ما هي الشروط الواجب توافرها في القاضي حسب النظام السعودي .

شروط القاضي
الشيخ الدكتور عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي

(شروط القاضي)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصَحْبه، ومَن اهتدى بهداه.

أمَّا بعدً:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم “فقه التقاضي”، وقد أسلَفت في الحلقة الماضية بيان المراد بالقضاء وأنه: “تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الحكومات”، وأنه فَرْض كفاية في الأُمة؛ إذ لا بدَّ للناس من قاضٍ يَحتكمون إليه في خصوماتهم، وما يَنوبهم من أمور يَلتبس فيها الحق بالباطل، والنفوس مبنيَّة على المُشاحَّة.

وقد وَلِي النبي – صلى الله عليه وسلم – القضاء بنفسه، ووَلَّى عددًا من أصحابه القضاء.

ولا غِنى لأيِّ دولة مِن توفُّر قضاءٍ عادلٍ، يُقيم الحقوق، ويَردُّ المظالِم.

وفي هذه الحلقة أُورد لكم مستمعي الأكارم، الشروط التي اشترَطها الفقهاء فيمَن يُولَّى وظيفة القضاء؛ لِما في هذه الوظيفة من الخطورة والمسؤوليَّة.

ومن المعلوم أنَّ كلَّ ولاية أو وظيفة، لا بدَّ من توفُّر ركنين رئيسين فيها، وهما: القوة، والأمانة، القوة على ذلك العمل، والأمانة فيه، فالعمل الذي يتطلَّب العلم، لا بدَّ أن يكون المتولِّي له عالِمًا، والذي يَعتمد قوَّة البدن، لا بد أن يكون متولِّيه قَوِيَّ البدن، ولا بد أن يكون أمينًا؛ لأنَّ مَن ليس بأمينٍ، لا يُمكن أن يُنفذ العمل على الوجه المرضي، ويدلُّ على هذين الركنين ما ورَد في القرآن الكريم من قول العفريت من الجن لسليمان – عليه السلام – لَمَّا قال: ﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]، ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِي ﴾ [النمل: 39].

وقوله تعالى عن ابنة صاحب مَدْيَن: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].

ومن الأعمال المهمَّة في كلِّ دولةٍ وظيفة القضاء، فلا بدَّ أن يكون القاضي قويًّا وأمينًا، وهذا من حيث الأصل والعموم، وقد ذكَر علماء الإسلام أنَّ هناك شروطًا يَلزم توفُّرها في القاضي الذي يُولَّى هذه الوظيفة، وإليكموها مستمعي الأفاضل باختصار:

الشرط الأول: التكليف: بأن يكون بالغًا عاقلاً؛ لأن غير المكلَّف داخل تحت ولاية غيره، فلا يكون واليًا على غيره.

الشرط الثاني: أن يكون ذكرًا، وعلى ذلك جماهير العلماء، ولَم يَثبت في تاريخ الأُمة الإسلاميَّة قبل زمننا هذا، أن وُلِّيَت امرأة القضاء في بلاد المسلمين.

وهذا ليس عيبًا ونقصًا في حقِّ المرأة ، بل هو رحمة بها؛ كيلا تَلِي هذه الوظيفة الشاقة، التي تتطلَّب رَباطة جَأْشٍ وقوة تحمُّلٍ لأذى المتخاصمين ولَججهم، ومعلوم ما فُطِرت عليه المرأة من غلبة العاطفة والشفقة عليها.

الشرط الثالث: الإسلام، فلا يكون القاضي بين المسلمين كافرًا؛ لأن الإسلام شرط للعدالة، والقضاء ولاية، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141].

الشرط الرابع: العدالة، فلا بدَّ أن يكون القاضي عدلاً، وضده الفاسق، وهو مَن أصرَّ على صغيرة، أو فعَل كبيرة، ولَم يَتُب منها، فلا يجوز تَوْلية مَن فيه نقصٌ يَمنع قَبول شهادته؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6].

ولكن يجب أن نعلمَ أنَّ هذا الشرط إنما يُطبَّق، أو يُعمَل به بحسب الإمكان، فإذا لَم يجد الإمام إلا قاضيًا فاسقًا، فإنه يُوَلِّيه، مع مراعاة اختيار أخفِّ الفاسقين فسقًا؛ لقول الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].

الشرط الخامس: أن يكون سميعًا؛ لأن الأصمَّ لا يسمع كلامَ الخَصمين.

الشرط السادس: أن يكون متكلِّمًا؛ لأن الأخرس لا يُمكنه النُّطق بالحكم، ولا يَفهم جميع الناس إشارته.

الشرط السابع – وإليه ذهَب بعض العلماء –: أن يكون بصيرًا؛ لأن الأعمى لا يَعرف المدَّعي من المدَّعى عليه، ولا المُقر من المُقر له، ويرى بعض العلماء جوازَ تَوْلية الأعمى القضاء، ولا سيَّما عند الحاجة إلى تَوْليته.

وأمَّا الشرط الثامن، فهو أن يكون القاضي مجتهدًا، والاجتهاد نوعان:

الأول: اجتهاد مُطلق، وهو الاجتهاد في أقوال العلماء كلهم، بحيث يُطبِّق هذه الأقوال على الأدلة، ويختار ما هو الصواب.

الثاني: اجتهاد مُقيَّد، بأن يكون مجتهدًا في مذهب أحد الأئمة؛ يُقارن بين الأقوال، ويَعرضها على الكتاب والسُّنة، ويَعرف الراجح من المرجوح؛ قال الإمام ابن القيِّم – رحمه الله تعالى -: “لا يُشترط في المجتهد عِلمه بجميع ما قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – وفِعله، فيما يتعلَّق بالأحكام، ولكن أن يعلمَ جمهور ذلك ومُعظمه”.

وأمَّا المُقلد، وهو الذي لا يَجتهد أبدًا، وإنما يتقيَّد بكتابٍ أو مَتنٍ فقهي مثلاً، فهذا لا يُولَّى القضاء عند أهل العلم.

وذهَب بعض أهل العلم إلى صحة تولية المقلِّد القضاء؛ قال المرداوي في الإنصاف: “وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطَّلت أحكام الناس”، وذكَر ابن القيم: أنَّ المجتهد هو العالم بالكتاب والسُّنة، ولا يُنافي اجتهاده تقليدَ غيره أحيانًا، فلا تجد أحدًا من الأئمَّة إلاَّ وهو مُقلِّد مَن هو أعلم منه في بعض الأحكام”.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله تعالى – عند حديثه عن الشروط اللازمة فيمَن يولَّى القضاء: “وهذه الشروط تُعتبر حسب الإمكان، وتَجب ولاية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدلُّ كلام أحمد وغيره، فيولَّى لعدمٍ الأنفعُ من الفاسِقَيْن وأقلُّهما شرًّا، وأعْدَل المُقلِّدَيْن وأعرفُهما بالتقليد”؛ انتهى.

وبذا نعلم مستمعي الأكارم حِرْصَ علماء هذه الأمة على ألاَّ يتولَّى وظيفة القضاء إلاَّ مَن أُهِّلَ لها، ولَديه القدرة على تحمُّل هذه الأمانة.

وهذا فيما لو كان القضاة يَحكمون بالكتاب والسُّنة، ويجتهدون فيما لا نصَّ فيه.

غير أنه في زماننا المعاصر تساهَلت كثيرٌ من الدول الإسلامية في تحكيم شَرْع الله تعالى، ولَجَؤُوا إلى قوانين دخيلة، أخذوها من دول كافرة، ففرَضوا التحاكم إليها، وألْزَموا القضاة بها، وإلى الله المُشتكى.

وقد قال الله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].

وما أجدر الأُمة الإسلاميَّة إلى العودة إلى كتاب ربها – تلاوةً وتعلُّمًا، وعملاً وتحكيمًا – ففيه الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.

ولن تَخلو الأمة الإسلاميَّة من فقهاء ومُجتهدين في الدين، يُلجَأ إليهم في الخصومات والنوازل.

نسأل الله تعالى بمنِّه وكرَمه، أن يجعلَنا ممن رَضُوا بالتحاكم إلى كتابه وشرعه، وألاَّ يَجعلنا ممن تنكَّبوا كتابه الكريم، وتحاكَموا إلى قوانين وضعيَّة صِيغت من البشر للبشر، وترَكوا كلام ربِّ البشر – جلَّ جلاله.

وإن مما يُذكر ويُشكر ما منَّ الله تعالى به على بلادنا المملكة العربية السعودية من التحاكم إلى الشرع المُطهر، فلله الحمد على هذه النعمة، ونسأله – سبحانه – أن يُديمها علينا، وأن يَرزقنا الثبات عليها، والله تعالى أعلم.

مستمعي الأفاضل، هذا ما تيسَّر ذِكره في هذه الحلقة، وموعدنا في الحلقة القادمة – بإذن الله تعالى – لنواصل الحديث حول القضاء وآدابه، وما يَلزم القاضي في عمله.

وحتى ذلك الحين، أستودعكم الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهم المراجع:

الشرح المُمتع، حاشية ابن قاسم.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت