السلطة المختصة بتنظيم الحقوق والحريات :

يتفق الفقه الاداري على ان المبدأ السائد في عملية تنظيم للحقوق والحريات، والتي ورد النص عليها في النصوص الدستورية، والذي كان حاضراً في ذهن المشرع الدستوري عند صياغته للنصوص المذكورة، يتمثل بانفراد المشرع بتلك العملية لوحده.(1) .ان منح المشرع العادي سلطة تنظيم الحقوق والحريات ، انما يرجع لعدة اسباب منها ان المشرع العادي لا يمكن باي حال من الاحوال ان يعمل على التضييق من الحريات العامة، كونه هو المعبر عن ارادة الامة، ويحرص عادة في القوانين الصادرة عنه ان يضمن للمواطنين ممارسة حرياتهم العامة بسهولة ويسر، اضافة الى ذلك فان تنظيم المشرع العادي للحريات العامة من شانه ان يعضد الحرية، وذلك من خلال الاستناد الى اساس قانوني لها يفسح المجال للمواطنين من الركون اليه بغية الدفاع عنها، من جهة.(2) ومن جهة اخرى فان هنالك من الاسباب العملية التي تقتضي انفراد المشرع بتنظيم الحريات العامة، ذلك ان سن التشريع يقتضي عادة اتخاذ العديد من الاجراءات من مناقشة وعلانية، تمثل بطبيعتها ضمانات فعالة للحريات العامة، ذلك ان تقييد الحريات العامة من قبل سلطة محددة بعد اتباع عدة اجراءات موضوعة سلفاً من الدستور، انما يقلل من الافراط من فرض القيود على الحريات العامة.(3) اضافة الى ان ما يتصف به التشريع من عمومية، وعدم انصرافه لشخص محدد بالذات، الامر الذي ينفي اي احتمال للتعسف، خاصة وان التشريع يقرر قاعدة موضوعية لكافة الافراد بانشاء او تعديل مراكز قانونية عامة(4). كذلك فان ما يتصف به التشريع من عدم الرجعية، لغرض احترام الحقوق المكتسبة التي نشأت في ظل التشريع السابق بصورة صحيحة ومشروعة، يقف حائلاً دون حصول الاضطراب او الفوضى(5). وترتيباً على ماتقدم فان السلطة المتخصصة بتنظيم الحقوق والحريات هي السلطة التشريعية في فرنسا ومصر والعراق ، ففي فرنسا فان المبدأ المستقر ومنذ صدور اعلان الحقوق لعام 1789 وحتى الوقت الحاضر يتحدد بكون تنظيم الحقوق والحريات هي مجال محجوز للمشرع كون هذا الاخير – أي برلمان – انما يكون معبراً عن ارادة الامة ولا يميل الى الطغيان او الى التضييق على الحقوق والحريات (6) وقد تعلق الامر بالدستور الفرنسي لعام 1958 ، فان اختصاص البرلمان بالتشريع محدد على سبيل الحصر وفق ماورد عليه النص في المادة (34) منه بحيث اصبح ماعداه من اختصاص السلطة التنفيذية ، وقد نصت المادة (34) على ان ( يتم الاقتراع على القانون بواسطة البرلمان ، يحدد القانون القواعد المتعلقة بالحقوق المدنية والضمانات الاساسية المقررة للمواطنين لممارسة الحريات العامة وبالتبعات التي عرضها الدفاع الوطني على المواطنين في اشخاصهم واموالهم …) ويفهم من النص السابق بان السلطة التشريعية هي المختصة بتنظيم الحقوق والحريات وان ذلك الاختصاص قد انيط بها على سبيل الحصر . اما في مصر ، فان اختصاص المشرع في تنظيم الحقوق والحريات يجد سنده في العديد من النصوص الدستورية التي اشارت الى صراحة للحقوق والحريات التي يتم تنظيمها بموجب احكام القانون ، ومن ذلك على سبيل المثال الحريات الشخصية ( المادة 41) ، وحرمة المساكن ( المادة 44) ، وحريات المواطنين الخاصة ( المادة 45) ، وسرية المراسلات ( المادة 45/2) ، وحرية الرأي والتعبير ( المادة 47) وغيرها من الحقوق والحريات الاخرى .

وتطبيقاً لذلك فقد قضت محكمة القضاء الاداري في مصر بان ( الحريات العامة في مصر ، اذا اجاز الدستور تقييدها لاتقيد الا بتشريع ، وهذا هو المبدأ الذي انعقد عليه اجماع الفقه الدستوري ، فقد قرروا ان ضمانات الحقوق هي نصوص دستورية تكفل لابناء البلاد تمتعهم بحقوقهم الفردية ، وهي تسمو الى مرتبة القوانين الدستورية ، فتكون معصومة لاسلطان للمشرع عليها . واذا اجاز الدستور تنظيمها بنص خاص ، ففي هذه الحالة يتعين ان تكون القيود التي ترد عليها قيوداً تقررها القوانين ) (7) كما ورد النص في الدستور العراقي الحالي لعام 2005، على العديد من الحقوق والحريات العامة والتي تنظم بقانون، ومن ذلك على سبيل المثال الحق في الحياة والامن والحرية (المادة 15)، وحرمة المساكن (المادة 17). حق العمل (المادة 22). الحق في الرعاية الصحية (المادة 31)، حرية التعبير عن الراي وحرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي (المادة 38) ، وحرية تاسيس الجمعيات والاحزاب السياسية (المادة 39)، وحرية الاتصالات المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والالكترونية (المادة 40)، وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي ورد النص عليها في الدستور والتي يكون تنظيمها بقانون. واذا كان الاصل ان التنظيم التشريعي للحريات العامة، انما يتم بناء على ما ورد في النصوص الدستورية، من احالة صريحة على المشرع العادي، لغرض قيامه بذلك التنظيم، الاان التساؤل الذي يمكن ان يثار بهذا الصدد يتمثل فيما اذا كان للمشرع العادي ان يقوم بتنظيم الحريات العامة دون ان يبيح المشرع الدستوري له ذلك صراحة ؟ ذهب الفقه الاداري للاجابة عن التساؤل السابق، الى ان النصوص الدستورية انما تكون كاشفة ومقررة للحريات العامة وغير منشأة لها، ذلك ان الاصل الفلسفي في الانظمة الديمقراطية هو الحرية، وبالتالي فلا يجوز للمشرع العادي ان يتدخل لغرض تنظيم الحريات العامة دون احالة صريحة له من المشرع الدستوري، واذا ما اريد له القيام بذلك فلا بد من تعديل النص الدستوري ذاته(8). وما يؤيد الراي السابق، ان الاصل هو اختصاص المشرع الدستوري في تنظيم الحريات العامة، اذ ان هنالك من الحريات التي يمكن ممارستها فعلاً بموجب النص الدستوري، اما قيام المشرع العادي بذلك التنظيم فهو امر يرد على خلاف الاصل، لاسباب ترجع للصياغة الفنية للدساتير، الامر الذي يقف حائلاً دون قيام المشرع العادي بتنظيم الحريات العامة من قبله مباشرة دون تخويل صريح له بذلك من المشرع الدستوري، بادعاء انه المعبر عن الارادة العامة، والقول بخلاف ذلك يؤدي الى هدر فكرة الحماية الدستورية للحريات العامة من جهة(9)، ومن جهة اخرى فان القول بجواز تدخل المشرع العادي لتنظيم الحريات العامة دون احالة من المشرع الدستوري، انما يؤدي الى فقدان النص الدستوري باباحة تدخل المشرع العادي بتنظيمه للحريات العامة، معناه، وما يمكن ان يرتبه من اثر قانوني، بادعاء ان للمشرع العادي سلطة تقديرية في حالة عدم الاحالة، وسلطة مقيدة في حالة الاحالة، كون سلطته بذلك وفيما اذا كانت تقديرية ام مقيدة يتعلق باستعمال السلطة(10).

_______________________

1- د. فاروق عبد البر: موقف عبد الرزاق السنهوري من قضايا الحرية والديمقراطية، دار النشر الذهبي للطباعة، القاهرة، 2005، ص11. د. محمد سعيد مجذوب: الحريات العامة وحقوق الانسان، بدون دار نشر، 1986، ص132.

2- د. فاروق عبد البر: موقف عبد الرزاق السنهوري من قضايا الحرية والديمقراطية، المصدر السابق، ص11.

3- د. سعاد الشرقاوي: نسبية الحريات العامة وانعكاسها على التنظيم القانوني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1979، ص147 .

4- د. محمد سعيد مجذوب: الحريات العامة وحقوق الانسان، بدون دار نشر،، ص122. د. عادل ابو الخير: الضبط الاداري وحدوده، الهيئة المصرية للكتاب، 1995، ص335 .

5- د. محمد عبيد الحساوي القحطاني: الضبط الاداري، سلطاته وحدوده، دار النهضة العربية، القاهرة، 2003، ص460. د. نعيم عطية: في النظرية العامة للحريات الفردية، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965.

، ص181.

6- د . سعاد الشرقاوي : نسبية الحريات العامة وانعكاساتها على التنظيم القانوني ، المصدر السابق ، ص147.

7- قرارها المرقم 587/س5 .ق في21/5/1951 ، اورده د.عادل ابو الخير:الضبط الاداري وحدوده المصدر السابق ، ص338، هامش (1)

8- د. محمد عصفور: الحرية في الفكرين الديمقراطي والاشتراكي، بدون دار نشر، 1961، ص130.

9- د. نعيم عطية: مساهمة في دراسة النظرية العامة للحريات، المصدر السابق، ص177.

10- حسن احمد علي: ضمانات الحريات العامة وتطورها في النظم السياسية المعاصرة، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1978، ص15 .

سلطة الادارة في تنظيم الحقوق والحريات :

لئن كان الاصل قائم انفراد المشرع بتنظيم الحقوق والحريات ، كونه المختص بتحديد نطاق ممارساتها ، باعتبار ان السلطة التشريعية هي التي تضع القواعد المنظمة لها بناءً على ما ورد بالنصوص الدستورية، بينما يقتصر دور السلطة التنفيذية على تنفيذها للقوانين، الا ان ذلك لا يقف مانعاً من اناطة الاختصاص بالجهة الادارية من تنظيم بعض الحقوق والحريات العامة استثناء من الاصل العام، وذلك على اعتبار ان الجهة الادارية هي المختصة بالمحافظة على النظام العام داخل المجتمع، وضمان سير المرافق العامة بانتظام واضطراد تحقيقاً للصالح العام، بحيث يستلزم ذلك منحها قدراً من الاختصاص في تنظيمها للحريات العامة لغرض تحقيق المهام الملقاة على عاتقها(1). وقد برر بعض الفقه، سلطة الجهة الادارية في تنظيمها للحريات العامة، من ان النصوص الدستورية المقررة للحريات العامة ترد عادة بصيغة العموم، كما ان التشريع العادي المنظم للحريات العامة استناداً للنصوص الدستورية، لا يمكن ان يكون مشتملاً لكافة التفاصيل المتعلقة بتنظيم الحريات العامة، بحيث يتعذر ضبطها بشكل مفصل او القيام بتنسيقها بحسب الظروف والاحوال اللازمة للمحافظة على النظام العام، وذلك بخلاف الحال عند منح الاختصاص للجهة الادارية في تنظيم بعض الحريات العامة، من خلال ما يمكن ان تصدره من انظمة او قرارات ادارية فردية يمكن ان تكون مكملة للتشريع، باعتبار ان شؤون الضبط قد تتغير من وقت الى اخر(2). وكان مجلس الدولة الفرنسي قد ارسى دعائم الاتجاه الفقهي القائم على وجوب منح الجهة الادارية المختصة بتنظيم الحقوق والحريات في مجال الضبط الاداري في حكمه الصادر في قضية Lobonne والذي اقر فيه صراحة يحق رئيس الدولة بسلطة اتخاذ اجراءات الضبط الاداري ، وامكانية تطبيقها في كافة انحاء الدولة ، دون ان يتم ذلك بالاستناد الى انابه تشريعية (3). ولا شك بان سلطة الجهة الادارية في تنظيم الحريات العامة، يمكن ان تبرز بصورة واضحة في مجال الضبط الاداري، بحيث يمكن ان يترتب على الحفاظ على النظام العام، تقيد بعض الحريات، فعلى سبيل المثال ان الزام سائقي المركبات وراكبي الدراجات بالتقيد بالجانب الايمن اثناء السير، او منعهم من المرور في بعض الطرق احياناً في بعض الاوقات، لا يمكن ان تكون من الامور التي ينظمها المشرع عادة، بل يترك ذلك للجهة الادارية المختصة، ويتوقف مدى سلطة الجهة الادارية في تنظيمها لبعض الحريات العامة، على ما يمكن ان يحققه المشرع من ضمانات لكفالة تلك الحريات، فكلما عمد المشرع الى تحديد مدلول الحرية بشكل واضح وصريح كلما كان ذلك مقيداً لسلطة الجهة الادارية،واحرص منها على التزام حدودها، بينما يكون عدم التحديد الواضح للحرية مدعاة لتقييدها بصورة واسعة من قبل الجهة الادارية(4). وبناء على ما تقدم، فان سلطة الجهة الادارية، في تنظيم الحريات العامة في الظروف العادية، تختلف تبعاً لوجود نصوص قانونية منظمة لممارسة الحريات العامة من عدمه، ففي حالة وجود نصوص قانونية، فان ذلك يلزم الجهة الادارية بوجوب الالتزام بها وعدم مخالفتها، وذلك ما يعد حجر عثرة امامها في انتهاك الحرية او فرض القيود على ممارستها، بحيث يترتب على عدم الالتزام بالنصوص القانونية من قبل الجهة الادارية، ان تكون الاجراءات الصادرة عنها بهذا الخصوص غير مشروعة وجديرة بالالغاء(5). واذا كان هنالك من النصوص القانونية التي توسع من سلطات الجهة الادارية في مواجهة احدى الحريات العامة مع تقرير الضمانات الكافية للافراد تجاه ذلك التوسع، فيجب على الجهة الادارية في هذه الحالة التقيد بالضمانات المقررة قانوناً، عند قيامها بتنظيم الحريات العامة، بحيث يجب عليها عدم القيام بذلك التنظيم، عندما لا تكون راغبة في التقيد بالضمانات المقررة قانوناً، او عدم قدرتها من الالتزام بها(6). ويجب على الجهة الادارية المختصة بتنظيم الحريات العامة، ان تلتزم بتحقيق الغاية التي حددتها النصوص القانونية، متى ما وردت تلك الغاية بشكل واضح وصريح، بحيث يترتب على عدم التقيد بتلك الغاية او انحرافها عنها، ان تكون الاجراءات الصادرة عنها بهذا الصدد غير مشروعة(7). وتطبيقاً لذلك فقد قضى مجلس الدولة الفرنسي بمشروعية القرار الصادر من سلطة الضبط الاداري والمتضمن منع المظاهرات ذات الطابع السياسي، كونها تمثل تهديداً للنظام العام استناداً لنص المادة 131/ 2 من قانون المحليات، حيث ان مجلس الدولة قد اعترف للجهة الادارية بسلطات واسعة تجاه حرية التظاهر، كون المجلس قدر بهذه الحالة ان قصد المشرع يعارض صراحة ذلك النوع من المظاهرات(8).

وترتيباً على ماتقدم فان كافة الاجراءات الصادرة عن الجهة الادارية المختصة ، والتي تخالف النصوص القانونية وحدوده ، انما تعد اجراءات غير مشروعة وجديرة بالالغاء من جهة ، ومن جهة اخرى فان مايرد في النصوص القانونية من قيود قد تترتب عن تنظيم الحقوق والحريات ، يجب ان يتم تفسيرها تفسيراً دقيقاً وضيقاً ، بحيث لايمكن ان تؤثر سلباً على ممارسة الافراد لحقوقهم وحرياتهم (9) . وفي حالة ما اذا لم تحدد النصوص القانونية، الغاية التي يجب الالتزام بها من قبل الجهة الادارية عند تنظيمها للحقوق والحريات ، فإن ذلك لا يعني أن تكون سلطة الجهة الادارية مطلقة، اذ ان اغفال المشرع للغاية المراد تحقيقها من النصوص القانونية لا يمكن ان يبرر فتح الباب على مصراعيه امام الجهة الادارية، بحيث تتغول على للحقوق والحريات، بل ان عليها في مثل هذه الحال ان تتقيد بفكرة الصالح العام، باعتبار ان السلطات العامة ما هي الا اختصاصات مناطة للأشخاص الذين يفترض بانهم اقدر من غيرهم على ممارسة تلك الاختصاصات، والسير فيها تحقيقاًًًً للصالح العام، وبالتالي فانه لا يكتفي ان يكون النشاط الاداري قد تم ضمن الحدود الدستورية المرسومة له، وفي اطار النظام القانوني للدولة، بل يجب ان يستهدف ذلك النشاط الصالح العام للمجتمع.(10) اما في حالة عدم وجود نصوص قانونية منظمة للحريات العام، فان على الجهة الادارية ان تتقيد في تنظيمها للحقوق والحريات ، بالحدود الشكلية، سواء المستمدة من طبيعة سلطة الضبط ام فكرة الحرية.

___________________

1- د. ماهر عبد الهادي: حقوق الانسان وقيمتها القانونية واثرها في فروع القانون الاخرى، دار النهضة العربية، القاهرة، 1985، ص33. د. عمر احمد حسبو: حرية الاجتماع، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1999، ص57. حسن احمد علي: ضمانات الحريات العامة وتطورها في النظم السياسية المعاصرة، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1978، ص22. عبد الامير علي موسى: النظام القانوني للترخيص او الاجازة في التشريع العراقي، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون جامعة بغداد، 1981، ص50.

2- د. سليمان محمد الطماوي: السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الاسلامي، دار الحمامي للطباعة، القاهرة، 1967، ص98.

3- لتفصيل ذلك بنظر د. وسام صبار العاني: الاختصاص التشريعي للادارة في الظروف العادية، ط1، دار الميناء للطباعة، بغداد، 2003،ص 102.

4- د. . سامي جمال الدين: اللوائح الادارية وضمانة الرقابة الادارية، منشاة المعارف بالاسكندرية، بدون سنة نشر، ص355.

5- د. عادل ابو الخير: الضبط الاداري وحدوده، الهيئة المصرية للكتاب، 1995، ص343.

6- د. محمد عصفور: وقاية النظام الاجتماعي بأعتباره قيداً على الحريات العامة، رسالة دكتوراة مقدمة الى كلية الحقوق، جامعة القاهرة 1961ص115.

7- د. عادل ابو الخير: الضبط الاداري وحدوده، المصدر السابق، ص343.

8- قرارها المؤرخ 12/ اكتوبر/ 1985، اورده د. مجدي احمد فتح الله: الحقوق والحريات العامة وسلطات الضبط الاداري، مجلة مركز بحوث الشرطة الصادرة عن اكاديمية مبارك للامن، ع26، يوليو، 204، ص447.

9- د.عبد المنعم محفوظ : علاقة الفرد بالسلطة ، الحريات العامة وضمانات ممارستها ، دراسة مقارنة ، المجلد الثالث /ط1 ، بدون دار نشر ، 1989 /ص973-974 .

10- د. مجدي احمد فتح الله حسن: فاعلية الاداء الضبطي لرجال الشرطة، دار النهضة العربية، القاهرة، 2002، ص448.

حدود التنظيم التشريعي للحقوق والحريات :

ان تقرير الحماية الدستورية للحقوق والحريات واناطه مهمة تنظيمها للمشرع العادي يمكن ان يثير تساؤلاً عما اذا كانت هنالك حدوداً قد ترد على سلطة المشرع عند قيامه بذلك التنظيم ، والذي يؤدي احياناً الى تقييد ممارسة بعض الحقوق والحريات ؟ وبالتالي فقد كان من الوجب بيان الحدود الفاصلة بين تنظيم الحقوق والحريات وهو مجال محجوز للمشرع من جهة وبين تقييدها بشكل قد يؤدي الى الانتقاص منها من جهة اخرى . ابد من الاشارة ابتداءً بان المذهب الفردي قد اكد بصراحة بان حقوق الافراد هي حقوق مقدسة ومطلقة بحيث لايمكن تقييدها او المساس بها ، كما لايحدها الاّ حقوق الآخرين ، وذلك مايمكن ان يستشف صراحةً مما ورد عليه النص في اعلان حقوق الانسان الفرنسي لعام 1791 ، اذ نصت المادة الثانية على ( ان هدف كل تجمع سياسي هو الحفاظ على حقوق الانسان الطبيعية غير قابلة للتقادم ) بينما ورد النص في المادة الرابعة منه على ان ( قوام الحرية هو القدرة على القيام بكل ما لا يلحق ضرراً بالغير . وهكذا فانه لاحدود لممارسة الحقوق الطبيعية لكل انسان الا تلك التي تكفل لافراد المجتمع الآخرين التمتع بذات هذه الحقوق . لايمكن تحديد هذه الحدود الا بموجب القانون ) . و يلاحظ بان الفكرة السابقة، لا يمكن ان تصلح معياراً محدداً لغرض بيان الحدود الفاصلة لسلطة المشرع في تنظيمه للحريات العامة، كونها فكرة فلسفية مجردة، الامر الذي دفع الفقه الاداري للبحث عن فكرة مناسبة، باعتبار ان المشرع انما يعمل على تحقيق الموازنة بين فكرة الحرية ومقتضات نظام اجتماعي وسياسي معين(1).

وقد ذهب الدكتور السنهوري الى محاولة التمييز بين تنظيم الحريات العامة وبين تقييدها، على اعتبار ان التنظيم يرد على كيفيه ممارسة الحرية، بينما يؤدي تقييد الحرية الى الانتقاص منها او يردها الى جوهرها، ذلك ان السلطة التقديرية هي الاصل في التشريع، بينما تكون السلطة المحددة هي الاستثناء، لذا فقد عمد د.السنهوري الى وضع خمسة معايير لبحث الانحراف في استعمال السلطة التشريعية التقديرية، وكان من بينها كفالة الحقوق والحريات العامة في حدودها الموضوعية(2). وترتيباً على ما تقدم، فقد اكد د. السنهوري الى ان المشرع يتمتع بسلطة تقديرية بصدد الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في الدستور والتي يجب تنظيمها بقانون، وعلى المشرع عند ذلك عدم الانحراف عن القصد الذي اوجبه الدستور، والمتمثل بكفالة الحقوق والحريات العامة ضمن حدودها الموضوعية، الامر الذي يوجب على المشرع تنظيم الحريات العامة وعدم الانحراف باستعمال السلطة، كون الدستور قد منحه سلطة تقديرية لغرض تنظيم الحريات العامة وليس تقييدها او الانتقاص منها، ومتى ما خرج المشرع على ذلك، فان التشريع في مثل هذه الحالة يكون مشوباً بالانحراف في استعمال السلطة التشريعية(3). واوضح د. السنهوري الى ان المعيار الذي يمكن الاستناد اليه بهذا الصدد للوقوف عما اذا كان هناك انحرافاً باستعمال السلطة التشريعية من عدمه، هو معيار موضوعي و ليس معياراً شخصياً، يقوم على الكشف عن النوايا الكامنة والتي اقترنت بالتشريع وقت صدوره، اذ يمكن الاكتفاء من الوقوف على وجه موضوعي محض، بوجود انتقاص للحق العام الواجب تنظيمه تشريعياً، من اطرافه، بحيث لا يمكن ان يحقق الغاية التي قصد الدستور تحقيقها فيه(4). فعلى سبيل المثال انه لو صدر تشريع يفرض قيوداً على حرية القيام بالشعائر الدينية او يقيد حرية الراي او حرية الصحافة، فان التشريع الصادر يكون منطوياً في مثل هذه الحالة على انحراف في استعمال السلطة التشريعية، على اعتبار ان التشريعات الصادرة في هذه الحالة انما تكون لغرض تنظيم الحرية وليس الانتقاص منها(5). وقد انتقد بعض الفقه، ما ذهب اليه د. السنهوري من التمييز بين تنظيم الحرية من جهة وتقييدها من جهة اخرى، على اعتبار ان من الصعوبة وضع معيار حاسم يرسم الحدود الفاصلة بين تنظيم الحرية وهو امر مباح للمشرع وبين تقييدها وهو امر محظور عليه اذ لا يغني في مثل هذا الحالة – بحسب هذا الراي – الادعاء بان التنظيم يرد على استعمال الحرية ولا يرد على الحرية ذاتها، بحيث ينتقص التقييد من الحرية بشكل يهدد الغاية التي قصد اليها الدستور من كفالتها، وذلك على اعتبار ان النصوص الدستورية المتعلقة بالحريات العامة، يتم صياغتها بصورة عامة وغير محددة لماهية الحرية، اضافة الى ان النصوص الدستورية ترسم عادة الاطار العام للفلسفة السياسية والاجتماعية التي يجب ان تستوحيها سياسة الدولة التشريعية، وهي نادراً ما تتضمن حدوداً موضوعية للحرية او تفرض على المشرع شروطاً محددة عند تنظيمه لها(6). اضافة الى ذلك، فان اقتصار تنظيم الحرية على طريقة استعمالها فقط دون المساس بها بالذات، قد تكون محاولة غير دقيقة، وذلك بسبب ما يكتنف الحد الفاصل بين استعمالات الحرية المتعددة وجوهرها، من غموض وابهام، باعتبار انه لا يمكن الاحساس او الشعور بالحرية الا عند ظهورها من خلال طرق استعمالها(7). كما ذهب الفقه المعارض لنظرية الانحراف باستعمال السلطة التشريعية، الى ان مخالفة المشرع للغرض المرسوم له والواجب التقيد به من قبله لا يعد انحرافاً بالسلطة التشريعية بل هو مخالفة من قبله للقانون، ذلك ان الفروض الخمسة التي اوردها د. السنهوري ما هي الا تطبيقاً لفكرة مخالفة القانون، ولا يتوجب الامر البحث في فكرة الانحراف بالسلطة التشريعية، حيث ان كافة الفروض تتعلق اساساً بالقرارات الادارية(8).

وقد اتجه فريق اخر من الفقه الى التمييز بين تنظيم الحريات العامة وتقييدها باعتبار ان التنظيم يتمثل بوضع بعض القيود التي تختلف ضيقاً واتساعاً من اجل التمتع بممارسة الحرية، حتى يمكن اعتبار تدخل المشرع تنظيماً للحرية، في حين ان تقييد ممارسة الحرية من قبل المشرع يتمثل بجعل التمتع بها امراً شاقاً او مرهقاً على الافراد، وفي حالة ما اذا صادر المشرع الحرية بشكل مطلق فان ذلك يعد مخالفة دستورية، بحيث يكون تدخله غير دستوري في هذه الحالة(9)، لذلك يكون المشرع قد مارس دوره في تنظيم الحرية متى ما عمد الى بيان كيفية ممارستها باجراءات تكفل تلك الممارسة بالشكل الذي يقف حائلاً دون تحول تلك الممارسة الى نشاط مضر بالمجتمع، ويقف تنظيم الحرية عند ذلك الحد، اذ توجد الحرية ويكفلها التشريع طالما لم يترتب على ممارستها ضرراً للغير، ومتى ما تدخل المشرع لغرض تنظيم الحرية وعمد الى منع جانب من جوانب ممارستها بغية التمتع بها، فانه يكون قد حظر نشاطاً انسانياً جوهرياً لممارسة الافراد لحرياتهم العامة، ويترك للقاضي عادة تحديد ما يعد مضراً بالمجتمع عند ممارسة الحرية من عدمه(10). إضافة إلى ذلك فان هنالك من الفقه الدستوري من يرى صعوبة وضع حد فاصل بين تنظيم الحقوق والحريات وبين تقييدها وذلك بسبب عدم وجود معيار موضوعي يمكن الاعتداد به في التفرقة بينهما بغية تقدير خطورة تقييد ممارسة للحقوق والحريات بهذا الصدد ، الأمر الذي يترتب عليه وجوب ترك صلاحية تحديد الإطار الذي يجب على المشرع الالتزام به عند تقييده للحقوق والحريات ، للرأي العام (11) . وقدر تعلق الأمر بموقف الدساتير من التمييز بين تنظيم الحقوق والحريات وبين تقييدها ، فقد ورد النص في المادة (41) من الدستور المصري لعام 1971 ، على أن (( الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس ……. ولا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع …. )) ، كما ورد النص في المادة (52) منه على أن (( للمواطنين حق الهجرة الدائمة أو الموقوتة إلى الخارج ، وينظم القانون هذا الحق وإجراءات وشروط الهجرة ومغادرة البلاد )) ، إذ يستشف من النصيين السابقين بأن المشرع الدستوري المصري قد استخدم مصطلحي التقييد والتنظيم لذات المعنى وهو الانتقاص المشروع للحرية (12) .

أما في الدستور العراقي لعام (2005) ، فقد ورد النص على سبيل المثال في المادة (15) منه على أن (( لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية ، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقا للقانون ….. )) إذ يفهم من النص السابق إمكانية تقييد ممارسة تلك الحقوق وفقا لضوابط محددة سلفا ، كما ورد النص في المادة (46) منه على أن (( لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه ، على أن لا يمس ذلك التحديد أو التقييد جوهر الحق أو الحرية )) ، إذ يلاحظ على النص المذكور بأن الدستور العراقي قد أجاز للمشرع العادي إمكانية تقييد ممارسة كافة الحقوق والحريات الواردة في الدستور دون استثناء ، على أن لا يرد ذلك التقييد على جوهر الحقوق والحريات ، من دون أن يتم تحديد ما يعد جوهرا للحق أو الحرية من عدمه ، الأمر الذي قد يثير إشكالية قانونية عند ممارسة المشرع العادي لدوره في تنظيم حقوق الأفراد وحرياتهم ، وكان من الأفضل – كما نعتقد – عدم فسح المجال أمام المشرع العادي بشكل قد يتعسف بالسلطة الممنوحة له بحيث يرتب ذلك آثاره السلبية على ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم . ونخلص مما سبق بيانه بأن هنالك تمييزا واضحا بين تنظيم الحقوق والحريات وبين تقييدها ، ذلك إن التفويض الدستوري للمشرع العادي يبيح له تنظيمها من خلال بيان كيفية ممارسة الأفراد لها بشكل لا يتعارض مع حقوق وحريات الآخرين ، وبشرط عدم الحظر المطلق لها أو هدرها كليا ، أما تقييد الحقوق والحريات فأنه أمر غير مباح للمشرع القيام به إلا في حدود القواعد الدستورية ، بمعنى آخر انه قد يترتب على تنظيم المشرع للحقوق والحريات تقييدا للبعض منها على ضوء ما ورد بالنصوص الدستورية ووفقا لضوابط موضوعية وشكلية ، على اعتبار إن تقييد ممارسة حقوق الأفراد وحرياتهم إنما يتم لغرض الحيلولة دون تعسفهم عند ممارستهم لها بالشكل الذي قد يلحق ضررا بحقوق وحريات الأفراد الآخرين .

________________

1- د. محمود عاطف البنا: حدود سلطة الضبط الاداري، مجلة القانون والاقتصاد، ع3-4، س42، 1978، ص55.

2- د. عبد الرزاق احمد السنهوري: مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية ، مجلس الدولة المصري، س3، 1952، ص52.

3- المصدر السابق، ص74.

4- المصدر السابق، ص75 .

5- المصدر السابق، ص79 .

6- د. نعيم عطية: مساهمة في النظرية العامة للحريات الفردية، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1964، ص163-164 .

7- د. محمد عصفور: الحرية في الفكرين الديمقراطي والاشتراكي، بدون دار نشر، 1961، ص89.

8- احمد كمال ابو المجد: الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الامريكية والاقليم المصري، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1960، ص952.

9- د. مصطفى ابو زيد فهمي: الدستور المصري ورقابة دستورية القوانين، منشأة المعارف بالاسكندرية، 1985، ص504.

10- د. وجدي ثابت غبريال: حماية الحرية في مواجهة التشريع، دار النهضة العربية، القاهرة، 1989-1990، ص135.

11- د. مصطفى ابو زيد فهمي: القضاء الاداري ومجلس الدولة، ط4، بدون دار نشر، 1979، ص214.

12- حارث اديب ابراهيم: تقييد ممارسة الحريات الشخصية، دراسة دستورية، كلية القانون، جامعة بابل، 2003،ص65.

الشروط الواجب توافرها في التشريع المنظم للحقوق والحريات :

حيث ان النصوص الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات، ترد عادة بصيغة العموم، دون ان تتضمن التفصيلات الخاصة بممارسة تلك الحريات، او الشروط الواجب مراعاتها من قبل المشرع عند تنظيمه للحريات او من قبل الافراد عند ممارستهم لها، الامر الذي يقتضي توافر عدة شروط في التشريع المنظم للحرية، بالشكل الذي يسمح من ممارستها بسهولة ويسر من قبل الافراد وبذات الوقت كفالة سلطة الضبط الاداري في تأدية وظيفتها ، العام. وحتى تكون على بينة تامة من دواعي تقييد الحريات العامة المقررة دستورياً(1). ويمكن ايجاز الشروط الواجب توافرها في التشريع المنظم للحريات العامة، بالآتي:-

أولاً: ان يستند التشريع المنظم للحقوق والحريات على اسس من دعمهما وكفالتهما:

لئن كانت النصوص الدستورية المتعلقة بالحريات العامة، لايمكن ان تخاطب غير المشرع العادي، كونه هو المختص لوحده في تنظيم الحريات العامة، ولا يمكن لغيره القيام بذلك، فأن على المشرع ان يستند في عملية التنظيم على اسس من دعم الحرية وكفالتها دون الانتقاص منها او هدرها(2). واذا كان الاصل في التشريع المنظم للحرية، ان يكون ضامناً للحرية، وكفالة ممارستها من قبل الافراد، فان فرض القيود عليها من خلال تنظيمها يمثل استثناء من الاصل العام، لذا فان مثل ذلك التشريع يجب ان يفرض اقرار الحرية وكفالتها تجاه كافة السلطات وبذات الوقت كفالة سلطة الضبط الاداري في تأدية وظيفتها لغرض المحافظة على النظام العام ، بالشكل الذي يقف حائــلاً دون استغلال الثغرات التشريعية من قبل تلك السلطات، ويتم ذلك من خلال حسن الصياغة التشريعية ورصانتها، وهذا ما يمثل حماية للافراد ايضاً من تسلط اجهزتها(3)، ذلك ان مجرد التنظيم التشريعي لاحدى الحريات العامة انما يكون عديم الجدوى، وبدون فاعلية تذكر، مالم ترافقه نصوص تشريعية محددة لسلطات الضبط الاداري(4). اضافة الى ذلك، فان على المشرع ان يضفى على الحرية صفة الالزام القانوني، وذلك من خلال فرض القيمة القانونية للنصوص الدستورية عند صياغته للنصوص التشريعية المنظمة للحرية، مع التقيد بالاساليب الضابطة خصوصاً، كما ان على المشرع ان يضمن عدم فرض الحصانات للتصرفات الصادرة من سلطة الضبط الاداري، والتي يتم اتخاذها بشكل ينتهك الحريات العامة او المخالفة للضمانات القانونية لها، باعتبار ان وجود مثل تلك الحصانات قد يحول دون اثارة مسؤولية سلطة الضبط الاداري عن افعالها الماسة بالحريات وما يمكن ان يرتبه ذلك من آثار سلبية تجاه حقوق الافراد(5). وحتى يكون التشريع المنظم للحرية قائم على اسس من دعمها، فلا بد من كفالته لحق الافراد من الالتجاء للجهة الادارية المختصة لغرض تقديم الشكاوي او التظلمات بسبب الاجراءات التي تتخذها الجهات الادارية والمخالفة لاحكام القانون، كما يكون لهم الحق من اللجوء الى القاضي المختص لاقامة الدعوى، بسبب المساس بالحريات العامة او اهدارها من قبل سلطة الضبط الاداري، اذ يكون للقاضي المختص الكلمة الفصل لفض النزاع الحاصل بصددها(6).

ثانياً: أن يكون التشريع المنظم للحرية مقرراً لضماناتها:

حيث ان الحرية قد تكون معرضة للانتهاك او التعدي من قبل سلطة الضبط الاداري او من غيرها، فلا بد من ان يكون التشريع المنظم لها محققاً للضمانات التي تحول دون انتهاك الحرية، ويتم ذلك من خلال:

1. اتفاق التشريع المنظم للحرية مع احكام المشروعية:

يفترض بالتشريع الضابط ان يكون صادراً من السلطة المخولة بموجب النصوص الدستورية صلاحية تنظيم الحريات العامة، اذ يرد النص عادة في النصوص المذكورة اما بعبارة (بناء على القانون) او (وفق احكام القانون)، ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد في الدستور العراقي الحالي لعام 2005، المادة (15) منه، ان ((لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولايجوز الحرمان من هذه الحقوق او تقييدها الا وفقاً للقانون…))، والمادة (18/ ثانياً) من انه ((يعد عراقياً كل من ولد لأب عراقي او لأم عراقية، وينظم ذلك بقانون))، والمادة (22/ثالثاً) من ان ((تكفل الدولة حق تأسيس النقابات والاتحادات المهنية، او الانضمام اليها، وينظم ذلك بقانون))، والمادة (39/ أولاً) من ان ((حرية تاسيس الجمعيات والاحزاب السياسية، او الانضمام اليها، مكفولة، وينظم ذلك بقانون)). والمادة (46) من انه ((لا يكون تقييد ممارسة اي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور او تحديدها الا بقانون او بناءً عليه، على ان لا يمس ذلك التحديد او التقييد جوهر الحق او الحرية)). أما في الدستور المصري لعام 1971 ، فقد ورد النص عل سبيل المثال في المادة (44) منه بأن (( للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون )) والمادة (45) بأن (( لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون . وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة ، … ووفقا لأحكام القانون )) ، والمادة (27) بأن (( حرية الرأي مكفولة ، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون …)) ، والمادة (48) بأن ( حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة … وذلك كله وفقا للقانون )) ويلاحظ بان ما ورد في النصوص الدستورية، من تخويل المشرع العادي بتنظيم الحريات العامة، كان مقصوداً لدى المشرع الدستوري، ذلك ان استخدام عبارة (وفق احكام القانون) في النصوص الدستورية له دلالة على وجوب صدور التشريع المنظم للحريات من المشرع العادي فقط، اذ ليس له في هذه الحالة تفويض السلطة التنفيذية بذلك، حيث يكون التفويض الحاصل في هذه الحالة مخالفاً للدستور، اما في حالة استخدام عبارة (بناء على قانون) او (في حدود احكام القانون)، فان ذلك يجيز ضمناً تفويض السلطة التنفيذية القيام بذلك(7). ان وجوب ان يكون التشريع المنظم للحرية صادراً من السلطة المخولة دستورياً ما هو الا تطبيق صريح لمبدأ المشروعية او سيادة القانون، القائم على وجوب احترام الحكام والمحكومين للقانون، والخضوع لسلطاته(8). ويعد مبدأ خضوع الدولة للقانون من الضمانات الأساسية للحقوق والحريات ، اذ إن هنالك ارتباطا مباشرا لفكرة الحقوق والحريات بالدولة القانونية ، وهي الدولة التي يلتزم كافة السلطات والأفراد فيها بنصوص القانون والخضوع لأحكامه وذلك ما يميزها من الدولة البوليسية . ويلاحظ بأن وجود الدولة القانونية ، وان كان شرطا ضروريا لتقرير حقوق الأفراد وحرياتهم قانونا ، إلا إن ذلك لا يكون كافيا لضمان ممارستها من قبل أفراد المجتمع ما لم يقرر القانون فيها صراحة حماية الحقوق والحريات والحد من تعسف السلطات فيها عموما وسلطة الضبط الإداري باعتبارها جزء من السلطة التنفيذية خصوصا في مواجهة تلك الحقوق والحريات (9) . واعمالاً لمبدأ المشروعية، فان التشريع المنظم للحرية لا بد ان يصدر ضمن نطاق التدرج الهرمي للسلم التشريعي، بمعنى انه يجب التقيد بمبدأ تدرج القواعد القانونية من الناحيتين الشكلية والموضوعية، وبذات الوقت فلا بد من التقيد بمبدأ سمو الدستور، حيث تكون النصوص الدستورية في قمة الهرم القانوني، باعتبار ان الدستور هو الذي ينشأ السلطات في الدولة، ويحدد اختصاصاتها مع بيان الاجراءات الواجب اتباعها من قبل تلك السلطات، بحيث يترتب على عدم التزام تلك السلطات بالاختصاصات المنوطة بها، بطلان الاجراءات المتخذة من قبلها(10).

2.كفالة التشريع المنظم للحق اوالحرية لحق التقاضي : ـ

تمثل الحماية القضائية ضمانة أساسية لكفالة ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم ، ذلك إن هذه الأخيرة إنما تمثل ركائز أساسية لسيادة القانون ، الأمر الذي يوجب ضمان هذه الركائز لغرض أن تقف حائلا دون إساءة استعمال السلطة ، ويتحقق ذلك الضمان بأن يعهد إلى هيئة ذات طابع قضائي من أجل الرقابة للوقوف على مدى احترام الجميع للشرعية الدستورية (11) .

ويعرف حق التقاضي بأنه ((لجوء الإنسان إلى قاضيه الطبيعي إذا تم الاعتداء على حقه ، أو انتهكت حريته مهما كانت صفة هذا المعتدي سواء أكان فردا ام جهة عامة )) (12) ، ويبرز دور القضاء في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم ، من خلال حمايتها من التجاوز الذي قد يقع من قبل السلطة التشريعية ، عن طريق الرقابة على دستورية القوانين والتي تخرج عن نطاق بحثنا بهذا الخصوص ، وكذلك حماية تلك الحقوق والحريات من التجاوز الذي قد يحصل من السلطة التنفيذية ، باعتبار إن سلطة الضبط الإداري هي جزء منها ، عن طريق الرقابة التي تمارسها جهتي القضاء العادي والإداري (13) .

ولا بد من الإشارة إلى إن وجود هيئة قضائية مختصة بفض المنازعات بين الأفراد ذاتهم أو بينهم وبين السلطات العامة في الدولة ، قد لا يكون كافيا لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم ، إذ إن تعقد إجراءات التقاضي ، وارتفاع تكاليفها ، وتأخر حسم الدعاوى ، قد يقف مانعا دون التجاء الأفراد للقضاء للمطالبة بحقوقهم وحمايتهم عند خروج السلطات العامة على قواعد القانون ، الأمر الذي يستوجب أن تضم الهيئات القضائية عناصر على قدر عالٍ من الكفاءة والخبرة (14) . إن كفالة حق التقاضي بالتشريع المنظم للحقوق والحريات ، إنما يقتضي ألاّ يحاكم الفرد إلا أمام قاضيه الطبيعي أي امام القاضي الذي عينه القانون له ، كما يقتضي أيضا عدم سلب الولاية العامة من المحاكم ، وعدم انشاء محاكم استثنائية للنظر في الدعاوى ، وكذلك فلا بد

من احترام ، الاحكام الصادرة عن المحاكم ، بحيث لايجوز عدم تنفيذها الا وفقاً للطرق المحددة قانوناً (15) ولاهمية دور القاضي في حماية الافراد وحرياتهم ، فقد صرحت الدساتيرعلى النص صراحة على مبدأ استقلال القضاء وحياده ، اذ خصص المشرع الفرنسي الباب الثامن من الدستور الفرنسي لعام 1958 للسلطة القضائية ، كما ورد في المادة (66) منه بان ( لايجوز ان يحبس احد تعسفاً ، وتتولى السلطة حارسة الحرية الفردية ، ضمان واحترام هذا المبدأ وفقاً للشروط المنصوص عليها في القانون ) . كما ورد النص في المادة (68) من الدستور المصري لعام 1971 بان ( التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة . ولكل مواطن حق الالتجاء الى قاضيه الطبيعي . وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء ومن المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا . ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل او قرار اداري من رقابة القضاء) . اما في احكام الدستور العراقي لعام 2005 ، فقد افرد المشرع الدستوري الفصل الثالث من الباب الثاني للسلطة القضائية ، حيث نصت المادة (87) منه على ان ( السلطة القضائية مستقلة ، وتتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها ، وتصدر احكامها وفقاً للقانون ) كما نصت المادة ( 95) على ان ( يحظر انشاء محاكم خاصة او استثنائية ) . والمادة (100) بان ( يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل او قرار اداري من الطعن ) .

3. ان يكون التشريع المنظم للحرية، مقرراً للجزاءات الواجب فرضها عند مخالفة احكامه.

ان تقرير الحقوق والحريات العامة بنصوص دستورية صريحة، وتنظيمها من خلال تشريع يصدر لهذا الغرض، لا يمكن ان يكون كافياً لحماية الحقوق والحريات العامة، ما لم تقترن بجزاءات يمكن فرضها على من يخالف احكامها، وذلك من خلال اثارة مسؤوليته عند الخروج على النصوص القانونية الحامية للحقوق والحريات العامة، سواء اكانت تلك المسؤولية تاديبية ام جزائية، وما يمكن ان يرتبه ذلك الحد من الانتهاكات الحاصلة تجاه الحريات العامة بهذا الصدد.(16)

_________________

منيب محمد ربيع: ضمانات الحرية في مواجهة سلطات الضبط الاداري، كلية الحقوق، جامعة عين شمس، 1981، ص378.
2- د. عادل ابو الخير: الضبط الاداري وحدوده، الهيئة المصرية للكتاب، 1995، ص340.

3- منيب محمد ربيع: المصدر السابق، ص382-383.

4- د. نعيم عطية: في النظرية العامة للحريات الفردية، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، ص153.

5- د. عادل ابو الخير: الضبط الاداري وحدوده، المصدر السابق، ص340-341.،

6- منيب محمد ربيع: المصدر السابق، ص385

7- الاستاذ ابراهيم ابراهيم شحاتة: وظيفة القاضي عند فحص دستورية القوانين، مجلة مجلس الدولة المصري، س8-9-10، 1960، ص404. عامر احمد المختار: تنظيم سلطة الضبط الاداري في العراق، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون، جامعة بغداد، 1975،، ص76. عبد الامير علي موسى: النظام القانوني للترخيص او الاجازة في التشريع العراقي، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون جامعة بغداد، 1981، ص26.

.

8- لتفصيل ذلك ينظر د. طعيمة الجرف: مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الادارة العامة للقانون، ط3، دار النهضة العربية، القاهرة، 1976، ص13-14.

9- د. كريم يوسف احمد كشاكش : الحريات العامة في الانظمة السياسية المعاصرة ، منشاة المعارف الاسكندرية ،1987 ،381 .

– د. ثروت عبد العال احمد : الحماية القانونية للحريات العامة ، ص114.

10- د. عادل السعيد ابو الخير: انعكاسات مبدأ المشروعية على اعمال الضبط الاداري، ، ص256 .

11- د. احمد فتحي سرور / الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، المصدر السابق ، ص139.

12- د. سامي سالم الحاج : المفاهيم القانونية لحقوق الانسان عبر الزمان والمكان ، مشورات الجامعة المفتوحة ، الاسكندرية ، 1995 ص502 .

13- لتفصيل ذلك ينظر جعفر صادق مهدي : ضمانات حقوق الانسان دراسة دستورية ، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون ، جامعة بغداد ، 1990 ص69.

14- د. سعاد الشرقاوي: نسبية الحريات العامة وانعكاسها على التنظيم القانوني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1979، ص109.

15- د.ثروت عبد العال احمد : الحماية القانونية للحريات العامة ، ص116.

16- د. محي شوقي احمد: الجوانب الدستورية لحقوق الانسان، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986، ص326. د. محمد الطيب عبد اللطيف: قانون القضاء الاداري، مسؤولية السلطة العامة، الكتاب الثالث، دار النهضة العربية، القاهرة، 2004، ص15. د. كامل عبد السميع محمود: مسؤولية الادارة عن اعمالها المادية المشروعة، دار النهضة العربية، القاهرة، 2002، ص39.

المؤلف : حبيب ابراهيم حمادة الدليمي
الكتاب أو المصدر : سلطة الضبط الاداري في الظروف العادية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .