دستورية تبعية القاضي بالمحاكم الابتدائية أو عضو النيابة لمحكمة الاستئناف في دعوى مخاصمته

الدعوى رقم 179 لسنة 37 ق “دستورية” جلسة 2 / 3 / 2019
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الثانى من مارس سنة 2019م، الموافق الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1440 هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار، والدكتور عادل عمر شريف، وبولس فهمى إسكندر، ومحمود محمـد غنيم، والدكتور محمـد عماد النجار، والدكتور طارق عبد الجواد شبل نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى:
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 179 لسنة 37 قضائية “دستورية”.
المقامة من
مايسة عبدالفتاح محمد
ضــــــد
1- رئيس الجمهوريـة
2- رئيس مجلس الوزراء
3- وزير العــدل
4- النائب العــام

الإجراءات

بتاريخ الثانى والعشرين من ديسمبر سنة 2015، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبة الحكم بعدم دستورية نص المادة (243) من قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم 150 لسنة 1950، والمواد (495، 496، 498، 500) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت فيها الحكم أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة بجلسة 2/2/2019، إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم، والتصريح بمذكرات في أسبوع، وفى الأجل المشار إليه قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة صممت فيها على الطلبات المبداة منها بمذكرتها الأصلية.

المحكمــــة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن المدعية كانت قد أقامت ضد قاضى محكمة جنح مصر القديمة الجزئية بالجلسة المعقودة في 14/2/2015، وممثل النيابة العامة بالجلسة ذاتها، دعوى المخاصمة رقم 653 لسنة 132 قضائية، أمام محكمة استئناف القاهــــرة، لما ارتأته من وقوع القاضي المذكور في خطأ مهني جسيم بإصداره حكمًا بحبسها أربعًا وعشرين ساعة، لإخلالها بنظام الجلسة، إبان متابعتها الدعوى رقم 10592 لسنة 2014 جنح قسم مصر القديمة، بالمخالفة لنصوص المواد (243، 244، 338، 251، 251 مكررًا) من قانون الإجراءات الجنائية، وتدوولت دعوى المخاصمة بالجلسات، وبجلسة 16/11/2010، دفعت المدعية بعدم دستورية نص المادة (243) من قانون الإجراءات الجنائية، ونصوص المواد (495، 496، 498، 500) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت للمدعية بإقامة الدعوى الدستورية، أقامت الدعوى المعروضة.
وحيث إن المادة (243) من قانون الإجراءات الجنائية المعدلة فقرتها الأولى بالقانون رقم 29 لسنة 1982 تنص على أن “ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها. وله في سبيل ذلك أن يُخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها فإن لم يمتثل وتمادى، كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه أربعًا وعشرين ساعة أو بتغريمه عشرة جنيهات، ويكون حكمها بذلك غير جائز استئنافه، فإذا كان الإخلال قد وقع ممن يؤدى وظيفة في المحكمة كان لها أن توقع عليه أثناء انعقاد الجلسة ما لرئيس المصلحة توقيعه من الجزاءات التأديبية.
وللمحكمة إلى ما قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن الحكم الذى تصدره”.
وتنص المادة (495) من قانون المرافعات المدنية والتجارية مستبدلة بالقانون رقم 18 لسنة 1999 على أن “تُرفع دعوى المخاصمة بتقرير في قلم كتاب محكمة الاستئناف التابع لها القاضي، أو عضـو النيابـة يوقعه الطالب، أو من يوكله في ذلك توكيلاً خاصًّا، وعلى الطالب عند التقرير أن يودع خمسمائة جنيه على سبيل الكفالة.
ويجب أن يشتمل التقرير على بيان أوجه المخاصمة وأدلتها وأن تودع معه الأوراق المؤيدة لها.
وتُعرض الدعوى على إحدى دوائر محكمة الاستئناف بأمر من رئيسها بعد تبليغ صورة التقرير إلى القاضى أو عضو النيابة وتُنظر في غرفة المشورة في أول جلسة تعقد بعد ثمانية الأيام التالية للتبليغ. ويقوم قلم الكتاب بإخطار الطالب بالجلسة”.
وتنص المادة (496) من القانون ذاته على أن “تحكم المحكمة في تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها وذلك بعد سماع الطالب أو وكيله والقاضى أو عضو النيابة المُخاصم حسب الأحوال وأقوال النيابة العامة إذا تدخلت في الدعوى.
وإذا كان القاضي المخاصم قاضيًا بمحكمة النقض تولت الفصل في جواز قبول المخاصمة إحدى دوائر هذه المحكمة في غرفة المشورة”.
وتنص المادة (498) من القانون السالف الذكر على أن “يكون القاضى غير صالح لنظر الدعوى من تاريخ الحكم بجواز قبول المخاصمة”.
وتنص المادة (500) من القانون السابق ذكره على أن “لا يجوز الطعن في الحكم الصادر في دعوى المخاصمة إلا بطريق النقض”.
وحيث إن المدعية تنعى على نص المادة (243) من قانون الإجراءات الجنائية مخالفته لمبدأ الفصل بين السلطات، بتخويله رئيس الجلسة الجمع بين سلطات الاتهام والتحقيق والحكم، بما يعوق حق الدفاع، كما أن نهائية الحكم بالحبس تصادر الحق في التقاضي، وتنعى على نص المادة (496) من قانون المرافعات المدنية والتجارية إخلاله بمبدأ حيدة القاضي واستقلاله، لنظر دعوى المخاصمة أمام المحكمة التي ينتمى إليها القاضي في عمله، كما تنعى على نص المادة (498) من القانون ذاته استمرار القاضي المخاصم ضده في نظر الدعوى التي خوصم بمناسبتها، على الرغم من وجود خصومة بينه وبين من خاصمه، مما يخل بمبدأ المساواة وحقي التقاضي والدفاع.
وحيث إن المحكمة الدستورية العليا سبق أن حسمت المسألة الدستورية التي تتصل بالفقرة الثانية من المادة (495) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، والفقرة الأولى من المادة (496) من القانون ذاته بحكمها الصادر بجلسة 14/2/2015، في الدعوى رقم 178 لسنة 32 قضائية “دستورية، الذى قضى برفض الدعوى المقامة طعنًا على النصين المذكورين، وقد نُشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية بالعدد رقم 8 مكرر (و) في 25/2/2015، وكان مقتضى نص المادة (195) من الدستور، والمادتين (48، 49) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصــادر بالقانـون رقـــم 48 لسنة 1979، أن تكون الأحكام والقرارات الصادرة من هذه المحكمة ملزمة للكافة، وجميع سلطات الدولة، وتكون لها الحجية المطلقة بالنسبة لهم، وهى حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيها، أو إعادة طرح النزاع عينه عليها من جديد لمراجعتها، ومن ثم تغدو الدعوى المعروضة في شأن الفقرتين السالف ذكرهما من المادتين (495)، (496) من قانون المرافعات المدنية والتجارية غير مقبولة.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن المصلحة الشخصية المباشرة تُعد شرطًا لقبول الدعوى الدستورية، وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في الدعوى الدستورية لازمًا للفصل في مسألة كلية أو فرعية تدور حولها الخصومة – بأكملها أو في شق منها – في الدعوى الموضوعية، فإذا لم يكن له بها من صلة، كانت الدعوى الدستورية غير مقبولة. ومن ثم لا يكفى لقيام المصلحة الشخصية المباشرة التي تعتبر شرطًا لقبول الدعوى الدستورية، أن يكون النص التشريعي المطعون عليه مخالفًا في ذاته الدستور، بل يتعين أن يكون هذا النص – بتطبيقه على المدعى – قد أخل بأحد الحقوق التي كفلها الدستور على نحو ألحق به ضررًا مباشرًا. إذ كان ذلك، فإن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يغدو متصلاً بالحق في الدعوى، ومرتبطًا بالخصم الذى أثار المسألة الدستورية، وليس بهذه المسألة في ذاتها منظورًا إليها بصفة مجردة، وهو بذلك يعتبر محددًا لفكرة الخصومة في الدعوى الدستورية مبلورًا نطاق المسألة الدستورية التي تُدعى هذه المحكمة للفصل فيها، ومؤكدًا ضرورة أن تكون المنفعة التي يقرها القانون هى محصلتها النهائية، ومنفصلاً دومًا عن مطابقة النص التشريعي المطعون عليه للدستور أو مخالفته لقيوده ونواهيه، ومستلزمًا أبدًا أن يكون الفصل في المسألة الدستورية موطئًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكانت المدعية تهدف من دعواها الموضوعية القضاء بصحة المخاصمة، وبطلان الحكم الصادر بمعاقبتها بالحبس لمدة أربع وعشرين ساعة، بقالة ابتنائه على خطأ مهني جسيم، وقع فيه القاضي المخاصم، لمخالفته نص المادة (243) من قانون الإجراءات الجنائية، وكان المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الفصل في دعوى المخاصمة في مرحلتها الأولى، وهى مرحلة الفصل في تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها، لا يكون إلا على أساس ما يرد في تقرير المخاصمة والأوراق المودعة معه، ولا يجـوز بالتالي في هذه المرحلة إبداء طلبات جديدة أو استحداث أوجه مخاصمة لم يتضمنها التقرير، أو تقديـم أو قبول أوراق أو مستندات غير التي أودعت معه, وإلا تعين الالتفات عن أوجه المخاصمة الجديدة التي لم يسبق إبداؤها بتقرير المخاصمة، على أساس عدم اتصالها بالمحكمة بالطريق الذى رسمته أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية. لما كان ذلك، وكان سبب الدعوى الموضوعية قد تحدد فيما ارتأته المدعية من مخالفة القاضي المخاصم حكم النص المطعون فيه، والخروج على مقتضاه، بما يؤكد تمسكها بإعمال هذا النص، لا بإهماله والالتفات عن تطبيقه، وإلا تداعت عناصر قبول دعوى المخاصمة، بما يمتنع معه الحكم في موضوعها، ويتقوض بذلك هدفها من تلك الدعوى بإبطال حكم حبسها، ومن ثم فإن الفصل في دستورية النص المطعون فيه لن يكون ذا أثر أو انعكاس على الدعوى الموضوعية، والطلبات المطروحة بها، وقضاء محكمة الموضوع فيها، وتنتفى تبعًا لذلك المصلحة الشخصية المباشرة للمدعية في الطعن عليه، مما يكون معه القضاء بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها متعينًا.
وحيث إنه لما كانت المسألة المثارة أمـام محكمة الموضــوع – كمفترض أولى – لقضائها، هى تحديد اختصاصها نوعيًّا بالفصل في مخاصمة قاض بالمحكمة الجزئية وعضو نيابة بها، ومن ثم تنتفى مصلحة المدعية في الطعن على ما تضمنه نص الفقرة الثانية من المادة (496) من قانون المرافعات المدنية والتجارية من اختصاص إحدى دوائر محكمة النقض في غرفة مشورة بالفصل في جواز قبول مخاصمة القاضي بمحكمة النقض، إذ لا يكون للقضاء في دستوريته أثر أو انعكاس على الفصل في الدعوى الموضوعية، الأمر الذى يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها.
وحيث إنه لما كانت المدعية تهدف من الطعن على نص المادة (498) من قانون المرافعات المدنية والتجارية أن تتجنب المثول أمام القاضي المخاصم إبان تداول الدعوى رقم 10592 لسنة 2014 جنح قسم مصر القديمة، والتي صدر بمناسبة نظرها حكم حبسها ، وذلك حتى يُفصل في مسألة قبول دعوى المخاصمة رقم 653 لسنة 132 قضائية، وكان البين من الأوراق أن القاضي المخاصم ضده قد تنحى عن نظر تلك الدعوى بجلسة 28/3/2015، وأنها أحيلت لنظرها أمام دائرة أخرى، قبل أن تقيم المدعية دعوى المخاصمة السابق ذكرها بتاريخ 3/6/2015، بما لا يكون معه القاضي المخاصم قد أصدر في تلك الدعوى أية أحكام أو قرارات قطعية أو تمهيدية في تاريخ لاحق على إقامة دعوى مخاصمته السالف ذكرها، ومن ثم لا يحقق الفصل في دستورية هذا النص أية فائدة عملية للمدعية يمكن أن تؤثر في مركزها القانوني، لتنتفي بذلك مصلحتها الشخصية المباشرة في الطعن على دستورية النص المطعون فيه، السالف الإشارة إليه، مما يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة للمدعية تتحقق بالطعن على دستورية نص الفقرتين الأولى والثالثة من المادة (495) والمادة (500) من قانون المرافعات المدنية والتجارية؛ بحسبان الفصل في دستوريتها يكون له انعكاس على الدعــوى الموضوعية، والطلبات المطروحة بها، وقضاء محكمة الموضوع فيها، وبها وحدها يتحدد نطـاق الدعوى الدستورية المعروضة والمصلحة فيها.
وحيث إن المدعية تنعى على نصى الفقرتين الأولى والثالثة من المادة (495) من قانون المرافعات المدنية والتجارية إخلالهما بمبدأ المساواة والحق في التقاضي بإسنادهما الفصل في دعوى مخاصمة قضاة بالمحاكم الجزئية والابتدائية وأعضاء النيابة العامة بهما إلى محكمة الاستئناف التابع لها القاضي أو عضو النيابة المخاصم ضده. كما تنعى على نص المادة (500) من القانون ذاته حرمانها من التقاضي على درجتين، مما يعد إخلالاً بالحماية الدستورية المقررة لحقي التقاضي والدفاع وينتهك مبدأي تكافؤ الفرص والمساواة.
وحيث إن الرقابة الدستورية على القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – صون الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النصوص المطعون عليها – التي مازالت معمولاً بها – في ضوء أحكام الدستور الحالي الصادر سنة 2014.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن مبدأ المساواة أمام القانون يتعين تطبيقه على المواطنين كافةً، باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الغاية التي يستهدفها تتمثل أصلاً في صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها، وأضحى هذا المبدأ – في جوهره – وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر نطاق تطبيقها على الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، بل يمتد مجال إعمالها كذلك إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين في حـدود سلطته التقديرية، وعلى ضـوء ما يرتَئِيه محققًا للصالح العام. إذ كان ذلك، وكان من المقرر أيضًا أن صور التمييز المجافية للدستور، وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها، بما مؤداه أن التمييز المنهى عنه دستوريًّا هو ما يكون تحكميًّا، ذلك أن كل تنظيم تشريعى لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها، يُعتبر هذا التنظيم ملبيًا لها، وتعكس مشروعية هذه الأغراض إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع لبلوغها متخذًا من القواعد القانونية التي يقوم عليها هذا التنظيم سبيلاً إليها. إذ إن ما يصـــون مبدأ المساواة ولا ينقض محتواه؛ هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيمًا تشريعيًّا ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها بالأغراض المشروعة التي يتوخاها، فإذا قام الدليـل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهيًا، كان التمييز انفلاتًا وعسفًا، فلا يكون مشروعًا دستوريًّا.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في تنظيمه لحق التقاضي – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنها سلطة تقديرية، جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزنًا، وليس من قيد على مباشرة المشرع لهذه السلطة إلا أن يكون الدستور ذاته قد فرض في شأن مباشرتها ضوابط محددة تعتبر تخومًا لها ينبغى التزامها، وفى إطار قيامه بهذا التنظيم لا يتقيد المشرع باتباع أشكال جامدة لا يريم عنها، تفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز له أن يغاير فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيها الأوضاع التي يباشر الحق في التقاضى في نطاقها، وبما لا يصل إلى إهداره، ليظل هذا التنظيم مرنًا، فلا يكون إفراطًا يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافًا بها عن أهدافها، ولا تفريطًا مجافيًا لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قوامًا، التزامًا بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالاً.
وحيث إنه من المقرر كذلك – في قضاء هذه المحكمة – أن لكل مواطن حق اللجوء إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعة الخصومة القضائية، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيأ للفصل فيها، وهذا الحق مخول للناس جميعًا، فلا يتمايزون فيما بينهم في ذلك، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في مجال سعيهم لرد العدوان على حقوقهم، فلا يكون الانتفاع بهذا الحق مقصورًا على بعضهـم، ولا منصرفًا إلى أحوال بذاتها ينحصر فيها، ولا محملاً بعوائق تخص نفرًا من المتقاضين دون غيرهم، بل يتعين أن يكون النفاذ إلى ذلك الحق، منضبطًا وفق أسس موضوعية لا تمييز فيها، وفي إطـار من القيود التي يقتضيها تنظيمه، ولا تصل في مداها إلى حد مصادرته.
وحيث إن حق الدفاع أصالةً أو بالوكالة قد كفله الدستور، باعتبار أن ضمانة الدفاع لا يمكن فصلها أو عزلها عن حق التقاضي، ذلك أنهما يتكاملان ويعملان معًا في دائرة الترضية القضائية التي يُعتبر اجتناؤها غاية نهائية للخصومة القضائية، فلا قيمة لحق التقاضي ما لم يكن متساندًا لضمانة الدفاع، مؤكدًا لأبعادها، عاملاً من أجل إنفاذ مقتضاها. كذلك لا قيمة لضمانة الدفاع بعيدًا عن حق النفاذ إلى القضاء، وإلا كان القول بها وإعمالها واقعًا وراء جدران صامتة؛ يؤيد ذلك أن الحقوق التي يكفلها الدستور أو القانون تتجرد من قيمتها العملية إذا كان من يطلبها عاجزًا عن بلوغها من خلال حق التقاضي، أو كان الخصوم الذين تتعارض مصالحهم بشأنها لا يتماثلون فيما بينهم في أسلحتهم التي يشرعونها لاقتضائها. ولا يعدو أن يكون إنكار ضمانة الدفاع أو انتقاصها إخلالاً بالحق المقرر دستوريًا لكل مواطن في مجال اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، وليس النزول عليها إلا توكيدًا للحق في الحياة والحرية، حائلاً دون اقتحام حدودهما، وذلك سواء أكان إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها متصلاً بحق كل شخص في أن يعرض بنفسه وجهة نظره في شأن الواقعة محل التداعى، وأن يبين حكم القانون بصددها، أم كان منسحبًا إلى الحق في أن يقيم باختياره محاميًا يطمئن إليه لخبرته وملكاته، ويراه – لثقته فيه – أقدر على تأمين المصالح التي يتوخى حمايتها، ليكون الدفاع عنها فعالاً، محيطًا بالخصومة القضائية التي تتناولها، نائيًا بالانحدار بمتطلباتها إلى ما دون مستوياتها الموضوعية التي يمليها التبصر وتفرضها العناية الواجبة.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكان مفهوم تبعية القاضي أو عضو النيابة بالمحاكم الابتدائية أو المحاكم الجزئية لمحكمة الاستئناف في دعوى مخاصمته، إنما يتحدد بإسناد الفصل في الدعوى المذكورة إلى إحدى دوائر محكمة الاستئناف التي تقع محكمة المخاصم ضده في دائرة اختصاصها المحلى، دون أن يتجاوز ذلك إلى تداخل تشكيل كلتا المحكمتين في تلك الدعوى، الأمر الذى تؤكده نصوص المواد (1، 6، 9، 11) من قانون السلطة القضائية الصادر بقرار رئيس جمهورية مصر العربية بالقانون رقم 46 لسنة 1972. إذ كان ذلك، وكانت العلاقة القانونية التي أشارت إليها الفقرتان الأولى والثالثة من المادة (495) من قانون المرافعات المدنية والتجارية لا تنشئ أية تبعية قانونية أو إدارية لقضاة المحاكم الابتدائية أو الجزئية أو أعضاء النيابة العامة بهما، إلى قضاة محاكم الاستئناف المسند إليهم ولاية الفصل في دعاوى مخاصمتهم، ولا تنصرف غاية المشرع من إيراد هذا التنظيم إلا إلى تحديد القاضي الطبيعي، المخول له الاختصاص بالفصل في تلك الدعاوى، ليبقى دومًا من الأغيار بالنسبة لأطراف دعوى المخاصمة، الذين تتوافر في حقهم الحيدة والاستقلال، ومن ثم يكون الادعاء بإخلال نصى الفقرتين المطعون فيهما المار ذكرهما بمبدأ المساواة والحق في التقاضي منتحلاً.

إذ كان ما تقدم، وكان المشرع قد كفل للمحكوم ضده بحكم صادر من محكمة الاستئناف مُنْهِ للخصومة في دعوى مخاصمة – أن يطعن فيه بطريق النقض، لتنظره المحكمة التي تستوى على قمة مدارج محاكم جهة القضاء العادي، غير ممايز بين المدعى المخاصم والقاضي أو عضو النيابة المخاصم ضده، ودون أن يُمكن أحد طرفي خصومة دعوى المخاصمة من ولوج طريق للطعن في الحكم الصـادر فيها لا يتيحه لخصمه الآخر، محققًا بذلك توازنًا بين مراكز قانونية متكافئة لأطراف الخصومة القضائية ذاتها، ومن ثم فإن النعي على نص المادة (500) من قانون المرافعات المدنية والتجارية بقالة الإخلال بحقي التقاضي والدفاع، أو إهداره مبدأ المساواة، أو افتئاته على مبدأ تكافؤ الفرص – في ظل عدم تعلق النص المذكور بفرص قائمة يجرى التزاحم عليها – يضحى لا أساس له متعينًا رفضه.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، فإن النصين المطعون فيهما – محددين نطاقًا على ما سلف بيانه – لا يخالفان أحكام المواد (4، 9، 53، 97، 98) من الدستور، كما لا يخالفان أية أحكام أخرى فيه، مما يتعين معه القضاء برفض هذه الدعوى في هذا الشق منها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم قبول الدعوى بالنسبة لنص المادة (243) من قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم 150 لسنة 1950، المعدَّل بالقانون رقم 29 لسنة 1982، والفقرة الثانية من المادة (495) والمادتين (496، 498) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968.
ثانيًا: برفض الدعوى بالنسبة لنصى الفقرتين الأولى والثالثة من المادة (495)، والمادة (500) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المشار إليه.
ثالثًا: بمصادرة الكفالة، وألزمت المدعية المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .