تنوعت أنظمة الاتهام والمحاكمة في الأنظمة الجنائية، حيث وجد نظامان أساسيان هما: النظام الاتهامي، والنظام التنقيبي، وهناك نظام ثالث هو النظام المختلط، الذي حاول التوفيق بين سابقيه تبعاً للاعتبارات المختلفة التي تقف وراء كل مرحلة من مراحل الخصومة الجنائية (1).
1. النظـام الاتـهامي
هو أقدم النظم التي عرفتها الإنسانية، حيث نجده سائداً في الشرائع الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والجرمانية. والدعوى الجنائية في هذا النظام هي صراع بين خصمين: المجني عليه والمتهم؛ فالمجني عليه ـــ أو ورثته ـــ هو الذي يقوم بسلطة الاتهام والعقاب، واتخاذ إجراءات التحقيق لاستيفاء حقه من الجاني، وهذا النظام يقيد سلطة الدولة والقضاء، فللقاضي دور سلبي لا يعدو أن يكون حكماً بين طرفي النزاع للترجيح فيما بينهما. ويتميز النظام الاتهامي بالخصائص الآتية(2):
أ. حريّة الادعاء لأي فرد، فالدعوي الجنائية يمارسها المضرور من الجريمة باتهام يوجهه إلى المتهم ومتولّي الادعاء، ومن ناحية أخري، فإن القاضي لا يمكنه الاتصال بالدعوي ما لم يتم الادعاء، ولو وصل نبأ الجريمة إلى علمه، ومن ثمّ فإن الدعوى تبدأ بمرحلة المحاكمة.
ب. الأدلة يجمعها ويقدمها الخصوم للقاضي، الذي عليه تقويم الأدلة المقدمة دون أن يكون له أدنى مكنة في جمع الأدلة بمعرفته، كما أن للقاضي دوراً سلبياً، حيث يقتصر على الموازنة بين أدلّة الخصوم دون أن يكون له دور إيجابي في البحث والتحقيق.
ج. علانية إجراءات الخصومة الجنائية وشفوية المرافعة.
د. المساواة التامة بين الخصوم.
هـ. حريّة المتهم حتى صدور حكمٍ باتٍ بالإدانة.
و. ارتباطه بنظام عدم تقييد القاضي الجنائي بالأدلّة وارتباط نظام المحلفين به.
2. النظام التنقيبي
يرتبط هذا النظام بظهور الدولة كسلطة قوية تحرص على فرض النظام في المجتمع، حيث تعتبر الدولة نفسها المسؤولة عن إقامة العدل والأمن، ويعطي هذا النظام للدولة ـــ بسلطتها التنفيذية والقضائية ـــ دوراً إيجابياً في الدعوى، فقد أصبح لهذه السلطات الحق في البحث والتحقيق في الجرائم، لأن الجريمة صارت عدواناً على المجتمع، والعقوبة في هذا النظام هي من حق المجتمع ممثلاً بالدولة، وليس المجني عليه، فلم يعد للمجني عليه الحق في استيفاء حقه بنفسه أو التنازل عنه، وفي ظل هذا النظام أوجدت الدولة وظيفتين: قضائية، وتنفيذية، كما توسّعت سلطات رجال الضبط والتحقيق والقضاء، وترتّب على هذا التوسّع تضاؤل حقوق المتهم، ويتصف النظام التنقيبي بالخصائص التالية(3):
أ. تدخُّل القاضي لا يكون بناءً على ادعاء الأفراد، وإنما بحكم وظيفته، والذي بدوره يتولى وظيفة الادعاء، وقد ارتبط ظهور المرشدين السرّيين بهذا النظام.
ب. حريّة القاضي في جمع الأدلة مستقلاً عن المضرور والمتهم، وقد ظهرت بعد ذلك فكرة تقييد القاضي في قناعته بالأدلة القانونية منعاً للتحكّم الذي أدى إليه حرية القاضي في جمع الأدلة وتكوين اقتناعه.
ج. سريَّة الخصومة، سواء في مرحلة التحقيق أم مرحلة المحكمة، وبالتالي ظهور مبدأ المرافعة المدوّنة أو المكتوبة.
د. عدم المساواة بين الادعاء والمتهم.
هـ. الحبس الاحتياطي للمتهم حتى الفصل في الدعوى.
3. النظام المختلط
يقوم على اعتبار أساسي هو التثبُّت من مسؤولية الجاني، فلا يخضع بريء لعقوبة ولا يفلت مجرم من عقاب، لهذا تميز بما يلي(4):
أ. الدعوى الجنائية ملك للجميع، وليست ملكاً للمضرور، وتمارسها الدولة عن طريق النيابة العامة، نيابةً عن المجتمع.
ب. تغلب في مرحلة التحقيق ـــ عادة ـــ خصائص النظام التنقيبي، فيُجرى في سرية للوصول إلى الحقيقة، ولكن لتجنُّب عيوب النظام التنقيبي أوكلت النظم المختلفة مهمة التحقيق إلى جهة قضائية محايدة، وكفلت للمتهم حق الاطلاع على الأدلّة ومناقشتها.
ج. تبرز سمات النظام الاتهامي في مرحلة المحاكمة، فيؤخذ بعلانية الجلسات، وشفوية المرافعة، والمساواة بين أطراف الخصومة، ولتجنُّب عيوب النظام الاتهامي أعطت النظم المختلفة للقاضي دوراً إيجابياً في سير الدعوى، وفي جمع الأدلة، وأصبح حراً في تكوين عقيدته ما بين الأدلة التي حصرها القانون.
النظام المعمول به في المملكة العربية السعودية
أخذت المملكة العربية السعودية (بنظام خليط)(5)، ففي حين تنص المادة (16) من نظام الإجراءات الجزائية السعودي على أن: «هيئة التحقيق والادعاء العام تختص وفقاً لنظامها بإقامة الدعوي الجزائية ومباشرتها أمام المحاكم المختصة»، نجد المادة (17) تنص على أن: «للمجني عليه أو من ينوب عنه ولورثته من بعده حق رفع الدعوى الجزائية في جميع القضايا التي يتعلق بها حق خاص، ومباشرة هذه الدعوى أمام المحكمة المختصة، وعلى المحكمة في هذه الحالة تبليغ المدعي العام بالحضور، وبالتالي لا يجوز إقامة الدعوى الجزائية في هذه الحالة أو إجراء التحقيق في الجرائم الواجب فيها حق خاص للأفراد إلاّ بناءً على شكوى من المجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه من بعده إلى الجهة المختصة».
ومع ذلك، فإن لهيئة التحقيق والادعاء العام ـــ حتى في هذه القضايا ـــ إقامة الدعوي أو التحقيق في هذه الجرائم إذا رأت أن المصلحة العامة تقتضي ذلك(6)، «فالجرائم إما أن تكون موجبات حدود خالصة حقاً لله تعالي، أو موجبات تعزير حقاً خالصاً لله تعالى، ومن هذا القبيل الغالبية العظمي من الجرائم التعزيزية، وفيها تُقام الدعوى الجزائية من هيئة التحقيق والادعاء العام أمام المحاكم المختصة»(7).
وقد يكون من موجبات الحدود ما فيه حق الفرد ظاهر أوغالب، وكذلك موجبات القصاص، إذ فيها حق الفرد غالب. وفي هذا النوع من الموجبات وموجبات التعزير التي فيها حق الفرد غالب «لا تُقام الدعوى إلاّ بناءً على شكوى من المجني عليه أو من ينوب عنه ولوارثه من بعده، ويضطلع المجني عليه بمباشرة الدعوي بعد إقامتها؛ ومع ذلك، لهيئة التحقيق والادعاء العام حق إقامة الدعوى في هذه القضايا إذا رأت أن المصلحة العامة تقتضي ذلك»(8).
وإذا كانت المحاكم تتولى محاكمة المتهمين فيما يُسند إليهم من تهم ـــ وفقاً للوجه الشرعي وطبقاً للإجراءات المنصوص عليها في النظام ـــ إلاّ أن المادة (6) نصَّت في نهايتها على أنَّ للمحكمة أن تنظر في وقائع غير مدعى بها من المدعي العام مما لا يحتاج إلى تحقيق.
ونخلص إلى أن النظام السعودي قد أخذ بنظام التنقيب في مرحلتي: جمع الاستدلالات والتحقيق، اللتين تقومان علي السريّة والتدوين، وتأخذ بالنظام الاتهامي في مرحلة المحاكمة، التي تقوم على شفوية المرافعات والتحقيقات وعلانيتها .