تتميز المرحلة السابقة على التعاقد عن المحادثة، فعلى الرغم من ان هذه المرحلة تتضمن غالباً محادثة بين الطرفين، بقصد مناقشة شروط العقد، الا ان ذلك لا يعني ان هذه المرحلة التي تسبق التعاقد هي محادثة فثمة فوارق كبيرة بينهما. ويقصد بالمحادثة تجاذب اطراف الحديث بين شخصين او اكثر بقصد تبادل الآراء ووجهات النظر حول مسألة محددة او غير محددة. وتتخذ المحادثة اشكالاً متعددة في الحياة اليومية مثل المحادثات السياسية او الدبلوماسية بين رؤساء الدول او المؤتمر، او الندوة، او منتدى الاختصاصين، او الثرثرة بين شخصين جمع بينهما الموعد او الصدفة في مكان عام او خاص(1).

والقاسم المشترك بين المرحلة السابقة على التعاقد والمحادثة هو الحوار المتبادل بين شخصين او اكثر ، اما وجهاً لوجه، واما عن طريق التليفون او شبكات التلفزيون ولكنهما يختلفان من عدة وجوه. ففي المرحلة السابقة على التعاقد يكون لدى الطرفين نية حقيقية في ابرام عقد معين اذا ما توصلا الى اتفاق بشأنه، اذا كان طرفا المحادثات لا يهدفان الى ابرام عقد او اتفاقية، وانما يهدفان الى مجرد تجاذب اطراف الحديث حول موضوع محدد او غير محدد، بل يجرهما الحديث من موضوع الى اخر مختلف، وقد يتفقان في وجهات النظر او يختلفان لايهم، فالهدف هو مجرد الحديث لمعرفة اراء بعضهما في قضية ما، او لمجرد التسلية واضاعة الوقت وعندها يتحقق لهما ذلك فيتفرقان، ويذهب كل منها الى حال سبيله حتى ولو لم تسفر المحادثات عن شيء(2).

بينما يؤدي الدخول في هذه المرحلة وبمراحلها الثلاث الى قيام علاقة قانونية خاصة بين الطرفين وفيها لا يعود ان من الغير اذ تنشأ على عاتقهما التزامات معينة، مثل الالتزام بالتفاوض على ان يكون هذا التفاوض بحسن نية، وما يتفرع منها مثل الالتزام بالتعاون، والالتزام بالمحافظة على الاسرار فضلاً عن الالتزامات الاساسية المتمثلة بالادلاء عن البيانات المتعلقة بالعقد، والالتزام بالاعلام، بينما الدخول في المحادثة لا ينشئ على عاتق المتحدثين اية التزامات سوى الواجب العام بالحيطة والحذر لعدم الاضرار بالغير(3). فالواقع ان الطرفين المتحدثين يظلان من الغير في علاقتهما اثناء المحادثة كما كان من قبل ، فلا يلتزم المتحدث بالحديث بحسن نية، ولا باعلام المتحدث الاخر، ولا بالمحافظة على الاسرار التي يتم البوح بها اثناء المحادثة، واذا قطع الحديث فجأة وانصرف فلا تثريب عليه ولا مسؤولية. فالاخلاق واداب الحديث هي وحدها التي تحكم العلاقة بين طرفي المحادثات ، ولا شأن للقانون بها الا اذا ارتكب احدهما خطأ او جريمة بمناسبة المحادثة كأن يلجأ الى السب او القذف في حق من يتحدث معه، او ان ينتهي الحديث بينهما بشجار، ففي هذه الحالة تنطبق القواعد العامة في المسؤولية المدنية التقصيرية او الجنائية او كلاهما بحسب الاحوال(4). في حين ان المرحلة السابقة على التعاقد تحدث دائماً وتبدأ باتفاق سابق بين الطرفين يحددان فيه زمان ومكان اول مرحلة فيها وهي مرحلة المفاوضات، أي يحددان بداية هذه المرحلة سواء كان هذا الاتفاق صريحاً ام ضمنياً، بينما المحادثات وان جرت احياناً بناءً على اتفاق سابق (كالمحادثات الثنائية بين رئيسي دولتين، او المحادثات التي تجري في المؤتمر، الا انها مع ذلك تتم بمحض الصدفة، ودون سابق اتفاق على الدخول فيها او على موضوعها او على مكانها او زمانها، وذلك كاللقاء العابر بين شخصين في الطريق العام، او في قطار او في مقهى او نادي(5).

كما ان المرحلة السابقة على التعاقد ممكن ان تبدأ شفاهة وبجميع مراحلها، او من خلال تبادل الرسائل بين الطرفين او بالجمع بين هاتين الوسيلتين، في حال ان المحادثة لا يمكن ان تكون الا شفاهة ، وهذا يعني ان المرحلة السابقة على التعاقد تختلف عن المحادثة في الطبيعة والهدف، وان كانت المرحلة السابقة على التعاقد تتضمن غالباً محادثة بين الطرفين لتبادل وجهات النظر حول شروط العقد المراد ابرامه، الا ان ذلك كله لايدعو الى الخلط بينهما للاسباب السابقة، فضلاً عن ذلك اننا قد نقابل او نصادف محادثة في غياب هذه المرحلة التي تسبق التعاقد(6).

__________________

1- وان من ضمن المحادثات السياسية ايضاً، ما يسبق الاتفاقات الدولية من مفاوضات واتصالات، او مباحثات، وما يلحقها من اقرار او تفسير رسمي. ينظر: زهدي يكن، القانون الاداري، بيروت، صيدا، منشورات المكتبة العصرية، بلا سنة طبع، ص522؛ د.علي ابراهيم، الوسيط في المعاهدات الدولية، الابرام، الطبعة الاولى، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1955، ص150؛ د.مفيد محمود شهاب، المفاوضات الدولية، علم وفن، بحث منشور في مجلة القانون، العدد 30، 1993، ص88 ومابعدها؛ د.احمد البو الوفا، الوسيط في قانون المنظمات الدولية، الطبعة الرابعة، القاهرة، دار النهضة العربية، 1996، ص330.

2- وقد اضاف الاستاذ غستان الى هذه الالتزامات ما يوجبه الالتزام بالامانة والاخلاص وشرف التعامل، اذ يجب الامتناع في الحالتين عن أي غش او تدليس سواء تمديد هذه المرحلة ، أي مرحلة التفاوض، او اثناء صدور الايجاب او بعده، والا فان ذلك يكون محركاً لاعمال قواعد المسؤولية التقصيرية او العقدية لعدم وجود نية جادة في التعاقد. ينظر غستان، تكوين العقد، مصدر سابق، ص296.

3- وهذه الالتزامات تظهر من خلال تعريف المرحلة السابقة على التعاقد، فقد عرفها البعض بانها تلك المرحلة التي يلتزم بمقتضاها شخص تجاه شخص اخر بالبدء او الاستمرار في التفاوض بشأن عقد معين بهدف ابرامه، وهذا يعني ان للمرحلة السابقة على التعاقد اهدافاً يروم الطرفان الوصول اليها. ينظر د. جمال فاخر النكاس، العقود والاتفاقات الممهدة للتعاقد واهمية التفرقة بين العقد والاتفاق في المرحلة السابقة على التعاقد، مجلة الحقوق، جامعة الكويت ، السنة العشرون، العدد الاول، 1996، ص163 ومابعدها؛ د.خالد جمال احمد حسن، الالتزام بالاعلام قبل التعاقد، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق جامعة اسيوط، 1996، ص81؛ د. سعيد عبد السلام ، الالتزام بالافصاح بالعقود، القاهرة، دار النهضة العربية، 2000، ص8.

4- ينظر: د. محمد محمد ابو زيد، المفاوضات في الاطار التعاقدي (صورها – احكامها) القاهرة، دار النهضة العربي، 1995، ص92؛ د. نزيه محمد الصادق المهدي، الالتزام قبل التعاقدي بالادلاء بالبيانات المتعلقة بالعقد وتطبيقاته على بعض انواع العقود (دراسة فقهية قضائية مقارنة)، القاهرة، دار النهضة العربية، 1982ص8.

– حيث ان الحكم في الدعوى الجزائية اذا نفى عن المتهم وقضى له بالبراءة للاسباب التي يبينها في قرار الحكم فانه في الوقت ذاته يكون قد نفى الاساس الذي تقوم عليه الدعوى المدنية. ينظر: د.محمد كامل مرسي، شرح القانون المدني الجديد للالتزامات، الجزء الثاني، في مصادر الالتزام، القاهرة، المطبعة العالمية، 1955، ص45-48.

5- فالمرحلة السابقة على التعاقد لا تقوم على الصدفة، وانما تقوم على استراتيجية معينة، والتي تعني اتباع الخطة الموضوعة والمعدة مسبقاً والتي تشتمل على الخطوط العريضة للمسائل التي سوف يتم الاتفاق عليها ومناقشتها والوصول الى نتائج بخصوصها، وصولاً الى الهدف الاخير المحدد لها، كما ان الاستراتيجات انواع في المرحلة السابقة على التعاقد، فهناك استراتيجية التشدد، وفيها يتم وضع مطالب ومقترحات عالية ومتشددة واظهار التصلب فيها وهناك استراتيجية الاخذ والعطاء وهي استراتيجية البقاء والاستمرار وستراتيجية الامر الواقع والتي تتمثل بتقديم اقتراح وابلاغ الطرف الاخر بان ياخذه او يرفضه بدون مناقشة. كما ان هناك استراتيجية العدالة والتي تقوم على فكرة مثالية وهي العدالة في كل شيء، كما ان هناك استراتيجية الخيار بين الاستراتيجيات. اذن المرحلة السابقة على التعاقد لا تترك للصدفة او السير العشوائي عكس المحادثة التي لا يرتب لها وان تترك للصدفة. ينظر في ذلك : د.احمد عبد الكريم سلامة، الاصول المنهجية لاعداد البحوث العلمية، الطبعة الاولى، القاهرة، بدون اسم مطبعة، 1977، ص33 ومابعدها؛ د.محمد بدر الدين مصطفى زايد، المفاوضات الدولية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991، ص224.

6- فقد يتم التعاقد من خلال الرسائل عبر وسائل الاتصال الحديثة. ينظر في ذلك د.جابر عبد الهادي الشافعي، محل العقد في الفقه الاسلامي والقانون الوضعي، بلا مكان طبع، دار الجامعة الجديدة للنشر، عام 2001، ص297؛ د.ممدوح محمد خيري هاشم المسلمي، مشكلات البيع الالكتروني عن طريق الانترنيت، القاهرة، دار النهضة العربية، 2000، ص12؛ د. رجب كريم عبد اللاة، التفاوض على العقد، دراسة مقارنة، اطروحة دكتورات مقدمة الى كلية القانون، جامعة القاهرة، 2000، ص135.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .