صلاحية المحكم في إعداد الأحكام التحكيمية الجزئية

كريم الرود
متخصص في التقنيات البديلة لحل المنازعات

يعتبر الحكم التحكيمي الغاية التي من أجلها أبرم الأطراف اتفاق التحكيم و فضلوا تسوية النزاع عبر التحكيم من خلال تعيين الهيئة التحكيمية وقبولها للمهمة، فالأصل أن تصدر هذه الأخيرة حكما في موضوع الدعوى منهيا للخصومة كلها فتفصل في حكم واحد في الطلبات الموضوعية المقدمة لها،كما قد تصدر الهيئة التحكيمية أحكاما غير منهية للخصومة كلها [1] و بالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هل تحمل جميع هذه القرارات نفس الوصف القانوني ؟

و لعل الجواب عن هذا السؤال يضعنا أمام دراسة صلاحيات الهيئة التحكيمية في إصدار أحكام تحكيمية جزئية، أو فيما اتفق فيه الأطراف، أو أحكام تمهيدية أو وقتية أو أحكام تحكيمية نهائية، لكن سنقتصر في هذا المقال على صلاحية الهيئة التحكيمية في إصدار أحكام تحكيمية جزئية على أن نتطرق لصلاحيتها في إعداد باقي الأحكام التحكيمية في المقالات القادمة.

و ترتيبا على ما سبق يعتبر الحكم الجزئي هو الحكم الصادر في بعض المسائل الأولية في النزاع الأصلي المعروض على الهيئة التحكيمية حيث يمكن للأطراف – و أيضا القانون مثل مسألة الاختصاص – تحديد سلطة المحكمين للفصل في جانب من جوانب النزاع كمسألة اختصاص المحكم أو الحكم الذي يقرر مبدأ المسؤولية أو الذي يحدد القانون الواجب التطبيق، من خلال إصدار المحكم لحكم منفصل يطلق عليه حكما جزئيا [2].

و قد أقرت العديد من قوانين التحكيم، منح المحكم سلطة إصدار الأحكام الجزئية ، كالقانون السويسري في المادة 188 و قانون المرافعات الهولندي المادة 1955 و القانون البلجيكي المادة 1699. و أقرت ذلك أيضا المادة 21 من نظام التحكيم الخاص بغرفة التجارة الدولية في باريس[3].

و الأصل أن القانون هو من يحدد مجال اختصاص المحكم في إصدار هذه الأحكام و يكون له ذلك دون تفويض من الأطراف مثل الفصل 9- 327 الذي يؤكد على صلاحية الهيئة التحكيمية بالفصل تلقائيا أو بطلب من أحد الأطراف في مسألة اختصاصها بأمر غير قابل للطعن وفق نفس شروط النظر في الموضوع و في نفس الوقت، و كذا الفصل 24-327 الذي أكد على أنه إذا لم يتفق الأطراف و المحكمون على تحديد أتعاب الهيئة التحكيمية، يتم تحديدها بقرار مستقل من طرفها و يكون قابلا للطعن أمام رئيس المحكمة.

أما في حال غياب نص قانوني فينبغي الرجوع لأساس سلطة المحكمين أي اتفاق التحكيم، الذي يحدد حدود سلطتهم في إصدار الأحكام الجزئية، حيث أن الأصل أن الهيئة التحكيمية تتمتع في حالة سكوت اتفاق التحكيم عن هذه المسألة بسلطة تقديرية في إصدار أحكام أو قرارات جزئية من عدمه وفقا لظروف كل منازعة على حدة، ولا يمكن تقييد سلطة المحكم في إصدار الأحكام الجزئية إلا بناء على إرادة الأطراف[4].

و بالتالي يمكن القول بأن طبيعة هذه الأحكام أنها غير منهية للخصومة و في نفس الوقت فاصلة في الموضوع بالنسبة لبعض الطلبات، و هو ما جعل المشرع المصري يقر بهذه الطبيعة في الفصل 42 من قانون التحكيم المصري الذي جاء فيه”يجوز أن تصدر هيئة التحكيم أحكاما وقتية أو في جزء من الطلبات و ذلك قبل إصدار الحكم المنهي للخصومة” .

و يلاحظ أن الحكم الجزئي هو حكم موضوعي و ليس وقتي أو تمهيدي و يتميز أنه يفصل في جزء من المسائل محل النزاع المطروح و ليس كلها و هذا ما يميزه عن الحكم النهائي و بالتالي فالهيئة تستنفد ولايتها فيما فصلت فيه بموجب الحكم الجزئي فليس لها إعادة النظر فيما فصلت فيه مرة أخرى[5].

أما بخصوص الحكم الجزئي الفاصل في مسألة القانون الواجب التطبيق يكون في حالة تفويض الأطراف الصريح أو الضمني لهيئة التحكيم بتحديد هذا القانون و في هذه الحالة تصدر حكما مستقلا بتحديده و تتمثل أهمية هذا الحكم في تثبيت القانون المطبق على النزاع و تجنيب الأطراف صعوبة التعرض في حججهم إلى كل القوانين المحتملة بما في ذلك المبادئ العامة للقانون إضافة إلى الحكم في مسألة الأسس التنظيمية للعملية التحكيمية[6].

أما الحكم التحكيمي الجزئي الفاصل في المسؤولية و في شأن قيمة التعويض فإنه لا يمكن الفصل فيها على نحو مجرد [7]، نظرا لأهميته التي تساعد الأطراف إلى التسوية و يسمح للمحكمين بأن يحددوا بشكل دقيق مهمة الخبير الذي يمكن أن تكلفه هيئة التحكيم بتحديد قيمة أو قدر الضرر الذي نتج عن فعل أو تصرف معين، كما يساعد تحديد المسؤولية توجيه دفوعات الأطراف و تحديد النقاط التي ينبغي أن ينصب عليها دفاعهم [8].

أخيرا تجدر الإشارة إلى أن مسألة إصدار المحكمين للأحكام الجزئية من قبيل مسألة الاختصاص أو المسؤولية مثلا يتوقف على معرفة ما إذا كان له تأثير على حل المسائل الأخرى المتصلة بالموضوع، و بالتالي فيخضع لسلطتها التقديرية و تكون أمام خيار إصدارها متى اشترط الأطراف ذلك في اتفاق التحكيم، و بالتالي إذا رأت الهيئة أن لا فائدة في الفصل في مسألة الاختصاص أو المسؤولية بحكم جزئي فإنها تبت في الموضوع بحكم واحد يشمل كل القضايا المطروحة على الهيئة التحكيمية بما في ذلك الاختصاص و المسؤولية [9].

[1]فتحي والي،”قانون التحكيم في النظرية و التطبيق”، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2007،ص 397.

[2]خليل بوصنبورة، القرار التحكيمي و طرق الطعن فيه”، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، شعبة : القانون العام، جامعة منتوري،كلية الحقوق، قسنطينة، الجزائر، السنة الجامعية2007- 2008. ص 108.

[3]حسين عبد العزيز عبد الله النجار، “البدائل القضائية لتسوية النزاعات الاستثمارية و التجارية – التحكيم و الوساطة و التوفيق -“، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2014 ص 156 – 157.

[4] لذلك فإنه في قضية «Eurodif»، فإن وثيقة المهمة «acte de mission» وفقا للتفسير الذي أعطته لها محكمة استئناف باريس كانت تنص على أن للمحكمين الفصل في النازعات من خلال إصدار أحكام مستقلة للفصل في مسألة الاختصاص و قد استخلصت المحكمة أن هناك محلا للطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي الذي أغفل هذا النص )البند في اتفاق الأطراف المجسد في وثيقة المهمة(، بالإعمال لنص المادة 1502 فقرة 3 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد، لتجاوز المحكم المهمة المسندة إليه، إلا أن محكمة النقض الفرنسية ألغت القضاء المتقدم بالاستناد إلى أن محكمة استئناف باريس ما كان يمكنها أن تصل إلى النتيجة المتقدمة إلا من خلال تفسيرها للالتزام بالفصل بالمنازعة بأحكام مستقلة، و هو إلتزام لم يحدده الأطراف في وثيقة المهمة بمقتضى شرط صريح وواضح. حيث ذكرت المحكمة ما يلي :

« Le tribunal qui est strictement tenu par les térms de l’acte de mission ; outrepasse sa mission en joignant au fond l’exception d’incompétence alors qu’il résultat du dit acte de mission que le tribunal était appelé uniquement a trancher un problème de compétence .la sentence qui résulte doit être annulé »

خليل بوصنبورة، م. س، ص 108، و هامش رقم 3 نفس الصفحة.

[5]فتحي والي،”قانون التحكيم في النظرية و التطبيق”، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2007ص 397.

[6] محمد فاضل الليلي، “الحكم التحكيمي”، مقال منشور ضمن أعمال ندوة الصلح و التحكيم و الوسائل البديلة لحل النزاعات من خلال اجتهادات المجلس الأعلى، مطبعة الأمنية، الرباط، طبعة 2007. ص 281.

[7]جاء في قرار لمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء أنه :” .. إلا أن الطلبات المقدمة من طرف الطاعنة كانت ترمي إلى الحكم على البائعة بأدائها تعويضا مع الفوائد القانونية عن الضرر الناتج عن عدم منحها رخصة بناء التجزئة بسبب عدم إدلاء البائعة بشهادة التسليم المؤقت و إلزام هذه الأخيرة بإتمام أشغال التجزئة و القيام بجميع الإجراءات الإدارية قصد الحصول على شهادة التسليم المؤقت و احتساب ثلاث سنوات الواردة في البند 14/2 من تاريخ توصل الطاعنة بشهادة التسليم المؤقت من أجل إنهاء أشغال المشروع، و هو ما وجدت معه الهيئة التحكيمية نفسها في حالة تحديد المسؤولية من عدمها ستكون ملزمة بالبت في مسائل نزاعيه خارجة عن و لايتها إذا لم يتفق الطرفان في شرط التحكيم على تحديد صلاحيات هيئة التحكيم في البحث و البت في التصرفات و الوقائع التي تنشأ بعد انتقال الملكية ..” قرار عدد 1489/2006 صادر بتاريخ 31/03/2006 مشار إليه : عبد الكبير العلوي الصوصي، “رقابة القضاء على التحكيم )دراسة في القانون المغربي و المقارن(“، دار القلم، الرباط، الطبعة الأولى، 2012، هامش رقم 695، ص 317-318.

[8] أنظر :خليل بوصنبورة، م . س، ص 112.و في نفس الاتجاه أنظر : محمد فاضل الليلي، م . س، ص 281.

[9] محمد فاضل الليلي، م . س، ص 281.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت