إن مفهوم الحق فى الدفاع نشأ من تطور الافكار القائلة بان الاعترافات التى تنتزع عن طريق الاكراه ، الادانة التى تتم دونما تنفيد لعناصر الاثبات التى تجمعت ضد المتهم ، عدم تقرير وسائل الدفاع عنه ، كل ذلك اصبح اليوم من الامور غير المسموح بها او المسكوت عليها. ان تطور هذه الافكار على هذا النحو فيه اعلاء لشأن الاخلاق واحترام للذات الانسانية وللحريات الفردية . ومن هنا تطورت الخصائص الرئيسية للاجراءات الجنائية من النظام التنقيبى الى النظام الاتهامى وفى ظل هذا النظام الاخير – لا تثار اية صعوبات فيما يتعلق بفكرة حقوق الدفاع . فالدعوى اشبه ما تكون بمباراة ملاكمة UN CONBAT DE BOXE اللاعبان من نفس الفئة ، نفس الوزن ، نفس القوة ، والاكثر من هذا فان نفس قواعد النزاع القضائى يجب ان يكون – بصورة او بأخرى – بين جهتين متعادلتين فى الاسلحة . ومعنى ذلك ان حقوق الدفاع ينبغى ان تكون فى نفس الامتيازات سلطة الاتهام .
ولتحقيق تكافؤ الفرص L’egalite des chances بين النيابة العامة والمتهم وخوفا من تعرض هذا الاخير لاية مخاطر فانه يعطى ميزتين اولهما افتراض البراءة بما يستتبع ذلك من تحمل النيابة العامة عبء الاثبات ، ومن ان الشك يفسر لمصلحة المتهم . اما الميزة الثانية فهى ان المتهم هو اخر من يتكلم امام القضاء .
واذا طرحنا جانب هاتين الميزتين فان اطراف الدعوى الجنائية : الدفاع والاتهام لهما نفس الوسائل نفس الحقوق من حيث استدعاء الشهود او مناقشة وتنفيد كل عناصر الاثبات . ولا شك ان حرية مناقشة وسائل الاثبات امام القضاء تعد اول حق من حقوق الدفاع . كذلك فإن السمات الخاصة بشفوية المرافعات وعلانيتها
هدفها ضمان مبدأ الحضورية ، وبالتالى تأكيد احترام حقوق الدفاع . وهكذا فالموازنة بين الحقوق الاجرائية للمتهم وللنيابة العامة تتأكد من خلال امكانية المرافعات الشفوية ، الحضورية ، علانية كل إجراءات الدعوى ومن هنا قيل بحق ان حقوق الدفاع هى بمثابة الروح L’ame بالنسبة للنظام الاتهامى.
بيد انه اذا كانت فكرة حقوق الدفاع لصيقة الصلة بالنظام الاتهامى المسيطر على مرحلة المحاكمة فليس معنى ذلك خلو مرحلة التحقيق الابتدائى التى يحكمها اساسا المبدأ التنقيبى من ارهاصات لهذه الفكرة . والسؤال الان الى اى مدى يتمتع المتهم بحقوق الدفاع فى مرحلة ما قبل المحاكمة ؟
هذا التساؤل يمثل مشكلة البحث الرئيسية . ولعلاج هذه المشكلة رأينا ان تكون النافذة التى نطل منها على حقوق الدفاع فى هذه المرحلة تمثل طرحا جديدا لهذا الموضوع ومعالجة مختلفة لدراسته نستعين فيها ببعض الافكار الموجودة فى العلوم الاخرى . وبالاخص ما نادى به عالم الاجتماع الالمانى ماكس فيبر Max Weber من ضرورة التفرقة بين النمط المثالى Ideal Or Pure Type كاسلوب نموذجى معيارى للفعل او السلوك وبين النمط الواقعى الممارس بالفعل على ارض الواقع . فالنموذج المثالى مفهوم مجرد نقارن به المواقف الواقعية .
ودراسة الواقع على هذا النحو تمكننا من معرفة درجة التباين بين النمط المثالى والواقعى . فهى تبين لنا مواطن الضعف ومواطن القوة . كما انها تمكننا من ان نرصد زاوية الانحراف بين ما هو كائن بالفعل وبين ما يجب ان يكون ، وان نقيس هذه الزاوية بمقياس علمى دقيق لنكشف ولنستكشف الى اى مدى يمكن ان تتسع الهوة بين النمط المثالى لممارسة حقوق الدفاع والنمط الواقعى لهذه الممارسة . وما هى الاساليب والوسائل اللازمة لكسر هذا الانفراج ولجم اتجاهات التوسيع التنقيبى على حساب حقوق الدفاع ؟ وذلك حتى يمكن تصحيح المسار ، وحتى يمكن ان نضع
أقدامنا على الطريق الصحيح الى العدالة المنشودة . إذ اننا ننشد بالفعل عدالة او فى للمتهم فى تلك المرحلة .
كذلك فقد اخترنا فى هذه الدراسة نظما اجرائية معينة . ذلك اننا لم نشأ ان نترك عنوان البحث مفتوحا فمن المعلوم – فى كتب المناهج – ان فكرة العنوان المفتوح فكرة منتقدة على اساس انها تدخل فى نطاقها ما لم يقصد الباحث ادخاله فيها . ومن هنا يمكن القول ان العنوان بمثابة الثوب الذى يرتديه البحث ، فلا ينبغى ان يكون اوسع او اضيق من جسم البحث ومادته الموضوعية .
ومن هذا المنطلق اوردنا قيدا هاما على عنوان بحثنا يتعلق بالنطاق المكانى له حيث حصرناه فى النظم الاجرائية السائدة فى فرنسا ومصر والمملكة العربية السعودية .
ويلاحظ ان اختيارنا لهذه النماذج لم يكن اختيارا عشوائيا بل اختيارا مقصود وعمديا . وذلك على اساس ان القانون الفرنسى وهو المصدر التاريخى لهذه النوعية من الحقوق . فهو بمثابة النبع الذى تستقى منه معظم روافد التشريعات الاجرائية ومن بينها مصر .
هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فقد نص الدستور المصرى الصادر سنة 1971 فى مادته الثانية على ان ” الاسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادىء الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع ” فكان لابد – بناء على هذا النص الدستورى – من التطرق لفكرة حقوق الدفاع فى شريعتنا الغراء . لكن لم كان دستورنا يقف عند اعتاب الشريعة الاسلامية من حيث هى نظر . فكان لابد ان نبحث عن ممارسة او تطبيق عملى لاحكام المذاهب الفقهية المتعلقة بهذا الخصوص وهنا لا نجد سوى المملكة العربية السعودية فهى الدولة الوحيدة فى عالمنا العربى التى تطبق احكام الشريعة الاسلامية . لذا نعرض لتطبيقات حقوق الدفاع فى نظمها الاجرائية . وهكذا تتكامل الصورة لدينا باجتماع والعمل .
وبهذا نستطيع ان نقابل بين فكرة حقوق الدفاع فى النظم الاجرائية الوضعية وفكرة حقوق الدفاع فى الفقه الاسلامى من حيث هو نظر ومن حيث هو تطبيق وعمل . وذلك كله بغية الوصول الى الهدف الذى نهفو اليه من هذا البحث وهو إقامة نمط مثالى لممارسة حقوق الدفاع فى مرحلة ما قبل المحاكمة .
ومن اجل الوصول الى هذه الغاية فقد قسمنا بحثنا الى ثلاثة ابواب : افردنا الباب الاول منها لدراسة حقوق الدفاع فى النظم الاجرائية الوضعية فى فرنسا ومصر . وناقشنا فى الباب الثانى فكرة حقوق الدفاع فى النظام الاجرائى الاسلامى ومدى تطبيقاتها فى المملكة العربية السعودية . اما الباب الثالث والاخير فقد خصصناه لبيان حجم ممارسة حقوق الدفاع بين النمط المثالى والنمط الواقعى .
كذلك فقد استعنا بمجموعة من مناهج البحث هى التاريخى والوصفى والمقارن والتحليلى التركيبى والتكاملى . كما اننا اقمنا دراستنا لحقوق الدفاع على محورين : محور رأسى ومحور أفقى .
اما المحور الراسى فيتبدى فى ضرورة التأصيل التاريخى والفلسفى لهذه الحقوق ، وهذا ما جعلنا نستخدم المنهج التاريخى . فلا شك ان استخدام هذه المنهج ساعدنا على الالمام بمفاهيم حقوق الدفاع وحجم الرعاية والامكانيات المتاحة لها عبر مراحل التاريخ المختلفة الى ان وصلت الينا فى صورتها الراهنة .
اما المحور الافقى والذى يعتمد على دراسة حقوق الدفاع فى اللحظة الاتية وذلك ســـــــــواء فى نظام واحد ام فى عدة نظم ، فقد عولنا من خلاله على مناهج البحث : الوصفى والمقارن والتحليلى التركيبى والتكاملى على نحو ما بينا سلفا .
بعبارة اخرى فلقد اعتمدنا فى بحثنا على مستويين من مستويات التحليل المستخدمة فى العلوم الاخرى . اولهما مستوى Macro اى التحليل الموسع او الكلى . وهذا المستوى يهتم بالدراسة الافقية للمشكلة او الظاهرة من خلال علاقتها بالمشاكل الاخرى بهدف بيان مظاهر التأثير والتأثر بينهم اما المستوى الثانى فهو مستوى الميكرو Micro اى التحليل المصغر او الجزئى . وهذا المستوى يهتم

بالدراسه الرأسية لمشكلة معينة بعد عزلها عن المشاكل الاخرى للتعرف على جزيئاتها وتفاصيلها بهدف التعمق فى فهمها وترسيخها .
وهكذا جمعنا فى تفسير وتحليل موضوعات بحثنا بين النظرة الافقية التى تعنى الاتساع والنظرة الرأسية التى تعنى العمق .
واذا كان يقال ان التجديد فى مجال العلوم المختلفة قد يكون من ناحية الموضوع بتناول افكار وموضوعات جديدة ، او من ناحية الشكل بإدخال اطر منهجية لم تكن مستخدمة من قبل . فإدخال ان هذه الرؤى المنهجية التى عولنا عليها فى كل بحوثنا ومنها هذا البحث – والتى لم يسبقنا اليها احد – تعد نوعا من هذا التجديد .
وقد خلصنا من دراستنا لحقوق الدفاع فى مرحلة ما قبل المحاكمة الى مجموعة من النتائج نجمله على النحو التالى :
اولا : ان حق الدفاع لا يكون له فعالية وتأثير الا اذا احيط المتهم علما بالوقائع المنسوبة اليه والادلة المقدمة ضده . كما يتعين اخطاره بكافة الاوامر القضائية المتعلقة بالتحقيق حتى يتمكن الدفاع من الطعن فيها اذا كان مساس بأحد الحقوق المشروعة للمتهم .
كما ان الشريعة الاسلامية قد حفلت بالكثير من الاحاديث النبوية الشريفة التى تحث على ضرورة ان يكون المتهم على بينة من الوقائع المسندة اليه والقرائن القائمة ضده . وعلى هذا النظام الذى سنه الرسول الكريم سار اصحابه وخلفاؤه من بعده .
وعلى هذا النهج سارت المملكة العربية السعودية بوصفها الدولة الوحيدة المطبقة لاحكام الشريعة . فاوردت العديد من النصوص المتعلقة بهذا الحق فى انظمتها الاجرائية المختلفة .
ثانيا : ان القاعدة فى قانون الاجراءات الجنائية المصرى الحالى – على خلاف ما هو فى فرنسا – هى ان للخصوم ان يحضروا فى كل اجراءات التحقيق الا فى

احوال استثنائية تقرر فيها للمحقق ان يجرى التحقيق فى غيبتهم وذلك فى حالتى الضرورة والاستعجال .
اما فى فرنسا فإن العكس هو السائد . اذ تبنى قانون الاجراءات الجنائية الفرنسى مبدأ سرية التحقيق اى إجرائه فى غير حضور الخصوم . ولا يخفف من غلواء هذه السرية سوى السماح للخصوم بالاطلاع على التحقيق الابتدائى فى حدود معينة .