تعريف القضاء وفقاً للنظام السعودي .

القضاء: تعريفه وخطورته
الشيخ الدكتور عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي

برنامج فقه التقاضي
الحلقة الأولى
(القضاء تعريفه – خطورته)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصَحْبه، ومَن اهتدى بهداه.

أمَّا بعدُ:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم “فقه التقاضي”، وفي هذا البرنامج نَستعرض جُملة من المسائل والأحكام المتعلِّقة بالقضاء والتقاضي، والله المسؤول أن يوفِّقنا إلى صالح القول والعمل.

والقضاء لغةً: إحكام الشيء، والفراغ منه، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 12]، وهو مصدر قضَى يَقضي، فهو قاضٍ، إذا حكَم.

والقضاء في الاصطلاح: “تَبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفَصْل الحكومات”.

فقولنا: تبيينُ الحكم الشرعي، وهذا مشترك بين القاضي والمُفتي، فكلُّ واحدٍ منهما يُخبَر بالحكم الشرعي في المسألة المعروضة عليه، لكنَّ المفتي لا يُلزم بها، أمَّا القاضي، فإنه يُلزم بالحكم الذي أجراه؛ لأنَّ هذه ثمرة القضاء والفصلِ بين الناس.

ووظيفة القضاء فَرْضُ كفاية باتفاق العلماء.

وقال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -: “لا بدَّ للناس من حاكم؛ لئلا تَذهب حقوق الناس، ولفِعل النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة، وللحاجة إلى ذلك.

وقد تكاثَرت نصوص الكتاب والسنة الدالة على مشروعيَّة القضاء والأمر به، وذِكر فضْله، مع بيان أنَّ ذلك لِمَن قام به حقَّ القيام، واجتهَد في إصابة الأحكام؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49].

وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105].

وقال: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ﴾ [ص: 26].

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾ [النساء: 135]؛ قال الإمام القرطبي في تفسيره (15/ 124): “هؤلاء الآيات هنَّ أصل الأَقْضِيَة”؛ ا. هـ.

وقد وَلِي النبي – صلى الله عليه وسلم – القضاء بنفسه، وكذا الأنبياء قبله؛ لأهميَّته وفضله، ثم تولاَّه أكابر الصحابة وفُضلاؤهم؛ كعُمر، وعلي، ومعاذ، وأبي موسى، وابن مسعود – رضي الله عنهم – وكتَب عمر – رضي الله عنه – لعُمَّاله: “استَعْملوا صالحيكم على القضاء واكْفُوهم”؛ انظر فتح الباري، (13/ 129).

وبوَّب البخاري في صحيحه: باب أجْر مَن قضى بالحكمة؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47].

وساق بإسناده عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسَلَّطه على هَلَكته في الحقِّ، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويُعلِّمها))؛ قال ابن حجر: “وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لِمَن استجمَع شروطه، وقَوِي على أعمال الحقِّ، ووجَد له أعوانًا؛ لِما فيه من الأمر بالمعروف، ونَصْر المظلوم، وأداء الحقِّ لِمُستحقه، وكفِّ يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكلُّ ذلك من القُربات؛ فلذلك تولاَّه الأنبياء ومَن بعدهم من الخلفاء الراشدين، ومِن ثَمَّ اتَّفقوا على أنَّه من فروض الكفاية؛ لأن أمرَ الناس لا يستقيم دونه، وإنما فرَّ مَن فرَّ منه؛ خشية العجز عنه، وعند عدم المُعين عليه”؛ ا. هـ؛ الفتح، (13/ 129).

كما روى الشيخان من حديث عمرو بن العاص أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا اجتهَد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهَد فأخطَأ، فله أجر)).

وفيه بيان أجْر الحاكم إذا اجتهَد، والاجتهاد هنا: هو استفراغ الطاقة والوُسع في البحث والنظر في القضيَّة، مع استجماع الأدلة الشرعيَّة، وتنزيل القواعد المرعيَّة.

وعن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن المقسطين عند الله تعالى على منابرَ من نورٍ على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يَعدلون في حكمهم، وأهليهم وما وَلُوا))؛ رواه مسلم.

وقال عمر – رضي الله عنه – في رسالته المشهورة لأبي موسى: “فإنَّ القضاء عند مواطن الحق يُوجب الله به الأجر، ويُحسن به الذُّخر”.

وقد جاءَت نصوص للترهيب من القضاء، وبيان ما فيه من الشِّدة والبلاء، لا للإعراض عنه والتخلِّي عن تولِّيه لِمَن وَلِي القضاء، ولَم يَسأله، وإنما لتهيئة مَن ابتُلِي به، وإعداد نفسه له، فمن ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن وُلِّيَ القضاء، فقد ذُبِح بغير سِكِّين))؛ رواه أصحاب السُّنن، وصحَّحه ابن خُزيمة.

قال ابن الصلاح: “المراد من حيث المعنى؛ لأنه بين عذاب الدنيا إن رشَد، وعذاب الآخرة إن فسَد”؛ ا.هـ.

وقال الصنعاني: “دلَّ الحديث على التحذير من ولاية القضاء، والدخول فيه، والمراد مِن ذَبْح نفسه: إهلاكها؛ فإنه إنْ حكَم بغير الحقِّ مع عِلمه به، أو جَهْله له، فهو في النار، وهو إن أصاب الحق، أتعَب نفسه في الدنيا؛ لاستقصاء ما يجب عليه رعايته”؛ ا.هـ؛ سُبل السلام (4/220)، وانظر عون المعبود (9/ 352).

وروى مسلم عن أبي ذرٍّ – رضي الله عنه – قال: قلتُ: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: ((إنَّك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزي وندامة، إلاَّ مَن أخَذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه منها)).

قال النووي: “هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيَّما من كان فيه ضَعْف، وهو في حقِّ مَن دخَل فيها بغير أهليَّة، ولَم يَعدل؛ فإنه يَندم على ما فرطَ منه إذا جُوِزي بالخِزي يوم القيامة، وأمَّا مَن كان أهلاً وعدَل فيها، فله فضلٌ عظيم، تظاهَرت به الأحاديث الصحيحة”؛ شرح مسلم (12/ 452).

وبجَمْع نصوص الترهيب إلى نصوص الترغيب، يتبيَّن عظيم الأجر لِمَن اجتهَد في الوصول إلى الحق وأداء المسؤولية، مع عظيم الخطر لِمَن قصَّر في ذلك؛ مما يدفع بالقاضي المؤمن إلى السعي الدائم لسلوك مسالك النجاة، وطَرْق طرائق الحقِّ وأسبابه.

قال ابن فرحون في تَبصرة الحُكام: “وأمَّا قوله – صلى الله عليه وسلم-: ((مَن وُلِّي القضاء، فقد ذُبِح بغير سكين))، فقد أورَده أكثر الناس في مَعرض التحذير من القضاء”.

وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث دليلٌ على شرف القضاء وعظيم منزلته، وأن المتولي له مجاهدٌ لنفسه وهواه، وهو دليل على فضيلة مَن قضى بالحقِّ؛ إذ جعَله ذبيحَ الحقِّ امتحانًا؛ لتَعظم له المثوبة امتنانًا، فالقاضي لَمَّا استَسْلَم لحكم الله، وصبَر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتها، فلم تأْخُذه في الله تعالى لومة لائمٍ؛ حتى قادَهم إلى مُرِّ الحق وكلمة العدل، وكفَّهم عن دواعي الهوى والعناد – جُعِل ذبيحَ الحقِّ لله، وبلَغَ به حال الشهداء الذين لهم الجنة”؛ انتهى كلامه – رحمه الله تعالى.

والخلاصة أيها المستمعون والمستمعات، أنَّ القضاء بين الناس وظيفة سامية، أجرها عظيم لِمَن قام بحقِّها، وخطرها جسيم لِمَن تهاوَن بها، أو دخَل في القضاء وهو لا يُحسنه، أو قضى بغير الحق عمدًا وظُلمًا؛ عياذًا بالله تعالى من كلِّ سوء.

مستمعي الأفاضل، هذا ما تيسَّر ذِكره في هذه الحلقة، وموعدنا في الحلقة القادمة – بإذن الله تعالى – لنواصل الحديث حول القضاء وآدابه، وما يَلزم القاضي في عمله.

وحتى ذلك الحين، أستودعكم الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهم المراجع:

التبصرة، حاشية ابن قاسم، رسالة للقضاة؛ للغفيلي.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت