جرائم تزويير المحررات

التزوير وفقا للفقه الجنائي هو تغيير الحقيقة بشتى الوسائل ولعل أهم الطرق التي يلجا إليها فاعل جريمة التزوير لتحقيق نتيجته الإجرامية هي وسيلة الكتابة بهدف تحقيق مصلحة بالاحتيال والفسق والكذب. لذلك تعتبر المحررات من أكثر وسائل التزوير التي يلجأ إليها المجرمون لتحقيق أهدافهم وعملت شتى التشريعات الجنائية على تجريم أفعال التزوير بل ومن أجل حماية أوسع عمل المشرع الجنائي أيضا على تجريم تداول (استعمال) المحررات المزورة الذي يقترن بمعرفة وإرادة الشخص الحائز عليها.

وقد عرف قانون العقوبات المطبق لدينا في المادة (332) بأن التزوير هو ” تنظيم مستند كاذب بنية الاحتيال أو الخداع “. ولقد أوضح المقصود بتنظيم المستندات الكاذبة في المادة (334).

مما سبق يتضح لنا بأن التزوير في المحررات يقوم على عدة عناصر قانونية تتمثل في تغيير الحقيقة ، وهذا التغيير يكون محله محرراً سواء أكان عرفياً أو رسمياً ، ويتعين أن تكون وسيلته هي إحدى الطرق القانونية التي أوردها القانون على سبيل الحصر ، وينبغي أن يكون من شأنه إحداث ضرر ، ويجب أن يقترن التزوير بالقصد الجنائي الخاص الذي يفترض فيه استعمال المحرر فيما زور من أجله .

والعلة في تجريم التزوير في المحررات تعزى إلى أنه يؤدي إلى إهدار الثقة العامة فيها مما ينعكس سلباً على استقرار المعاملات وسائر مظاهر الحياة القانونية في المجتمع . فمن المعروف أن كافة التصرفات تصاغ في قالب كتابي ، والكتابة هي الوسيلة الرئيسية لإثبات الحقوق ، ولا يتاح للكتابة أن تؤدي الدور المنوط بها إلا إذا منحها الناس ثقتهم ، وآمنوا بصدق البيانات التي تثبتها .أما إذا أحجم الناس عن الاعتماد على الكتابة نظراً لعدم صدق البيانات التي تثبتها وتعارضها مع الحقيقة فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى اضطراب المعاملات وكثرة التعقيدات وزيادة المنازعات وعدم الاستقرار.

الأركان العامة للتزوير في المحررات
تتمثل الأركان ومن خلال التعرف والمفاهيم التي وردت بنصوص المواد سالفة الذكر في أربع اركان رئيسية وهي الركن المادي متمثلاً في تغيير الحقيقة بإحدى الطرق التي أوردها القانون على سبيل الحصر ، ومحل التزوير هو المحرر الذي ينصب عليه النشاط الإجرامي أو فعل التزوير ، وركن الضرر الناجم عن تغيير الحقيقة ، وأخيراً الركن المعنوي ويتخذ صورة القصد الجنائي الخاص والقصد الجنائي العام .وسوف نخصص لكل ركن فرعاً مستقلاً لدراسته بالتفصيل .

الركن المادي للتزوير
لقد اشترط القانون وجوب توافر عنصرين لقيام الركن المادي وهذان العنصران هما : تغيير الحقيقة وهذا العنصر يمثل النشاط الإجرامي . أما العنصر الثاني فهو وسيلة النشاط متمثلة بالطرق المستعملة في التزوير والتي أوردها القانون على سبيل الحصر.
أولاً : تغيير الحقيقة :
إن الأساس في التزوير هو تغيير الحقيقة وهو الفعل الإجرامي الذي يقوم به التزوير في المحررات ، ومن ثم إذا لم يكن هنالك تغييراً للحقيقة ، فلا مجال للقول بقيام التزوير نظراً لانتفاء الفعل الإجرامي ، وذلك بأنه لا جريمة بغير فعل إجرامي يقوم به الجاني .
*المقصود بتغيير الحقيقة: يقصد بتغيير الحقيقة إبدالها بما يغايرها . فلا يعتبر تغييراً لها أي إضافة لمضمون المحرر أو حذف منه طالما ظلت الحقيقة المنبعثة منه بنفس حالتها قبل الإضافة أو الحذف . وبناءً عليه لا يعتبر تغييراً في الحقيقة حذف عبارة مكررة في المحرر أو إضافة عبارة تزيد المعنى المقصود وضوحاً لأن الحقيقة المدونة في السند لم تزل على حالتها.
ولا يشترط القانون التغيير الكلي للحقيقة لقيام التزوير ، بل يكتفي بأقل نصيب من تغيير الحقيقة ، فإذا لم يكن في المحرر غير بيان واحد مخالف للحقيقة وكانت سائر البيانات الأخرى صحيحة ، يعتبر ذلك تزويراً ، ويتوافر التزوير من باب أولى إذا كان بعض البيانات مغايرة والبعض الآخر مطابقاً لها.
وتطبيقاً لذلك ، فإنه إذا عهد شخص معين إلى شخص آخر بأن يدون محرراً أملاه عليه ، فأثبت جميع بياناته على الوجه الذي أملى عليه ، عدا تاريخ المحرر الذي غيره ، كي يجعله خاضعاً لقانون غير القانون الساري وقت تحريره ، أو غير مكانه كي يجعل الاختصاص بالنزاع الذي قد يثور بشأنه لمحكمة مختلفة ، فإن التزوير يعد متحققاً بذلك ، على الرغم من مطابقة البيانات الأخرى للحقيقة مطابقة تامة .
كما أنه تقوم جريمة التزوير بالمحرر إن كان واضحاً ولا يتطلب بان يكون خفياً أو غامضاً ولا يستلزم جهداً في كشفه أو أنه متقن ما دام أن تغيير الحقيقة في كلا الحالتين يجوز أن ينخدع به بعض الناس.
ومن الملاحظ أن لتغيير الحقيقة في مجال التزوير مدلولاً خاصاً لا يتسع لكافة حالات الكذب المكتوب ، فهو ينصرف فحسب إلى التغيير الذي يمس حقاً أو مركزاً قانونياً للغير . أما إذا كانت البيانات التي أثبتها المتهم لا تتعلق سوى بمركزه نفسه ، فلا تقوم جريمة التزوير لتخلف النشاط الإجرامي المتمثل في تغيير الحقيقة بمعناها القانوني.

ثانياً : طرق التزوير:-
لقد نص قانون العقوبات المطبق لدينا على طرق التزوير في المادة (334) . ووردت تلك الطرق على سبيل الحصر ، ونستخلص بأن هذه الطرق نوعان : النوع الأول مادي وهو الذي يطال مادة المحرر وشكله فيترك أثراً مادياً يدل على العبث بالمحرر ، وقد يدرك هذا الأثر بالحواس المجردة ، وقد لا يمكن إدراكه بالحواس ويستعان بالخبرة الفنية للتحقق من وجوده.
أما النوع الثاني فهو معنوي ويتحقق بتغيير مضمون المحرر أو ظروفه أو ملابساته دون المساس بمادته أو شكله فلا تتخلف عنه آثار ظاهرة – مثل الكشط أو المحو أو الطمس – يدركها الإنسان بالحواس.
والتزوير المعنوي لا يقع إلا من كاتب المحرر أثناء قيامه بتحريره ، فهو يفترض أن الجاني قد عهد إليه بكتابة المحرر وتدوين بيانات معينة فيه فأثبت به بيانات مخالفة . أما بالنسبة للتزوير المادي فهو كما يقع من كاتب المحرر ، قد يقع من غيره ، والغالب أن يتم وقوعه لاحقاً بعد الفراغ من تدوين المحرر.

محل التزوير (المحرر)
المحرر هو محل جريمة التزوير ، فهو موطن الحماية التي يقررها القانون بالعقاب على التزوير ، ذلك أن فحواه هو الحقيقة التي يريد حمايتها ، وهو الموضوع الذي ينصب عليه فعل تغيير الحقيقة بإحدى الطرق التي نص عليها القانون على سبيل الحصر .
وبناءً عليه إذا انتفى المحور فلا محل للتزوير مهما كان التغيير في الحقيقة ، وإن جاز أن تقوم بذلك التغيير جريمة أخرى كشهادة الزور أو الغش في المعاملات .
ولأن محل التزوير هو المحرر فكان لزاماً علينا أن نشير إلى مفهوم المقصود من المحرر الذي لم يرد بالقانون المطبق لدينا نص يوضح ماهية المحرر ، ولكن استكفى بأن يوضح مفهوم لفظ مستند حيث جاء بنص المادة (333) بأن ” لفظة مستند الواردة في هذا القسم من القانون لا تشمل العلامة القانونية أو أية علامة من العلامات الأخرى التي تستعمل فيما يتعلق بالمواد التجارية وإن كانت تلك العلامة محرر ة أو مطبوعة ”
إذن المشرع لم يعرف المستند (المحرر) بل فقط تحث عن استثناء العلامات التجارية وأي علامات أخرى من مجال التزوير في المحررات . والحكمة من هذا الاستثناء تتمثل في إفراد نصوص خاصة تتعلق بتجريم تزوير العلامات التجارية والعلامات الأخرى التي لها علاقة بالتجارة .
كما أن المحررات لها أنواع وهي : مخطوطاُ ويعني ذلك كتابته بخط اليد وتغيير الحقيقة في هذا النوع من المحررات هو من غير شك أو ضح حالات التزوير.
وقد يكون المحرر مطبوعاً ، ولذلك صورتان : أن يكون المحرر مطبوعاً في جزء منه ومتروكاً على بياض في جزء لكي تملأ الفراغات بخط اليد أو بالآلة الكاتبة .

ركن الضرر
الضرر ركن جوهري في أركان جريمة التزوير ، فإذا انتفى الضرر لا قيام لجريمة التزوير ولو تحققت باقي أركان الجريمة . ذلك لأن التزوير لا عقاب عليه في القانون إلا إذا كان ضاراً بالغير .
ولأهمية ركن الضرر فلا بد لنا أن نتطرق لثلاث عناصر رئيسية وهي : المقصود بالضرر وأنواعه ، ثم بيان ضابط الضرر وأخيراً نوضح مدى توافر الضرر في المحررات الباطلة.
أولاً : المقصود بالضرر وأنواعه :
1-المقصود بالضرر:-
يعرف الضرر بأنه إهدار لحق أو مصلحة يحميها القانون . إلا أنه لا يشترط في الضرر أن يصيب شخصاً يقصده المزور ، بل يكفي أن يحل الضرر بشخص ما . وتطبيقاً لذلك ، قضي بأنه إذا استهدف الجاني أن ينال تزويره شخص معين فنال شخصاً آخر قام التزوير على الرغم من ذلك . ولا يشترط في الضرر بأن يكون على درجة كبيرة من الجسامة ، فأدنى درجة من الجسامة كافية لتوافر الضرر وبالتالي قيام جريمة التزوير.
وينتفي التزوير بانتفاء الضرر حتماً ، وحالات انتفاء الضرر لا يمكن لنا حصرها أو تقنينها في قاعدة عامة . وسنقوم فيما يلي ببيان أهم حالات انتفاء الضرر :-
ففي حالة انتفاء الحق أو غياب المصلحة التي يمكن تغيير الحقيقة في المحرر إهدارها ، ينتفي التزوير نظراً لانتفاء الضرر ، والمثال على ذلك : أن يصطنع شخص محرراً يدعي فيه لنفسه أو لغيره حقاً في ذمة شخص خيالي ليس له وجود في الواقع ، وقام بوضع إمضاء أو خاتم نسبه إلى ذلك الشخص المزعوم ، فهو لا يكون مسئول عن تزوير ، لأن المحرر مجرد من القيمة القانونية ، ولا وجود لمصلحة أو حق يمسها.
كما لا تزوير لانتفاء الضرر إذا كان تغيير الحقيقة في المحرر قد تم بشكل ظاهر مفضوح بحيث لا يؤدي إلى انخداع أحد ، فلا وجود للضرر وبالتالي لا قيام لجريمة التزوير في مثل هذه الحالة.
وينتفي الضرر إذا استهدف الجاني بالتزوير إنشاء سند لإثبات مركز قانوني حقيقي ، بشرط أن يكون الحق المتولد من هذا المركز ثابتاً وقت الفعل ولا نزاع حول وجوده أو استحقاقه . وتطبيقاً لذلك إذا قام المدين بأداء كل ما عليه من دين ولم يحصل على مخالصة تثبت هذا الوفاء الكامل ، فاصطنع مخالصة تثبت الوفاء ووضع عليها إمضاء مزور نسبة إلى دائنه السابق ،فلا يعتبر مزوراً ولا تقوم بفعله جريمة التزوير ، والسبب في ذلك بأنه لم يعد ثمة مجال للقول بمساس بحق أو مصلحة يحميها القانون .

2-أنواع الضرر:-للضرر أنواع عديدة فقد يكون الضرر محققاً أو محتملاً وقد يكون مادياً أو معنوياً ، وقد يكون فردياً أو اجتماعياً ولقد ساوى القانون بين تلك الصور المختلفة للضرر.

أ-الضرر المحقق والضرر المحتمل :– يقصد بالضرر المحقق الضرر الواقع بالفعل ، وهو لا يتصور إلا إذا تم استعمال المحرر المزور فيما زور من أجله . أما بالنسبة للضرر الاحتمالي فهو الضرر الذي لم يتحقق فعلاً ، ولكن وقوعه منتظر وشيك الوقوع وفق السير العادي للأمور.
والضرر الاحتمالي كاف في إجماع الفقه والقضاء لقيام جريمة التزوير ، وذلك أن وقوع الضرر الفعلي باستعمال المحرر المزور جريمة أخرى قائمة بذاتها يعاقب عليها القانون في معظم التشريعات الجنائية الحديثة وإن لم يكن في جميعها.
والعبرة في تقدير احتمال الضرر إنما تكون بالوقت الذي وقع فيه تغيير الحقيقة في المحرر. باعتباره الوقت الذي تتم فيه الجريمة . فإذا كان الضرر في هذا الوقت محتملاً وتوافرت أركان الجريمة الأخرى قامت مسئولية المتهم عن جريمة التزوير بصرف النظر عما قد يطرأ بعد ذلك من ظروف أو أسباب يمكن أن تحول دون وقوع الضرر أو تقضي على احتمالات وقوعه . وبناءً عليه يتوافر الضرر ولو أجاز المجني عليه لاحقاً الإمضاء المزور وصدق عليه ، ومن ثم يسأل الجاني عن جريمة التزوير . كما يتوافر الضرر إذا تنازل المتهم عن الورقة المزورة بعد تقديمها ، وتقوم في حقه جريمة التزوير.
لكن إذا كان الضرر مستحيل التصور وفقاً لمعيار الرجل العادي في الوقت الذي تم فيه تغيير الحقيقة فلا تزوير في الأمر ، مهما طرأت بعد ذلك من أسباب أو ظروف كان من شأنها أن تجعل ترتب الضرر على تغيير الحقيقة الذي وقع محتملاً.

ب-الضرر المادي والضرر المعنوي:الضرر المادي هو ذلك الضرر الذي يصيب الشخص في أمواله ، سواء كان بإنقاص العناصر الايجابية لذمته المالية أو بطريق زيادة العناصر السلبية في تلك الذمة المالية.
والضرر المادي هو أكثر أنواع الضرر وقوعاً ، فالمزور غالباً ما يستهدف ثروة الغير . وأهم تطبيقات الضرر المادي تزوير عقد بيع أو رهن أو إيجار أو مخالصة عن دين . ولا يلزم بأن يكون الضرر المادي الناجم عن تغيير الحقيقة جسيماً بل يكفي أي قدر من الضرر ولو كان ضئيلاً للقول بوقوع الضرر أو احتمال وقوعه.
أما الضرر المعنوي فهو الذي يمس السمعة أو يصيب الشخص في شرفه واعتباره ، فهو ينصب على مصلحة ليس ذات قيمة مادية . ومن التطبيقات العملية على هذا النوع من الضرر قيام شخص بتزوير عقد زواج عرفي زاعماً فيه أن امرأة قبلت الزواج منه ، ووضعه توقيعاً مزوراً باسمها على هذا العقد .وكذلك أن يصطنع شخص محرراً ينسبه إلى شخص آخر ويضمنه اعترافه بارتكاب جريمة أو اقتراف فعل مخل بالحياء والأخلاق .

ج-الضرر الفردي والاجتماعي:-الضرر الفردي هو ذلك الضرر الذي يصيب شخصاً معيناً سواء مادياً أو معنوياً ، ويقصد بالشخص في معرض حديثنا عن الضرر الفردي الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري . والضرر الفردي هو أكثر صور الضرر شيوعاً وتحققاً في الحياة العملية . ومن أمثلته : قيام شخص بتزوير مخالصة بالوفاء بدين مستحق الأداء ، أو بتزوير عقد رهن ، أو قيام محصل إحدى الشركات الخاصة بتزوير أوراقها للعدوان على بعض أموالها.
أما الضرر الاجتماعي هو ما استحال نسبة أذاه إلى شخص أو أشخاص معينة ، لأنه يمس المجتمع بأسره ، وقد يطال المصالح المادية أو المعنوية للدولة على اعتبار أنها تمثل المجتمع ، ولهذا الضرر نوعان :- نوع مادي ونوع معنوي . فالضرر الاجتماعي المادي يتحقق بقيام شخص بتزوير محرر يستهدف التخلص من الضريبة أو رسم أو غرامة ، أ وتزوير سند دين على خزينة الحكومة.
ومن أهم تطبيقات الضرر الاجتماعي المعنوي ما استقر عليه الفقه والقضاء من اعتبار كل تغيير للحقيقة في محرر رسمي منتجاً بذاته ضرراً اجتماعياً أدبياً ، يتمثل في الإقلال من الثقة التي يجب أن تحظى بها تلك المحررات من قبل الناس . وبناءً عليه يعتبر تزويراً قيام شخص بانتحال شخصية زميل له وأداء الامتحان بدلاً منه ، لأن هذه الصورة تشكل ضرراً اجتماعياً أدبياً ، ويتوافر الأذى الاجتماعي الأدبي تقوم جريمة التزوير إذا توافرت الأركان الأخرى التي نص عليها القانون.

ثانياً : مدى توافر الضرر في المحررات الباطلة : يقصد بالمحررات الباطلة ذلك النوع من المحررات الذي أصابها عيباً من العيوب أدى إلى بطلانها مستقلاً عن التزوير . ومثال بطلان المحرر الرسمي قيام موظف غير مختص بتحريره ، أو عدم مراعاة الإجراءات التي أوجب القانون تحريره وفقاً لها . ويلحق البطلان بالمحرر العرفي ، في حالة تحريره من شخص ليس له أهلية تحريره كناقص الأهلية أو عديم الأهلية، أو كان المحرر متضمناً تصرفاً مخالفاً للنظام العام أو حسن الآداب . فكل تلك الأسباب التي أدت إلى البطلان لا علاقة لها بالتزوير ، فالبطلان يرجع إلى تلك الأسباب فقط .
والسؤال الذي يثور بصدد مدى توافر الضرر في حالة تزوير تلك المحررات ، فهل يعتبر بطلان المحرر استقلالاً عن تزويره ، ينفي احتمال وقوع الضرر إذا تم تغيير الحقيقة في المحرر ، وبالتالي تنتفي جريمة التزوير؟

هنالك اختلاف كبير في الفقه حول قيام جريمة التزوير من عدمه عند تغيير الحقيقة في محرر باطل أو قابل للإبطال عند تحريره . والرأي الراجح في الفقه يقول بأن توافر الضرر في حالة تزوير المحررات الباطلة مسألة موضوعية ، تدخل في دائرة اقتناع القاضي (قاضي الموضوع) حسبما يتراءى له من ظروف الواقع في كل مسالة على حدتها.
فإن قدر قاضي الموضوع ترتب الضرر أو احتماله عن التزوير المحرر الباطل وقع التزوير واستحقت العقوبة المقررة له ، وذلك شريطة توافر باقي الأركان الأخرى .
وهذا ما يتحقق في الأعم الأغلب في المحررات الباطلة بطلاناً مطلقاً والمحررات القابلة للإبطال لسبب خفي يتعذر على الشخص العادي اكتشافه.
وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض المصرية بأن البطلان اللاحق بالمحرر بسبب عدم اختصاص من نسب إليه المحرر (وهو ما يرتب البطلان المطلق) مما تفوت ملاحظته على كثير من الناس فإنه يجب العقاب على التزوير الحاصل فيه باعتباره محرراً رسمياً لتوقع حصول الضرر بسببه على كل حال.
وقضت أيضاً بأن اصطناع إيصال ونسبة صدوره إلى قاصر يكون تزويراً معاقباً عليه لاحتمال الضرر (مع ملاحظة بأن هذا السند قابل للبطلان لمصلحة القاصر).
أما إذا كان سبب بطلان المحرر ظاهراً إلى حد يسمح لكل شخص بالوقوف عليه ، فإن تغيير الحقيقة في المحرر الباطل أو القابل للإبطال لا يعد تزويراً مثل هذه الحالة ، لانتفاء الضرر الاحتمالي .
خلاصة الحديث تتمثل في أنه يصعب وضع قاعدة مطلقة يسترشد بها القضاء في الفصل فيما يعد تزويراً وفيما لا يعد في تغيير الحقيقة في المحررات الباطلة ، فالمسألة موضوعية تتوقف على توافر الضرر أو احتماله في كل حالة على حدتها وفق الظروف الخاصة بوقائع كل حالة.

الركن المعنوي “القصد الجنائي”
إن جريمة التزوير من الجرائم العمدية التي يلزم لقيامها قانوناً أن يتوافر فيها الركن المعنوي متمثلاً في القصد الجنائي . إلا أن القصد الجنائي المتطلب توافره في هذه الجريمة هو القصد الخاص والذي يفترض دائماً توافر القصد العام . وتأسيساً على ذلك فإن دراستنا للركن المعنوي سنتناول فيها بيان القصد العام في جريمة التزوير ثم نستعرض القصد الخاص الواجب توافره في التزوير إلى جانب القصد العام .

أولاً : القصد العام : ويتكون هذا القصد من عنصرين : العلم والإرادة . فيجب أن يتوافر لدى الجاني العلم بكافة أركان الجريمة ، فالقاعدة إن انتفاء العلم بأحد هذه الأركان ينفي القصد سواء أكان ذلك راجعاً إلى غلط في الواقع أو في القانون ، طالما كان هذا الغلط بعيداً عن نص التجريم ذاته.
وتأسيساً على ذلك ، فيجب أن يعلم الجاني بأنه يغير الحقيقة في محرر وأن يتوافر لديه كذلك العلم بأن تغيير الحقيقة يتم بطريقة من الطرق التي حددها القانون على سبيل الحصر. ومن الملاحظ أن علم المتهم بذلك مفترض إذ لا يقبل من المتهم الاعتذار بجهله بهذه الطرق ، لأن طرق التزوير واردة في ذات النصوص التي يعاقب على أساسها المتهم والعذر بالجهل بالقانون لا يقبل إلا إذا كان بعيداً عن نص التجريم .
ويتطلب القصد الجنائي أيضاً علم الجاني بأن من شأن تغيير الحقيقة إحداث ضرر بالغير سواء أكان الضرر حالاً أو محتمل الوقوع . ومن ذلك يتضح أن القانون لا يتطلب علم المتهم بالضرر الذي ترتب فعلاً على تغيير الحقيقة ، ولا يتطلب علمه بأن تغيير الحقيقة لا بد أن يؤدي إلى حدوث ضرر ، ولكنه يكتفي بالعلم بالضرر الاحتمالي . فإذا كان الجاني لحظة تغيير الحقيقة جاهلاً أن من شأنه أن يرتب ضرراً للغير أو مقتنعاً باستحالة أن يترتب عليه الضرر ، انتفى لديه القصد الجنائي لانتفاء العلم بأحد أركان الجريمة ألا وهو ركن الضرر.
إلى جانب عنصر العلم ، فلا بد أن يتوافر عنصر الإرادة والمتمثلة في اتجاه إرادة الجاني إلى الفعل المكون للجريمة ، والنتيجة المترتبة عليه ، ويعني ذلك اتجاه الإرادة إلى فعل تغيير الحقيقة وإلى أثره المتمثل في اشتمال المحرر على بيانات مخالفة للحقيقة . وبناءً عليه من يريد إثبات بيان في محرر ويكون تدوينه في ذلك المحرر لا يتضمن تغييراً للحقيقة ، ولكنه يضعه خطأ في محرر آخر يعد اشتماله عليه مشوهاً للحقيقة فيه لا يعد القصد متوافراً لديه ، لأن إرادته لم تكن تتجه إلى أن يتضمن المحرر الثاني بياناً مخالفاً للحقيقة ومن تدس عليه ورقة تتضمن بيانات يعلم أنها مخالفة للحقيقة ، فيوقع عليها دون أن يقرأها ، ومعتقداً أنها ورقة أخرى لا يتوافر لديه القصد الجنائي.

ثانياً : القصد الخاص: لقد تطلب القانون توافر القصد الخاص لدى الفاعل إلى جانب القصد العام للقول بتوافر الركن المعنوي وبالتالي قيام التزوير إذا توافرت سائر الأركان الأخرى . ويتمثل القصد الخاص في اتجاه نية الجاني إلى تحقيق غاية معينة من ارتكاب الركن المادي ، والنية التي يقوم بها القصد الخاص هي نية استعمال المحرر المزور فيما زور من أجله ، أي الاحتجاج به على اعتبار أنه صحيح . فهذه النية هي التي تكسب التزوير خطورة تبرر العقاب عليه ، ولذلك فإن انتفاءها يفيد تخلف القصد الجنائي.
وتطبيقاً لذلك ، لا يسأل من يقوم باصطناع كمبيالة مزورة لتوضيح الشكل الذي يتطلبه القانون في الكمبيالات أو إثبات مهارته في التقليد أو مجرد المزاح ، والفرض أن نيته لم تتجه إلى الاحتجاج بالكمبيالة المزورة على من زورت عليه .
واستخلاص هذه النية تقع ضمن سلطة قاضي الموضوع التقديرية ، وهو يستعين على ذلك بالقرائن التي تحيط بالفعل . ويعد تمزيق المحرر بعد تزويره وجعل استعماله مستحيلاً من أهم هذه القرائن.
ولا عبرة للباعث على ارتكاب التزوير سواء كان باعثاً نبيلاً أو وضيعاً أو لمجرد كسل معين واقتصاد للوقت قام بذلك الفعل فإن تلك البواعث لا عبرة لها طالما توافر القصد الجنائي بعنصرية العام والخاص فإن الجريمة تقوم بهما ولا تأثير لأي باعث عليها.

الأحكام الخاصة بالعقاب على التزوير
إن قانون العقوبات المطبق لدينا استهل أحكام العقاب على جريمة التزوير بالنص العام وهي عقوبة الجنحة وذلك ما نصت عليه المادة (336) .
قم فرق في المواد المختلفة بين التزوير الذي يقع في بعض المستندات مثل السفتجة والسجلات القضائية وبوليصة التأمين على الحياة …. الخ وفرض عقاباً بالحبس المؤبد على من يزور تلك المستندات هذا ما نصت عليه صراحة المادة(337) . وبين التزوير الذي يقع في المستندات الرسمية أو القضائية واعتبر العقوبة في مثل هذه الأحوال الحبس مدة عشر سنوات كما جاء صراحة بنص المادة (338).

وأخيراً وضع عقوبة موحدة وهي الحبس لمدة سبع سنوات لكل من زور طابعاً حكومياً ، أو حمل الغير على إمضاء المستندات بادعاءات كاذبة ، ومن قام بمحو تسطير الشيكات ، ومن نظم مستندات بدون تفويض ، وكذلك من قام بالمطالبة بالأموال بناء على بيانات كاذبة ، ومن كان موظفاً ونظم أو أعطى مستندات دفع مستحقة على سلطة عامة تزيد أو تقل عن المبلغ المستحق لذلك الشخص ، وأخيراً إدخال البيانات غير الصحيحة في السجلات الموجودة في العهدة وذلك ما نصت عليه تفصيلاً المادة (339) بفقراتها السبعة من قانون العقوبات المطبق لدينا بقطاع غزة .
مما سبق فإننا نلاحظ قصوراً واضحاً وقع فيه المشرع وذلك لأنه لم يوضح عقوبة السندات العرفية وبما أنه حدد السندات الرسمية فإنه وبمفهوم المخالفة أن السندات العرفية تطبق عليها عقوبة التزوير العامة المادة (336) وهذا يحتاج لإعادة نظر من قبل المشرع كون أن هناك سندات عرفية مثل البيوع التي تصدر عن المحامين من الممكن أن يسبب ضرراً محدقاً ومجحفاً بحق الغير ويتكبد بخسارة كبيرة جداً بسبب تزوير ما ورد بعقد البيع وتجد أن الخسارة الكبيرة لا يتناسب معها العقوبة المقررة لتلك الجريمة والتي لم يحددها المشرع بأية مدة كحد أدنى أو أعلى واكتفى بأنه ذكر أنها جنحة أي لا تتعدى عقوبتها الثلاث سنوات والأمر هنا تركه المشرع للقاضي وهذا يعتبر قصوراً شديداً في النص على عقوبة التزوير.
كما أنه لم يوضح الفرق ما بين السندات الرسمية والعرفية حيث جاء بنص المادة (337) ذاكراً على سبيل الحصر عدة جرائم واعتبر عقوبتها الحبس المؤبد ، ولم يحدد أي من المستندات تنطبق عليها أنها رسمية وأي منها يعتبر عرفياً .
لذلك مما سبق يمكن لنا أن نقول بشكل عام بأن لتوضيح الفرق ما بين السندات الرسمية والسندات العرفية أن السند الرسمي هو الذي يصدر أو الذي ينسب صدوره إلى موظف عام مختص. أما السند العرفي هو كل سند لا يصدر عن موظف عام وكذلك يدخل في عداد المستندات العرفية كل مستند يصدر عن موظف عام أو ينسب صدوره إلى الموظف العام غير مختص بتحريره.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت