذلك إعادة النظر فى نصوص الإجراءات التحفظية والأوامر الوقتية بما يحقق للتحكيم أهدافه من السرعة بغير تسرع والعجلة دون تعجل.

وختامًا، يهمنى أن أوضح للقارئ الكريم أن لدى رصيدًا كبيرًا من دراساتى وخبرتى العملية فى مجالات التحكيم تعود لما قبل صدور قانون التحكيم؛ ذلك أن رسالة الماجستير تناولت تحكيم طابا، والدكتوراه حول التحكيم فى المشروعات الدولية المشتركة، فضلا عن تمرسى فى محراب العدالة قاضيًا فى دعاوى التحكيم وإشكاليته تنفيذ أحكامه طيلة عشرات السنين.

المستشار د. خالد القاضي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .