يميل الإنسان بطبعه الى حب الذات ويعمل على جلب المصالح ويدفع ما يعرضه للضرر، فاذا اقدم شخص على الإقرار بحق او واقعة مقدما مصلحة الآخرين على مصلحته، فان العقل يرجح جانب الصدق ويبعد احتمال الكذب في الإقرار، وعندئذ يكون اقراره حجة عليه وملزما له ويتعين على القاضي الحكم بمقتضاه دون ان يكون له العدول عنه الى غيره، لذلك جرى القول في الفقه والقضاء، على ان الإقرار سيد الأدلة في المسائل المدنية، اي انه أقواها دلالة على الحقيقة (1).

والإقرار لغة : هو الاعتراف، وهو اظهار الحق لفظا او كتابة او اشارة، ويعني الاستقرار، والإقرار بمعنى الثبات، والإقرار اثبات الشيء اما باللسان وأما بالقلب او بهما جميعا، فهو ضد الجحود والانكار (2).

والإقرار قانونا : اعتراف شخص بحق عليه لآخر، سواء قصد ترتيب هذا الحق في ذمته او لم يقصد (3).

وثار خلاف حول الطبيعة القانونية للاقرار، ويمكن حصر الاراء التي قيلت في هذا الصدد بما يأتي :

الرأي الأول : الإقرار تصرف قانوني : يتضمن الإقرار اتجاه ارادة المقر الى احداث اثر قانوني وهو ثبوت الحق المقر به في ذمته (4).

الرأي الثاني : الإقرار اعفاء من الاثبات : الاصل ان المدعي يتحمل عبء اثبات الواقعة التي يدعيها، فاذا اقر خصمه بهذه الواقعة يكون عندئذ قد أعفاه من اثباتها (5).

الرأي الثالث : الإقرار قرينة قانونية : ان الإقرار ينطوي على واقعتين، واقعة الإقرار ذاتها والواقعة المعترف بها، وان واقعة الإقرار ذاتها تكون ثابتة بقول المقر وانها مطابقة للواقعة المعترف بها، والا لما اعترف بها المقر وهي ضد مصلحته، وعليه فان واقعة الإقرار ذاتها تكن قرينة قانونية قاطعة على صحة الواقعة المعترف بها (6).

الرأي الرابع : الإقرار دليل اثبات : ان الإقرار، في حقيقته، دليل من أدلة الاثبات وليس بتصرف قانوني، غير انه يختلف عن بقية الادلة في كونه مقدما من المدعى عليه (7).

مقارنة بين الإقرار المدني والاعتراف الجنائي :

يختلف الإقرار المدني عن الاعتراف الجنائي وذلك كما يأتي :

الإقرار : اخبار المقر بثبوت امر مدعى به عليه لآخر من شأنه ان ينتج آثاراً قانونية ضده، في حين ان الاعتراف اقرار المتهم على نفسه بارتكاب الوقائع المكونة للجريمة كلها او بعضها (8).
يصدر الإقرار عن قصد، اي أن المقر يدرك أنه بإقراره يقيم حجة على نفسه، في حين ان القصد لا أهمية له في الاعتراف، فالقانون هو الذي يرتب الآثار القانونيةعلى الاعتراف.
الاصل في الإقرار عدم جواز تجزئته الا اذا انصب على وقائع متعددة وكان وجود الواقعة المضافة لا يستلزم حتما وجود الواقعة الاصلية، في حين ان الاعتراف يجوز تجزئته، وللمحكم ان تأخذ ما تراه مطابقاً للواقع وان تهمل ما تراه مغايرا له (9).
يعتبر الإقرار حجة قاطعة على المقر، لا يجوز، من حيث المبدأ، اثبات عكسه، فالمقر به يعتبر ثابتا، في حين ان الاعتراف ليس حجة قاطعة على المعترف، فهو غير ملزم للمعترف والقاضي، ويخضع لتقدير القاضي (10).
يكون الإقرار صريحا او ضمنياً، في حين يشترط في الاعتراف ان يكون صريحاً لا لبس فيه ولا غموض (11).
لا يعتبر الإقرار صحيحا اذا صدر عن شخص لديه اهلية التصرف، بأن يكون عاقلا بالغا غير محجور عليه لسفه او غفلة، في حين ان الاعتراف يكفي صادرا عن عاقل مميز (12).

مقارنة بين الإقرار والشهادة : يختلف الإقرار عن الشهادة، بالرغم من أنهما يعتبران من حقيقة واحدة، فهما اخبار بحق سابق او واقعة سابقة قامت قبل صدور الإقرار او الادلاء بالشهادة.

أما اوجه الاختلاف فهي :

ان الإقرار اخبار بثبوت حق او واقعة للغير عن النفس، اما الشهادة فهي اخبار بثبوت حق للغير على الغير (13). فالإقرار يصدر من المقر وهو خصم في الدعوى، اما الشهادة فتصدر من شاهد وهو شخص غير خصم في الدعوى.

ويعتبر الإقرار حجة ملزم للقاضي، اما الشهادة فهي غير ملزمة للقاضي، والإقرار دليل اثبات غير عادي ومن ثم لا يصح الرجوع عن الإقرار قبل صدور الحكم وبعده، في حين ان الشهادة من طرق الاثبات العادية ويصح الرجوع عنها قبل صدور الحكم (14). والإقرار دليل احتياطي، ان لا يسعى إليه الخصم عادة الا عندما لا يتوفر لديه دليل من الادلة العادية كالشهادة او الكتابة، في حين ان الشهادة تعد من الأدلة الأصلية التي يلجأ إليها الخصوم عادة (15). ويعد الإقرار من الادلة التي لها قوة مطلقة في الاثبات، اي تثبت به التصرفات القانونية مهما بلغت قيمتها والوقائع المادية أيضاً (16). باستثناء التصرفات الشكلية والمسائل المتعلقة بالنظام العام (17). في حين ان الشهادة لها قوة اثبات محدودة، فالتصرف القانوني اذا كانت قيمته تزيد على خمسة الاف دينار او غير محدد القيمة فلا يجوز اثباته او انقضائه بالشهادة ما لم يوجد اتفاق او قانون ينص على خلاف ذلك . (م 77 / ثانياً اثبات) (18). ويعد الإقرار حجة قاصرة على المقر وورثته من بعده ولا يتعدى الى الغير في حين ان الشهادة حجة متعدية الى الغير، لذلك قيل (البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة)(19) والشاهد يدلي بما رآه او سمعه عن الواقعة المتنازع عليها، في حين ان المقر قد يقر بناء على غلبة الظن، كاقرار الوارث على خط أبيه (20). ويخضع الإقرار لارادة المقر، ان شاء اقر وان شاء امتنع، ولا يمكن اجباره على الإقرار، لانه لا يمكن اجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه (21). في حين ان أداء الشهادة واجب وحلف اليمين شرط مهم لصحة الشهادة كدليل اثبات (م 71، م 93 / أولاً اثبات). ويختلف الإقرار الكتابي عن الدليل الكتابي، فالإقرار الكتابي يكون اعترافا لاحقا لنشوء التصرف القانوني او حصول الواقعة المادية. فهو اقرار بوجود الحق بعد نشوئه، في حين ان الدليل الكتابي ويكون وقت نشوء التصرف القانوني، فيسمى الدليل المهيأ ويكون القصد منه اثبات وجود التصرف. والإقرار قد يكون صريحا، وعندما ينصب التعبير مباشرة على امر معين، فيعترف المقر صراحة بصحة الوقائع المنسوبة إليه من خصمه، وقد يكون التعبير شفهيا او كتابة، كما قد يكون الإقرار ضمنيا، وهذا ما يستدل عليه من موقف الخصم وتصرفاته وأقواله، ومن ظروف الدعوى وملابساتها (22). فمن يستأجر عقارا من الغير يعد مقراً ضمنا بملكية مؤجرة للعقار وان تنفيذ العقد يعد بمثابة اقرار ضمني بوجود (23). والإقرار الضمني قد يكون في صورة السكوت، كسكوت زوج المدينة عند ايقاع الحجز على الاثاث الموجود في البيت وقبوله أن يكون شخصا ثالثاً في المحافظة عليها وتسليمها عند الطلب يعد اقرار ضمنياً بعدم عائديه الاثاث إليه وانما تعود الى المدينة المدعى عليها (زوجته) (24). وقد يكون الإقرار الضمني في صورة النكول عن اليمين، فقد نصت المادة (119 / أولا) من قانون الاثبات ( .:. وعلى من وجهت إليه اليمين ان يحلفها، أو يردها على خصمه والا اعتبر ناكلا ..). والمادة (119 / ثالثاً) (.. كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها دون ان يردها على خصمه وكل من ردت عليه اليمين فنكل عنها خسر ما توجهت به اليمين). علماً بأن اليمين تؤدي امام المحكمة ولا اعتبار بالنكول في اليمين خارجها. (م 109 اثبات). والتكييف القانوني للنكول، هو بمثابة اقرار ضمني (25)، وقد يكون الإقرار الضمني في صورة الاشارة، كاشارة الاخرس بإشارته المعهود معتبر..) ولم يرد نص مماثل في القانون المدني العراقي وكذلك في القانون الاثبات، الا ان المادة (86) من قانون الاثبات نصت على ان للمحكمة قبول شهادة الاخرس والأعمى والأصم، ونصت المادة (110) على ان تعتبر يمين الاخرس ونكوله عن اليمين بإشارته المعهودة، او بالكتابة اذا كان يحسنها، لذلك نميل الى جواز الاخذ باقرار الأخرس باشارته المعهودة، ويمكن الاستعانة بأهله وأقاربه وأصدقائه واستدعائهم الى مجلس القضاء لتوضيح ما يقصد الاخرس من اشارته (26).

_______________________

1-د. قيس عبدالستار عثمان، الإقرار واستجواب الخصوم في الاثبات المدني. دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، كلية القانون بجامعة بغداد 1979 ص1 –3.

2-اسماعيل بن حماد الجوهري. الصحاح. تحقيق احمد عبد الغفور عطار، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، ص790 – 791. ابن منظور. لسان العرب. بيروت 1956 ج5 ص85 و ص88.

3-السنهوري، فقرة 244 ص451، وللتفصيل في تعريف الإقرار انظر مجيد حميد السماكية، وحجية الإقرار في الاحكام القضائية في الشريعة الاسلامية. بحث مقارن. رسالة ماجستير مقدمة الى جامعة بغداد 1976 ص12 وما بعدها.

4-مرقس أصول الاثبات فقرة 180 ص483. توفيق حسن فرج ص191.

5-السنهوري فقرة 256 ث 499 – 500.

6-قيس عبدالستار عثمان، ص28 والمصادر التي يشير إليها في الهامش رقم (2).

7-حسين المؤمن. نظرية الاثبات ج1 ص88 – 89.

8-الدكتور احمد فتحي سرور، اصول قانون الاجراءات الجنائية القاهرة 1969 ص696.

9-المصدر السابق ص702.

10-الدكتور محمد ظاهر معروف. المبادئ الاولية في اصول الاجراءات الجنائية. بغداد 1972 ج1 ص182.

11-احمد فتحي سرور. ص699. محمد ظاهر معروف ص182.

12-محمد عطية راغب، النظرية العامة للأثبات في التشريع الجنائي العرب المقارن، القاهرة 1960 فقرة 190 ص215.

13-احمد ابراهيم. طرق القضاء في الشريعة الاسلامية، القاهرة 1982 فقرة 207 ص282.

14-الصدة، ص70.

15-الدكتور جميل الشرقاوي، الاثبات في المواد المدنية، القاهرة 1976 فقرة 63 ص139.

16-الصدة، ص71 محمد عبداللطيف ج2 فقرة 284 ص 248.

17-توفيق حسن فرج ص193. الشرقاوي، ص143.

18-ندرس الموضوع بتفصيل عند دراسة الشهادة في الفصل الرابع من هذا الباب.

19-المادة (78) من مجلة الاحكام العدلية.

20-قيس عبد الستار عثمان، الإقرار، ص60.

21-تناغوا. فقرة 448 ص605. توفيق حسن فرج فقرة 12 ص23 -26.

22-الصدرة، ص382.

23-ادوار عيد ج1 ص354 السنهوري ج2 ص475 هامش رقم 3.

24-قرار محكمة التمييز المرقم 1362 / ح / 1964 في 2 / 11 / 1964. قضاء محكمة التمييز المجلد الثاني 1964 ص67.

25-السنهوري ج2 فقرة 267 ص516 وفقرة 299 ص569. د. حسين علي الذنون. النظرية العامة للالتزامات، بغداد 1976 فقرة 778 ص 428.

26-الاستاذ المرحوم منير القاضي. شرح مجلة الأحكام العدلية. بغداد 1948 ج3 ص395.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .