دراسة وبحث قانوني كبير عن التعدد السياسي غير الراشد أو الطائفية في الملة.

ليس في الشرع الإسلامي ما يمنع التحزب السياسي و لا التعدد الحزبي، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإمعة، كما تنافس على السلطة و الحكم بشكل نزيه من خلال حزب المؤمنين مع حزب المنافقين برئاسة ابن سلول و تغلب عليه سياسيا.

سار الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على نفس نهجه، فتنافسوا بشكل نزيه من خلال حزبهم مع حزب الزنادقة برئاسة عبد الله بن سبأ، فتمكنوا من سد الطريق عليه إلى سدة الحكم، و تمكنوا من التغلب عليه كذلك.
غير أن حزب المؤمنين الراشدين وجد من بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم صعوبة في التعامل مع أحزاب المسلمين غير الراشدين ممن ليسوا منافقين و لا زنادقة خاصة منهم أهل العصبية القبلية و الشعوبيين.

فهؤلاء تجاوزا حدود التعدد الحزبي إلى الطائفية الدينية، فأحدثوا بذلك تنازعا دينيا بين أتباع ملة الإسلام حل محل التنافس على السلطة و الحكم.
حدث ذلك من بعد مقتل علي كرم الله وجهه، و تنازل ابنه الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.
فقد فرح كل حزب بما لديهم و اقتسموا جمهور الأمة إلى فرق لكل منها رئيس سلطانها المستقل يزعم لنفسه امتلاك حق إلهي في الحكم و يعتبر نفسه رئيسا للملة بقوة الشرع.
بفعل ذلك تحولت الأحزاب الثلاثة الرئيسية و هي فرقة الروافض و إيلاف قريش و فرقة الخوارج إلى طوائف دينيه لحقت بهم فيما بعد طائفة المتصوفة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه بسبب التقسيم الاستعماري لدار الإسلام إلى انشطار شعوبي للطوائف الدينية نفسها. فقد انقسمت إلى ما لا يقل عن سبعة و خمسين طائفة قومية تستقل كل منها بسلطتها الدينية و تتخذ رئاسة للملة خاصة بها.
ليس صحيحا أن أهل السنة و الجماعة طائفة دينية من طوائف الإسلام بل هم أصل الأمة و عين ملتها بصفتهم سائرين على نهج الراشدين.
مع ذلك يتلبس الأمر على عامة الناس من حيث أن الطوائف المنحرفة عن النهج الراشد و هي طائفة أهل العصبية القبلية و الشعوبية، و طائفة الروافض، وطائفة الخوارج، وطائفة المتصوفة تسعى إلى التبرؤ من الانحراف عن سنة رسول الله و سنة الراشدين من بعده.

الباب الأول: طائفة أهل العصبية القبلية و الشعوبية.

إنها طائفة تخضع فيها الأمة لوصاية السلطان و علمائه المؤازرين له بعصبية قبلية و شعوبية من غير حق الاحتكام إلى السواد الأعظم عند الاختلاف. فالسلطان القبلي و الشعوبي يسيطر في هذه الطائفة على وظيفة الإمامة من غير الخضوع لسلطة مجلس أهل الشورى، و لا يطبق مبدأ الفصل مع وظيفة الإمارة الذي أسس له الراشدون الأولون.
مع ذلك، فقد اختار الراشدون بقيادة الحسن بن علي رضي الله عنه العيش في ظل هذه الطائفة مند عهد معاوية بن أبي سفيان كخيار وحيد لاتقاء شر السبئية.
امتازت طائفة أهل العصبية القبلية وقت الفتنة الكبرى بمناعتها ضد الاختراق السبئي. ذلك أن شخص السلطان لا يُستعمل فيها لحجب شخص رسول الله و لا أشخاص الصحابة، كما لا يستعمل كلامه لحجب كلام الله. فمنذ معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الحميد العثماني ظل السلطان القبلي يحمل لقب خليفة رسول الله و ليس وصي الله على الأمة.
لقد سمح هذا بالمحافظة على المصحف كما جمعه الراشدون و رسمه الخليفة عثمان رضي الله عنه. و سمح أيضا بجمع سنة محمد صلى الله عليه و سلم وفق المقاييس العلمية الضابطة لصحة الأقوال و الأخبار المتناقلة عبر الأجيال.
رغم أن أي سلطان قبلي لم يلتزم بكل أحكام القرآن و السنة، إلا أن أيا منهم لم يمنع العلماء الراشدين من جمع سنة رسول الله الصحيحة و لم يمنعهم من التصدي لأعمال التحريف و الوضع من قبل الزنادقة.
لقد زال عن أكثر المسلمين السلطان الشعوبي الموحد مع زوال الخلافة العثمانية سنة 1923 ليحل محله سلطان شعوبية مشتتة يسهل على الراشدين التغلب عليها.

الفصل الأول : منشأ طائفة أهل العصبية القبلية.

نشأت طائفة أهل العصبية القبلية بقيام الدولة الأموية و تسليم الراشدين بقيادة الخليفة الحسن بن علي رضي الله عنهما أمرهم لها.
بتسلط فاجر، ظهر سلطان بني أمية وعلماؤهم كفاعل وحيد في ساحة الأمة دون السواد الأعظم و دون أهل الشورى من أئمة العلم المستقلين.
بالنسبة للراشدين الذين اضمحلت قوتهم، كان ذلك هو البديل الوحيد للبرنامج السبئي الذي سعا الزنادقة من خلاله إلى إخضاع الأمة لسلطة الوصي الإلهي كما هي عند اليهود و النصارى.
تمكن علماء بني أمية من استبعاد مزاعم السبئية عن منابر الدعوة و كراسي التعليم، فكسروا شوكة الزنادقة. لذلك يمكن القول أن خضوع الراشدين لهم كان اختيارا موفقا، أجهضوا به خطة السبئية.
فقد تمكن الأمويون ليس فقط من كسر شوكة الزنادقة في الداخل، بل كالوا أقوى الضربات لعرابي الحزب السبئي في الخارج، فقرعت جيوشهم أبواب القسطنطينية.
مع ذلك كله يبقى أن الأمويين بنوا شرعية النظام السلطاني و أخضعوا جماعة الأمة لهم على أساس تأويل غير راشد لنصوص من القانون المقدس.
ركز علماء الأمويين بالفعل على نصوص القرآن و السنة التي تستعمل ألفاظ السلطان و أولي الأمر و قريشا، فحرفوا معناها بما يخدم عصبيتهم القبلية. صحيح انه تأويل الأمويين الخاطئ لتلك النصوص أقل ضلالا من التأويل السبئي للنصوص التي وردت فيها ألفاظ الإمامة و الولاية و أهل البيت، لكنه يظل تأويلا خاطئا لا يجوز الأخذ به لغير الضرورة مع وجوب تركه عند زوال حالة الضرورة.
فبفعل التسابق على السلطة بين السبئية والأمويين اجتمع على الراشدين الأولين ضرران لم يكن لهم بد من تحمل أحدهما لتجنب الأخر فاختاروا مرغمين أقلهما خطورة و هو السلطان الأموي مع اشتراط العودة إلى النظام الراشد بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان.
غير أن هذا الأخير نكث بالعهد و لم يؤب إلى النظام الراشد رغم تمكنه من كسر شوكة الزنادقة.

المبحث الأول: اضمحلال قوة الراشدين.

معلوم أنه بعد اغتيال عثمان بن عفان رضي الله عنه عقد الراشدون العزم على مواصلة تطبيق النهج الراشد في حكم الأمة. كان عليهم مواجهة صعوبات جمة أبرزها ما حدث من وقيعة بينهم و بين بني أمية. فقد انقلبت عليهم القوة القبلية ذاتها التي استدعوها لسد طريق السلطان على حزب السبئية.
و قد سبق أن ذكرنا أن السبئيين تمكنوا من بث مزيد من الفرقة بين فصائل السواد الأعظم الذي جهد الراشدون في إبقائه متماسكا، و أن عليا كرم الله وجهه تعرض للاغتيال من قبل الفصائل المنشقة لإحداث المزيد من الوقيعة بين المسلمين.
سعيا منهم لإبقاء صفهم متماسكا، بايع الراشدون الحسن بن علي رضي الله عنهما خليفة لرسول الله، لعلمهم بحرصه على عدم تضييع جهد الأمة في الصراع مع بني أمية و التفرغ بدلا عن ذلك لمواجهة الخطر السبئي.
في سياسة راشدة بامتياز، قرر الخليفة الحسن بن علي رضي الله عنهما العودة لخطة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهي استعمال بني أمية سدا في وجه السبئية. لكن الوضع كان قد اختلف كثيرا، بحيث بادر بنو أمية إلى الاستيلاء على منصبي الإمامة و الإمارة معا و الاستحواذ عليهما كضمان لقبض أجر خدمتهم.
ذكرنا أن عليا كرم الله وجهه و جد نفسه مضطرا لتولي منصبي الخلافة و أنه، مع الراشدين، اضطروا للاصطدام مع بني أمية للتمكن من الاستمرار في السيطرة على السواد الأعظم وعدم تركه للسبئية. لكنه ما إن ظهرت نية الراشدين في التصالح مع بني أمية و العودة إلى استعمالهم في وظائف السلطان حتى أقبل السبئيون على تشتيت صفوف السواد الأعظم الذي كان تحت سيطرة الراشدين.

ففي عهد علي كرم الله وجهه، تمكن السبئيون من تصوير الوضع للمسلمين غير العرب على الخصوص بنفس ما كان عليه في عهد عثمان، حيث أظهروا لهم التقارب بين علي كرم الله وجهه و معاوية بن أبي سفيان على أنه توجه لاقتسام السلطة بين بني هاشم و بني أمية.
بفقدان دعم المسلمين غير العرب الذين فشا فيهم التحزب للخوارج، و بفقدان السيطرة على العرب الذين صاروا تبعا لبني أمية بقيادة معاوية بن أبي سفيان، اقتنع الراشدون بوجوب إنهاء الخلاف مع الأمويين للاصطفاف خلفهم في مواجهة عدوهم المشترك من السبئيين و من الخوارج باعتبارهم أشد خطرا على الأمة.
كان الأمويون يمثلون القوة العربية الوحيدة التي يستحيل على السبئية وعلى الخوارج معا اختراقها. بل و كان لهم سبق في تقديم التضحية لمواجهة السبئية.

غير أنه على خلاف الراشدين منهم، مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه، لم يكن بنو أمية جميعا مستعدين للتضحية بالسمعة السياسية لعشيرتهم من أجل الإسلام بغير مقابل دنيوي. فقد كانوا يتطلعون إلى الحصول على السلطان بما فيه من وظائف و امتيازات مقابل خدماتهم.

لأجل ذلك لم يقبلوا من الراشدين قرار حرمانهم من أجر خدماتهم. فبحجة حالة الفتنة الكبرى التي أعقبت مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، نصب معاوية بن أبي سفيان نفسه شيخا لبني أمية و طالب بحق القصاص من قتلة عثمان.
كان قتلة الخليفة عثمان معروفين و كان بالإمكان تسليمهم لمعاوية يقيم عليهم حد القتل. لكن ذلك كان يعني انقلاب السواد الأعظم على الراشدين و انتقال السيطرة عليه إلى السبئيين. لأجل ذلك رفض الراشدون تلبية طلب معاوية و التعامل سياسيا مع قضية اغتيال عثمان بالصفح عن القاتلين لإنهاء الفتنة.
أثبت المؤرخون أنه في الشهر الثالث من مقتل عثمان بعث معاوية برجل من بني عبس برسالة إلى علي فقال علي للرسول ( ما وراءك، قال آمن أنا ؟ قال نعم إن الرسل آمنة لا تقتل. قال ورائي اني تركت قوما لا يرضون إلا بالقود. قال ممن. قال من خيط نفسك، و تركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان و هو سيما لهم قد ألبسوه منبر دمشق. فقال مني يطلبون دم عثمان ألست موتورا عثمان اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان نجا و الله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله فإنه إذا أراد أمرا أصابه، اخرج. قال و أنا آمن. قال وأنت آمن.

فخرج العبسي وصاحت السبئية قالوا : هذا الكلب هذا وافد الكلاب اقتلوه. فنادى يا آل مضر يا آل قيس الخيل و النبل إني أحلف بالله جل اسمه ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي فانظروا كم و الركاب عليه و منعنه مضر.)[1] .

يبين هذا النص أنه كان للسبئية حضور كثيف بالمدينة و أنهم كانوا يؤثرون على مجرى الأحداث بشكل مباشر. ليس أقل من ذلك تأكيدا ما أقر به علي كرم الله وجهه في رده على ابه الحسن رضي الله عنهما حين قال له ( قد أمرتك فعصيتني فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك. فقال علي إنك لا تزال تخن خنين الجارية و ما الذي أمرتني فعصيتك ؟ قال : أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل و لست بها ثم أمرتك يوم قتل الا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار و العرب و بيعة كل مصر ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يدي غيرك فعصيتني في ذلك كله. قال أي بني، أما قولك لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان فو الله لقد أحيط بنا كما أحيط به و أما قولك لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار فإن الأمر أمر أهل المدينة و كرهنا أن يضيع هذا الأمر و أما قولك حين خرج طلحة و الزبير فإن ذلك كان وهنا على أهل الإسلام و والله ما زلت مقهورا مذ وليت منقوصا لا أصل إلى شيء مما ينبغي)[2].
يتبين بوضوح من هذا النص أن عليا كرم الله وجهه و معه الراشدون كانوا مضطرين للسير في اتجاه تيار السواد الأعظم الذي يقاسمهم السبئية السيطرة عليه.
تبعا لذلك و بدل تلبية طلب معاوية بن أبي سفيان، كان لا بد من عزله من منصبه مع من يسانده من الولاة و العمال و القضاة و المحتسبين و أمراء الجند و غيرهم من رجال الدولة الذين كان أكثرهم أمويون. عندئذ دخلت المواجهة مرحلة الحسم العسكري، فطور بنو أمية بنتيجة ذلك مطلبهم بما يتفق و التطور الحاصل بحيث ابتدعوا دعوة الوصاية السلطانية.

المبحث الثاني: ظهور دعوة الوصاية السلطانية.

ظهرت دعوة الوصاية السلطانية في خضم الاحتكاك بين بني أمية و الراشدين. جاء ذلك واضح على لسان عمرو بن العاص وزير معاوية و مندوبه للتحكيم مع أبي موسى الأشعري. فقد أثبت المؤرخون مقولة ابن العاص في هذا الشأن لما التقى الحكمان في دومة الجندل ( فقال عمرو بن العاص يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوما قال أشهد قال ألست تعلم أن معاوية و آل معاوية أولياؤه قال بلى قال فإن الله عز وجل قال و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا فما يمنعك من معاوية ولي عثمان يا ابا موسى)[3] .
بادعاء ملكية السلطان الذي جعل الله له به حق القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه حسب زعمه، أغنى معاوية بن أبي سفيان نفسه عن بيعة السواد الأعظم للحصول على السلطة اللازمة لمطاردة قتلة عثمان و تنفيذ شرع الله فيهم.
توافق ذلك مع كون معاوية بن أبي سفيان شيخ عشيرة بني أمية، كبرى بطون قريش.
لم يكن معاوية بن أبي سفيان مجرد وال للشام حيث يتجمع أكثر العرب، و إنما كان أيضا رئيس رؤساء قرش. فقد ورث ذلك المنصب من والده أبا سفيان بن حرب الذي سلٌم مكة لرسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح الأكبر، فأقره محمد صلى الله عليه و سلم على رئاستها بقبول التفاوض معه على دخولها دون قتال و بقوله صلى الله عليه و سلم (ومن دخل دار أبا سفيان فهو آمن). [4]

لقد هيأ السبئيون من حيث لا يدرون سبب فنائهم حين ألّبوا المسلمين غير العرب على الراشدين واصفين لهم محاولة الصلح بين علي ومعاوية رضي الله عنهما أنها مؤامرة من قريش لاقتسام السلطة دونهم.

بروز المسلمين غير العرب في ساحة الصراع أثار حمية العرب لبعضهم البعض فكانت تلك فرصة بني أمية لجمع شملهم.
دعا معاوية بن أبي سفيان إلى عصبية الشعوبية العربية لمواجهة كل من يسعى لنزع سلطان الإسلام من العرب، و هي الدعوة التي لم يكن بمقدور الراشدين إطلاقها نظرا لحرمتها المؤكدة. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله (من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية )[5]
لم يكن الأمويون ليغيب عنهم حرمة الدعوة العصبية و لا اللذين يجرؤون على تحريف أقوال محمد صلى الله عليه و سلم لما في ذلك من خطر تماثلهم بالسبئية في نظر المسلمين. لأجل ذلك نجدهم يسندون دعوتهم العصبية بتأويل غير راشد لنصوص القرآن و السنة التي تذكر فضائل قريش عارضين، أنفسهم على المسلمين أنهم ممثلو قريش من غير منازع.
جاء ذكر قريش في القرآن الكريم في قول الله عز وجل ( لإيلاف قريش؛ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف؛ فليعبدوا رب هذا البيت؛ الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف.)

و ورد كذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله ( الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم و الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، تجدون من خير الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه)[6]

و قوله (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين)[7] وقوله صلى الله عليه و سلم (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ).[8]
باستعمال هذه النصوص تمكن الأمويون من الالتفاف على حرمة الدعوة العصبية و إخفاء صورة الطغاة التي لصقت بهم إبان خلافة عثمان رضي الله عنه.
و أمام منافسة المسلمين غير العرب، لم يجد الأمويون صعوبة في إقناع العرب بصحة مطلبهم، فهبت القبائل لنصرتهم ضد خصومهم بمن فيهم الراشدون.
لقد أسسوا بذلك لطريقة العصبية القبلية بامتدادها الشعوبي في الوصول إلى الحكم، فلم يتمكن أي من معارضيهم من زحزحتهم عن السلطة بغير هذه الطريقة.
كان ذلك على الخصوص حال بني هاشم الذين اضطروا بزعامة العباسيين إلى لعب ورقة العصبية القرشية بدل حق عشيرتهم في ميراث ابن عمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم.
بعد ذلك تمكن الأتراك من اقتلاع العباسيين من الخلافة وحيازة منصبي الإمامة و الإمارة بالاعتماد على العصبية العثمانية بامتدادها التركي بدل العصبية القرشية التي كانت قد تلاشت بفعل ذوبان العرب مع غيرهم من المسلمين في شعب واحد.
كان الأمويون و العباسيون و العثمانيون كلهم من قريش و إن لم يكن كلهم قرشيون. فقد أخذوا جميعا منها نظام حكمهم الذي به أقاموا طائفة العصبية.

الفصل الثاني : مقصد طائفة أهل العصبية.

كان معاوية و معه قريش أكثر حرصا من غيرهم على التمسك بالقرآن و السنة إن لم يكن حبا في الله و في رسوله فحبا في الدنيا، لأن نصوصه مقدسة تقر بسطوة قريش على العرب و في الوقت نفسه تفند دعوة الوصاية الإمامية التي رفعها السبئيون.
التفت قريش و معها حلفاؤها من قبائل العرب حول سلطان بني أمية وانضم الراشدون إلى صفهم فصار بإمكانهم الاستغناء عن كل العجم لضبط الأمر في دار الإسلام.
صحيح أن تمسك النظام القبلي بالقرآن و السنة لم يكن للالتزام بنصوصهما كلها و إنما لاستعمالهما كعقيدة و كمصدر لأحكام القضاء في المنازعات الخاصة؛ علما أنه فيما تعلق بشؤون السياسة العامة فقد أعفى السلطان نفسه من الالتزام بأي قانون بما في ذلك النصوص المقدسة من القرآن و السنة. غير أن ذلك كان هو أفضل الممكن لحفظ الدين في نظر أئمة العلم الراشدين، فاضطروا للقبول به.

المبحث الأول: بدعة الوصاية السلطانية

لم يكن في مقدور بني أمية التبرؤ من الإسلام كأساس لنظام حكمهم لأن استعمالهم حق قريش في حكم الأمة بسلطانهم المبني على حقهم في القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه لا يثبت بغير القرآن و السنة. لذلك تبنوا لقب الخليفة الإسلامي كعنوان لسلطانهم.
لم يكن باستطاعتهم من جهة أخرى استبدال نظام حكم الإسلام بنظام اليهود و النصارى لأن السبئيين سبقوهم إلى جعل الوصاية الدينية على الأمة من حق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. لذلك لم يدّع الأمويون العصمة في حق خليفتهم، و لم ينسبوا له قدرات خارقة، و لم يؤلهوه.
أخيرا، لم يكن بوسعهم الاستمرار بالمسير في نهج الراشدين لأن في ذلك نقض لحق العصبية القبلية و للشعوبية في حكم الأمة. لأجل ذلك نجدهم يستبعدون من قواعد الحكم كل حكم شرعي مناقض لنظام العصبية بامتدادها الشعوبي.
لقد ابتدع الأمويون نظام الوصاية السياسية على أمة محمد صلى الله عليه و سلم، و سخروا علماء الدين لخدمتهم مقابل إشراكهم في الحكم.
بدؤوا بتعليق حق السواد الأعظم في اختيار رئيس السلطان حين اعتمدوا فكرة استعمال حق قريش في حكم الأمة بواسطة سلطانهم القائم على أساس حق القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه.
و بتأويل غير راشد لسنة الخلفاء الراشدين ابتدع معاوية بن أبي سفيان من جهة أخرى سنة الاستخلاف عن طريق أخذ البيعة لولي العهد و تمكن بذلك من حصر السلطان في عشيرته. لقد احتج على الأمة باستخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما في رئاسة الملة ليستخلف ابنه اليزيد في رئاسة السلطان، و فتح بذلك لبني أمية طريق احتكارا حق قريش في حكم الأمة بشكل مستمر.
اقتضى ذلك بالضرورة أن يصبح الخليفة فوق كل السلطات، الشيء الذي تعلق به العمل بمبدأ استقلال القضاء.
فقد أثبت المؤرخون أن معاوية بن أبي سفيان لم يعترف للقضاة بأي سلطة عليه و لم يعطهم حرية النظر في قضايا السلطة. بل إنه علق حتى حرية التعبير في مقولته المشهورة ” إننا لا نحول بين الناس و ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا و بين سلطاننا”.
بذلك أقامت عصبية بني أمية نظام حكم يحتكر فيه سلطان الأمة حق استعمال كل قواها من غير رقابة قضائية مستقلة.
أما الرقابة الدينية فقد استبعدوها من خلال السيطرة على منصب الإمامة العظمى.
على خلاف حزب الله الراشد، لم يكن في مقدور عصبية بني أمية الالتزام بالقرآن و السنة كقانون مقدس لأن فيه بطلان سلطانهم. كان طبيعيا بنتيجة ذلك أن يسعى الأمويون إلى السيطرة على الوظيفة المرجعية لتفسير أحكام القرآن و السنة و للإفتاء بناء عليهما حتى لا يستعمل الدين ضدهم.

واضح أن ذلك أمر لا يتحقق بغير السيطرة على منصب الإمامة من الخلافة و هو ما تم بسهولة كبيرة لعدم وجود من يحتج بالفصل بين منصبي الإمامة و الإمارة.
هكذا سن الأمويون للعباسيين والعثمانيين من بعدهم نظام الحكم السلطاني، و ظل المسلمون يتعاملون معه كأمر واقع بين مستنكر و مستحسن حتى تولى الماوردي في القرن الرابع الهجري مهمة التشريع فيه بكتابه الأحكام السلطانية سنة 450.

المبحث الثاني: تشريع الأحكام السلطانية

انبرى كثير من الفقهاء لتشريع الأحكام السلطانية من لدنهم باستعمال أدلة من غير القانون المقدس، وكان الماوردي و لا زال هو المرجع المعتمد في ذلك.
يصرح الماوردي أنه وضع أحكامه السلطانية طاعة منه لمن تجب عليه طاعته دون أن يبين أهو الله عز و جل أم ولي أمر زمانه. والظاهر أنه أطاع في ذلك ولي أمره من الناس لأنه مهما أحسنا به الظن يستحيل تبرءته من الرغبة عن سنة رسول الله و عدم التزامه بأمر الله ناهيك عن المعروف.
بدأ الماوردي بالبحث في طبيعة النظام السلطاني من غير تمييز بين منصبي الإمامة والإمارة، فاختار الدخول في الموضوع من جهة منصب الإمامة حيث قال:( الْإِمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا ، وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ)[9].
على خلاف الشرع يصرح الماوردي في هذا النص أن الإمامة الدينية مستغرقة لمنصب الإمارة في خلافة النبوة ، و أنها محل تعاقد.

لعله نسي أو تناسى و لربما بسبب الحرص على عدم إغضاب الحاكم العباسي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استخلف أبا بكر في منصب الإمامة الدينية و أنه لم يتعاقد معه أحد في ذلك. و نسي أو تناسى من جهة أخرى أن منصب الإمارة من الخلافة هو وحده محل التعاقد.
لمزيد من الخلط بين نظام منصبي الخلافة شكك الماوردي في طبيعتها من حيث أنها فريضة دينية أم مصلحة دنيوية، و كأنه لا يعلم أن تنصيب رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر خليفة له في منصب الإمامة تم بأمر من الله عز و جل و أنه سنة لكل خليفة يجب عليه اتباعها امتثالا لأمر الله. و كأنه لا يعلم من جهة أخرى أن تعاقد رسول الله مع ممثلي السواد الأعظم من جماعة الأمة في العقبة الكبرى سنة نبوية يجب على كل مسلم الالتزام بها طاعة لأمر الله.
اللافت للنظر أن الماوردي يناقش حجج القائلين بوجوب الإمامة عقلا كما حجج القائلين بوجوبها شرعا من حيث أنها خلافة للنبوة في سياسة الدنيا دون إثارة محتوى مهمة حراسة الدين فيقول: ( فَقَالَتْ طَائِفَةٌ وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ لِمَا فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِزَعِيمٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ وَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فِي التَّنَازُعِ وَ التَّخَاصُمِ ، وَ لَوْلَا الْوُلَاةُ لَكَانُوا فَوْضَى مُهْمَلِينَ ، وَ هَمَجًا مُضَاعِينَ … و َقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : بَلْ وَجَبَتْ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ قَدْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهَا ، وَ إِنَّمَا أَوْجَبَ الْعَقْلُ أَنْ يَمْنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنْ الْعُقَلَاءِ عَنْ التَّظَالُمِ وَ التَّقَاطُعِ ، و َيَأْخُذَ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي التَّنَاصُفِ وَ التَّوَاصُلِ ، فَيَتَدَبَّرُ بِعَقْلِهِ لَا بِعَقْلِ غَيْرِهِ ، وَ لَكِنْ جَاءَ الشَّرْعُ بِتَفْوِيضِ الْأُمُورِ إلَى وَلِيِّهِ فِي الدِّينِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}.).[10]
يتبين من هذا النص أن الماوردي أغفل حجة الراشدين القائلة بأن عقد الإمارة واجب شرعا على جماعة الأمة اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في العقبة الكبرى ليقفز إلى حجة القائلين بوجوبها شرعا امتثالا لأمر الله ورسوله بطاعة أولي الأمر.
واضح أنه تعمد غض البصر عن حجة الراشدين لتفادي النظر إلى الجهة المخولة شرعا وفقهم لتنصيب الخليفة. فبالانتقال رأسا إلى الحديث عن وجوب طاعة ولي الأمر كيفما كانت طريقة تأمره قفز الماوردي على حق جماعة الأمة دون غيرهم في مبايعة الخليفة على الإمارة و على حق أهل الشورى دون غيرهم في تنصيب الخليفة في الإمامة.
إمعانا منه في تجريد أهل الشورى من حق تولية إمام الملة و في تجريد جماعة الأمة من حق تولية أمير الأمة، جعل الماوردي الإمامة فرضا كفائيا على المسلمين حيث قال : (فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ)[11] و لعله نسي أن استخلاف الإمام لمن يليه في رآسة الملة فرض عين على كل خليفة و على من يعينهم من أهل الشورى. نسي الماوردي كذلك أن نهي رسول الله عن الإمعة يفرض عينيا على كل مسلم ومسلمة اتخاذ موقف بالقبول أو الرفض من مبايعة الخليفة في منصب الإمارة.

أخطر شيء في تشريعات الماوردي أنه لا يربط إقامة فريضة الإمامة بأي شرط فهي حسبه قائمة شرعا لمجرد وجود من يتولى الأمر بأي طريقة كانت سواء كان برا أو فاجرا. فقد قال في سبيل تبرير وجوب الإمامة شرعا ( جَاءَ الشَّرْعُ بِتَفْوِيضِ الْأُمُورِ إلَى وَلِيِّهِ فِي الدِّينِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}.فَفَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِينَا وَ هُمْ الْأَئِمَّةُ الْمُتَأَمِّرُونَ عَلَيْنَا .وَ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ فَيَلِيكُمْ الْبَرُّ بِبِرِّهِ ، وَ يَلِيكُمْ الْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَ لَهُمْ ، وَ إِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ).[12]

يذكر الماوردي في هذا النص صراحة أن الطاعة التي بها تقوم فريضة الإمامة واجبة وفق الآية أعلاه لكل من تأمر على الأمة، وأن شرطها وفق الحديث أعلاه هو موافقة الحق. لكنه لا يبين كيف تتمكن الأمة من معرفة موافقة الإمام للحق أو مجانبته له اللهم أن يتولى ذلك أهل الحل و العقد.
في الواقع لا تملك الأمة حسب الماوردي وسيلة لمراقبة الإمام لأنها تحت وصايته، علما أن أهل الحل و العقد في نظر الماوردي لا يمثلون الأمة بالضرورة فقد يمثلون قبيلة أو عشيرة أو حتى أسرة واحدة من دون سائر جماعة الأمة.
لا يفصح الماوردي عن تصوره للرقابة الممكنة على الإمام إلا عند افتراض عدم تأدية المسلمين لفريضة الإمامة على الكفاية فيقول ( و َإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ خَرَجَ مِنْ النَّاسِ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَخْتَارُوا إمَامًا لِلْأُمَّةِ وَ الثَّانِي أَهْلُ الْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمْ لِلْإِمَامَةِ ، وَ لَيْسَ عَلَى مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْأُمَّةِ فِي تَأْخِيرِ الْإِمَامَةِ حَرَجٌ وَلَا مَأْثَمٌ )[13].
على عكس ما هو مقرر في علم أصول الفقه من أن عدم تأدية الفريضة التي على الكفاية تتحول به إلى فريضة عينية على كل مسلم و مسلمة، يصرح الماوردي أنه إذا لم يقم بالإمامة من هو من أهلها انتقلت فريضة إقامتها إلى فريقين من دون جماعة الأمة.

الفريقان هم حسب الماوردي رجال قريش ممن توفرت فيهم شروط الإمامة من جهة و أهل الحل و العقد من جهة أخرى.
نسي الماوردي أو تغاضى عن حقيقة أساسية بخصوص قريش وهي أن رجالا منها بدواتهم قدموا في الإمامة على من سواهم من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار على وجه الفريضة ليتأسس بهم مجلس أهل الشورى.
أما قريش ذاتها فقد قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإمارة على وجه الاختيار و ليس من باب الفريضة، لأن الأصل في الأمر الشورى وقد نبه رسول الله صلى الله عليه و سلم الراشدين إلى ما تملكه قريش من سطوة تجعل الشورى من دونها مستحيلة.
الأخطر من ذلك كله أن الماوردي اختلق فريق أهل الحل و العقد للحلول محل أهل الشورى و الجماعة معا. فهم وحدهم الفريق المخول لتولية الخليفة في منصبي الإمامة و الإمارة معا، لكن عددهم و صفتهم غير مضبوطين.
يقول الماوردي واصفا هذا الفريق (فَأَمَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمْ ثَلَاثَةٌ :
أَحَدُهَا الْعَدَالَةُ الْجَامِعَةُ لِشُرُوطِهَا .
وَالثَّانِي : الْعِلْمُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا .
وَالثَّالِثُ : الرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ الْمُؤَدِّيَانِ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ وَبِتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ أَقْوَمُ وَأَعْرَفُ).
هذه شروط عامة تتوفر مبدئيا في كل مسلم ذكر أو أنثى متى بلغ سن الرشد. فالمسلمون كلهم عدول إلا مجرب في حد كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته للقاضي أبي موسى الأشعري.[14]
مع ذلك لا تكفي الشروط التي شرعها الماوردي في أهل الحل و العقد لتخويلهم صلاحية اختيار من يخلف رسول الله في منصب إمامة الملة. إذ يجب أن تتوفر فيهم نفس شرط أهل الشورى في عهد الراشدين وهي التعيين من قبل الإمام الراشد إن وجد كما كان الشأن بالنسبة للأئمة القرشيين العشرة، فإن غاب الإمام الراشد، فالشرط هو السبق في نصرة الإسلام كما أقر بذلك الإمام علي كرم الله وجهه بالنسبة للبدريين إثر مقتل عثمان كما سيأتي بيانه بتفصيل إن شاء الله.
أما بالنسبة لصلاحية اختيار أمير الأمة فشروط الماوردي في أهل الحل و العقد كافية، بل و متماشية مع مقتضيات القانون المقدس متى قصد بهم جماعة الأمة.
ذلك أن كل مسلم عالم بالحق لنطقه بالشهادة و كلهم حكيم بفعل ذلك. فلا يجوز شرعا أن يوصف بالجهل أو السفه من شهد لله بالوحدانية و لمحمد بالنبوة لأن في ذلك رد لشهادته.
الجهل و السفاهة لا تثبت في حق المسلم و المسلمة إلا بدليل خاص و في مجال محدود ليس منه الشهادة بوحدانية الله و بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، و ليس منه معرفة من يستحق الإمارة و لا اختيار من هو لها أصلح. فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم البيعة على الإمارة في العقبة الكبرى من عامة مسلمي الأوس و الخزرج، و بعد ذلك بشكل مستمر من عامة العرب دون اشتراط درجة علمية أو دليل حكمة.
إقرار الماوردي بالشروط العامة التي تنطبق على كل أفراد جماعة الأمة لم يمنعه مع الأسف من تقييد العمل بها من خلال التشريع في عدد من تنعقد بهم الإمامة.

نسي الماوردي أو تناسى حديث رسول الله الذي يجعل كلمة الفصل للسواد الأعظم عند ظهور الاختلاف، واستبدل واجب النزول على رأي السواد الأعظم بإمكانية الأخذ برأي الفرد الواحد أو الخمسة أفراد فيقول : ( فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعَقْدِ وَ الْحَلِّ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لِيَكُونَ الرِّضَاءُ بِهِ عَامًّا وَ التَّسْلِيمُ لِإِمَامَتِهِ إجْمَاعًا ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَدْفُوعٌ بِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْخِلَافَةِ بِاخْتِيَارِ مَنْ حَضَرَهَا وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِبَيْعَتِهِ قُدُومَ غَائِبٍ عَنْهَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : أَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ مِنْهُمْ الْإِمَامَةُ خَمْسَةٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا أَوْ يَعْقِدُهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْأَرْبَعَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا ثُمَّ تَابَعَهُمْ النَّاسُ فِيهَا ، وَهُمْ : عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَبِشْرُ بْنُ سَعْدٍ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّانِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيُعْقَدَ لِأَحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ : تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ يَتَوَلَّاهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الِاثْنَيْنِ لِيَكُونُوا حَاكِمًا وَ شَاهِدَيْنِ كَمَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِوَلِيٍّ وَ شَاهِدَيْنِ .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : تَنْعَقِدُ بِوَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا اُمْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَيَقُولُ النَّاسُ : عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ ابْنَ عَمِّهِ فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ ، وَ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَ حُكْمُ وَاحِدٍ نَافِذٌ.)[15].
يتبين من هذا النص أن الماوردي يرغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سنة الراشدين فلا يشرع لجمهور أهل الحل و العقد من كل بلد حق اختيار الخليفة بحجة أن بيعة أبي بكر انعقدت بمن حضرها.
حجة الماوردي هذه غير صحيحة لأن الراشدين طبقوا في بيعة أبي بكر مبدأ الاحتكام إلى السواد الأعظم في حدود المدينة المنورة و لم يوسعوه إلى باقي المسلمين في مختلف بلداتهم و مدنهم لعدم اتساع الوقت للتواصل معهم و غياب الوسائل المادية لذلك .
فلو كانت لهم وسيلة للتواصل السريع مع كل جمهور الأمة في كل بلد كما هو الشأن، ليس فقط في عصرنا، بل و كذلك في عصر الخلافة العباسية لفعلوا.
في مقابل إنكار حق جمهور الأمة في اختيار أمير الأمة يظهر الماوردي تحيزا واضحا لرأي القائلين بقصر هذا الحق على خمسة أفراد كحد أقصى وفرد واحد كحد أدنى.
لقد شرع الماوردي حدا أقصى و حدا أدنى لعدد أهل الحل و العقد الذين خولهم دون غيرهم حق اختيار خليفة رسول الله معا في منصبي الإمامة و الإمارة ليس فقط دون مراعاة الفرق بين هذين المنصبين و لكن وهو الأخطر، دون بيان الأساس الذي يقوم عليه حقهم. فقد ساوى في ذلك بين حق العباس في بيعته المنفردة لعلي كرم الله وجهه وبيعة الخمسة من أهل الشورى لعثمان رضي الله عنه.
الخطورة في قول الماوردي تكمن في أنه استشهد ببيعة العباس لعلي كرم الله وجهه و جعلها بنفس درجة بيعة السواد الأعظم لأبي بكر رضي الله عنه و بنفس درجة بيعة أهل الشورى لعثمان رضي الله عنه.
فالعباس على عكس أهل السقيفة و أهل الشورى استعمل قوة العصبية القبلية لمبايعة علي كرم الله وجهه بموجب حق بني هاشم المزعوم في إرث سلطان ابن عمهم محمد صلى الله عليه و سلم.
لقد ابتدع الماوردي بذلك أساسا غير راشد لنظام الحكم السلطاني.

المبحث الثالث: ابتداع أساس نظام الحكم السلطاني

شرٌع الماوردي في أحكامه السلطانية استعمال العصبية القبلية لامتلاك صفة أهل الحل والعقد عندما ساوى بيعة العباس لعلي كرم الله وجهه إثر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ببيعة أهل الشورى لعثمان رضي الله عنه، ففتح الباب لمن شاء أن يجعل العصبية القبلية أساس نظام حكم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
أفشى خطباء العباسيين وعلمائهم ذلك في ثقافة المسلمين لدرجة أن ابن خلدون لم يجد في نهاية القرن الثامن الهجري حرجا من الحديث عن العصبية القبلية كأساس طبيعي للحكم.
غض ابن خلدون من بصره عن أحكام القانون المقدس التي تبطل بصريح العبارة نظام العصبية القبلية و تستبدله بنظام إجماع الأمة.
أخطر ما فعله ابن خلدون هو مواجهته لشرع الله بتصور منه مغلوط لنظام الطبيعة. فقد استشهد بتأويل خاطئ لكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم للقول بتفوق العصبية القبلية، بصفتها نظاما طبيعيا، على نظام إجماع الأمة المقرر بالقانون المقدس.
في سبيل ذلك قال ابن خلدون (كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية و في الحديث الصحيح كما مر ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه و إذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية)[16].
في هذا النص يزعم ابن خلدون أن اعتماد العصبية لإقامة نظام الحكم قانون طبيعي يسمو على الشرع بحجة أنه قد خضع له كل المرسلون بمن فيهم محمد صلى الله عليه و سلم.
يجدر التنبيه إلى أن ابن خلدون اكتفى بملاحظته في أحوال القوم من العرب و البربر ليخلص أن قيام الدولة بالعصبية القبلية قانون طبيعي تخضع له كل الأمم. ( الملك و الدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل و العصبية و ذلك أنا قررنا في الفصل الأول أن المغالبة و الممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة و التذامر و استماتة كل واحد منهم دون صاحبه)[17].
لعله نسي أن القبيلة ذاتها آية من آيات الله في الخلق قابلة مثل غيرها من آيات الكون للنسخ و النسيان، و أن الله عز و جل بعث رسوله صلى الله عليه و سلم في مجتمع قبلي لينسيه آية القبيلة التي نسخها بآية الأمة.
لا يعترف ابن خلدون بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم غلبوا المشركين أولي العصبية بغير عصبية قبلية و لكن بإجماع أمتهم فقط، وأنهم بنفس الإجماع أقاموا نظام الأمة الراشدة.
فكأن محمد صلى الله عليه و سلم أقام دولة شعوبية اعتمادا على عصبية قومهن و لم يقم أمة راشدة اعتمادا على إجماعها؛ فابن خلدون يصرح بأن (الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم)[18] بعد أن أكد بأن (الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها)[19].
دعوة الحق التي جاء بها محمد صلى الله عليه و سلم لم تكن حسب زعم ابن خلدون سوى وقودا لدعوة العصبية التي اعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم لإقامة دولته. يشرح ابن خلدون ذلك في قوله (لأن الملك إنما يحصل بالتغلب و التغلب إنما يكون بالعصبية و اتفاق الأهواء على المطالبة و جمع القلوب و تأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)[20].
لقد تمادى ابن خلدون في اتهام محمد صلى الله عليه و سلم بالاعتماد على العصبية لإقامة دولته لدرجة أنه جعلها سبب الهجرة إلى المدينة المنورة حيث يقول في ذلك (فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي حيث حل من المواطن ينصرونه و يظاهرونه على أمره و يحرسونه و لم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي في المظاهرة و الحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الأعراب)[21]

ليس من سبيل لتبرئة ابن خلدون من تعمد مناقضة شرع الله بإعلاء العصبية القبلية على إجماع الأمة كأساس وحيد لإقامة نظام الحكم الشرعي، لأنه لم يخلط بين الاثنين فهو يقول : (العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه و ذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل و من صلتها النعرة على ذوي القربى و أهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه و يود لو يحول بينه و بين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدا بحيث حصل به الاتحاد و الالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها و وضوحها و إذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه و من هذا الباب الولاء و الحلف إذ نعرة كل أحد على اهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب و ذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريبا منها و من هذا تفهم معنى قوله تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة و النعرة و ما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له و نفعه إنما هو في هذه الوصلة و الالتحام فإذا كان ظاهرا واضحا حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه و إذا كان إنما يستفاد من الخير البعيد ضعف فيه الوهم و ذهبت فائدته و صار الشغل به مجانا و من أعمال اللهو المنهي عنه)[22].

واضح من هذا النص كذلك أن ابن خلدون يجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم داعية إلى التمسك بالعصبية القبلية من خلال الدعوة إلى صلة الرحم.
من جهة أخرى يمكن القول أن ابن خلدون تحدث عن العصبية كأحد البدائل الممكنة لإقامة الدول. فهو يجعل العصبية القبلية طريقا وحيدا لقيام الدولة إذ يقول : (العصبية بها تكون الحماية و المدافعة و المطالبة و كل أمر يجتمع عليه و قدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع و حاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية و إلا لم تتم قدرته على ذلك و هذا التغلب هو الملك).[23]
اجتهاد ابن خلدون لرفع الحرمة الشرعية عن الدعوة العصبية تكامل مع اجتهاد علماء السلطان لإبطال أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرجوع إلى السواد الأعظم عند الاختلاف في الأمر. فمنهم من اتهم رواية ابن ماجة بالضعف في حديث ( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، وإذا و رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم)، و منهم من جعله منسوخا بالآية (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و إلى الرسول ذلك خير وأحسن تأويلا).
مهما طعن العلماء السلطانيون فيما أخرجه الإمام ابن ماجة في سننه من أحاديث فإنهم لا يستطيعون التشكيك في صحتها لأن الأمة أجمعت على تقبلها باعتبارها أحاديث حسنة ليست فيها شبهة الوضع.
أما قول بعض منهم أن حديث السواد الأعظم منسوخ بآية التنازع فهو قول مرجوح لأن النسخ غير وارد في هذا الموضوع ليس فقط لعدم النص عليه صراحة، بل لأن موضوع الآية مختلف عن موضوع الحديث. فالآية المذكورة تأمر برد الأمر إلى الله ورسوله بدل السواد الأعظم عند التنازع فيه و ليس الاختلاف حوله. و التنازع ليس كالاختلاف لأن في الأول ينكر المتنازعون في الأمر على بعضهم البعض صلاحية النظر فيه. بينما في حالة الاختلاف فيعترف المختلفون لبعضهم البعض بصلاحية النظر في الموضوع مع التزام الطرفين بالاحتكام إلى نفس القانون لكن من غير الاشتراك في نفس الرأي حول مقصده.
إنهاء التنازع في الأمر يتم باعتراف الأطراف لبعضها البعض بصلاحية النظر فيه تحت حكم نفس القانون.
يعني ذلك بداهة أن إنهاء التنازع داخل أمة محمد صلى الله عليه و سلم بين أي قوتين أو أكثر فيها يتم باعتراف تلك القوى لبعضها البعض بصلاحية النظر فيه باعتبارها تشكل أمة موحدة.

مؤكد أن ذلك الاعتراف المتبادل يتضمن القبول بتطبيق القانون المقدس الذي لا يخلو من حل، لأنه يبين الحكم المطلوب في النازلة أو على الأقل الجهة ذات الاختصاص لاتخاذ القرار فيه.

فمثلا تنازعت عائشة أم المؤمنين و معها طلحة و الزبير رضي الله عنهم جميعا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه و مبايعيه على أمر القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه.
كان بإمكان عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن تستمر في النزاع حتى بعد انهزام جيشها في موقعة الجمل، لكنها قررت الانتقال إلى حالة الاختلاف بدل النزاع.
فعلت عائشة رضي الله عنها ذلك باتفاقها مع علي كرم الله وجهه على الاعتراف لبعضهما البعض بصلاحية النظر فيه باعتبارهما من أمة واحدة، فقبلت معه برد الأمر إلى الله و رسوله.
و كما هو معلوم يبين القانون المقدس حكم الله في نازلة اغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه باعتبارها جريمة سياسية من خلال القياس على حالات مماثلة من جرائم سياسية لا تقل عنها خطورة.
فقد قام شيوخ قبائل المشركين بقتل المستضعفين من المسلمين و نهب أموالهم في إطار معارضتهم لنظام الإسلام، و قام كذلك المنافقون لنفس الغرض بالمساس بأمن الأمة في قضية مسجد الضرار، و بالقذف في حق عائشة أم المؤمنين نفسها للنيل من رسول الله بصفته رئيس الأمة، و مع ذلك عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم جميعا تفاديا للفتنة.
لذلك كفت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان تاركة النظر في شأنهم للسلطان بعد اتفاقها مع علي كرم الله وجهه على رد الأمر إلى الله و رسوله.

تحولت العلاقة بين الطرفين بعدئذ من تنازع في الأمر إلى اختلاف حوله. فعائشة ظلت ترى أنه من المصلحة السياسية الاقتصاص من قتلة عثمان ليس فقط لحفظ هيبة منصب الخلافة بل و لدرئ فتنة الثأر القبلي التي أثارها الأمويون، و التي كانت أشد من فتنة تمرد قتلة عثمان رضي الله عنه.
فعلى عكس التنازع بين عائشة و علي رضي الله عنهما، تنازع بنو أمية مع الراشدين على السلطان نفسه و ليس فقط على القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه. ذلك أن بنو أمية لم يعترفوا بشرعية سلطان الأمة الذي في ملكية الراشدين لأنه سلطان لا يأخذ بحق الثأر القبلي.
فقد رأى الأمويون في امتناع الراشدين عن القصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه إنكارا لحق قبيلة قريش في الثأر حسب زعمهم.
لم يعترف الراشدون من جهتهم للأمويين بصلاحية امتلاك سلطان الأمة بحجة تسليم السواد الأعظم الأمر لهم، كما أنهم لم يستجيبوا لمطلب قريش في استعمال حق الثأر الذي أبطله القانون المقدس.
رفض الأمويون بفعل ذلك أن يكونوا مع الراشدين أمة واحدة تحتكم لنفس القانون المقدس الذي هو أمر الله و أمر رسوله.
فبينما تمسك الراشدون بشرع الله، كان الأمويون يبغون حكم الجاهلية.
إصرار الأمويين على التنازع مع الراشدين كان أمرا محسوبا لعلمهم أن في إنهائه خسارة لهم.
فلو أنهم قبلوا برد الأمر إلى الله و رسوله للزمهم النزول عند حكم السواد الأعظم الذي جعله الله الجهة المختصة للحكم عند الاختلاف حول امتلاك سلطان الأمة.
لأجل ذلك ظلوا يناورون لمنع الاحتكام إلى القانون المقدس إلى أن قرر الراشدون تسليم الأمر لهم تفاديا لفتنة الزندقة التي كان السبئيون ورائها.
رغم طول مدة تسلط النظام العصبي على أمة محمد صلى الله عليه و سلم كان مآله الزوال لمخالفته الحق.

الفصل الثالث: مآل الوصاية السلطانية

استولى معاوية بن أبي سفيان و من بعده كل السلاطين على منصبي الخلافة معا، كل باستعمال قوة العصبية القبلية، و مارسوا الوصاية السياسية على الأمة إلى غاية مطلع القرن العشرين حيث ألغيت الخلافة العثمانية.
لم يكن لأي سلطان سبيل لإتباع خلفاء رسول الله الراشدين بإحسان. فكل من هؤلاء جمع منصبي الخلافة بطريق القبول الجماعي و الاستخلاف الإمامي معا بدليل أنه لما ووجه الخليفة عثمان بالرفض الجماعي تنازل عن إمارة الأمة و لم يحتفظ بغير منصب إمامة الملة.
أما السلاطين فلم يكترث أي منهم بالقبول أو الرفض الجماعي بقدر ما اهتموا بتدعيم قوة عصبيتهم القبلية. لكن تلك قوة لا تدوم. ليس فقط لأنها تفتر مع الوقت بفعل البذخ، و لكنها آية كونية قابلة للنسخ و النسيان، و قد نسخها الله بالفعل من حياة أمة محمد صلى الله عليه و سلم بإذاعة التمدن فيها.

المبحث الأول: نسخ آية العصبية القبلية.

يقول الله عز و جل في محكم التنزيل: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير، ألم تعلم أن الله له ملك السماوات و الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير)[24].
يكشف الله عز وجل في هذه الآية عن قانون النسخ الكوني الذي يستبدل بموجبه مكونات ملكه الدنيوي بعضها ببعض إما بالإزالة من الوجود أو بالنسيان من طرف الخلق.
فالمخلوقات المادية التي جعلها الله في الكون مثل البشر و الحيوان و الشجر و الحجر، و كذلك الهيئات التي جعل الله عليها هذه المخلوقات كلها آيات تخضع لقانون النسخ الكوني.

يهمنا من هذه الآيات هيئة القبيلة التي جعل الله عليها الناس مصداقا لقوله عز و جل : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).[25] فالقبيلة آية من خلق الله وليست رجسا من عمل الشيطان. غير أنها ككل المخلوقات تحمل في طياتها الخير و الشر.
ليس خافيا أن عقيدة المسلم الراشد في تحصيل المعرفة هي أن الله سبحانه عز و جل هو الأعلم بخير ما خلق و هو الأعلم بشر ما خلق و أنه متى أخبر الله عز و جل عن خير أو عن شر في أي شيء لا مجال للاجتهاد العقلي بعد ذلك.
أخبر الله عز و جل عما خلق من خير في القبيلة على لسان نبيه محمد صلى الله عليه و سلم من خلال الأمر بصلة الرحم. فالقبيلة نعمة أنعم الله بها على الإنسان الفرد بما توفره له من مودة بني عمه تزيل عنه الوحشة الاجتماعية.
أخبر الله عز و جل كذلك عما خلقه من شر في القبيلة من خلال النهي على لسان نبيه محمد صلى الله عليه و سلم على العصبية القبلية. فالقبيلة شر مستطير متى استعملت كقوة لمؤازرة أفرادها ضد غيرهم لأنها لا تميز بين الحق و الباطل.
أثبت علم الإناسة أن تجمعات البشر كلها مرت بمرحلة الحياة القبلية لكنها لم تدم فيها، و ذلك دليل على أن القبيلة معرضة لقانون النسخ الكوني.

بالفعل لم يعد لهيئة القبيلة وجود في الحياة الاجتماعية لكثير من الأمم على رأسها أمم أوربا الغربية. بل يلاحظ أن هيئة القبيلة آخذة في الاختفاء من حياة كل الأمم تقريبا بفعل تطور العمران الحضري بعد أن ظلت لآلاف السنين أداة العمران البدوي.

لقد سبق ابن خلدون علماء العصر الحديث إلى ملاحظة ذلك من خلال رسمه لبيان منحنى العصبية القبلية حيث قال إن {العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه…}[26] و أن {الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر … فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم و لا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله و أمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم و فسادها و لا تزال بينهم محفوظة صريحة و اعتبر ذلك في مضر من قريش و كنانة و… و أما العرب الذين كانوا بالتلول و في معادن الخصب للمراعي و العيش من حمير و كهلان مثل لخم و جذام و غسان و طي و قضاعة و إياد فاختلطت أنسابهم و تداخلت شعوبهم ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف و إنما جاءهم ذلك من قبل العجم و مخالطتهم و هم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم و شعوبهم و إنما هذا للعرب فقط قال عمر رضي الله تعالى عنه تعلموا النسب و لا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا … و قد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن … ثم وقع الاختلاط في الحواضر … و فسدت الأنساب بالجملة و فقدت ثمرتها من العصبية فأطرحت ثم تلاشت القبائل و دثرت فدثرت العصبية بدثورها و بقي ذلك في البدو كما كان و الله وارث الأرض و من عليها}.[27]
باعتراف ابن خلدون، تتعرض آية القبيلة للنسخ الكوني مع ضعف عصبيتها عند خروج أفرادها من حالة الحياة الوحشية و انتقالهم إلى حالة الحياة المتحضرة سواء في البوادي أو الحواضر علما أن السكنى في الحواضر أشد أثرا عليهم.
ما من شك أن نظام الإسلام الراشد كما بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى ليسرع وتيرة عملية النسخ الكوني للقبيلة ليس فقط بالنهي عن العصبية و لكن بالتشجيع على حياة التحضر و ذم حياة التوحش.
كانت المسيرة الراشدة قادرة على تحقيق ذلك في وقت مبكر لولا التشويش السبئي الذي اضطر الراشدين إلى التوقف عن عملية النسخ الكوني للقبائل العربية من أجل استعمال عصبياتها سدا يحتمي الدين خلفه من طوفان الزندقة.
رغم توقف الراشدين عن دفع عجلة النسخ الكوني لآية القبيلة لم يتوقف عنها عامل التطور البشري.
فقد تحضر المسلمون جميعا و لم يعد من بينهم من يوجد في حالة وحشية.

إذ لو نظرنا إلى خريطة التوزيع السكاني بين المدن والبوادي للعرب مثلا نجد أن أكبر نسبة منهم يسكنون الحواضر. ففي الكويت يعيش أكثر من 96% من مجموع السكان في الحواضر، و تزيد هذه النسبة عن 93% في البحرين، وعن 93 في قطر ، وعن 90% في لبنان، وعن 88% في ليبيا، وعن 87 في السعودية، و عن 87 في الإمارات العربية المتحدة، و عن 79 في الأردن، وعن 77 في عمان، وعن 67% في العراق، و عن 66% في تونس، وعن 59 في موريتانيا، و عن 58 في الجزائر ، وعن 56 في المغرب، وعن 52 في سوريا، وعن 43 في مصر، وعن 37 في السودان، وعن 28% في الصومال، وعن 25 في اليمن.

صحيح أن نسبا كبيرة من السكان لا زالت تقطن في البوادي بمصر واليمن والصومال والمغرب والجزائر وسوريا والعراق وتونس والسودان و موريتانيا، لكن سكان البوادي هؤلاء بمن فيهم الرحل في الصحارى لم يعودوا متوحشين كما في الماضي.
لقد اندثرت فيهم العصبية القبلية و لم يعد بفعل ذلك للقبيلة نفس الثقل السياسي الذي كان لها من قبل. صحيح أن ثقافة الانتماء القبلي لا زالت رائجة بين العرب كما غيرهم من المسلمين في إفريقيا و آسيا، لكن الأفراد المسلمين تحرروا كلهم من الوصاية القبلية التي هي عماد العصبية.
بفقدان وصايتها السياسية على الأفراد، لم تعد القبائل قادرة على خوض الحروب و لا التصرف في مصائر أعضائها. لم يعد بمقدور أي حاكم التعويل على قبيلته للسيطرة على السلطة بأي ثمن، إلا أن يدفع لأفرادها مقابل خدماتهم، شأنهم في ذلك شأن غيرهم.
لم تزُل الوصاية القبلية عن الأفراد المسلمين وحدها، بل زالت معها كذلك الوصاية السلطانية على الأمة.

المبحث الثاني:تطور الوصاية السلطانية.

بدأت الوصاية السلطانية على أمة محمد صلى الله عليه و سلم سياسية و استمرت كذلك إلى غاية القرن الرابع الهجري لتصبح دينية أيضا مع سد باب الاجتهاد.
فإلى غاية القرن الرابع الهجري اقتفى السلاطين العباسيون أثر الأمويين في استعمال لقب خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم للوصاية السياسية دون الدينية على الأمة.
تركوا الحرية للعلماء الراشدين يجمعون نصوص القانون المقدس و يوثقونها وفق الضوابط العلمية. لكنهم آثروا في القرن الرابع الهجري الأخذ بسد باب الاجتهاد و حيازة الوصاية الدينية على الأمة بالإضافة إلى الوصاية السياسية.
لم تعد بعد ذلك لمنابر العلم حرية الفتوى بغير ما هو معروف من أقوال العلماء المقبولين من طرف الخليفة، سواء عاشوا قبل سد باب الاجتهاد أو بعده.

على عكس أئمة الدول الرافضية و الصوفية اقتفى كذلك العباسيون، و معهم السلاطين في كل الأيالات المستقلة، ومن بعدهم العثمانيون، أثر الخلفاء الأمويين في عدم ادعاء العصمة. لأجل ذلك لم يسْعَ أي منهم للتغطية بشخصه على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، و لا لحجب أشخاص الصحابة و كلام الله و سنة نبيه بل و لا حتى فقه أئمة الاجتهاد الراشدين مثل مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد بن حنبل.
مع ذلك فقد ألحقت الوصاية الدينية ضررا كبيرا بالفقه الإسلامي بتحويله من مصدر للأحكام الراشدة إلى مصدر لأحكام سلطانية مبتدعة و ضالة.
رغم فساد الأحكام السلطانية و ما تعلق بها من ممارسات سياسية و إدارية، بقي دين الإسلام في عز و منعة من التحريف منذ عهد النبوة لحين زوال خطر تحريفه بعد اثني عشر قرنا.
فقد ظلت وصاية سلطان العصبية القبلية بامتدادها الشعوبي تجعل دين الله في منعة من التحريف من القرن الثامن الميلادي إلى غاية القرن التاسع عشر الميلادي الذي تطورت فيه وسائل النقل و المواصلات و الطباعة، و انتشر استعمالها في دار الإسلام.
صار الرأي العام الإسلامي يملك بذلك القدرة على التشكل و اتخاذ الموقف الفوري من أي عمل يراد به تحريف الدين.
باتت الأمة بذلك قادرة على مواجهة دعاة النبوة الكاذبين و كذلك نشرات التحريف للدين دون حاجة للسلطان، فأغناها الله عن وصاية هذا الأخير بأن هيأ أسباب النسخ الكوني لآية القبلية التي بعصبيتها تمكن السلاطين كلهم من التسلط على المسلمين.
يجب الاعتراف أن المسلمين لم يقوموا بمجهود ذاتي منهم بإخراج قبائلهم البدوية من حالة التوحش إلى أحوال التحضر التي بها خبت نار العصبية، و إنما كان ذلك بتسليط الكفار المستعمرين عليهم.
فقد شاء الله عز و جل بحكمته البالغة أن تعرضت أكثر الشعوب المسلمة خلال القرن التاسع عشر للغزو الأوروبي، و اضطر المستعمر لهدم البنيات القبلية فيها بسبب خطورتها العسكرية عليه. لأجل ذلك خططت الإدارات الاستعمارية الفرنسية و البريطانية و الهولندية و الإسبانية و الإيطالية لبناء المدن و جعلها مراكز استقطاب لسكان البوادي.
تفشى بفعل ذلك التحضر بين المسلمين، و تحرر أفرادهم من وصاية قبائلهم ففقد سلاطينهم أساس قوتهم وسهل على الجماعة التخلص منهم.

كان منهم من عزلته قوى علمانية مثل السلطان العثماني في تركيا و كان منهم من تنازل طواعية عن وصايته الدينية والسياسية مثل السلطان العلوي في المغرب.
صدق بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخبر أن الإسلام سيظل في عز إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش. فقد صح عن جابر بن سمرة قال: ( انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و معي أبي فسمعته يقول لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة فقال كلمة صمنيها الناس فقلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش)[28].
لا يصدق هذا الحديث إلا أن يحمل معنى الخليفة فيه على أنه القرن من الزمن باعتبار أن أجياله تخلف أجيال القرن الذي قبله، و لا يمكن أن يكون لكلمة الخليفة غير هذا المعنى لأن دين الإسلام ظل فعلا في عز طيلة اثني عشر قرنا لم تتخللها مراحل الذل و الهوان.

ففي أحلك الظروف حين تزامن الهجوم على دار الإسلام من الصليبيين و المغول و التتار قام سلاطين المماليك في مصر بدحر الغزاة وهزموهم شر الهزائم رافعين بذلك راية الإسلام خفاقة في عزة.
فلو كان المقصود بالاثني عشر خليفة، اثني عشر شخصا من الناس لم يخرج أمرهم عن أن يكونوا متتالين كما يدعي الروافض الاثني عشرية ، أو متفرقين كما يدعي غيرهم و ذلك غير ممكن في الحالتين.
فالإسلام لم يفقد عزه بعد الإمام الرافضي الثاني عشر، و لم يفقد الإسلام عزه كذلك تحت أي سلطان طيلة الاثني عشر قرنا من القرن الثامن الميلادي الذي هو القرن الأول من خلافة قرن رسول الله و أصحابه و الذي نشأ فيه الدين و استتب له الأمر، إلى غاية القرن العشرين حيث تعرض المسلمون للإذلال من الاستعمار الكافر.
لا يصدق هذا الحديث كذلك إلا أن يحمل نسب الخلفاء فيه إلى قريش على أنه النسب لنظامها السلطاني و ليس النسب لأصلابها لأن العثمانيين لم يكونوا من أصلاب قريش و قد ظل الدين عزيزا في منعة تحتهم ثلث المدة التي نبأ بها الحديث.

المبحث الثالث: الصحوة الراشدة.

اختلف العلماء في تقييمهم لعملية عزل الخليفة العثماني في المشرق و لتحول السلطان العلوي في المغرب إلى النظام الملكي الدستوري بين متشائم و متفائل.
أما المتشائمون فوجدوا في حين ذلك أن زوال وصاية السلطان مدعاة للتسيب لأن الدين يترك دون حارس، بينما وجد المتفائلون في ذلك مدعاة لتجديد النهج الراشد الذي ظل السلاطين يصدون الأمة عنه.
بحمد الله يمكن الجزم بأن الأحداث جاءت بما يصدق المتفائلين. فقد تفشى التدين في المسلمين بشكل لم يعهد له نظير، و عمت الصحوة الراشدة دار الإسلام و بات العلماء يتسابقون لتجديد النهج الراشد.
زوال الوصاية السلطانية على أكثر المسلمين فتح لعلمائهم باب الاجتهاد و أعاد لعوامهم حرية توطين أنفسهم بالتحزب السياسي مع الحاكم أو ضده.
إلا ما نذر من حكام يتوهمون أنهم ممتنعون بعصبيتهم القبلية، فلا يسمحون لمن تحت سيطرتهم بالمشاركة في الحكم، تعترف دساتير بلدان المسلمين في مجملها بالتعدد الحزبي و حق الترشح لعضوية المجالس التشريعية بل و حتى لرئاسة الدولة.
صحيح أن الأنظمة الدستورية لا زالت بعيدة عن النهج الراشد من حيث أنها لا تراعي الفصل بين وظيفتي الإمامة الدينية و الإمارة الدنيوية.
بل إن أكثر الدساتير في بلاد المسلمين لا تخضع مجلس الإمارة للرقابة السياسية لمجلس الجماعة و لا إلى الرقابة القضائية المستقلة، علما أنه وفق النهج الراشد يخضع القضاء و مجلس الإمارة و مجلس الجماعة و السواد الأعظم و رئاسة الملة جميعا للقانون المقدس تحت الرقابة العلمية لأهل الشورى حتى لا يكون فصل بين الدين و الدولة.
رغم هذا العجز الدستوري الفادح، فقد كان فتح باب المشاركة السياسية فرصة الراشدين للعودة إلى ساحة العمل بعد إقصاء دام اثني عشر قرنا.
رغم محاولات الردة إلى نظام الوصاية الدينية التي ينفذها عملاء الإمبريالية الغربية على غرار ما فعل السبئيون في العهد الراشد الأول، صارت أحزاب الإسلام الراشد حاضرة بقوة في كل بلد من دار الإسلام يجمعها برنامج واحد هو تجديد النهج الراشد في نظام الحكم.
بل إن من كانوا يشكلون أتباعا لطائفة أهل العصبية القبلية أصبحوا يشكل سواد الأمة الأعظم الذي يحقق سبقا واضحا في مجال التخلص من الوصاية الدينية و السياسية، و هو آخذ بفعل ذلك في استقطاب أغلب الداخلين الجدد في دين الإسلام و احتواء فلول طوائف الروافض و المتصوفة و الخوارج.

الفصل الرابع : حكم إسلام طائفة أهل العصبية القبلية.

حكم الشرع على طائفة أهل العصبية القبلية مختلف في نظر الراشدين عنه في نظر الطائفيين من خوارج و روافض.
يخضع الراشدون في حكمهم جميعا لضوابط القانون المقدس التي تمنع التكفير و تقضي بترك باب المصالحة مفتوحا مع البغاة. أما الطائفيون فيخضعون في حكمهم جميعا لنظرة الوصي على الأمة، فيبيحون التكفير لمصلحته.

المبحث الأول: موقف الراشدين

حكم الراشدين على طائفة أهل العصبية القبلية أصدره الخليفة الحسن بن علي رضي الله عنهما حين تنازل للأمويين على القيادة باعتبارهم مسلمين و ليسوا كفارا.
تنازل الراشدين عن القيادة كان ثمن الصلح مع بني أمية لإنهاء الفتنة معهم و ليس لتبرئتهم من فجورهم.
زالت بالصلح مع الراشدين عن بني أمية صفة البغاة، فصار سلطانهم شرعيا، لكنه لم يصبح راشدا لما ظل فيه من جور؛ فقد ظل يتصف بالفجور.
من الصعب تبرئة السلاطين جميعا من الفجور في الحكم بمن فيهم من قام الليل و صام الدهر و كان يحج عاما و يغزو آخر، ذلك أنهم و إن صدقوا في عبادة الله لم يؤدوا أمانة الحكم، إذ لم يسْع أي منهم إلى الالتزام بنهج الراشدين رغم قدرتهم جميعا على ذلك.
أما القول بأن حماية السلاطين للدين من خطر الزنادقة مبرر شرعي لجورهم، فقول مردود. إذ لو كان ذلك ضرورة شرعية لفعلها الراشدون.
لم يجرؤ الراشدون على الاستبداد بالحكم رغم علمهم بخطر الزنادقة على الدين. لم يكونوا ليفعلوا ذلك و هم العالمون بأن الله غني عن استبدادهم لحماية دينه. فقد تكفل الله عز وجل بحفظ دينه بنفسه في قوله سبحانه وتعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون)[29].
ليس الراشدون من جهة أخرى بالذين ينتظرون أن تشفع لهم حماية الدين عند الله من الفجور و هم العالمون أن الجهاد بالنفس كما بالمال أو العلم لا يشفع من ذلك. جاء في الحديث الصحيح بهذا الشأن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت و لكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل تعلم العلم و علمه و قرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم و علمته و قرأت فيك القرآن قال كذبت و لكنك تعلمت العلم ليقال عالم و قرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل وسع الله عليه و أعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)[30] .
ما من شك أن الحاكم الذي يفرض وصايته على أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا يقصد بها وجه الله و لو ادعى ضرورتها لحفظ الدين. فكما لا يقصد وجه الله في الصلاة بغير وضوء و لا تيمم، و لا يقصد وجهه في الجهاد بالفرار من الزحف، لا يقصد وجه الله في الحكم بغير التزام نهج الراشدين.
لقد أدرك العلماء السلطانيون منذ بداية الانقلاب الأموي استحالة إيجاد دليل من القرآن أو السنة الصحيحة للاحتجاج على الله بأن ضرورة حفظ الدين تشفع للسلطان من استبداده. لذلك نراهم يستعملون حججا من لدنهم شرعوا بها من عندهم وصاية السلطان على الأمة.
ليس الأمر كذلك البتة بالنسبة لفريق الراشدين من كبار الصحابة بقيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه الذين استدعوا العصبية العربية للوقوف سدا في طريق حزب السبئية إلى وظائف السلطة، و لا لفريق الراشدين من صغار الصحابة بقيادة الحسن بن علي رضي الله عنهما الذين تركوا الحكم للأمويين بعد أن تبين لهم اضمحلال قوتهم العسكرية.
فقد كان كلاهما أمام قوم ينتهزون جهاد الأمة ضد أعداء دينها لقضاء مآرب دنيوية لا تضر بالدين.
مؤكد أن بني أمية لم يكونوا كلهم منتهزين لفرصة جهاد الأمة لطلب الدنيا، فقد كان منهم كثير من الشهداء في سبيل الله حقا و كثير من السابقين الأولين إلى الهجرة و النصرة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه بشهادة رسول الله و شهادة المؤمنين. لكن ذلك لم يمنع غالبية عشيرتهم من الميل إلى طلب الدنيا وحدها و لو من خلال منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الرؤيا. فقد جاء في سنن الترمذي أنه : ( قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال سودت وجوه المؤمنين فقال لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك …) [31]
و ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء عن ابن كثير و عن ابن جرير رواية لحديث يقول أنه ( رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك …)[32].
لقد تأكد الراشدون من جيل كبار الصحابة بقيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه من نوايا بني أمية و علموا أنهم لا يطلبون غير الدنيا، وأنهم بسبب ذلك لا يشكلون خطرا على الدين فتركوهم يكتسحون وظائف السلطة لسد الطريق على السبئية لما تبين لهم أن السبئية لا تملك اختراقهم.

تأكد كذلك الراشدون من جيل صغار الصحابة و التابعين بقيادة الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين من نفس الشيء لما تبين لهم اضمحلال قوتهم العسكرية، فتركوا القيادة لبني أمية.
حسن الظن بالصحابة و الراشدين عموما يقتضي منا أن نجزم بأن تركهم بني أمية يتقدمون في مسعاهم كان بنية نصرة دين الله و ليس مشاركتهم في الاستبداد. و الدليل الشرعي على براءة الراشدين من مشاركة بني أمية في استبدادهم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الذي قلت إنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا و قد مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم إلى النار قال فكاد بعض الناس أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت و لكن به جراحا شديدا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال الله أكبر أشهد أني عبد الله و رسوله ثم أمر بلالا فنادى بالناس إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) [33].
يؤخذ من الحديث حكم السماح للرجل الفاجر بالمشاركة في الجهاد رغم العلم بفجوره، فقد صرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن دخول الرجل الفاجر إلى النار لا يمنعه من أن يستعمله الله عز و جل ليؤيد به دينه.
بالفعل، رضي الراشدون باستعمال الله بني أمية لتأييد دينه دون مشاركتهم في استبدادهم كما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك الرجل الفاجر يقاتل في غزوة خيبر دون مشاركته فجوره.
كان ذلك منهم سياسة راشدة بامتياز، فقد ضاق الخناق على السبئية ليس فقط بهزيمتهم السياسية والعسكرية بل و كذلك العلمية.

المبحث الثاني: الموقف الطائفي

على خلاف المتصوفة لا يعترف الخوارج و لا الروافض بإسلام طائفة أهل العصبية القبلية.
يؤسس الخوارج موقفهم هذا على قاعدة كفر مرتكب المعاصي من الكبائر التي يعتبرون من أخطرها ترك الشورى. أما الروافض فيبنون موقفهم على قاعدة كفر النواصب أي كل من لا يقبل الخضوع لأرستقراطية العلويين من بني الحسن و الحسين رضي الله عنهما.
في حين ذلك يلتزم المتصوفة موقف الحياد تجاه من لا يخضعون لوصاية أئمتهم، فلم يثبت أن أي طريقة أو زاوية قالت بكفر مخالفيها.
في مواجهة التكفير الخارجي و الرافضي، يستفيد أتباع طائفة العصبية القبلية بما لها من امتداد شعوبي ظاهر في العصر الراهن، من موقف الراشدين الذين لا يكفرونهم و إن عدوهم بغاة مبتدعين.
لتثبيت موقفهم، يجد الخوارج و الروافض أنفسهم مضطرين للتحلل من موقف الراشدين. فالخوارج يتوصلون إلى تكفير أهل السنة من خلال تكفير عثمان و علي و الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعا فلا يقيمون لمواقفهم من بني أمية وزنا.
أما الروافض فيكفرون كل الراشدين باستثناء من كان من بني هاشم و من يضنونه دعا بدعوتهم من الصحابة مثل أبي ذر الغفاري و سلمان الفارسي و عمار بن ياسر و محمد بن أبي بكر و غيرهم من كبار و صغار الصحابة الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، الذين كانوا عيونا ساهرة تعمل في الخفاء بكفاءة عالية لاختراق صفوف السبئية قصد كشف أسرارهم و تخبيلهم.
في ردهم على مواقف الراشدين من بني هاشم مثل علي كرم الله وجهه يعكس الروافض الحجة التي تبرئ فرقة المخبلين من الصحابة ممن اضطرهم واجبهم المهني إلى التظاهر بالولاء القبلي أو أي ولاء غيره على حساب الولاء لحزب الله الراشدين.
يدعي الروافض أن من نعدهم راشدين من بني هاشم كانوا في سرهم يعارضون الراشدين منذ تولي أبي بكر رضي الله عنه الخلافة، و لم يوافقوهم الرأي علنا قط إلا تقية.

بل إنهم يزعمون أن الإمام علي كرم الله وجهه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، مارسوا معا التقية على الصحابة خاصة أبي بكر و عمر رضي الله عنهما لكونهما منافقين حسب زعم الروافض.
لا شك أن قول الروافض هذا مردود لأن التقية من رسول الله صلى الله عليه و سلم و علي كرم الله وجهه على أبي بكر و عمر رضي الله عنهما لم تكن لتحدث من غير اشتراك الله عز و جل معهما فيها، و الله سبحانه و تعالى لا يتقي من أحد، فهو لا يستحي من الحق و لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء.
مع ذلك نجد من مراجع الروافض من يحرص على نسبة العجز و الخوف إلى الله عز و جل بقولهم أنه سبحانه و تعالى أنزل من الوحي بالقرآن و الحديث ما يبين علامات المنافقين دون تعيينهم بأسمائهم و ذلك تقية منه تعالى.
تلك حجة مدحوضة، لأن الإخبار الرباني عن علامات المنافقين وصفاتهم جاء في سياق تنظيم التعدد الحزبي و ليس الكشف عنهم.
لقد بين الله الفرق بين حزب الله من الراشدين و حزب الشيطان من المبتدعين و المنافقين و الكفار بذكر صفات كل منهما و رسم نماذج شخصياتهما.
ذكر الله صفات حزب الله من الراشدين و رسم نماذج شخصياته من خلال أشخاص الصحابة المبشرين بالجنة منهم أبو بكر و عمر رضي الله عنهما، و في الوقت نفسه ذكر صفات حزب الشيطان من المبتدعين و المنافقين و الكفار و رسم نماذج لهم من خلال أشخاص المبشرين بالنار مثل أبي لهب و امرأته، و عبد الله بن أبي سلول.
أما القول أن عليا كرم الله وجهه مارس من تلقاء نفسه التقية على الصحابة فليس أقل خطأ من القول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يشترك معه فيها. إذ ليس علي كرم الله وجهه بالذي يخالف نهج رسول الله في التعامل مع أصحابه، فيخرج من حزب الله و يخدع من شهد له الله و رسوله بالصدق.

فقد ظل علي كرم الله وجهه يطمئن لأبي بكر و عمر وعثمان رضي الله عنهم، و لم يظهر منه قط في السر أو العلن ما يشكك فيهم؛ بل إنه سمى أولاده بأسمائهم، و زوج ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا.
رغم اتفاق الروافض مع الخوارج على تكفير طائفة العصبية القبلية، فإنهما يختلفان في كيفية تطبيق ذلك.
يعمل الروافض بالتقية في تصرفاتهم مع كل ذي شوكة متربصين به الدوائر.
فحين تمكن الروافض الأدارسة من بلاد فاس و تمكن بعدهم الروافض الفاطميون من أفريقية كلها مع أرض مصر أبادوا كل من لم يخضع لأرستقراطيتهم.
غير أنه في حضور السلاطين العثمانيين ذوي النجدة، لم تجرؤ أي دولة شيعية على المساس بأتباع طائفة العصبية القبلية ممن دانوا بالولاء الديني للباب العالي.
فخوفا من الأتراك، أفتى مراجع الدولة الصفوية في بلاد فارس و من ارتبط بهم من رجال الحوزة في العراق و الخليج و اليمن و الحجاز و الشام بحق أتباع الطائفة السلطانية في العيش تحت حماية إمامهم، مبررين ذلك في الظاهر بالقياس على حالة أهل الكتاب من اليهود و النصارى. و بذلك يفتي أيضا مراجع الجمهورية الرافضية في إيران و من ارتبط بها في العراق و سوريا و لبنان و مصر و السعودية و البحرين و الكويت خوفا من الرأي العام العالمي.

غير أن حقيقة مذهب الروافض أنه يجب ممارسة التقية مع النواصب متى كان ميزان القوة لا يسمح بتقتيلهم. فالكتابي، و المشرك و الملحد و الوثني أحب إلى الروافض من المسلم غير الرافضي.

هذا الأخير لا يملك ذمة عند أئمتهم لكونه ناصبي مشترك في مؤامرة أبي بكر و عمر رضي الله عنهما لمنع ،حسب زعمهم، فاطمة الزهراء رضي الله عنها من إرث أموال أبيها محمد صلى الله عليه و سلم، و لمنع علي كرم الله وجهه من إرث ،حسب زعمهم كذلك، خلافة ابن عمه محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
التقية في التعامل مع المسلمين غير الروافض تعطي للحاكم الرافضي سلطة تقديرية تسمى فقه الواقع في تنفيذ حكم الإبادة. و ذلك وفق درس تعلموه من أخطاء أئمة الأدارسة و الفاطميين في تعاملهم مع سكان شمال إفريقيا و مصر.
فقد تجاهل أئمة الأدارسة و الفاطميين واقع ميزان القوى لتنفيذ برنامجهم ضد المسلمين و شرعوا في إبادة من ليس على مذهبهم، فكان أن تظاهر لهم الناس بالرفض تقية و أعادوا تنظيم صفوفهم سرا لينقضوا على الروافض بدورهم و يبيدونهم.
ترتب عن خطأ أئمة الروافض من الأدارسة و الفاطميين، الذين يفترض حسب زعمهم أنهم معصومين، أن فنيت طائفتهم في مصر و بلاد المغرب، و بات العمل لإعادتها إلى تلك المنطقة يعد في عرف دولها مساسا بالأمن القومي.
مثل ذلك، كانت مراعاة أئمة الروافض الاثنا عشرية من الفرس مع من ارتبط بهم من العرب خطأ فادحا لهم.
فقد ترتب عن فقه الواقع في تعامل حكومات الروافض في بلاد المشرق مع المسلمين غير الروافض بقاء أعداد كبيرة منهم في بلادهم.
مؤكد أن هؤلاء يشكلون بمجرد تواجدهم بين جماهير أتباع الطائفة الرافضية في عهد الصحوة الراشدة عاملا لطيفا لفناء المذهب الرافضي.
فهم ليسوا في حاجة للتمرد ضد حكومات بلادهم و لا حتى مجادلة علماء الحوزة الرافضية، بل يكفيهم التعبير عن حبهم لأهل بيت رسول الله جميعا مع الصحابة و المسلمين جميعا بكل حياد كما يأمر بذلك شرع الله دون سب و لا قذف لأي ميت أو حي ليسفهوا بذلك قول المراجع و الأئمة المزعوم عصمتهم. فهؤلاء يصورون لهم المسلمين غير الروافض، كذبا و زورا، على أنهم حاقدون على أهل البيت يفرحون لما أصابهم من محن و يسبونهم سرا و علنا، و واقع الحال على عكس ذلك تماما.
لقد فطن مراجع الروافض لهذا الخطر في وقت متأخر، إذ كان بمقدورهم الحصول على موافقة الشاه في إيران لطرد المسلمين غير الروافض منها كثمن لإبقائه في الحكم لكن الله عز و جل صرفهم إلى الثورة عليه.
بالفعل، لم يستوعب قادة الثورة الإيرانية خطر المسلمين غير الروافض على جمهوريتهم الرافضية إلا عند انكبابهم على ترسيم نظامها الدستوري. لقد ارتبكوا عندئذ و تصرفوا كأنه ليس للمسلمين غير الروافض وجود في إيران.
يتضح من قانون جمهورية إيران الرافضية باعتبارها نموذج دولة الطائفة الرافضية، أن أهل الطوائف المسلمة من غير الروافض يعاملون قانونيا وسياسيا كمواطنين أقل درجة من أهل الكتاب النصارى و اليهود و المجوس.
يقضي الدستور الإيراني صراحة برافضية الدولة فيعطي لطائفة الروافض حق السيطرة المطلقة على الأمر، و لا يرخص لغير الروافض بحق التمثيل النيابي المستقل و حق تطبيق قوانين أحوالهم الشخصية و حق حيازة دور عبادتهم ومقابرهم ومدارسهم الدينية إلا إن كانوا من النصارى أو من اليهود أو كانوا مجوسا. أما الطوائف المسلمة الأخرى فلا يعترف القانون الإيراني بوجودها. بل يمنع أفرادها من تطبيق أحوالهم الشخصية و من استعمال أسماء الصحابة مثل أبي بكر و عمر و عثمان و من حيازة مساجدهم و مقابرهم و مدارسهم ناهيك عن انتخاب ممثلين لهم في دوائر السلطة.

ظل سكوت القانون الرافضي لجمهورية إيران عن المركز القانوني لطوائف المسلمين غير الروافض لغزا محيرا إلى أن تمكن فكه بعد سقوط نظام البعث الشعوبي في العراق على يد قوى الاحتلال الأمريكي المستقدمة من قبل زعماء الطائفة الرافضية.
فقد بادرت الميليشيات الرافضية في العراق بمساعدة من القوات الإيرانية إلى تنفيذ مخطط الإبادة و الطرد ضد المسلمين غير الروافض، و لم يمنعها من النجاح في ذلك غير صلابة المقاومين.
تبين من ذلك بوضوح أن سكوت النظام الرافضي في إيران عن المسلمين الإيرانيين غير الروافض إنما كان في انتظار الفرصة للتخلص منهم بالقتيل و الإجلاء.
مؤكد أنه تبين لمراجع الروافض في إيران بعد فشل محاولة طرد غير الروافض من العراق أن المقاومة الراشدة بما لها من امتداد في أمة محمد صلى الله عليه و سلم قادرة على كسر إرادتهم، و لعلهم بسبب ذلك يحثون حكومتهم على التسلح استعدادا للمواجهة مع أمة محمد صلى الله عليه و سلم جميعا.
أما الخوارج فقد طبقوا حكم تكفير أهل الطوائف المسلمة الأخرى بشكل مختلف، إذ لا يتعاملون معهم بالتقية، ولا يطبقون فقه الواقع لتنفيذ قتلهم. فقد أوجب الخوارج إبادة من وقع تحت سيطرتهم من كل الطوائف، بل و حتى مهاجمة من كان خارج دولهم. لذلك ظل الخوارج يعيشون في حالة حرب مستمرة ضد المسلمين جميعا دون مراعاة لموازين القوة إلى أن تمكن خصومهم من إفنائهم.

الباب الثاني : طائفة الخوارج.

لم يعرف الخوارج بهذا الاسم إلا على لسان الطائفيين الذين طبقوا عليهم خطأ ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( الخوارج كلاب جهنم)[34] علما أن كلمة الخوارج في هذا الحديث نعت لكل من يمعن في الحرص على الخروج من الملة و ليس تعيين لأتباع أي طائفة مسلمة بذواتهم.
أما الراشدون فقد أطلقوا عليهم اسم الحرورية بينما سموا هم أنفسهم المحكمة و النجدات و الأزارقة و غير ذلك، و أجمعوا على رفض التسمي باسم الخوارج.
و الخوارج نتاج التخريب السبئي للنظام الراشد. أوجدهم السبئيون كأداة تصدوا بها لمحاولة استرجاع معاوية بن أبي سفيان إلى صف الراشدين، و من بعد ذلك لمحاولة الحسن بن علي رضي الله عنهما إنهاء حالة الحرب الأهلية بتنازله عن القيادة للأمويين.
تحققت وحدتهم في التاريخ بالمذهب فقط، فقد شكلوا قائمة طويلة من الدول و الإمارات لكل منها استقلاله لا يجمعها سوى إنكار حق قريش في احتكار الخلافة مع فهم ضيق لمعنى أمة محمد صلى الله عليه و سلم بحيث لم يميزوها عن ملة الإسلام.
الخوارج طائفة مسلمة في نظر الراشدين، و جزء لا يتجزأ من ملة محمد صلى الله عليه و سلم. لا يكفرهم الراشدون و إن عدوهم بغاة يجوز قتالهم مع ترك باب المصالحة معهم مفتوحا قصد استعادتهم للصف الراشد.
أما الروافض و السلطانيون من أهل العصبية القبلية فقد تواطئوا على تأويل متعسف لأحاديث صحيحة بما يدل على كفر الخوارج. تواطئوا كذلك على تصحيح أحاديث موضوعة تكفر الخوارج قاصدين من ذلك سد باب الصلح معهم عملا بسياسة الاستئصال التي يطبقونها على كل من عارض وصايتهم.
انقرضت كل فرق الخوارج تقريبا و لم تبق منها إلا فرقة الإباضية التي لم يعد يميزها شيء عن طائفة العصبية القبلية.

الفصل الأول: منشأ طائفة الخوارج.

تضاربت الروايات حول منشأ طائفة الخوارج، و الراجح أن للسبئية في ذلك يد طولى. أما القول أن الخوارج المعروفين بهذا الاسم كطائفة من طوائف الأمة هم نفسهم الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديثه عن بعض أهل الفتن التي تأتي من بعده فغير صائب.

المبحث الأول: إسلام الخوارج.

مهما فعل الخوارج، فقد ظلوا مسلمين في نظر الراشدين لم يكفروهم، وإن أجازوا قتالهم لرد بغيهم.
بغت حركة الخوارج بالفعل على الراشدين بتمردها على خليفتهم، و كذلك بغت دولهم كلها على طوائف المسلمين من سلطانيين و روافض و متصوفة بتكفيرها لهم و الأمر بقتلهم.
لقد قاتلهم الراشدون لدفع بغيهم وتركوا لهم باب الصلح مفتوحا.
في هذا الشأن أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال: (لما قتل علي رضي الله عنه الحرورية قالوا من هؤلاء يا أمير المؤمنين أكفار هم قال من الكفر فروا قيل فمنافقين قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا و هؤلاء يذكرون الله كثيرا قيل فما هم قال قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها)[35].
يؤسس قول الخليفة علي كرم الله وجهه هذا قاعدة موقف الراشدين من الخوارج و قد وقع الإجماع عندهم بناء عليه.
قال ابن حجر العسقلاني :
( و ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق و أن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين و مواظبتهم على أركان الإسلام و إنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد و جرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر و الشرك).
وقال الخطابي: ” (أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين و أجازوا مناكحتهم و أكل ذبائحهم و أنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام) [36]
أما السلطانيون و الروافض فقد خالفوا إجماع الراشدين و كفروا الخوارج ليسدوا باب الصلح معهم فيواجهوهم بسياسة الاستئصال كما هو شأنهم مع كل معارض.

لقد استندوا في سبيل ذلك إلى تأويلات متعسفة لأحاديث صحيحة منها ما ورد عن أبي سعيد الخدري قال: ( بعث علي رضي الله عنه و هو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أربعة نفر … فجاء رجل …فقال اتق الله يا محمد قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض و لا تأمنوني قال ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله يرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن من ضئضيء هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) [37]؛ و في حديث آخر قال (ثم بينا نحن ثم رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة و هو رجل من بني تميم فقال يا رسول الله اعدل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و يلك و من يعدل إن لم أعدل قد خبت و خسرت إن لم أعدل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية …)[38].

و عن أبي بكر بن أبي شيبة ثنا إسحاق الأزرق عن الأعمش عن بن أبي أوفى قال( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم، الخوارج كلاب النار )[39]
في عدد من مثل هذه الأحاديث الصحيحة يذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم صفات مشتركة بين قوم يمرقون من الإسلام دون تعيينهم بذواتهم؛ فهم حسب الأحاديث الصحيحة خوارج من شدة حرصهم على الخروج من الملة، يظهرون بمظهر المتعبدين الصادقين، و في بعض الروايات حليقو الرؤوس متشككون في كل شيء.
لقد كان الراشدون بقيادة الخليفة علي كرم الله وجهه أقدر من غيرهم على تطبيق هذه الصفات على من حاربوهم في النهروان من الحروريين الذين عرفوا فيما بعد باسم الخوارج.
مؤكد بفعل ذلك أن حكم الراشدين بقيادة علي كرم الله وجهه بعدم تحقق تلك الصفات في أولائك القوم هو الأصح.
أما القول بأن الخارجين على علي كرم الله وجهه ممن حاربهم في النهروان هم الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي الخويصرة فمردود.
بل إنه على خلاف ما يروجه الطائفيون من أن ذي الخويصرة التميمي كان مع الحرورية في النهروان معروفا باسم ذي الثدية أو المخدج أثبت المؤرخون أن المخدج أو ذي الثدية هذا ليس هو نفسه ذو الخويصرة التميمي المذكور في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المخدج أو ذي الثدية الذي قتل في النهروان مع الخوارج هو شخص أخر و قد ورد بشأنه في سنن أبي داود قوله : ( حدثنا بشر بن خالد ثنا شبابة بن سوار عن نعيم بن حكيم عن أبي مريم قال ثم إن كان ذلك المخدج لمعنا يومئذ في المسجد نجالسه بالليل و النهار و كان فقيرا و رأيته مع المساكين يشهد طعام علي عليه السلام مع الناس و قد كسوته برنسا لي قال أبو مريم و كان المخدج يسمى نافعا ذا الثدية و كان في يده مثل ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعيرات مثل سبالة السنور قال أبو داود وهو ثم الناس اسمه حرقوس)[40]. علما أن المؤرخين أثبتوا من جهة أخرى أن المخدج الذي قتل في النهروان و الذي كان يعرف أيضا باسم حركوس ليس هو الصحابي حرقوص بن زهير السعدي الذي فتح الأهواز و تُسْتر في عهد عمر[41]ابن الخطاب رضي الله عنه.

من جهة أخرى، يستشهد الطائفيون بعدة أحاديث موضوعة لإيجاد دليل على كفر الخوارج رغم علمهم ببطلانها.

أشهر الأحاديث الموضوعة في هذا الشأن ما نسب لأنس بن مالك من قول: (كنا ثم النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا رجلا و نكايته في العدو و اجتهاده في الغزو فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أعرف هذا قالوا بلى يا رسول الله نعته كذا و كذا قال ما أعرف هذا قال فما زالوا ينعتونه قال لا أعرف هذا حتى طلع الرجل فقالوا هو هذا يا رسول الله فقال ما كنت أعرف هذا، هذا أول قرن رأيته في أمتي فيه سعفة من الشيطان، …فقال له رسول الله نشدتك بالله هل حدثت نفسك حين طلعت علينا أنه ليس في المجلس خير منك قال اللهم نعم قال ثم دخل المسجد يصلي فقال لأبي بكر قم فاقتله فدخل أبو بكر فوجده قائما يصلي فقال في نفسه إن للمصلى حقا فلو أني استأمرت رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قتلت الرجل فقال لا رأيته قائما يصلي و رأيت للصلاة حقا وحرمة وإن شئت أقتله قتلته فقال لست بصاحبه قال اذهب أنت يا عمر فاقتله قال فدخل عمر المسجد فإذا هو ساجد فانتظره طويلا حتى يرفع رأسه فيقتله فلم يرفع رأسه ثم قال في نفسه إن للسجود حقا فلو أني استأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فقد استأمره من هو خير مني فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قتلته قال لا رأيته ساجدا و رأيت للسجود حرمة و حقا و إن شئت يا رسول الله أن أقتله قتلته قال لست بصاحبه قم أنت يا علي فاقتله أنت صاحبه إن وجدته قال فدخل فلم يجده فرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو قتل اليوم ما اختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال )[42].
هذا الحديث كما غيره من النصوص الموضوعة هي في الحقيقة شهادة لصالح الخوارج من خصومهم، فواضعوها يذكرون صفات مؤسسي حركتهم الذين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال بها، كما يرونها واقعة فيهم.
تكاد الأحاديث الموضوعة تجمع على وصف مؤسسي حركة الخوارج بالاقتناع العميق بسلامة المذهب و الصدق في العبادة و الشدة على الكفار، وهي غير الأوصاف التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه و سلم المارقين من الدين.

المبحث الثاني: تنظيم الخوارج.

ظهرت حركة الخوارج في شكل تمرد عسكري سببه الظاهر قبول علي كرم الله وجهه التحكيم مع معاوية على من هو أحق منهما بالخلافة. و قد أشعل فتيل الخروج جندي من بني يشكر كان في صف علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فحمل على الفريقين في صفين بعد اتفاقهما على التحكيم، و قتل رجلا من كل منهما ثم توسط الساحة بين المعسكرين مناديا أنه بريء من علي و من معاوية، و أنه خارج من حكمهما معا.
فعلة هذا الخارج الأول شجعت على الصدع بدعوة الخروج، من كان من الراشدين يرى مثل رأيه بحسن نية، أو بسوء نية من السبئية.

وجدت دعوة الخروج آذانا صاغية أكثر شيء في صفوف جيش الخليفة علي كرم الله وجهه.فجند معاوية كان أكثرهم من بني أمية و العرب الموالين لهم تجمعهم العصبية القبلية بامتدادها الشعوبي و لا يؤثر فيهم بسبب ذلك أي منطق. أما جند الخليفة فكان فيه أكثر غير العرب المسلمين الذين دفعهم الاقتناع بعدالة الإسلام إلى التفرغ للجهاد، و كذلك أكثر العرب المنافسين لقريش من بني تميم على الخصوص.

بزعامة عبد الله بن الكواء و شبت بن ربعي تدبر حوالي اثني عشر ألفا من جند علي كرم الله وجهه أمرهم في طريق عودتهم مع الخليفة إلى الكوفة، و لما وصلوها فارقوه متجهين إلى حاروراء. توجه إليهم علي كرم الله وجهه في حاروراء و استطاع إقناع بن الكواء مع ألف من أنصاره بالعدول عن تمردهم، لكن بن ربعي استمر متمسكا بموقفه و قاد الإحدى عشر ألفا الباقين، مع من التحق بهم من المقاتلين إلى النهروان . هناك جعلوا معسكرهم و أمروا عليهم رجلين هما عبد الله بن وهب الراسبي و حرقوص بن زهير، استعدادا لإقامة أول إمارة لهم.
كانت إمارة الخوارج الناشئة هذه سباقة إلى إعلان الحرب على الخلافة ؛ فقد اجتمع الخارجون في طريقهم إلى النهروان حول منزل عبد الله بن خباب بن الإرت فقتلوه و أهله جميعا . توجه إليهم علي كرم الله وجهه في معسكرهم و تمكن مرة أخرى من إقناع ثمانية آلاف منهم بالعدول عن تمردهم و أمر جنده بمقاتلة الباقين فقتل رئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي و كذلك حرقوص بن زهير و فر الباقون .

من السذاجة الظن أن ما حدث كان عفويا غير مدبر له خاصة مع وجود السبئيين في ساحة العمل الهدام. بل إنه لمن فادح الغلط الظن أن السبئيين اكتفوا بإثارة الفتنة بين الراشدين و بني أمية وتركوهم يقتتلون ليتفرجوا عليهم. فالأولى أن نأخذ في الاعتبار حرص أعداء الإسلام على تدميره دون كلل أو ملل، و نؤكد أن السبئيين لم و لن يتوقفوا عن إحداث المزيد من الفتن و الصراعات بين المسلمين.
سبق أن ذكرنا أن مقصد السبئية كان هدم عقيدة الإسلام و إشاعة الفتن في الأمة و ليس نصرة علي كرم الله وجهه. فبرنامج عملهم لم يكن منحصرا في مكان أو زمان محدودين، بل كان مفتوحا على كل دار الإسلام وفي كل الأزمان. لم يكن كذلك مقتصرا على إحداث بدعة معينة أو فتنة محددة، بل كان ولا يزال مفتوحا لكل البدع و كل الفتن.
لذلك نجزم أنه ليس سواهم مَن صور للجند مِن غير العرب و غير القرشيين قبول علي كرم الله وجهه التحكيم مع معاوية بن أبي سفيان على أنه بداية اقتسام سلطان الأمة بين بني هاشم و بني أمية.
هذا التصوير المنحرف للتحكيم وجد صداه في نفوس الجند الذين كانوا ينتظرون أن تكون مهادنة علي كرم الله وجهه لمعاوية قصد النظر في توبة هذا الأخير و ليس للتحكيم بينهما على من يكون الفائز منهما بالخلافة.
فمعاوية كان مخطئا يستحق القتل شرعا لرفضه قرار السواد الأعظم و سعيه لتفريق جماعة الأمة. لكنه في الوقت نفسه كان رئيس عشيرة بني أمية، أكبر بطون قريش التي لا يؤمن شر السبئية من غيرها، و لا يستتب أمر العرب كلهم بدونها.
كانت السياسة الراشدة تقتضي الصلح معه و استمالته بكل الوسائل، الشيء الذي لم يكن بإمكان الراشدين الإفصاح عنه لعامة الجند.
تلك نقطة ضعف استغلها السبئيون و أمعنوا في زيادة خطورتها بتصفية قادة فرقة جند الخفاء من العيون الراشدين على رأسهم عمار بن ياسر. فقد منعوهم بذلك من المقاومة بالدعاية السرية و التخبيل.
سهل على السبئيين عندئذ التحكم في المتمردين و خلا لهم الميدان ليفعلوا بهم ما شاءوا، لكن بالتوجيه غير المباشر. فقد كان الجند المتمردون من أكثر المسلمين مناعة ضد الدعوة السبئية لكثرة علمهم بالقرآن والسنة كما يشهد على ذلك من ناظرهم من علماء الصحابة خاصة عبد الله بن العباس.

استعمل السبئيون الجند المتمردين في البداية لإضعاف الراشدين، و لما قرر الراشدون إنهاء المواجهة مع الأمويين، أنشئوا منهم طائفة تعترض على حق قريش في الحكم و تحاربهم بدلا عن الراشدين.
انهزام الجند المتمردين و فرارهم في البلدان لم يمنعهم من الاستمرار في نشر دعوتهم، بل إنهم تمكنوا من تجميع صفوفهم بسرعة. ما كان ذلك ليحدث لولا خبرة التنسيق التي خدمتهم بها جهة ما، لا يمكن أن تكون غير السبئيين.
تجمعت صفوف المتمردين من جديد و تجدد نفسهم السياسي قبل نهاية القرن الأول للهجرة في الجزيرة العربية مع نشأة أول إمارة لهم من طرف الأزارقة برئاسة نافع بن الأزرق و من بعده عبيد الله بن مأمون التميمي و من بعده قطري بن الفجاءة.
كادت إمارة الأزارقة هذه التي اتخذت في الأهواز مقرا لها أن تسيطر على جزيرة العرب كلها لولا أن قاومهم عبد الله بن الزبير انطلاقا من مركز إمارته في مكة، و قد أمكنه الصمود في وجه جيوش الأزارقة بعد أن انشقت عنهم إمارة اليمامة برئاسة نجدة بن عامر الحنفي.
كانت نهاية إمارة الأزارقة كما النجدات على يد عبد الله بن مروان الذي قاتلهم بجيش السلطان انطلاقا من عاصمة الأمويين في دمشق.
بعد القضاء على إمارتي الأزارقة و النجدات ظهرت للوجود عدة إمارات خارجية كان أهمها إمارة العجاردة التي انشقت عنها إمارة الثعالبة و كذلك إمارة الصفرية التي تفرعت عنها عدة إمارات اختفت كلها.
لم تصمد من إمارات الخوارج عبر التاريخ غير تلك التي أنشأتها فرقة الإباضية في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي منها أبخازيا في القوقاز و عمان و حضرموت في جنوب الجزيرة العربية و إقليم المزاب في جنوب الجزائر بشمال أفريقيا.

الفصل الثاني : مقصد طائفة الخوارج.

رغم تعدد فرق الخوارج إلى درجة أن عددها ناهز العشرين، فقد جمع بينها اتفاقها على صحة خلافة كل من أبي بكر و عمر رضي الله عنهما، و بطلان تمرد كل من عائشة رضي الله عنها مع أنصارها و معاوية مع أنصاره.
يجمع الخوارج كذلك على أن السيادة للقانون المقدس من غير وصاية ممكنة لأحد على الأمة معبرين عن ذلك بقولهم ( لا حَكَمَ إلا الله ) ؛ و أن الخلافة حق لكل مسلم وليست حكرا على القرشيين.
تلك نقط التقاء الخوارج مع الراشدين لم تكف لرأب الصدع بينهما. فالفارق بين الطرفين كامن في أن الخوارج أجمعوا على بطلان خلافة عثمان و علي من جهة و على تكفير من يخالفهم الرأي من جهة أخرى مع إهدار دمه.
لقد عكس ذلك اختلافا عميقا في فهم مقاصد الشريعة الإسلامية بحيث أخذ الخوارج بمقصد الانطواء بدل مقصد الانفتاح الذي أراده الله لأمة محمد صلى الله عليه و سلم.

المبحث الأول: نبذ العصبية القبلية.

الخوارج هم أول من عارض ادعاء قريش امتلاك سلطان الإسلام الذي يجعل لها حق الترشح للخلافة دون غيرهم من المسلمين. و تأكيدا لذلك جعلوا الرآسة في أول إمارة أنشئوها لمسلم من أصل رومي هو نافع بن الأزرق، و جعلوا الحكم في كثير منها لزعماء من غير قريش و لا حتى من العرب مثل أبي بلال مرداس و عمران بن حطان.
ما من شك أن دوافع الخوارج إلى الاعتراض على شرط القرشية لم تكن هي نفسها لديهم جميعا.
لا بد أنه كان منهم من اعترض عليها من باب الشعوبية ضد العرب، و أنه كان منهم من فعل ذلك من باب عصبية منافسة لقريش على زعامة العرب، و كان منهم كذلك من رفض شرط القرشية نبذا للعصبية القبلية و حرصا على مصلحة الأمة المسلمة.
لا نشك في أن للسبئيين ضلع في تحريك الشعوبيين و المنافسين لقريش باتجاه مذهب الخوارج ليس فقط لمنع بني أمية من السيطرة على الأمر بل و كذلك للتشويش على الحريصين من الخوارج على مصلحة الأمة المسلمة.
فبتوجيه من بعض الصحابة مثل أبي الشعثاء جابر بن يزيد و عكرمة و إسماعيل بن سميع و أبو هارون العبدي و هبيرة بن مريم ، كان من الخوارج من فهموا حقيقة الفتنة و اقتنعوا أنه بإمكان الأمة الاستغناء عن عصبية قريش للاستمرار في السير وفق النهج الراشد.
كانوا آلافا مؤلفة من الجند ذوي الخبرة في كل المجالات و القدرة على تسيير مختلف المرافق بكفاءة. لم يكن منهم قراء القرآن المقاتلين فحسب، و إنما أيضا رجال الشرطة و الحسبة و القضاء و المخبلين و المعلمين و الصناع و الأطباء و البنائين و غيرهم.
كان الراشدون يعولون عليهم بعد الله عز و جل للجم عصبية بني أمية التي استدعوها لتولي مناصب السلطة قصد التصدي لحزب السبئية. و كان الخليفة علي كرم الله وجهه يدخرهم لليوم الذي يستغني فيه عن خدمات أي عصبية قبلية بمن فيها عصبية قريش كلها، خاصة لما دخل في المواجهة المفتوحة مع السبئية حين ألهوه.
بالفعل تدل القرائن بقوة أن الراشدين كانوا يحرصون على التخلص من مظاهر العصبية القبلية قدر الإمكان بما في ذلك على مستوى مجلس أهل الشورى.
فقد ثبت أن عليا كرم الله وجهه جعل للبدريين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه الصلاحية لتعيين خليفة رئيس الملة، ومعلوم أنه كان من البدريين آنذاك قرشيون وغير قرشيين وكذلك عرب و غير عرب.
ذلك ما لم يكن ليفوت المراقبين من أعداء الإسلام في مراكز السبئية خارج دار الإسلام و داخلها، و لا المراقبين من دهاة بني أمية. و لعل جهود الطرفين تضافرت في اتجاه واحد لحرمان الخليفة الراشد علي كرم الله وجهه من قوة الأطر البديلة للقوى العصبية.

كان أطر القوة العمومية للأمة يفهمون الأحاديث التي تذكر قريشا بنفس فهم الراشدين لها. فهؤلاء فهموا تلك الأحاديث على أنها تخيير للأمة بتقديم قريش في الإمارة لرفع الحرج عند المشقة.

دليل الراشدين في ذلك أن تقديم قريش جاء بصيغة الإلزام في منصب الإمامة دون الإمارة. إذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( الأئمة من قريش)، و لم يثبت قط قوله صلى الله عليه و سلم الأمراء من قريش. بل إنه صرح بجواز الإمارة للعبد الحبشي إن كان مسلما ليبين أنها حق لكل مسلم. فقد صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).[43]
و قد بينا أنه تطبيقا لذلك استخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر لرئاسة الملة، و كذلك نصب الخليفة عمر رضي الله عنه المبشرين بالجنة من القرشيين السابقين الأولين للهجرة و النصرة في مجلس أهل الشورى.
أما الإمارة فقد جعلها الشرع حقا مفتوحا لكل مسلم ينالها بطريق المبايعة من جماعة الأمة على أن يؤخذ فيها بفقه الواقع.
ذلك ما فعله الراشدون في سقيفة بني ساعدة؛ حين امتنع أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين عن الاحتجاج عليهم بحديث ( الأئمة من قريش) وذكروا لهم فقط الأحاديث التي تشير إلى سطوة قريش على العرب باعتبارها أمرا واقعا لا يمكن تجاهله.
أثبت المؤرخون أن أبا بكر قال للحاضرين في سقيفة بني ساعدة ( أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا و أنتم له أهل و إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش و هم أوسط العرب دارا و نسبا)[44] وقال لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جهته 🙁 و الله لا ترضى العرب أن و نبيها من غيركم و لكن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم و ولي أمورهم منهم و لنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد و إمارته و نحن أولياؤه و عشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم في هلكة) [45].
تمسك الخوارج بموقفهم من شرط القرشية في الخلافة فرارا من العصبية القبلية لكنهم وقعوا بفعل التخبيل السبئي في فخ الانطواء الديني حتى لا تكون منهم قوة راشدة.

المبحث الثاني: الانطواء الديني.

ثبت في الحديث الصحيح عن الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( هلك المتنطعون قالها ثلاثا )[46].
و ما من تنطع أكثر من الانطواء الديني الذي أهلك الأمم السابقة من أهل الكتاب و كان السبئيون أكثر من غيرهم على علم به.
بالفعل، يظهر أثر التخريب السبئي واضحا من خلال إدخالهم سلوك الانطواء الديني إلى ثقافة المسلمين عبر الخوارج. ذلك سلوك شائع عند اليهود و النصارى الذين لا يرضون عن غير أتباع مللهم و يرفضون مواطنتهم لهم في نفس الأمة.
فعلى عكس الأمم الأخرى، أراد الله عز وجل أن تكون أمة محمد صلى الله عليه و سلم منفتحة لكل بني آدم، تشمل كل أتباع ملة الإسلام بمن فيهم من مؤمنين صادقين ومنافقين حاقدين، مع أتباع أي ملة غيرها ممن يرتضون العيش في ذمة المسلمين.
بذلك يظهر برهان القرآن و السنة على الدين كله، و تقوى أمة محمد صلى الله عليه و سلم بالتنوع العرقي و الثقافي مضافة إلى قوة التنوع السياسي.

لقد أغاض و لا يزال هذا الانفتاح أعداء الإسلام، فعمدوا في الماضي إلى طمسه من خلال دعوة الخوارج. أوعزوا إلى هؤلاء أن أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا تتسع لملل غير المسلمين و لا حتى للمسلمين العصاة.

أمة محمد صلى الله عليه و سلم هي حسب الخوارج جماعة المؤمنين الملتزمين بشرع الله دون غيرهم. و مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر في نظر الخوارج مثله مثل أهل الكتاب و المشركين و الوثنيين يجب قتلهم جميعا.
لتبرير ذلك كان لا بد للخوارج من التوسع في القول بالنسخ للتخلص من حكم الآيات و الأحاديث التي تقر لغير المسلمين حق المواطنة في أمة محمد صلى الله عليه و سلم، و تقر للمسلمين أنفسهم حرية الدين.
في الحقيقة لم يمتز الخوارج عن الروافض و لا العصبيين أو المتصوفة في هذا الأمر. فجميعهم يقولون بحدوث النسخ الضمني للأحكام متى ظهر لهم تعارض بينها كما سنرى ذلك بتفصيل إن شاء الله.
مع ذلك ظل الأخذ بالنسخ الضمني للأحكام الشرعية غير كاف لتنسيق مذهب الخوارج، إذ لم يكن لهم بد من إيجاد بديل لمعنى السيادة في الإسلام كما يفهمها الراشدون من جهة ، و كما يفهمها العصبيون و الروافض من جهة أخرى.
فقد اقتضى منهم نبذ العصبية القبلية رفض مبدأ الوصاية السلطانية و الإمامية معا، غير أن الانطواء الديني اضطرهم إلى تحريم الفصل بين منصبي الإمامة و الإمارة.

المبحث الثالث: جمع الإمامة والإمارة.

على خلاف الراشدين الذين سعوا لفصل منصبي الإمامة و الإمارة بعد جمعهما باعتبار كلا الأمرين مباح يجوز العمل به متى اقتضته المصلحة، لا يرى الخوارج بسبب تنطعهم جواز فصل المنصبين.
فعلى عكس الراشدين، لا يجد الخوارج في شرع الله ما يعطي للأمة سيادة تملك بها حق تشريع أحكام السلوك الاجتماعي للمواطنين، دون السلوك الديني للمكلفين.
جعل الله الحكم لنفسه وحده عز وجل مطلقا، ولم يقيده حسب زعم الخوارج بحق الأمة في الأمر و النهي بحكم منها.
ليس للأمة بفعل ذلك حسب الخوارج نصيب من السيادة الشرعية، إذ ليس للمخلوقين من بني آدم إلا طاعة أمر الله وحده في سلوكهم جميعا لا فرق بين الاجتماعي أو الديني أو الفكري منه.
واضح أن الفهم الخارجي للسيادة الشرعية لا يجعل للمسلمين قانونا غير الدين الذي شرعه الله لهم. فالله عز و جل هو المشرع الوحيد؛ ليس لمن دونه من المخلوقين أن يقرر إلزام الناس بأي سلوك، و في مقابل ذلك ليس في ظل حكومة الله مكان للعصاة من المسلمين و من باب أولى الكفار.
مقتضى نظرية الخوارج في نظام الحكم أنه ديني غير مدني لا سيادة فيه لغير الله.
مارس الله عز و جل حكمه حسبهم بطريق الوحي في عهد النبوة، و يمارسه في غياب النبوة بطريق إجماع الأمة.
على عكس السلطانيين و الإماميين من عصبيين و روافض و متصوفة لا يرى الخوارج للسلطان أو الإمام وصاية ممكنة على أمة محمد صلى الله عليه و سلم.

فحاكمية الله عز و جل تمنع الوسيط بينه و بين المكلفين، كما أن الشورى التي هي شرط إجماع الأمة تمنع استفراد أي مسلم بسلطة الأمر و النهي.
لقد جاءت بفعل ذلك نظرية الإجماع أقرب ما تكون عندهم للفهم الراشد لولا أنهم خلطوا فيها بين الإجماع على أحكام الدين و الإجماع على أحكام السلوك الاجتماعي.
في بداية البحث عن حجية الإجماع كمصدر للأحكام لا بد من رد شبهة عدم اعتباره من قبل الخوارج. و الواقع أن كل الطوائف تأخذ بالإجماع كمصدر للتشريع إلا أن إجماع كل طائفة غير معتمد كأصل للأحكام الشرعية عند غيرها من الطوائف. فالعصبيون من القبليين و الشعوبيين لا يعتدون بإجماع الروافض و لا بإجماع الخوارج و لا بإجماع المتصوفة و العكس بالعكس.
الحقيقة أن مفهوم الإجماع مختلف عند الطوائف الأربعة فالعصبيون يعتدون فيه باتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه و سلم بعد وفاة الرسول على حكم لم يرد فيه نص في القرآن و السنة. و المجتهدون عندهم هم أولي الأمر فقط من الأمراء و من العلماء المقبولين عند السلطان ؛ حيث يتخصص العلماء بالنظر في أحكام الفقه و يتخصص الأمراء بالاجتهاد في أحكام السياسة.
أما عند الروافض فالإجماع هو اتفاق مراجع المذهب في غيبة الإمام، و عند المتصوفة هو اتفاق شيوخ الطريقة في غيبة القطب.
على خلاف هؤلاء جميعا يرى الخوارج أنه في ظل حاكمية الله عز و جل لا يكون الإجماع شرعيا إلا باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على حكم لم يرد فيه نص.

سبق أن ذكرنا أن الأمة عند الخوارج هم أتباع ملة محمد صلى الله عليه و سلم من غير العصاة. ويحدث الإجماع منهم باتفاقهم حقيقة أو حكما على أمر واحد. هم يتفقون حقيقة على الأمر عند عدم اعتراض أي منهم عليه و يتفقون عليه حكما متى أقره السواد الأعظم منهم رغم اعتراض البعض.
هذا التصور للإجماع يفسر عدم اعتداد الخوارج بأي إجماع خارج طائفتهم ما دون إجماع الصحابة الراشدين.
إجماع الصحابة الراشدين وحده يستجيب لشروط الصحة عندهم و هي صدوره باتفاق الأمة و ليس الأوصياء عليها من مجتهدين أو مراجع أو شيوخ.
غير أنه على خلاف الصحابة الذين وضعوا التشريع بالإجماع فقط في أحكام السلوك الاجتماعي و تركوا أحكام السلوك الديني للاستنباط الفقهي من القرآن و السنة، لم يميز الخوارج بين النوعين من الأحكام.
فمجالس الشورى العمومية كانت و لا تزال عندهم تجتمع لوضع الأحكام في العقائد و الشعائر كما في الحقوق المدنية و السياسية، الفردية و الجماعية.
متى استقر رأي الجميع أو الأغلبية على قول أخذوا به و لو كان المعترضون عليه من أفقههم.
لا شك أنه في ظل هكذا نظام لا يملك رئيس الأمة التخصص في حراسة الدين دون سياسة الدنيا أو العكس. فهو لا يملك أن يستغني عن إحدى المهمتين لأن الأمة المرؤوسة منه تمارس الاجتهاد في الشأنين معا. فهو رئيس الملة و في الوقت نفسه أمير الأمة و لا يمكن أن يكون غير ذلك مثله في ذلك مثل سلطان العصبيين وإمام الروافض كما المتصوفة مع فارق أن رئيس أمة الخوارج ليس وصيا دينيا و لا سياسيا.

[1] تاريخ الطبري الجزء الثالث الصفحة 4 .
[2] تاريخ الطبري الجزء الثالث الصفحة 11 .
[3] تاريخ الطبري الجزء الثالث الصفحة 111 .
[4] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير: باب فتح مكة، الجزء: 3 الصفحة: 1405 رقم الحديث: 1780
[4] صحيح مسلم: كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن .. الجزء: 3 الصفحة: 1476 رقم الحديث: 1848
[6] صحيح البخاري: كتاب المناقب، الباب الفقهي: باب قول الله يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر، الجزء: 3 الصفحة: 1288 رقم الحديث: 3305
75 صحيح البخاري: كتاب المناقب: باب مناقب قريش الجزء: 3 الصفحة: 1288 رقم الحديث: 3305
76 صحيح البخاري: كتاب المناقب: باب مناقب قريش، الجزء: 3 الصفحة: 1290 رقم الحديث: 3310
[9] الماوردي الأحكام السلطانية الجزء 1 الصفحة 3
[10] نفسه
[11] الماوردي جزء1ص4
[12] الماوردي ج1ص3
[13] نفسه
[14] أعلام الموقعين
[15] الماوردي ج1ص6
[16] ابن خلدون مقدمة ابن خلدون الفصل السادس من الفصل الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة.
[17] ابن خلدون المقدمة الفصل الأول من الفصل الثالث من الكتاب الأول في الدولة العامة والملك والخلافة
[18] ابن خلدون الفصل السادس من الفصل الثالث من الكتاب الأول
[19] ابن خلدون الفصل الخامس من الفصل الثالث من الكتاب الأول
[20] ابن خلدون الفصل الرابع من الفصل الثالث من الكتاب الأول
[21] ابن خلدون الفصل الرابع من الفصل الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية
[22] ابن خلدون المقدمة الفصل الثامن من الفصل الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية
[23] ابن خلدون الفصل السابع عشر من الفصل الثاني في العمران البدوي و الأمم الوحشية
[24] سورة البقرة الآية 106 و 107.
[25] سورة الحجرات الآية 13.
[26] الفصل الثامن من الفصل الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية
[27] ابن خلدون :المقدمة ، الفصل التاسع من الفصل الثاني في العمران البدوي والأمم الوحشية
[28] صحيح مسلم: كتاب الإمارة: باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش الجزء: 3 الصفحة: 1453 رقم الحديث: 1821
[29] سورة الحجر الآية 9.
[30] صحيح مسلم كتاب الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، الجزء: 3، الصفحة: 1513، رقم الحديث: 1905
[31] سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة القدر، الجزء: 5، الصفحة: 444، رقم الحديث: 3350
[32] السيوطي :تاريخ الخلفاء، فصل في الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية، الجزء: 1، الصفحة: 13
[33] صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، الجزء: 3، الصفحة: 1114، رقم الحديث: 2897
[34] ابن ماجة، الجزء: 1، الصفحة: 61 ، رقم الحديث: 173
[35] مصنف عبد الرزاق الجزء 10 الصفحة 150 .
[36] أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي: فتح الباري شرح صحيح البخاري الجزء 12 الصفحة300.
[37] صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، الجزء: 2، الصفحة: 741، رقم الحديث: 1064
[38] صحيح مسلم الجزء 2 الصفحة 744 رقم الحديث 1064 .
[39] ابن ماجة، الجزء: 1، الصفحة: 61 ، رقم الحديث: 173
[40] سنن أبي داود الجزء 4 الصفحة 245.
[41] ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي : الخوارج و الحقيقة الضائعة الطبعة الأولى 1420ه-1999م صفحة 76.
[42] أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء الجزء 3 الصفحة 226.
[43] صحيح البخاري: كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، الجزء: 6 الصفحة: 2612 رقم الحديث: 6723
[44] تاريخ الطبري الجزء الثاني الصففحة 243.
[45] تاريخ الطبري الجزء الثاني الصففحة 243.
[46] صحيح مسلم الجزء 4 الصفحة 2055 رقم الحديث 2670.

الباب الثالث: طائفة الروافض.

على خلاف طائفة العصبيين القبليين و الشعوبيين، لم تتحقق وحدة طائفة الروافض تاريخيا إلا بالاسم، فقد تعددت فرقها و استقلت كل بإمامتها عن الباقيات مثلها في ذلك مثل طائفة الخوارج. إلا أنه على خلاف الأخيرة لم تختف معظم الطوائف الرافضية و لا زالت إلى يومنا هذا إماماتها المختلفة و المستقلة عن بعضها البعض قائمة.

الفصل الأول: خصوصية طائفة الروافض

تاريخ طائفة الروافض متداخل مع تاريخ عصبية بني هاشم من جهة و حركة السبئية من جهة أخرى. فقد اشتركت هذه الجهات الثلاث في استعمال شخص علي كرم الله وجهه كل لغاية مختلفة.
برئاسة العباس عم رسول الله صلى الله عليه و سلم، سبق الهاشميون السبئية و الروافض إلى استعمال شخص علي كرم الله وجهه كخليفة يرث سلطان ابن عمهم محمد صلى الله عليه و سلم. في حين استعمل السبئيون في عهد عثمان رضي الله عنه شخص علي كرم الله وجهه للتغطية به على شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم باعتباره وصي الله على الأمة.
في وقت متأخر، خلال النصف الأول من القرن الثاني للهجرة ظهر الروافض لاستعمال شخص علي كرم الله وجهه بالإضافة إلى وصفه كوريث لسلطان محمد صلى الله عليه و سلم و كوصي إلهي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأصل لسلالة أئمة أهل البيت. بذلك حصروا على ذرية علي كرم الله وجهه صفة أهل البيت دون سائر بني هاشم و قصروا عليهم ميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم، وجعلوا الوصاية الإلهية خالصة للأئمة منهم.
لقد استرجع الروافض بفعل ذلك المشروع الهاشمي و السبئي معا مضيفين إليهما بدعة تقديس أهل البيت كبديل أرستقراطي يغطون على شخص أمة محمد صلى الله عليه و سلم.
سبق أن تطرقنا لدعوى بني هاشم برئاسة العباس حول حق الإرث القبلي لسلطان ابن عمهم محمد صلى الله عليه و سلم، و تعرفنا كذلك على ابتداع السبئية للوصاية الإلهية و نتناول في هذا الباب طائفة الروافض باعتبارها طائفة الذين يستعملون عليا كرم الله وجهه كأصل لسلالة أئمة أهل البيت المعصومين حسب زعمهم مع تبني دعوى بني هاشم القبلية ودعوى السبئية الدينية.

المبحث الأول: حجج واهية

ليس شيعيا من ليس رافضيا. فالروافض يتميزون عن أهل العصبية القبلية و عن الخوارج و المتصوفة برفضهم خلافة أبي بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم مع تكفيرهم واتهامهم بالتواطؤ مع بني أمية ضد علي و أهل بيته رضوان الله عليهم لحرمانهم من حقوقهم في الخلافة و الميراث و الوصاية الدينية حسب زعمهم.
رفض طائفة الروافض للمنهج الراشد عاطفي ليس مبني على تفكير سليم؛ إذ يتبين من التمحيص أن مراجع هذه الطائفة يستعملون روايات غير صحيحة و يسوقون حججا مرجوحة تفتقر كلها للصواب..

المطلب الأول : روايات غير صحيحة

تذكر روايات الروافض التي يصدقونها بعواطفهم فقط لغياب الدليل العلمي على صحتها، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الذي أطلق عليهم اسم الروافض مستدلين بحديث موضوع نسبوا فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لعلي كرم الله وجهه ( أنت وشيعتك).
تذكر روايات الروافض التي يرددها مراجع الروافض علنا في كتبهم و على منابر المساجد و على الهواء عبر الفضائيات دون حياء من الله و لا من الناس أن الله عز و جل أنزل على رسوله صلى الله عليه و سلم أثناء حجة الوداع سورة يسمونها سورة الولاية تنص على وصاية علي كرم الله وجهه.
غير أن محمد صلى الله عليه و سلم تحرج حسبهم من إعلان ما أنزل الله عليه في علي كرم الله وجهه أثناء الحج و لم يفعل، فأنهبه الله بأن أنزل عليه في طريق العودة إلى المدينة قوله عز وجل( يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك ، فإن لم تفعل فما بلغت رسالاته ) بل إن بعض الروافض يقرؤونها ( بلغ ما أنزل إليك من برك في علي فإن لم تفعل فما بلغت رسالاته ).
يدعي مراجع الروافض أن رسول الله أعلن عندئذ عن سورة الولاية و نصب عليا خليفة له في غدير خم، لينزل بعد ذلك حسب رواياتهم قول الله عز و جل ( اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ).
يتمم مراجع الروافض الصورة بزعمهم أن الصحابة بقيادة أبي بكر و عمر رضي الله عنهما تآمروا مع الأوس و الخزرج لنزع الخلافة من علي كرم الله وجهه و إخفاء سورة الولاية من القرآن.
رد الراشدين على هذه الإدعاءات أنها محض كذب. فالحديث الذي يستعملونه لتسمية أنفسهم موضوع بشهادة أهل العلم الثقاة، كما أن سورة الولاية لم توجد قط، و لم ينصب رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا خليفة له على الأمة في غدير خم.

المطلب الثاني: سورة الولاية المزعومة

سورة الولاية التي يدعي الروافض احتفاظ الإمام الغائب بها في السرداب لم توجد قط في غير تصورهم.
فالله عز وجل لم يخف حرفا واحدا من القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم رسالة بكلام مباشر منه عز و جل ليكون حجة على الناس كافة.
لم يكن بإمكان الصحابة من جهتهم، إخفاء و لو نقطة على حرف واحد من كلمة في القرآن. فقد حرص رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمر من الله عز و جل على توثيق كل آية نزلت عليه.
قام رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوثيق القرآن كتابة بالخط العربي من طرف كتاب متعددين؛ و قام صلى الله عليه و سلم كذلك بتوثيق كلام الله عز و جل حفظا عن ظهر قلب بقراءات متعددة من طرف قراء متعددين يستحيل تواطؤهم على إخفاء أي حرف.
سبب ذلك أن الله عز و جل أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه و سلم ليس فقط رسالة منه إلى المسلمين كي يؤمنوا بما فيه، بل و كذلك ليكون حجة على الناس كافة.
فمحتوى القرآن الكريم لا يخص رسول الله وحده صلى الله عليه و سلم، و لا يخص كذلك ملة المسلمين دون غيرها من الملل عكس ما هو شأن التوراة لملة اليهود و الإنجيل لملة النصارى.
ليس لملة الإسلام أن تنسب ما شاءت إلى الله و تحتج على الناس في ذلك بأنها مؤمنة به. إذ لا يكفي اعتقاد المسلمين في شيء ليكون حجة على الناس. فحجة الله على الناس كما أرادها لا تثبت إلا بنص من كلامه الصريح كما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه و سلم.
مصداق ذلك قول الله عز و جل: ( يا أيها الناس قد جائكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا)[1] ؛ و قوله عز و جل : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التورات و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم، و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا و كفرا فلا تأس على القوم الكافرين)[2] ؛ و قوله عز و جل ( أفغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين)[3]؛ و قوله عز و جل: ( ألف لام صاد، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به و ذكرى للمؤمنين، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون)[4]؛ و قوله عز و جل ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)[5] ؛ و قوله عز و جل ( و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم و قولوا أمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون)[6].
لا يصح شرعا بحكم هذه الآيات المحكمات أن يحتفظ محمد صلى الله عليه و سلم بجزء من كلام الله لنفسه أو لأهل بيته و لا حتى لملة المسلمين جميعا، و يبقيه مع ذلك حجة على الناس كافة.
فالثابت شرعا هو أن محمد صلى الله عليه و سلم صدع بكل ما أوحى إليه الله عز و جل من القرآن الكريم، و ليس من بين ذلك سورة الولاية المزعومة.
من جهة أخرى، مؤكد شرعا كذلك أن ما هو مكتوب في المصحف الشريف كما جمعه الصحابة رضوان الله عليهم بأمر من الخليفة أبي بكر رضي الله عنه، و كما وحد الخليفة عثمان رضي الله عنه رسمه، و أقره على ذلك الخليفة علي كرم الله وجهه، هو كل القرآن الكريم لا تنقص منه نقطة واحدة على حرف واحد.
فقد استحال على الصحابة السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار إخفاء أي حرف في أي كلمة من القرآن، لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرص على إملاء كل آية على كتبة متعددين و تحفيظها عن ظهر قلب بقراءات مختلفة لحفظة متعددين كذلك، مع تبيين مكانها من السورة التي تنتمي إليها.
كل آية كانت توثق كتابة و تحفظ عن ظهر قلب بعد أن تدمج في السورة التي تنتمي إليها فينتشر نصها في المدن و البوادي. يتلقاها ليس فقط المسلمون، بل و كذلك اليهود و النصارى و يسافر بها الركبان إلى بلاد فارس و الروم حيث يدونها خصوم الإسلام قبل أتباعه.
لذلك نجزم أن الله عز و جل لم ينزل قط ما سماه الروافض سورة الولاية لعدم وجود أثر لنصوص آياتها.
أما مراجعهم فيدعون أن تلك السورة نزلت فعلا غير أن آياتها مكتومة في السرداب عند الإمام المخفي يخبرهم عنها بطرق غيبية.
و يرد علماء الروافض على من تساءل حول سبب عدم ورود الخبر عنها من أي جهة غيرهم بقولهم أن الله نسخها برفع نصها مع إبقاء حكمها.
في هذا الشأن يركب علماء الروافض على بدعة علماء أهل العصبية القبلية في فهم معنى النسخ المذكور في الآية (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)[7]
يبتدع العلماء الغير راشدين من السلطانيين بخصوص هذه الآية فهما مخالفا لشرع الله. فالنسخ المراد في هذه الآية هو النسخ الكوني لآيات الوجود و ليس آيات القرآن الكريم. آيات القرآن الكريم لا تقبل النسخ بالزيادة أو النقصان و لا بالنسيان. لأن الله عز و جل يخبر في مستهل سورة الأعراف أنه أنزل القرآن كاملا ليكون حجته المقروءة على الناس كافة قبل أن ينزٌله منجما على محمد صلى الله عليه و سلم ليثبت به الذين آمنوا.
يذكر الله عز و جل شهر و ليلة الإنزال الكامل للقرآن فيقول عز من قائل ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن …)[8] و يقول ( إنا أنزلناه في ليلة القدر…).[9]
و القرآن المنْزل من عند الله كاملا في ليلة القدر إلى الناس كافة، نُزٌل على محمد صلى الله عليه و سلم منجما خلال ثلاث وعشرين سنة مصداقا لقول الله عز وجل ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين)[10].
اقتضت حكمة الله البالغة ألا يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم بغير طريق التنزيل محتوى القرآن الذي أنزله الله كاملا في ليلة القدر من شهر رمضان رسالة منه عز و جل إلى الناس كافة.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يطلع على اللوح المحفوظ ليتعرف على الآيات، بل جعل الله لكل آية من القرآن نازلة في حياة رسول الله تكون سببا ليتعرف رسول الله صلى الله عليه و سلم على نص تلك الآية و حكمها.
أي زيادة و أي نقصان أثناء التنزيل يُحدث بالضرورة اختلافا بين القرآن المنْزل والقرآن المنَزٌل الشيء الذي يطعن في أمانة ملك الوحي و ينقص من ألوهية الله عز و جل.
كذلك أي تدخل من الله ينسي به أي حرف من القرآن يحدث به بالضرورة اختلاف بين القرآن المنْزل والقرآن المنَزٌل، الشيء الذي يطعن أيضا في أمانة ملك الوحي و ينقص من ألوهية الله عز و جل.
على خلاف الكون المادي الذي جعل الله له أطوارا و لم يخلقه كاملا من فوره، جاء القرآن إلى الدنيا كاملا دفعة واحدة.
القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فهو بذلك من ذات الله أزلي لا يطرأ عليه تغيير، أما الكون المادي فهو مخلوق غير أزلي يطرأ عليه التغيير بأمر الله.
يقول الله في محكم التنزيل بشأن الكون المادي (…يزيد في الخلق ما يشاء…)[11] ،و يقول عز من قائل أيضا ( يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب) [12]، لذلك جاز التغيير و التبديل في الكون المادي بنسخ آياته و إنسائها، و لم يجز في القرآن الكريم شيء من ذلك.
على أن عدم نسخ آيات القرآن الكريم بالزيادة أو النقصان و لا بالإنساء لا يمنع من تبديل مكان الآيات منه أثناء التنزيل.
تنزيل القرآن منجما بعد إنزاله كاملا جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعرف على بعض الآيات قبل التي تسبقها في ترتيب القرآن كاملا، فيقرؤها ويقرؤها معه المسلمون مرتبة في غير موضعها النهائي.
لذلك كان ترتيب سور القرآن يُنسخ كل سنة على الأقل بمناسبة معارضة جبريل القرآن لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى توافق ترتيب المنَزٌل من القرآن مع الترتيب الذي أنزله الله عليه في ليلة القدر.
تأكيدا لذلك يقول الله عز و جل ( و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر، بل أكثرهم لا يعلمون. ).[13]
فأماكن الآيات ظلت تتبدل خلال مرحلة التنزيل التي بلغت ثلاثا و عشرين سنة، و كان ذلك نسخ في الترتيب و ليس في متون الآيات.
على ضوء هذه الحقيقة يتم الفهم الراشد لمعنى النسخ و النسيان؛ فلم ينس الله الناس أي حرف من القرآن و لم يزد فيه و لم ينقص منه حرفا واحدا. في حين ذلك أنقص الله من الكون المادي عدة آيات كالديناصور و الماموث، وزاد فيه عدة آيات كجزر المرجان والجزر البركانية، وكذلك أنسى الله الناس عدة آيات كونية كآية القبيلة عند الأوروبيين مثلا.
أما قول الصحابة أنهم كانوا يقرؤون بعض السور تغير حجمها مثل قول عائشة رضي الله عنها أن سورة الأحزاب كانت أطول من سورة البقرة فمرده إلى ارتباط النزول بنوازل سبق المتعلق بسورة الأحزاب منها تلك المتعلقة بسورة البقرة. فقد اكتمل تنزيل عدة سور قبل أن يشرع حتى في تنزيل سورة البقرة.
بهذا الفهم الراشد يفسر من جهة ثانية ما صح من قول عمر بن الخطاب أنهم كانوا يقرؤون آية لم تكتب في المصحف هي أية الرجم. فهذه الآية لم تنسخ من القرآن لأنها لم تكن منه قط فهي ليست قراءة شاذة لآية من القرآن مروية بالتواتر، و إنما هي قراءة لآية من التوراة رويت بخبر الآحاد عند المسلمين.
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (كنا نقرأ فيما أنزله الله الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) ليس رواية لآية من القرآن الكريم بل هي إخبار عن نص من التوراة من طرف عمر بن الخطاب الذي كما هو ثابت عند المؤرخين كان قد قرأ التوراة.
هذا النص لا يقبل شرعا ضمن القرآن و لو كان راويه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه لا يقبل من القرآن إلا ما كان مرويا منه بالتواتر مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم باعتبار أنه أنزل حجة على الناس أجمعين.
من جهة ثانية مؤكد أن الله عز و جل لم ينس الناس تلك الآية بدليل أن خبرها و صل إلينا.
لا يمنع هذا كله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدق في حديثه عن آية الرجم، لأنها كانت آية من عند الله أنزلها في التوراة و حكم بها رسول الله صلى الله عليه و سلم على الزناة من اليهود و المسلمين قبل أن تنسخ بآية الجلد في القرآن الكريم.
فقد أثبت المؤرخون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ممن اطلع على نصوص التوراة قراءة، فعلم تفاصيل ما نسخ منها بالقرآن الكريم.
بهذه المناسبة، يجب الانتباه إلى تناقض مراجع الروافض في تعاملهم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحيث يسفهونه في كل شيء و مع ذلك يحتجون بقوله أن آية الرجم نسخت دون توضيح قصده من ذلك، فقط ليستشهدوا بقوله على جواز نسخ آيات القرآن الكريم.

المطلب الثالث: بيعة غدير خم المزعومة.

أخرج ابن ماجة في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: (قدم معاوية في بعض حاجاته فدخل عليه سعد فذكروا عليا فنال منه فغضب سعد وقال تقول هذا لرجل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كنت مولاه فعلي مولاه وسمعته يقول أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وسمعته يقول لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله).[14]
وأخرج الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كنت مولاه فعلي مولاه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سريحة هو حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم)[15]
و قد أثبت المؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث في غدير خم في طريق عودته من حجة الوداع إلى المدينة المنورة.
في حين يجعل الروافض من واقعة غدير خم بيعة لعلي كرم الله وجهه تحت إشراف رسول الله صلى الله عليه و سلم، يعتبر الراشدون أن ما أعلنه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس في ذلك الغدير لفائدة علي كرم الله وجهه دليل قاطع على عدم استخلافه له.
ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلن عليا كرم الله وجهه مولى لكل مؤمن و مؤمنة و ليس وليا على الأمة عكس ما كانت تشتهيه أنفس بني هاشم.
و المولى من الموالاة، و هي على خلاف الولاية تعني في لغة العرب النصرة المتبادلة و ليس الإتباع و لا السمع و الطاعة، أو الخضوع و التسليم.
تدل القرائن المستفادة مما حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أراد صلى الله عليه و سلم بما أعلنه في غدير خم تحرير علي كرم الله وجهه من وصاية بني هاشم بقيادة العباس.
فهؤلاء كانوا قد بدؤوا التخطيط أثناء حجة الوداع لحيازة سلطان ابن عمهم محمد صلى الله عليه وسلم وفق أعراف الجاهلية، علما أن تلك الأعراف تجعل الموالاة أداة وصاية القبيلة على أفرادها.
فهم الصحابة ذلك بوضوح فسارعوا لفك علي كرم الله وجهه من وصاية بني هاشم وبايعوه جميعا في غدير خم على الموالاة كما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و ليس على الولاية كما يتوهم الروافض.
أما بنو هاشم فقد غاظهم الأمر حتما، و في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى ما يرويه مراجع الروافض أنفسهم. إذ يرددون أن رجلا يدعى عكرمة، لا يذكرون نسبه و ذلك أمر لا يحدث منهم إلا عندما يتطلب الأمر التستر على بني هاشم، قام في غدير خم محتجا على رسول الله، فسأله إن كان ذلك من عند الله أم من عند محمد صلى الله عليه و سلم، فلما أخبره النبي أنه أمر من الله، سأل عكرمة الله أن ينزل عليه عذابا من السماء إن كان ذلك من عنده فأنزل الله عز و جل عليه حجرا اخترق جسده.
لا بد من ربط ما حدث في غدير خم بما حدث في مكة المكرمة أثناء حجة الوداع إذ يروي مراجع الروافض أنفسهم أن أبا سفيان بن حرب سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا ( أتموت يا رسول الله ؟ )، و يضيفون أن رسول الله تعرض لمحاولة اغتيال بحجارة ألقيت عليه من فوق جبل عند مروره مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بين جبلين في شعاب مكة.
يتهم مراجع الروافض في دروسهم علنا على الفضائيات و في مواقع الشبكة العنكبوتية أبا بكر و عمر رضي الله عنهما بالوقوف وراء تلك المحاولة، لكنهم ينسون ما ظهر من اتفاق بين العباس و أبا سفيان بن حرب لجعل الخلافة لعلي كرم الله وجهه إثر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
ذلك اتفاق لم يحدث صدفة بين العباس و أبا سفيان شيخي قريش، و إنما كان مرتبا له من قبل، و هو ما يثير تساؤلا عن الجهة التي يجب أن تتهم بمحاولة قتل رسول الله بمكة في حجة الوداع إن ثبت ذلك فعلا.
فالعباس و أبو سفيان هما شيخا أكبر بطون قريش، و لم يكن لأبي سفيان على أي من الصحابة القرشيين الأئمة نفوذ عكس العباس الذي كان له نفوذ كبير على علي كرم الله وجهه.
المؤكد مما حدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بادر في غدير خم، بعد الابتعاد عن مكة مقر قريش، إلى تحرير علي كرم الله وجهه من وصاية بني هاشم. لقد فاتت بذلك على قريش كلها فرصة استعمال تلك الوصاية لأخذ سلطان محمد صلى الله عليه و سلم بطريق الإرث القبلي.
انطلق محمد صلى الله عليه و سلم بعد ذلك ليرتب خلافة أبي بكر له على رأس الملة فأمر بغلق كل الأبواب إلى المسجد إلا باب أبي بكر، و أوصى بالرجوع إليه في الفتوى و توج ذلك بتنصيبه إماما للصلاة خليفة عنه.
لقد وفى علي كرم الله وجهه و معه فاطمة الزهراء رضي الله عنها للراشدين ببيعة الموالاة فكانا عيونا لهم على بني هاشم.
من جهتهم وفى الراشدون لعلي كرم الله وجهه ببيعة الموالاة بأن بادروا إلى إخراجه من ورطة البيعة القبلية التي أوقعه فيها عمه العباس كما سبق أن ذكرنا.
ليس سرا أن مراجع الروافض يرفضون هذا الفهم الراشد لبيعة الغدير معتمدين على تأويل غير موفق للفظ الموالاة. فهم يدعون أنها الوصية من رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي كرم الله وجهه بالولاية في الأمر من بعده.
تأويل كهذا غير موفق، لأن حديث غدير خم محكم، و ليس من مسوغ أصولي لإخراج دلالة لفظ الموالاة من المعنى الصريح إلى معنى مجاز.
من جهة ثانية ليس مقصد الحديث الوصية بالولاية في الأمر لعلي كرم الله وجهه بل المقصد هو تحرير علي كرم الله وجهه من وصاية بني عمه.

المبحث الثاني : توريط بني هاشم.

ظلت دعوة الروافض مستظلة بدعوة بني هاشم القبلية حتى طفت إلى السطح بما تحمله من تخريب سبئي بعد تمكن العباسيين من بلوغ هدفهم.

المطلب الأول: فرق بني هاشم

يثبت المؤرخون أن أحدا لم يتخلف من بني هاشم عن مناصرة علي كرم الله وجهه في كل المعارك السياسية والعسكرية التي خاضها. استمروا متحدين من بعده في مناصرة ولده الحسن رضي الله عنه إلى أن تنازل لمعاوية عن الخلافة سنة واحد و أربعين للهجرة.
عندئذ انقسموا إلى ثلاث فرق، تحزبت إحداهن لأولاد على كرم الله وجهه من فاطمة الزهراء رضي الله عنها، و الثانية لولد علي كرم الله وجهه من خولة بنت جعفر بن قيس بن الحنفية، في حين تحزبت الفرقة الثالثة لبني العباس بن عبد المطلب.
كان على رأس كل واحدة من هذه الفرق عبد الله بن عباس و الحسين بن فاطمة الزهراء ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهم، و قد انضم إليهم عبد الله بن الزبير بن عمة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم.
اجتمعت هذه الفرق الثلاثة للتضامن في وجه سلطان بني أمية مع كل من نازع هؤلاء في حق الخلافة على أي أساس كان.
فقد اعترض منهم عبد الله بن العباس و الحسين بن علي و محمد بن الحنفية على ولاية العهد لليزيد بن معاوية، و شاطرهم الرأي في ذلك غيرهم من الراشدين خاصة عبد الله بن عمر بن الخطاب و عبد الله بن الزبير.
حين التعامل مع أحداث تلك الفترة من تاريخ أمة محمد صلى الله عليه و سلم يجب ألا ننسى أن منازعة بني أمية في حق الخلافة كانت فرصة للسبئيين كي يستثمروها لنشر بدعهم.
يجب ألا ننسى كذلك أن الراشدين كانوا للسبئيين بالمرصاد، و أنهم استدعوا الأمويين للسلطة لدرء خطر أولائك.
من جهة أخرى لا بد من التذكير بأن أولاد علي كرم الله وجهه من فاطمة الزهراء كما أولاده من خولة رضي الله عنهم جميعا ليسوا معصومين من الخطأ في نظر الراشدين، لذلك يجب عدم استبعاد الخطأ منهم و الغلط في التعامل السياسي.
أخيرا يجب عدم إغفال ما كان من تنافس فيما بين فرق بني هاشم مضافا إليه تنافسهم مجتمعين مع بني أمية.
ليس صدفة أن يتجمع قادة الفرق الثلاثة من بني هاشم في مكة المكرمة إثر وفاة معاوية بن أبي سفيان. فقد التجئوا إليها ليحتموا بعصبيتهم الهاشمية من سلطان بني أمية.
اختلف زعماء بني هاشم في ذلك مع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الذي ظل متمسكا بالنهج الراشد لا يحيد عنه قيد أنملة.
فعلى خلاف غيره من زعماء المعارضة، لم يحتم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بأي عصبية قبلية، و على خلافهم جميعا كذلك، أشترط لمبايعة اليزيد حصول هذا الأخير على بيعة السواد الأعظم من الأمة.
لا سبيل لنكران أن اليزيد بن معاوية أتم هذا الشرط فعلا، حيث تأكد للجميع أن أغلبية المسلمين تبايعه في الظاهر على الأقل، علما أن الله و حده يتولى سرائرهم.
التزاما منه بموقف السواد الأعظم كما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم، بايع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما اليزيد بن معاوية.
لم يكتف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بهذه المبايعة و إنما نهى الحسين و عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما عن التمرد.
في حين ذلك لم يشترط عبد الله بن عباس نفس شرط مبايعة السواد الأعظم من الأمة؛ بل أعلن البيعة لليزيد فور طلبها منه، لكنه في الوقت نفسه لم ينه الحسين و عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما عن التمرد.
على خلاف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، لم يلتزم الحسين بن علي و محمد بن الحنفية و عبد الله بن الزبير بموقف سواد الأمة الأعظم، فرفضوا المبايعة لليزيد بن معاوية و التجئوا إلى مكة ليحتموا بعصبية بني هاشم.
هكذا اجتمع في مكة بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان سنة ستين للهجرة، عبد الله بن العباس بن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و عبد الله بن الزبير بن عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم، و محمد بن الحنفية رضي الله عنهم جميعا، كل منهم زعيم سياسي يريد أن يقود معارضة بني هاشم لسلطان بني أمية.

المطلب الثاني: محنة بني هاشم

كان عبد بن العباس يرى نفسه أحق بالخلافة من غيره بحكم أنه الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم. لكنه في الوقت نفسه كان يعلم مدى قوة بني أمية فآثر تركهم يواجهون بني هاشم دونه.لذلك بايع اليزيد بن معاوية وفي الوقت نفسه لم يغادر مكة ولم ينه بني هاشم عن تمردهم.
كان الحسين بن علي رضي الله عنهما يرى من جهته نفسه أحق بالخلافة من عبد الله بن عباس و لا يشك في ولاء محمد بن الحنفية و لا في ولاء عبد الله بن الزبير له.
تلك حقيقة لم يكن من الصعب على السبئيين إدراكها فبادروا إلى توريطه في منافسة اليزيد بن معاوية على البيعة ليتخذوا منه شهيدا يضاهون به عثمان رضي الله عنه شهيد بني أمية.
لم يكن السلطان في أيدي الراشدين حتى يخرجوا الحسين رضي الله عنه مما أوقعه فيه السبئيون. ذلك أنه فور رشوح الخبر عن مبايعة أهل الكوفة و من ورائهم العراقيون للحسين، تحركت آلة السلطان لتنفيذ حكم الشرع بقتل من ينازع في مبايعة السواد الأعظم ببيعة من الأقلية.
ما يؤكد وقوف السبئيين وراء مقتل الحسين أنه فور مقتله في كربلاء سنة واحد وستين هجرية ظهرت في الكوفة دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي للمطالبة بدمه من بني أمية و القول بإمامة محمد بن الحنفية خليفة له في الوصاية الدينية على الأمة بالضبط كما ادعى ذلك عبد الله بن سبأ في حق علي كرم الله وجهه في عهد عثمان رضي الله عنه.
لم يمنع من ذلك نجاح محمد بن الحنفية في إبقاء قبيلة بني هاشم بريئة من دعوة السبئية، إذ تبرأ من المختار بن أبي عبيد الثقفي و من أقواله، و سارع إلى طلب الأمان من اليزيد، فبايع الأمويين و ظل يعترف بخلافتهم حتى توفي سنة 81 هجرية.
قتل المختار بن أبي عبيد الثقفي على يد مصعب بن الزبير سنة 71 هجرية، لكن دعوته لم تتوقف رغم تبرؤ محمد بن الحنفية منه. فقد أضاف السبئيون من بعده لبدعة الوصاية الدينية بدعة البداء على الله التي مفادها أن الله يبدو له الأمر فيغير ما يبدو له كما يغير أحدنا رأيه مع فارق أن الله يغير خلقه و ليس رأيه. بذلك ساغ لهم تبرير ما يقع فيه الإمام الوصي المعصوم من أخطاء و تناقض بأنها من الله و ليست منه.
واضح أن إلصاق هذه الدعوة بمحمد بن الحنفية كانت محنة له و للراشدين من بني هاشم، لذلك نجزم أنهم عملوا على تخليص أنفسهم منها و ذلك ما حدث بالفعل بعد وفاة محمد بن الحنفية سنة 81 هجرية، إذ نقل السبئيون على الفور من ذلك الوصاية لابنه عبد الله الذي تظاهر خلاف أبيه بقبولها، و لكن فقط لكي يعلن تنازله عنها لفائدة محمد بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
كانت تلك ضربة قاصمة تلقاها السبئيون من طرف بني هاشم، لأن محمد بن عبد الله بن عباس كان قد جدد دعوة جده العباس لحق بني هاشم في الخلافة على أساس نظام الإرث القبلي و ليس الوصاية الدينية.
مؤكد أن السبئيين كانوا على علم أن تأسيس حق الخلافة على بدعة الإرث القبلي أقل تخريبا لعقيدة الإسلام من تأسيسها على بدعة الوصاية الدينية، لأجل ذلك قرروا حينئذ إنكار إمامة عبد الله بن محمد بن الحنفية بذريعة أن محمد بن الحنفية لم يمت و أن الله حبسه في جبل رضوى وأنه هو المهدي المنتظر إمام الزمان حسب زعمهم.

المطلب الثالث:انفراط عقد بني هاشم

كانت دعوة العباسيين كامنة في الحميمة بأرض الشام و قد شاءت الأقدار أن تستفيد من دعوة السبئية المسماة كيسانية. ذلك أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية الذي أورثه السبئيون الإمامة من أبيه أوصى بها رغما عنهم لابن عمه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
ارتبكت بذلك حسابات السبئيين و وجدوا أنفسهم يخدمون دعوة العباسيين القبلية دون دعوة الوصاية الدينية، وقد أفاد ذلك كثيرا في تمكين بني هاشم من قلب نظام الحكم الأموي.
فكما استمال العباسيون بني عمومتهم العلويين من نسل محمد بن الحنفية بمساعدتهم على التخلص من تهمة الإمامة الكيسانية، استمالوا كذلك بني عمومتهم العلويين من أبناء فاطمة الزهراء بوعد أن يكون محمد النفس الزكية هو الخليفة.
غير أنه ما إن سقطت خلافة بني أمية حتى استأثر بها أبو جعفر المنصور بعد أبي العباس السفاح.
لم يسكت محمد النفس الزكية على ذلك، و هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فخرج من السلطان العباسي في المدينة لكنه قتل بها على يد جيش المنصور بقيادة عيسى بن موسى .
بعد محمد بن عبد الله خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله و من بعده الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و من بعده يحي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذين قتلوا كلهم على يد جنود عيسى بن موسى قائد جيش أبي جعفر المنصور.
لم يجد العلويون بدا من التخلي عن المواجهة المسلحة و الاكتفاء بالعمل السياسي في مواجهة سلطان العباسيين. انتهجوا في هذا المجال طريقتين أولهما نقل الدعوة الجهرية إلى أطراف دار الإسلام في بلاد البربر ، و ثانيهما حفظ الدعوة سرا في أرض الحجاز و العراق .
أول من نقل الدعوة الجهرية إلى بلاد البربر هو إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي تمكن من إقامة إمارة الأدارسة في إقليم فاس على الحدود مع إمارات للخوارج و أخرى للوثنيين. أثار ذلك انتباه أنصار الدعوة المكتومة في المدينة المنورة و إمامهم يومئذ أبو عبد الله جعفر الصادق في عهد جعفر المنصور.
مع حرص العباسيين على إبادة منافسيهم من العلويين، انفرط عقد قبيلة بني هاشم و لم تعد عصبيتهم قادرة على منع السبئيين من اختراق جسمها. ذلك ما حدث فعلا مع ظهور دولة الفاطميين من جهة وطائفة الروافض الإثني عشرية من جهة أخرى.

المبحث الثالث: افتتان بني هاشم.

على خلاف من سواهم من قريش و من العرب، افتتن عامة بني هاشم بنسبهم لدرجة اعتبار أنفسهم أسيادا من دون غيرهم من بني آدم.
أغرى ذلك من لم يكن منهم بالالتصاق بهم لدرجة لم يعد بالإمكان ، في غياب الدليل المتواتر على صحة الأنساب، تصديق من يدعي النسب الهاشمي.
من جهة أخرى، افتتن حتى العلماء من بني هاشم بنسبهم لدرجة اعتبار أنفسهم أئمة الدين بغير منازع.
لقد سهل ذلك على السبئيين مهمتهم التخريبية، إذ اكتفوا بوضع ما شاءوا من الحديث و القول بما شاءوا من الآراء و نسبته لأحد علماء بني هاشم بعد الدعاية له ليصبح جزءا من الدين الإسلامي.
احترز العباسيون من بني هاشم ضد هذه المخاطر في وقت مبكر باستعمال وسائل السلطان لضبط صحة نسبهم وأقوال علمائهم. على خلافهم كان العلويون من غير نسل محمد بن الحنيفة ضحية لشهرتهم. فقد استغلها السبئيون لزرع ما شاءوا من البدع و وضع ما شاءوا من الأحاديث.
رأينا أن تخليص الحنفيين أنفسهم من الدعوة الكيسانية كان في مقابل اختفائهم من ساحة المنافسة السياسية، والتنازل عن الشهرة.
ذلك ثمن لم يقبل العلويون دفعه، حيث ظل العلماء منهم من ذرية الحسن كما الذين من ذرية الحسين يمارسون المعارضة السياسية بما تؤدي إليه من شهرة.
فقد اشتهر منهم بالزعامة و العلم بعد الحسن بن علي رضي الله عنه المتوفى سنة 49 هجرية ابنه الحسن المتوفى سنة 78 هجرية و ابنيه إبراهيم بن الحسن المتوفى سنة 145 هجرية و محمد النفس الزكية بن عبد الله المحض بن الحسن المتوفى سنة 145 هجرية و إدريس بن عبد الله المحض بن الحسن المتوفى سنة.
اشتهر من العلويين كذلك علميا و سياسيا بعد الحسين بن علي رضي الله عنه المتوفى سنة 61 هجرية ابنه علي زين العابدين المتوفى سنة 93 هجرية و من بعده محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 117 هجرية و زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة121 هجرية، و جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بنعلي بن أبي طالب المتوفى سنة 148 هجرية، و إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 132 هجرية، وموسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 183، و علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 203 هجرية، و محمد الجواد التقي بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 220 هجرية ، و علي الهادي التقي بن محمد الجواد التقي بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 254 هجرية ، و الحسن العسكري بن علي الهادي التقي بن محمد الجواد التقي بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 260 هجرية، و محمد المهدي المنتظر بن الحسن العسكري بن علي الهادي التقي بن محمد الجواد التقي بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
نقتصر على ذكر هؤلاء علما أن غيرهم من العلويين من مشاهير العلماء و السياسيين كثيرون.
إلا أن الذين ورد ذكرهم أعلاه بأسمائهم و تواريخ وفاتهم استعملوا جميعا دون علمهم و لا موافقتهم من طرف السبئيين كأئمة لطائفة الروافض.
فقد نسبوا لهم جميعا من الروايات و الأقوال ما أقاموا به مختلف مذاهب طائفة الروافض في العقائد و الشعائر و الفقه و السياسة و علم الكلام .
ركز السبئيون على أربعة من بين هؤلاء الأئمة هم الحسين رضي الله عنه المتوفى سنة61 هجرية، وجعفر الصادق المتوفى سنة148 هجرية، و إسماعيل بن جعفر الصادق المتوفى سنة 132 هجرية و محمد المهدي المنتظر بن الحسن العسكري.
سبق أن ذكرنا أن السبئيون استعملوا شخص الحسين بن علي رضي الله عنهما كشهيد لدعوتهم التي ألصقوها بمحمد بن الحنفية و رأينا كيف أن الحنفيون تمكنوا بمساعدة العباسيين من تخليص أنفسهم.
بعد ذلك عمد السبئيون إلى جعفر الصادق لاستعماله كمرجع لبدعهم بعد أن لم يفلحوا في ذلك مع زيد بن علي المتوفى سنة 121 هجرية الذي سماهم الروافض.
يختلف المؤرخون حول حقيقة شخصية جعفر الصادق، فقد عده البعض من أئمة العلم الراشدين في حين عده البعض الآخر الأب الروحي لطائفة الروافض.
مهما كانت حقيقته، فقد نسب له الدور الرئيس في جعل الإمامة تنحصر في نسل الحسين دون بقية إخوته، و كذلك عقيدة التقية و كذلك التمييز بين إمامة الاستيداع و إمامة الاستقرار.
بسبب هذا التمييز انقسمت طائفة الروافض إلى تنظيمين غامضين هما الاثني عشرية و الإسماعيلية. ذلك أنهم بعد إلصاق تلك البدع بجعفر الصادق، عادوا لاستعمال ابنه إسماعيل المتوفى سنة 132 هجرية لاختلاق المزيد.
يدعي الروافض الاثني عشرية أن جعفر الصادق عزل ابنه إسماعيل من الإمامة بعد أن كان قد أوصى بها له من بعده لما تبين له فساده و أحل موسى الكاظم محله في الوصية. بذلك انتقلت الإمامة من جعفر الصادق إلى موسى الكاظم و بعده إلى علي الرضا و محمد الجواد و علي الهادي التقي و الحسن العسكري و أخيرا محمد المهدي الذي اختفى في السرداب حسب زعم الروافض الاثني عشرية.
أما الروافض الإسماعليون فلهم قول آخر، إذ يجزمون أن جعفر الصادق مارس التقية بأن جعل لموسى الكاظم إمامة الاستيداع ليحفظ في إسماعيل إمامة الاستقرار.
قال الروافض الإسماعليون أن حق إسماعيل في الإمامة ثابت بنص أبيه عليها، لا تزول عنه بالعزل، و لم تنتقل بموته إلى موسى الكاظم لأنها كانت من نصيب محمد ابن إسماعيل بنص أبيه إسماعيل عليها.
و ردا منهم على قول الروافض الاثني عشرية أن إسماعيل توفي قبل أبيه جعفر الصادق، يؤكد الروافض الإسماعيلية أن إسماعيل لم يمت قبل أبيه و إنما ادعى جعفر الصادق ذلك ليموه على الخليفة جعفر المنصور و يتستر على الإمام المستقر في شخص ولده إسماعيل.
ليكتمل التمويه كان لا بد لجعفر الصادق أن يعين إماما مستودعا يظهر للناس بدل إسماعيل الإمام المستقر، و المعلنة وفاته.
لأجل ذلك عين جعفر الصادق ابنه موسى الكاظم إماما صوريا حسب الروافض الإسماعيلية.
ففيما بلغ إليه تصورهم، ليس الإمام المستودع سوى إماما صوريا يتسلم الإمامة في الظروف الاستثنائية و لا يستطيع توريثها لأحد من ولده على عكس الإمام المستقر الذي له الإمامة الحقة و يملك توريثها لمن شاء من ولده. كان ذلك هو شأن إسماعيل بن جعفر الصادق الذي اختفى عن الأنظار بإعلان وفاته و نص على الخلافة من بعده لولده محمد المولود سنة 132 هجرية.

الفصل الثاني: نشأة طائفة الروافض

لم يزل الزنادقة متربصون ببني هاشم حتى استعملوا عنوانهم ففتنوا أتباع أئمتهم.
فقد تخصص فريق منهم في التقول على من اشتهر بالزعامة السياسية و العلم من أسباط رسول الله صلى الله عليه و سلم، واختص الفريق الأخر في استمالة من ضعفت نفسه من هؤلاء.

المبحث الأول: استمالة ضعاف الأسباط.

تمكن الزنادقة من استمالة ضعاف الإيمان من أسباط رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأنشئوا بهم الدولة الفاطمية بصفتها أول دولة رافضية.
يدعي الروافض الإسماعيلية كما سبق ذكره أن إسماعيل بن جعفر الصادق لم يمت سنة 132 هجرية، و إنما ادعى أبوه ذلك تقية. وقد رزق مولودا في نفس ذلك العام سماه محمد المكتوم هو الذي ورث عنه الإمامة.
أما الروافض الاثني عشرية فلا يعترفون بذلك و يتهمون الإسماعيلية بالكذب دون القدرة على تبرئة محمد المكتوم الذي تربى في كفالة جده جعفر الصادق ثم تولي الإمامة طواعية بعد أبيه إسماعيل بن جعفر الصادق.
مهما يكن فنسب محمد المكتوب لإسماعيل بن جعفر الصادق ثابت باعتراف الجميع، و هو سبط من أسباط رسول الله صلى الله عليه و سلم ينتهي نسبه إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
لا ينازع أحد من جهة أخرى في أن هذا السبط تولى طواعية الإمامة سنة 158 خلافة عن أبيه إسماعيل الذي ادعاها له الروافض من الإسماعيليين.
كان عمره عشرون عاما وقتئذ، فاضطر إلى التستر و العيش في الخفاء إلى أن ظهر بدعوته في نهاوند ثم انتقل إلى دماوند و بنا فيها مدينة محمود أباد قبل أن ينتقل إلى مدينة تدمر في سوريا من حيث أوفد الدعاة إلى بلاد المغرب.
توفي محمد بن إسماعيل سنة 193 بعد أن نص على الإمامة من بعده لولده أحمد الوفي.
ولد أحمد الوفي في محمود أباد سنة 179 و انتقل مع أبيه إلى تدمر حيث ولي عنه الإمامة و منها هاجر إلى السلمية عام 194 التي اتخذها مقرا لدعوته قبل أن يهجرها إلى مسقط رأسه محمود أباد حيث توفي سنة 212 هجرية بعد أن نص على الإمامة من بعده لولده أحمد الملقب بمحمد التقي.
ولد محمد التقي سنة 198 هجرية في مدينة السلمية و تولى الإمامة في محمود أباد بعد وفاة أبيه ليعود إلى السلمية مركز الدعوة الإسماعيلية ليقود نشاط الحركة قبل أن ينتقل إلى مصياف التي توفي بها سنة 265 هجرية بعد أن نص على الإمامة من بعده لولده عبد الله الرضى الذي توفي سنة 289 هجرية بالسلمية بعد أن عهد بالإمامة من بعده لابنه محمد المهدي.
ولد محمد المهدي سنة 259 هجرية في مدينة سلمية و قد تصادف تسلمه الإمامة مع تمكن الدعوة الإسماعيلية من بلاد المغرب التي انتقل إليها و استقر بالمهدية في تونس حيث توفي سنة 322 هجرية بعد أن نص على إمامة ولده القائم بأمر الله من بعده .
ولد القائم بأمر الله سنة 280 هجرية بالسلمية و هاجر مع أبيه إلى بلاد المغرب التي صارت ملكا خالصا له بل و تجاوزها إلى جزيرة صقلية و بلاد مصر.
و قد توفي القائم بأمر الله سنة 334 هجرية بعد أن نص على الإمامة من بعده لولده المنصور بالله المولود بالمهدية سنة 303 هجرية .
آلت الإمامة بعد المنصور بالله بنص منه لولده المعز لدين الله سنة 346 هجرية و هو الذي انتزع إقليم مصر من العباسيين سنة 358 هجرية و اتخذ منها القاهرة عاصمة إمامته سنة 362 هجرية بدل المهدية.
قبل وفاته سنة 366 هجرية نص المعز لدين الله على إمامة ولده العزيز بالله الذي خلفه من بعده بالنص منه ولده الحاكم بأمر الله و توالى الأئمة الإسماعليون يتعاقبون على الحكم إلى أن زالت الدولة الفاطمية.
طبقت دولة الفاطميين نظرية عبد الله بن سبأ في الحكم حيث جعلت للإمام الفاطمي المعصوم وصاية دينية على الأمة لا فصل فيها بين إمامة الملة وإمارة الأمة.
طبقت كذلك نظرية المختار بن أبي عبيد الثقفي لتبرير أخطاء وصي الله بعقيدة البداء مع الله.
طبقت دولة الفاطميين نظرية جعفر الصادق في التقية وفي قصر الإمامة على ذرية السبط الحسين رضي الله عنه دون ذرية السبط الحسن كما طبقت نظريته في التقية وفي التمييز بين إمامة الاستيداع وإمامة الاستقرار.
حكم الروافض الإسماعيلييون بتكفير أتباع الطوائف المسلمة الأخرى فأبادت دولة الفاطميين كل من أمكنها القبض عليه منهم.
الأخطر من ذلك كله أن الدولة الفاطمية وضعت في خدمة الزنادقة وسائل التدوين و الاستنساخ و توزيع كتب الروايات المكذوبة على رسول الله و الأئمة الأسباط.
تمكنوا بفعل ذلك من نشر مذهبهم في كل شمال إفريقية و صقلية و مصر، و شكلوا دولة قوية قضت مضجع الخليفتين العباسي في بغداد و الأموي في الأندلس.
شكلت الدولة الفاطمية نموذج نظام حكم الطائفة الرافضية كما شكلت الحركة الإسماعيلية نموذج التنظيم الرافضي في كل الفرق الرافضية.

المبحث الثاني: التقول على العلماء من الأسباط.

على خلاف العباسيين والحنفيين، كان العلماء الأسباط من بني هاشم أكثر عرضة للاستعمال من طرف الزنادقة.
تلك طريقة في التخريب لم تفلح مع غير الأسباط من بني هاشم. فقد حاول المختار بن عبيد الثقفي استعمال محمد بن الحنفية فأفشل الحنفيون من العلويين خطته بالتحالف مع العباسيين و الأمويين معا.
تمسك الزنادقة بسنة المختار بن عبيد الثقفي الذي جدد ما قال به عبد الله بن سبأ في حق علي كرم الله وجهه مضيفا إليه عقيدة البداء مع الله. استعملوا في ذلك جعفر الصادق مع إضافة نظرية حصر الإمامة في السبط الحسين و ذريته دون ذرية السبط الحسن، و إضافة نظرية التقية، و نظرية التمييز بين إمامة الاستيداع و إمامة الاستقرار.
اتبع الزنادقة ضد جعفر الصادق طريقة وضع الروايات المنسوبة بالأسانيد لعلي كرم الله وجهه و لسائر من جعلوهم أئمة معصومين للروافض ودونوها في ما يسمى الأصول الأربع مائة.
قسم الزنادقة وقتئذ عملهم بين فريقين رئيسيين، وظف الأول منهما نفسه لبلورة وتطوير مذهب الروافض الإسماعيليين، و تجند الفريق الثاني لفتن أتباع الأسباط من غير الإسماعيليين.
جعل هذان الفريقان الروافض الإسماعيليين يتفقون مع الروافض الإثنى عشرية على الأخذ بنظرية عبد الله بن سبأ حول الوصاية الدينية مضافا إليها اجتهادات المختار بن عبيد الثقفي مع الإضافات المنسوبة لجعفر الصادق.
لقد جعلوا الفرقتين تتفقان على نفس أحكام فقه العبادات و المعاملات، كما أحكام السياسة.
غير أنهم حافظوا لهم على الاختلاف حول أشخاص الأئمة المعصومين، حيث عد الفريق الموظف من قبل الفاطميين معصوما كل إمام من أئمة دولتهم بالإضافة إلى محمد صلى الله عليه و سلم و فاطمة الزهراء، و الحسن و الحسين رضي الله عنهما وعلي زين العابدين و محمد الباقر و جعفر الصادق و إسماعيل و محمد المكتوم و أحمد الوفي و محمد التقي و عبد الله الرضى.
في حين ذلك لا يعد الروافض الإثنى عشرية من الأئمة المعصومين إسماعيل بن جعفر الصادق مع من خلفوه، ويستبدلونهم بموسى الكاظم مع من خلفوه إلى غاية محمد المهدي المنتظر الذي يزعمون اختفائه في السرداب كما زعم الكيسانية قبلهم انحباس محمد بن الحنفية في جبل رضوى.
لقد ذهب سلطان الفاطميين لكن الروافض الإسماعليون لا زالوا يحتفظون بكتبهم مخطوطة لا يطبعونها و لا ينشرونها مثلهم في ذلك مثل باقي فرق الروافض ما عدى الإثنى عشرية.
كتب هؤلاء خرجت إلى الضوء و صارت تنشر في المكتبات و تعرض للتحميل مجانا في الشبكة العنكبوتية.
بالاطلاع عليها يتبن أن المصادر الأصلية للأحكام عندهم هي القرآن و السنة مع فارق كبير عن معناها المعروف عند الراشدين وعند الطوائف الأخرى.
فالقرآن الذي يقصدونه هو الذي يحتفظ به الإمام المهدي في السرداب و ليس الذي في المصحف كما ورد بالتواتر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يومنا.
كذلك السنة ليست هي ما ثبت عن محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم من قول و فعل و إقرار. بل هي : ( قول المعصوم أو فعله أو تقريره)[16] يقول محمد تقي الحكيم 🙁 و الحق عند الروافض الإمامية أنَّ كل ما يصدر عن الأئمة الاثني عشر من قول أو فعل أو تقرير يُعرفُ بالسُّنة الشَّريفة)[17].
عدد المعصومين الذين يعد قولهم و فعلهم و تقريرهم سنة تشكل مصدرا أصليا للأحكام الشرعية غير متفق عليه بين فرق طائفة الروافض.
فبينما يزيد هذا العدد باستمرار الإمامة عند بعض الفرق، توقف عند رقم معين بالنسبة للفرق التي تؤمن باختفاء إمامها أو انحباسه.
مهما يكن، فإن فرق الطائفة الرافضية مجمعة على إدخال محمد صلى الله عليه و سلم ضمن عدد الأئمة و تشذ عنهم الفرقة الكيسانية في عدم اعتبار فاطمة الزهراء ضمن المعصومين.
لا شك أن تعدد مصادر السنة كأصل للتشريع عند الروافض أمر غاية في الخطورة، لكن الأخطر منه هو غياب علم الحديث عند مراجعهم.
ذلك أن علمائهم لم يشتغلوا في التأكد من صحة ما روي لهم عن الأئمة المعصومين، الشيء الذي يثير التساؤل حول صحة ما يسمونه سنة.
من جهة أخرى، يجب الانتباه إلى أنه برغم اعتبار محمد صلى الله عليه و سلم ضمن المعصومين الذين تؤخذ عنهم الأحكام، فإن معظم الأخبار و الأحاديث المعتمدة من طرف الروافض باعتبارها سنة تنتهي أسانيدُها للمعصومين من دون محمد صلَّى الله عليه وسلم.
انقطعت بالفعل أسانيد الروافض إلى محمد صلى الله عليه و سلم لأنهم كفروا أغلب الصحابة رضوان الله عليهم إلا عددا قليلا ممن ليسوا من كبار الرواة عن رسول الله مثل سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري و عمار بن ياسر.
فبالاطلاع على ما اعتمدته حوزتي قم و النجف من كتب منشورة يتبين أنه بدلا عن الكتب الستة الراشدة لمسلم والبخاري و ابن ماجة والترمذي و داود و النسائي، التي نقلت بصدق مؤكد عن كل الرواة من الصحابة أقوال رسول الله صلى الله عليه و سلم، يعتمد الروافض ثمانية مؤلفات للروايات غير الصحيحة.
يتعلق الأمر فعلا كما أثبته المحققون من علماء الحديث بكتب تتضمن روايات في معظمها موضوعة بأسانيد غير صحيحة انتهى بها واضعوها كذبا إلى محمد صلى الله عليه و سلم، و انتهوا بأخرى كذبا كذلك إلى فاطمة الزهراء و علي و الحسن و الحسين رضي الله عنهم، وأخرى انتهوا بها أيضا كذبا إلى علي زين العابدين و محمد الباقر و خصوصا جعفر الصادق .
يأتي كتاب (الكافي) في مقدمة هذه المؤلفات، وهو لمحمد بن يعقوب الكليني، الذي زعم أنه عرضه على الإمام الغائب في السرداب، فقال له: (هذا كافٍ لشيعتنا)!.
ثم كتاب (من لا يحضره الفقيه)، لمحمد بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 هجرية.
ثم كتاب (الاستبصار)، وكتاب (تهذيب الأحكام)، كلاهما لمحمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 360 هجرية.
يضيف مراجع الروافض لهذه الكتب الأربعة المؤلفة في القرن الرابع الهجري أربعة أخرى ألفت في القرن الحادي عشر الهجري سموها المجاميع الأربعة المتأخرة وهي :
– كتاب (الوافي)، لملا محسن الفيض الكاشاني المتوفى سنة 1091 هجرية؛
– كتاب (بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار)، لمحمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1111 هجرية
– كتاب (وسائل الروافض إلى تحصيل مسائل الشريعة) “، لمحمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هجرية.
– كتاب (مستدرك الوسائل) لحسين النوري الطبرسي المتوفى سنة 1320 هجرية.
يعتقد الروافض الإثنى عشرية أن هذه الكتب أصح من كتب الحديث الستة التي عند الراشدين و هي صحيحي مسلم و البخاري و سنن داود و ابن ماجة و الترمذي و النسائي.
غير أن المحققين أثبتوا عدم صحة أكثر الروايات المنقولة في كتب الكافي و من لم يحضره الفقيه و الوافي و الاستبصار و تهذيب الأحكام و بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، و وسائل الروافض إلى تحصيل مسائل الشريعة، و مستدرك الوسائل.
خلص المحققون من علماء الحديث بعد دراسة الأحاديث الموضوعة في هذه الكتب الثمانية إلى أن مؤلفيها تعمدوا اختيار كل واحد من تلك الأحاديث. فهم لم يصححوا الأحاديث الباطلة التي في كتبهم اعتباطا، و إنما فعلوا ذلك لموافقتها نظريات و تصورات كما مقاصد طائفتهم. أما الأحاديث التي لا توافق شيئا من ذلك فقد كذبوها غير آبهين بالشروط العلمية لنقل الأخبار و الأحاديث.
بالنظر إلى السياق التاريخي لتكوين مذهب طائفة الروافض، لا يمكن إلا القول أن سنة الأئمة المعصومين كما يريدها مراجع الروافض الإثنى عشرية و لا يختلف معهم في ذلك مراجع الفرق الرافضية الأخرى، هي في الحقيقة توثيق لما ابتدعه الزنادقة قصد حجب شخص محمد صلى الله عليه و سلم و تخريب عقيدة الإسلام و تمكين عصبية الأسباط من استعباد المسلمين و استغلال الأمة.

الفصل الثالث: مقصد طائفة الروافض.

عكس الراشدين مع طائفتي أهل العصبية القبلية و الخوارج، يشترك الروافض مع المتصوفة في الحرص على خدمة أئمتهم و التقرب إليهم لنيل شفاعتهم عند الله.
ذلك هو مراد العامة في طائفة الروافض. فالعوام الروافض لا يتمسكون بالشرع حبا في الله و لا في رسوله و لا لخدمة الأمة و عمارة الأرض، بل طلبا لشفاعة الأسباط مقابل تمكين هؤلاء من السيطرة على الأمة و حكمها دون شورى و أخذ خمس مالها العام كحق ورثوه عن رسول الله صلى الله عليه، و كذلك أخذ الخمس من مال كل مسلم كحق مقرر لهم بنص الوحي.

المبحث الأول: تضليل العامة.

يقول الله عز و جل في فاتحة الكتاب ( الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم ملك يوم الدين إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم و لا الضالين).
صراط المغضوب عليهم و صراط الضالين في هذه السورة هو صراط غير الراشدين، لأن الصراط المستقيم لا يمكن أن يكون غير الذي عليه من شهد الله لهم بالاستقامة و هم الصحابة الراشدون لقول الله عز و جل ( والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه).
كل من خالف نهج الراشدين هو على صراط غير مستقيم، و هو مغضوب عليه من الله إن كان كافرا، و يعد ضالا إن كان مسلما.
تشترك طائفة الروافض مع طوائف الصوفية و الخوارج و أهل العصبية القبلية في الضلال عن النهج الراشد، لكنها تتميز عنهم بتعمد التضليل للعامة.
لا يمكن تبرئة طائفة الروافض من تحقيق مبتغى الزنادقة في تضليل عامة المسلمين بطريق حجب شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم بشخص علي كرم الله وجهه، و حجب جماعة الصحابة الراشدين بأشخاص بعض منهم، و حجب شخص الأمة بعصبية الأسباط.
أخطر من ذلك، يتحقق مراد الزنادقة على يد طائفة الروافض في حجب الذكر المنزل من عند الله في القرآن و السنة على محمد صلى الله عليه و سلم بالأدعية و الحكم و الأمثال و الأحاديث الموضوعة على لسان علي كرم الله وجهه و فاطمة الزهراء رضي الله عنها و أولادهما المعصومين حسب زعمهم.
أخيرا يبلغ الزنادقة مبتغاهم من خلال طائفة الروافض في خلق أماكن عبادة و حج بديلة للمساجد و لبيت الله العتيق، يمارسون فيها طقوسا بديلة لشعائر الله.
فبدلا من سيرة محمد صلى الله عليه و سلم يحفظ الروافض سيرة علي كرم الله وجهه و يحتفلون بتاريخ بيعته المزعومة في غدير خم و تاريخ انتصاره على عائشة رضي الله عنها و تاريخ استشهاده.
بدلا من اسم محمد الذي باركه الله، يتسمى الروافض باسم علي و يسمون به أولادهم، فلا يكاد يذكر عندهم اسم محمد.
من جهة ثانية، و بدلا من جماعة الصحابة الراشدين الذين جاهدوا مع رسول الله بأنفسهم و أموالهم و آووه و نصروه فشهد لهم الله بالصدق و الإمامة في قوله عز وجل ( و السابقون الأولون …)، لا يعترف الروافض إلا بصلاح علي و فاطمة الزهراء و الحسن و الحسين وسلمان و عمار بن ياسر و أبو ذر الغفاري رضي الله عنهم جميعا، بل و الأخطر من ذلك أنهم يكفرون الباقين.
سبق أن ذكرنا أن الخلاف الذي ظهر بين هؤلاء الثمانية و جماعة الصحابة الراشدين كان عملا صوريا اقتضه ضرورة إجهاض مخططات الطامعين في سلطان الأمة من شيخي قريش العباس و أبو سفيان. لكن مراجع الروافض يتعمدون إخفاء هذه الحقيقة و يتخذون مما ظهر داخل حزب الله الراشد من خلاف بين جماعة الصحابة و بين هؤلاء الثمانية دليلا على فساد تلك الجماعة كلها.
بل إنهم يفضلون على جماعة الصحابة الراشدين كل من أظهر لهم عداء مثل المجوسي أبو لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
من جهة ثالثة، لا يعترف الروافض بما عليهم من واجب الولاء للأمة الإسلامية إذ يوالون فقط عصبية الأسباط و يتبرؤون من سواها بمن في ذلك أمة محمد صلى الله عليه و سلم.
فالأمة لا تذكر عند الروافض أبدا، و يذكر بدلا عنها الأئمة المعصومين بصفتهم نواة عصبية أهل البيت إذ يلحقون بهم كل أسباط محمد صلى الله عليه و سلم.
بحجب رسول الله و الصحابة و الأمة يتمكن مراجع الروافض من تضليل طائفتهم عن مصادر الذكر و الشرع المباشرة من قرآن و سنة و إجماع ليستبدلوها لهم بمصادر من صنعهم.
سبق أن ذكرنا أن لطائفة الروافض كتب للسنة غير صحيحة، وذكرنا كذلك أنهم يشككون في صحة المصحف. بذلك يجد الروافض أنفسهم مبعدين عن الذكر المنزل من عند الله.
فبدلا من التعبد بحفظ القرآن و تلاوته كما هو مخطوط في المصحف، يتعبد الروافض بحفظ و تلاوة أدعية موضوعة لم ينزل بها وحي من عند الله.
أخيرا، يحرص العوام من الروافض على الحج إلى أضرحة أئمتهم من الأسباط أكثر من حرصهم على الحج إلى بيت الله الحرام.
يحرصون كذلك على التجمع سرا و علنا في الحسينيات ليلطموا أنفسهم و يسبوا الصحابة الراشدين أكثر من حرصهم على السعي إلى المساجد لإقامة الصلوات الخمس وقراءة القرآن.
يستعمل مراجع طائفة الروافض من أجل إحداث هذا التضليل كل وسائل التدليس على العامة و تهييجهم بعد إشاعة الجهل فيهم. فهم لا يتركون لهم فرصة اكتساب أي ثقافة تنمي حس النقد، فيحاربون حرية الرأي و الصحافة والتعدد الحزبي و يضربون على العامة طوق العزلة عن غيرهم بدعوى حمايتهم من الفساد.

المبحث الثاني : الاستكبار على المسلمين.

يحرم استكبار المسلمين على غيرهم ناهيك عن بعضهم البعض. فوفق النهج الراشد، لا يستضعف مسلما إلا منافق أو فاسق ضعيف الإيمان. يقول الله عز و جل عن المؤمنين ( و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يطيعون الله و رسوله أولائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)[18].
موالاة المسلمين بعضهم لبعض لا تنتج من عصبية و إنما هي نتاج عقيدة الأخوة الدينية بينهم في الدنيا و في الآخرة.
يقول الله عز وجل عن المؤمنين بمن فيهم محمد صلى الله عليه و سلم ( إنما المؤمنون إخوة )[19].
عملا بذلك، لم يتخذ محمد صلى الله عليه وسلم لنفسه لقب السيد و لا الشريف. فعلى رفعة قدره و علو مرتبته بصفته خير ولد آدم، كان صلى الله عليه و سلم يسمي نفسه عبد من عباد الله و أخ للمسلمين.
أثبت أصحاب السيرة و علماء الحديث أن أصحاب رسول الله كانوا ينادونه باسم (نبي الله) و (رسول الله) و (محمد بن عبد الله) دون قول يا مولاي و لا يا سيدي فأقرهم على ذلك.
أما هو صلى الله عليه و سلم فكان من جهته يناديهم بأسمائهم و لم ينعت أحدا منهم قط باسم التابع أو العبد أو الخادم، كما أنه لم ينعت أحدا قط باسم سيدي فلان أو مولاي فلان، و لا بنعت سيدكم فلان أو مولاكم فلان. بل إنه كان يستعمل للمسلمين نعت أخي و أخوكم و إخوتكم و إخواننا.
لا ينال من ذلك نعت رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه و لابنته فاطمة الزهراء و لسبطيه الحسن و الحسن و لأبي بكر و لعمر رضي الله عنهم بلقب السيد و السيدة. فذلك إخبار منه صلى الله عليه و سلم عن مرتبة لهم في الجنة و ليس في الدنيا، و هي مرتبة خاصة بهم لا تشمل سلالتهم.
صح عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و أول من ينشق عنه القبر و أول شافع و أول مشفع)[20].
وصح عن عائشة رضي الله عنها قالت (أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم مرحبا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسر إليها حديثا فبكت فقلت لها لم تبكين ثم أسر إليها حديثا فضحكت فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عما قال فقالت ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قبض النبي صلى الله عليه و سلم فسألتها فقالت أسر إلي إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين و لا أراه إلا حضر أجلي و إنك أول أهل بيتي لحاقا بي فبكيت فقال أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك)[21] .
وصح عن حذيفة قال (سألتني أمي متى عهدك تعني بالنبي صلى الله عليه وسلم فقلت ما لي به عهد منذ كذا و كذا فنالت مني فقلت لها دعيني آتي النبي صلى الله عليه و سلم فأصلي معه المغرب و أسأله أن يستغفر لي و لك فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب فصلى حتى صلى العشاء ثم أنفتل فتبعته فسمع صوتي فقال من هذا حذيفة قلت نعم قال ما حاجتك غفر الله لك و لأمك قال إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة و أن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة)[22]
و صح عن علي كرم الله وجهه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر و عمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين و الآخرين إلا النبيين و المرسلين لا تخبرهما يا علي ما داما حيين) [23]
و صح عن بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة و أبوهما خير منهما ) [24].
هذه الأحاديث تفسر بوضوح معنى لقب السيد الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه و سلم على السبط الحسن رضي الله عنه في الحديث الذي رواه أبو بكرة. فقد صح عن السبط الحسن أنه سمع أبا بكرة قال ( سمعت النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر و الحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة و إليه مرة و يقول ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) [25].

فرسول الله سيد الناس جميعا يوم القيامة، و الحسن رضي الله عنه سيد في الجنة كما أخوه الحسين و أبو بكر و عمر و علي و فاطمة الزهراء رضي الله عنهم جميعا.
لعل مرتبة السيد في الجنة تعني علو الدرجة في نعيمها و الله أعلم، لأنه ليس لأحد من أهل الجنة سلطان على أحد آخر من أهلها و إلا لصارت دار امتحان وهوان كالدنيا.
أما في الدنيا فالسيادة تعني علو مرتبة السيد على المسود في السلطة و المكانة و الخصومة. لا يحق للمسود مهما بلغ من القوة و العلم و حسن الخلق و التقوى، ممارسة السلطة على السيد، و لا أن يعادله في الكفاءة أو يغلبه في الخصومة.
لم يتقرر ذلك لأي ممن نعتهم رسول الله بلقب السيد، إذ لم يكن لأحد منهم حصانة من أحكام الشرع و لا إعفاء من التكاليف، و كانوا على نفس درجة كفاءة عامة المسلمين في الزواج و في تولي المناصب.
بل إن رسول الله قالها صراحة لفاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها إذ صح عنه قوله صلى الله عليه و سلم: ( يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)[26]
و قالها صراحة لقريش ولكل العرب يوم فتح مكة، إذ أخرج الترمذي في السنن عن عبد الله بن دينار عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية و تعاظمها بآبائها فالناس رجلان بر تقي كريم على الله و فاجر شقي هين على الله و الناس بنو آدم و خلق الله آدم من تراب قال الله يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ). [27]
و حتى لا يستأثر مسلم بشرف الانتساب لمحمد صلى الله عليه و سلم فقد رفع رسول الله صلى الله عليه و سلم كل مسلم لدرجة الأخوة معه. فقد صح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : (أتى المقبرة فسلم على المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لا حقون ثم قال لوددنا أنا قد رأينا إخواننا قالوا يا رسول الله أو لسنا إخوانك قال أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون من بعدي و أنا فرطكم على الحوض قالوا يا رسول الله كيف تعرف من لم يأت من أمتك قال أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل دهم بهم ألم يكن يعرفها قالوا بلى قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء قال أنا فرطكم على الحوض ثم قال ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال فأناديهم ألا هلموا فيقال إنهم قد بدلوا بعدك ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم فأقول ألا سحقا سحقا)[28].

بل إن الله عز و جل جعل كل المسلمين أهل بيت محمد صلى الله عليه و سلم بأن ألحق نسبهم بأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم أمهات المؤمنين بقوله عز من قائل ( النبي أولى من المؤمنين بأنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم) [29]، وتأكيدا لذلك جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كل أتباع ملته عترته كما سيأتي تفصيل ذلك.

فقد صح عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما )[30]
ملة المسلمين في أمة محمد صلى الله عليه و سلم هم أهل بيت محمد صلى الله عليه و سلم و عترته. بذلك يتميزون عن غيرهم من ملل الأمة. فأهل الذمة من اليهود و النصارى و الصابين و المجوس وغيرهم جزء من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لكنهم ليسوا من آله صلى الله عليهم و سلم لأنهم لا يعدون من عترته.
عقيدة الأخوة بين المسلمين بمن فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدثت ثورة على أنظمة استكبار سلالات الأشراف و الأسياد. فقد كان أكثر اليهود و النصارى و المشركين و المجوس و الوثنيين مستضعفين يرزحون تحت سيطرة سلالات الأشراف و الأسياد فيهم، فلما رأوا مساواة الإسلام و نظام الأخوة فيه تدفقوا إليه جماعات و أفرادا، حتى إن الداعي الواحد إلى الإسلام كانت تدخل على يديه في دين الله القرية ذات العدد الكبير.
أعطى ذلك من جهة ثانية للمواطنين مليين وذميين ثقة في نظام الأمة، فتفانى الكل في خدمة الصالح العام و حدث أن سقطت على أيديهم أعظم الإمبراطوريات وقامت بأيديهم أعظم الحضارات.
لكن ما إن صار الإسلام نظاما لاستكبار السلالة الشريفة كغيره من الأديان، توقف إقبال الناس على الدخول فيه، كما توقف من دخلوا فيه عن العطاء.
حدث ذلك عندما حصر مراجع الروافض معنى آل بيت رسول الله في ذوي قرابته و جعلوا صفة عترة رسول الله حكرا على أسباطه صلى الله عليه و سلم و استضعفوا بهم عامة المسلمين.
بدعة الروافض هذه لقيت استحسانا و قبولا من طرف عصبية الأسباط الممتدة في طائفتي أهل العصبية القبلية و المتصوفة فصارت مشتركة بينهم جميعا.
استعمل مراجع الروافض بدعة الاستكبار بسلالة الأسباط للتضليل عن الله و رسوله كما خطط له الزنادقة.
فالتضليل لم يكن ليكتمل بدون الاستجابة للرغبة التي عند كل البسطاء من الناس في الفوز السهل بنعيم الآخرة.
فكما المريد الصوفي، يتعلم كل شيعي من مراجعه أنه لا يحتاج للجهاد بقول الحق و بالمال و بالنفس في سبيل الله ؛ و لا يحتاج كذلك للصلاة و الصوم الزكاة و الحج و قراءة القرآن و قيام الليل و لا حتى لشفاعة محمد صلى الله عليه و سلم لنيل رضا الله بقدر ما تكفيه شفاعة أحد الأئمة الأسباط.
غير انه لا أحد من الأئمة الأسباط المتوفون كما المخفيون يرضى على من لا يرضى عنه الأسياد و الشرفاء الذين على قيد الحياة.
استغل ضعاف الإيمان من أهل العصبية القبلية كما المتصوفة والروافض هذه البدعة فبنوا على أساسها الأضرحة و أشاعوا بين المسلمين ممارسة الشعوذة و عبادة الأموات و عبادة الجن، كما استبدلوا نظام الأخوة بنظام الاستكبار، وتضافرت جهودهم لاستغلال أمة محمد صلى الله عليه و سلم.

المبحث الثالث: استغلال الأمة

استغلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس حكرا على مراجع الروافض، إذ تتواطأ سلطات الوصاية في طوائف أهل العصبية القبلية و الروافض و المتصوفة على ذلك من خلال اتخاذ نظام غير راشد للمالية العامة.
فالإمام شيعيا كان أم صوفيا، كما السلطان القبلي مخولون كل في طائفته للاستحواذ على مال الفيء من غنيمة و خراج، و المال الجبار من بئر و معدن و عجماء، و له التصرف فيها كما شاء.
يتم ذلك في ظل نظام الاستكبار بالسلالة الشريفة الذي يجعل وظائف الدولة و عطاياها للأشراف و السادة بالأسبقية على من سواهم.
تلك سنة سنها العباسيون في توزيع الوظائف و الإقطاعيات و العطايا، و إن كانوا وسعوها إلى بني هاشم و لم يحصروها في عصبية الأسباط.
أما الفاطميون، و مراجع الروافض الإثنى عشرية فقد أوقعوا مستضعفي المسلمين، بالإضافة إلى ذلك، فريسة الاستغلال من طرف أفراد عصبية الأسباط خصوصا ببدعة الخمس.
فريضة الخمس كما هي مقررة عند الروافض بدعة بالنظر إلى عقيدة الراشدين. فقد استقر العمل عند هؤلاء منذ عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يمنع بنو هاشم من تولي أي وظيفة في بيت المال، وأن تمنع عنهم الزكاة.
في مقابل ذلك أوجب الله على الأمة التكفل بفقراء بني هاشم من مال الفيء في حدود خمس الخمس تطبيقا للآية ( و اعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه و للرسول و لذي القربى واليتامى والمساكين و ابن السبيل)[31].
رغم وضوح نظام الخمس، فقد تعمد مراجع الروافض تحريفه ليجعلوا منه فريضة على كل مسلم في ماله الخاص و ليس فريضة على الأمة في الفيء الذي يحصل عليه سلطانها.
فكل شيعي من غير الأسباط ملزم وفق مذهب الروافض بدفع خمس ماله الخاص لعصبية الأسباط. ، و قد فرض عليهم المراجع دفع نصف الخمس لإمام الزمان مخفيا كان أو ظاهرا، والنصف الآخر مباشرة لمن يختارونه من الأسباط.
تشكل الدولة الفاطمية نموذج هذا النظام في حال ظهور إمام الزمان، وتشكل فرقة الإثنى عشرية نموذجه في حال غيبة إمام الزمان.
كان الجباة في ظل الدولة الفاطمية يجمعون في آن واحد حصة زكاة المال المعروفة كحق لفقراء و مساكين عامة المسلمين. غير أنهم في الوقت نفسه كانوا يجمعون من غير الأسباط خمس كل مالهم ليس الذي دار عليه الحول أو بلغ نصابا معينا ، و لكن فيما فاض على حاجة قوتهم كحق للأسباط يودعونه في بيت مال الإمام الذي يتولى توزيعه على هؤلاء.
لقد أثقل ذلك كاهل العامة من المسلمين فما لبثوا أن تحولوا عن الرفض إلى التصوف و تنفسوا الصعداء بسقوط الخلافة الفاطمية.
بانخفاض ثمن الشفاعة فيه، كان التصوف بديلا جذابا للمغفلين الرازحين تحت نير إمام الزمان الظاهر. فشيوخ الزوايا الطرقية كانوا يضمنون للعامة شفاعة الأولياء مقابل أي هدية مهما كانت بسيطة.
حدث بالفعل في ظل حكم إمام الزمان الظاهر و لم يتعظ منه مراجع الروافض الاثنى عشرية.
ذلك أن هؤلاء لا زالوا يفتون أنه في حال غيبة إمام الزمان فتتولى عصبية الأسباط تحصيل حقها المزعوم بنفسها.
يتم ذلك حاليا من خلال حوزة العلماء في قم و حوزة العتبات المقدسة في كربلاء و النجف و ما لهما من فروع و مكاتب في لبنان و البحرين و الكويت و السعودية حيث تضعف حركة التصوف.

الباب الرابع: طائفة المتصوفة.

تشكل طائفة المتصوفة لغزا من حيث منشئها و حجمها و مقصدها. و لقد انكب عليها الباحثون بالتحليل فأرخوا لها و صنفوا طرق التصوف و عددوا فرقها. اهتم بها كذلك المحللون السياسيون فأبرزوا دورها في توجيه مجريات الأحداث التي عرفتها الساحة الإسلامية منذ عهد الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا. لكن أي بحث أو تحقيق يظل عاجزا عن تقديم صورة و لو تقريبية عن الحجم الحقيقي لطائفة المتصوفة.

الفصل الأول: نشأة طائفة الصوفية.

يقول بعض المؤرخين أن أول من أطلق عليه اسم متصوف هو أبو هاشم الكوفي ( توفي سنة 150 هجرية )[32].
خص هذا الرجل بنعت الصوفي مثل غيره ممن أشار إليهم الناس في منتصف القرن الثاني للهجرة نسبة إلى رداء الصوف الخشن الذي كانوا يلبسونه بدلا عن أقمشة الحرير الناعمة التي اشتهر لبسها و صارت في ذلك العصر عنوان بذخ و ترف المسلمين.
لبس الصوف في مجتمع مترف كان في الحقيقة شعار لطائفة جديدة في الملة المسلمة هي المتصوفة. غير أن المؤرخين مجمعون على أن ظاهرة لبس المنسوجات الصوفية ليست هي بداية ظهور التصوف كما يجمع المحللون على أن معنى التصوف أوسع و أعمق من أن يختزل في اتخاذ نوع خشن من اللباس يدل على رفض الترف و البذخ.
يصعب ضبط منشأ طائفة المتصوفة بحيث ينسب الكثيرون منهم أصل طرقهم لبعض الصحابة و يدّعون أنهم خلفوا أسرارها من بعدهم لأبنائهم و بعض خاصتهم الذين نقلوها بدورهم للأجيال اللاحقة.
فعلا، يوجد في الملة المسلمة من أحفاد كبار الصحابة مثل أبي بكر و عمر و عثمان و علي و بلال من ينسب إليهم طرقا صوفية و يُرجع أصلها إليهم، مدعيا أن سرها تداول إليهم عبر القرون .
هناك من المتصوفة كذلك من يدعي امتلاك أسرار عن طقوس للتصوف و أحواله تداولت إليهم عبر القرون من جيل التابعين، و منهم من يجعل مبدأها من جيل تابعي التابعين أو من بعدهم.
أخيرا لا زالت ساحة الملة المسلمة تعرف بين الحين و الآخر من يظهر بطريقة جديدة للتصوف يدعي أن الله فتح عليه بها.
من المؤكد أن التصوف أصبح ظاهرة إسلامية في نهاية العصر الأموي بلغت أوجها في العصر العباسي و لم ينقطع معينها إلى اليوم.
و على خلاف طائفتي الخوارج و الروافض اللتين انطوتا على نفسيهما، انفتحت طائفة المتصوفة على الأمة كلها و تمكنت من اختراق كل طوائفها.
صار المتصوفة يشكلون طائفة مستقلة بالفعل، منذ أن اتضحت معالم منهجها المتميز في العمل بالإسلام.
فالمتصوفة هم كل من يقول بوجوب اتخاذ شيخ طريقة لبلوغ الحقيقة، و أن الشيخ على خلاف العالم الراشد لا يكتفي بمقامات الشرع الثلاث التي هي الإسلام و الإيمان و الإحسان و لا بأحكام الشرع لسلوك هذه المقامات.
كلهم يتحدثون عن مقامات مختلفة، و يشترطون لسلوكها طقوسا لم ينص عليها القانون المقدس. كلهم يقدسون رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم و يجلون كبار الصحابة، لكنهم في الوقت نفسه يقدسون كبار فلاسفة الغنوص مثل الجنيد و ابن عربي و الحلاج و الغزالي و البسطامي و غيره ممن أجمع العلماء الراشدون على تكفيرهم أو على الأقل اختلفوا في ذلك.
أخيرا، و هو الأهم، كل المتصوفة يعلنون موقف الإمعة، فلا يتعاطون أعمال الحكم أو المعارضة من خلال برامج محددة. إنهم لا يتحركون سياسيا إلا لاقتناص الفرص و لملئ الفراغ عند حدوث الفوضى أو وقوع الانهيار.

الفصل الثاني: حجم طائفة المتصوفة

مثل الروافض و الخوارج و أهل العصبية القبلية لا يوحد المتصوفة غير الاسم، فهم فرق شتى، متنافسة و متناحرة في كثير من الأحيان.
سبق أن رأينا كيف أن الراشدين الأوائل تصدوا للطائفية الناشئة في الإسلام فأجمعوا على الأخذ بالشورى و فتح باب المشاركة السياسية و المناصب الحكومية لكل المسلمين رجالا و نساء ، عربا و عجما بالتساوي. رأينا كذلك كيف تمكنت العصبية القرشية من السيطرة على الأمر من خلال صراع بدأ بين فرع الهاشميين مع الأمويين و انتهى باستقرار الأمر في أيدي العباسيين.
لم تكن العصبية القرشية بفرعيها الأموي و الهاشمي تشكل وحدها طبقة الإقطاعيين طيلة الإثني عشر قرنا الأولى من عمر الأمة. فقد انضم إليها جمهور أولياء الله المتصوفة. شكلوا جميعا ما عرف بطبقة الشرفاء مع فارق في الدرجة خلال القرون الستة الأولى بحيث كان للقرشيين مرتبة تعلو على مرتبة أولياء الله. أما في القرون الستة الثانية فقد تساوت مرتبة الشرفاء القرشيين مع الشرفاء الصوفيين تحت ضغط الزحف الفاطمي.
ذلك أنه لما قامت الدولة الفاطمية في المغرب و مصر و استفحل خطرها لم يجد الخليفة العباسي بدا من تعبئة كل القوى المتاحة، فأقحم طائفة المتصوفة في الحرب مع الروافض مقابل اقتسام مرتبة الشرف و صفة النبل مع رؤساء المتصوفة و ذويهم.
كانت البداية مع ذرية الولي الصالح عبد القادر الكيلاني ( 471-561) الذي استعمله العباسيون بديلا محليا للإمام الفاطمي صاحب الكرامات و المعجزات المزعومة.
اعترف الخليفة العباسي لورثة الولي الصالح عبد القادر الكيلاني بصفة ورثة سلطان الأولياء مقابل مباركتهم للخلافة، فكسب بذلك طائفة المتصوفة في صفه.
ذلك لقب لم يسبغه أي خليفة عباسي أو عثماني على أي ولي آخر من بعد عبد القادر الكيلاني أو من قبله. فهو لم ينتقض عنه و لا زال شيوخ زاويته يحتجون به على سائر المتصوفة يؤيدهم في ذلك إجماع علماء طائفة أهل العصبية القبلية على القول بصلاح طريقته.
بعد اختفاء الدولة الفاطمية من مصر ظهرت فيها مع الأيوبيين و من بعدهم المملوكيين فرقة المتصوفة الشاذليين التي أسسها أبو الحسن الشاذلي ( 593- 656 هجرية ) على هدي من فلسفة أبي حامد الغزالي.
كان هذا الأخير و لا يزال موضع تحفظ من طرف كثير من علماء طائفة أهل العصبية القبلية ، لذلك لم تحض طريقته بنفس القبول الذي حضت به الطريقة القادرية في كل أرجاء العالم الإسلامي.
كما في أرض مصر، استقل الأتراك بطريق لهم عن الفرقة القادرية ، فكان لهم في ظل الخلافة العثمانية بآسيا الصغرى و القوقاز من التصوف المعتدل الطريقة المولوية نسبة إلى الولي الصالح جلال الدين الرومي المتوفى سنة 604 بقونية في تركيا، و كذلك الطريقة النقشبندية نسبة إلى بهاء الدين محمد شاه نقشنبد المتوفى سنة 791 هجرية . كان لهم كذلك من التصوف المغالي الطريقة البكتاشية نسبة إلى حاج بكتاش ولي المتوفى سنة 738 هجرية و ظهرت عندهم حديثا كذلك الطريقة النورانية. أما سلاطين المغول في الهند و السند فكان لهم من التصوف المغالي الطريقة الأكبرية نسبة إلى السلطان أكبر التي يرجع إليها بعض المؤرخين أصل فرقة السيخ ؛ و في العصر الحديث كذلك الطريقة القاديانية نسبة إلى ميرزا غلام أحمد القادياني المولود سنة 1281 هجرية.
أخذ سلاطين المغول و معهم مسلمو الهند و السند كذلك من التصوف المعتدل الطرق القادرية و الشاذلية و النقشبندية . أما في بلاد السودان فقد ظهرت في الغرب منها الطريقة التيجانية إلى جانب طرق أخرى منها المعتدل و منها المغالي كما في باقي أصقاع دار الإسلام.

الفصل الثالث : مقصد طائفة المتصوفة.

على غرار طائفة الروافض، ليس حفظ الدين و عمارة الأرض هو مقصد طائفة المتصوفة بقدر ما يهمها خدمة الزاوية. فهي تقوم على أساس السمع و الطاعة للشيوخ و تقديم الصدقات بين أيديهم للفوز بشفاعة الولي القطب عند الله. يستفيد شيوخ الطريقة من ذلك أنهم يحتفظون بقرابين المريدين لينفقوها بمعرفتهم، و أنهم يحضون بدعمهم في كل شيء.
إلى جانب القبيلة و الحوزة كانت التكية أو الزاوية الدينية واحدة من الثلاث مؤسسات الإقطاعية التي حلت في المجتمع الإسلامي محل المؤسسات الراشدة. و هي على خلاف القبيلة و الحي لا تقوم على الانتماء العرقي أو الإقامة في حيز من التقسيم الترابي.
و على خلاف الحزب، لا تقوم الزاوية كذلك للتوطين السياسي. إنما تنشأ الزاوية الدينية من علاقة الخضوع و التسليم لولي الله أو لمن يتولى المشيخة بتفويض منه مقابل الحق في شفاعته عند الله.
تُرأس الزاوية في القمة من قبل الشيخ الأعظم و هو مؤسس الطريقة أو من يخلفه في ولاية الله بإرث أسرارها عنه. يمثل الشيخ مقدمين في مختلف القبائل و الأحياء يتوارثون هم أيضا أبا عن جد هذه الصفة.
فلم يثبت قط أن ورّث أحد من أولياء الله أو المقدمين لغير ذويهم من أسرار الولاية و التقديم ؛ ما ترتب عنه تكوين طبقة اجتماعية من سلالة الأولياء و المقدمين.
مع ضعف عصبية قريش بفعل تشتتهم في الأمصار و اختلافهم فيما بينهم صارت طبقة أولياء الله و المقدمين هي الأكثر قوة. و منذ القرن السادس الهجري إلى غاية القرن الثاني عشر صارت، كلمتهم هي العليا، و لم يعد السلاطين القبليون كما الأئمة الرافضيون قادرين على تجاوزهم.
كان الشيوخ و المقدمون وحدهم قادرون على تجييش القبائل و إنهاء الحروب و ضمان تنفيذ أحكام القضاء في الأرياف كلها. وجد بذلك كل الحكام أنفسهم تحت رحمة الزوايا فما كان منهم إلا إشراكها في الأمر و النهي كطرف رئيس.
لقد فرض ذلك الواقع نفسه على القرشيين بمن فيهم الأسباط، فلم يعد النسب وحده يكفيهم لحفظ مركزهم الإقطاعي، بل اضطروا إلى التلون بلون أولياء الله و اتخاذ الزوايا الدينية.
على عكس مؤسسة القبيلة التي لم تستطع مواجهة مؤسسة الحزب السياسي داخل المدن، ظلت الزاويا منافسا عنيدا، فلم تتمكن الأحزاب الحديثة من مد جذورها في المجتمعات المسلمة إلا بسبب فاعليتها في مواجهة الإستعمار.
فقد تأكدت الجماهير من عدم فعالية مؤسستي القبيلة و الزاوية في مواجهة الاستعمار بعد أن تواطأ كثير من شيوخ القبائل و الزوايا علنا مع المستعمر و فضل الباقون إعلان الحياد للحفاظ على مصالحهم التي ضمن المحتل بقائها لهم مقابل ذلك.
كان ذلك سبب لضعف نفوذ الزوايا بشكل كبير داخل المدن، و فتح المجال أمام الأحزاب السياسية حتى في البوادي.
من حسن حظ الأمة أن مد المؤسسة الحزبية لم ينحسر بعد الاستقلال، فقد صار المجتمع المسلم في أغلب المدن يعزف عن المؤسسات الإقطاعية.

[1] سورة النساء الآية 174
[2] سورة المائدة الآية 68
[3] سورة الأنعام الآية 114
[4] سورة الأعراف الآية 1 و 2 .
[5] سورة الأنبياء الآية 10
[6] سورة العنكبوت الآية 49
[7] سورة البقرة الآية 106
[8] سورة البقرة الآية 185
[9] سورة القدر الآية 1
[10] سورة النحل الآية 102
[11] سورة فاطر الآية 1
[12] سورة الرعد الآية 39.
[13] سورة النحل الآية 101.
[14] سنن ابن ماجة الجزء: 1، الصفحة: 45، رقم الحديث: 121
[15] سنن الترمذي : كتاب كتاب المناقب عن رسول الله، باب مناقب علي بن أبي طالب، الجزء: 5، الصفحة: 633، رقم الحديث: 3713
[16] محمد مهدي الكاظمي: أحسن الوديعة في تراجم مشاهير مجتهدي الروافض، ، مكتبة الإمام الكاظم، بغداد 1413هـ
[17] عبدالهادي الفضلي : أصول الحديث وأحكامه، الطبعة الثالثة، مؤسسة أم القرى، بيروت، لبنان ذي القعدة 1421هـ
[18] سورة التوبة الآية 71.
[19] سورة الحجرات الآية 10.
[20] صحيح مسلم: كتاب الفضائل،باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق،الجزء: 4، الصفحة: 1782، رقم الحديث: 2278
[21] صحيح البخاري: كتاب المناقب،باب علامات النبوة في الإسلام،الجزء: 3، الصفحة: 1326، رقم الحديث: 3426
[22] سنن الترمذي: كتاب كتاب المناقب عن رسول الله، باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام، الجزء: 5، الصفحة: 660، رقم الحديث: 3781
[23] سنن ابن ماجة، الجزء: 1، الصفحة: 36، رقم الحديث: 95
[24] سنن ابن ماجة: ابن ماجة، الجزء: 1، الصفحة: 44، رقم الحديث: 118
[25] صحيح البخاري : كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين، الجزء: 3، الصفحة: 1369، رقم الحديث: 3536
[26] صحيح البخاري: كتاب الحدود باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى.. الجزء: 6، الصفحة: 2491، رقم الحديث: 6406
[27] سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة الحجرات، الجزء: 5، الصفحة: 389، رقم الحديث: 3270
[28]سنن ابن ماجة: كتاب الزهد، باب ذكر الحوض، الجزء: 2، الصفحة: 1439، رقم الحديث: 4306
[29] سورة الأحزاب الآية 6.
[30] سنن الترمذي:كتاب المناقب عن رسول الله، باب مناقب أهل بيت النبي، الجزء: 5،الصفحة: 663 ،رقم الحديث: 3788
[31] سورة الأنفال الآية 41.