المسؤولية الجنائية في الخطأ المشترك – حكم محكمة النقض المصرية

الطعن 26135 لسنة 84 ق جلسة 22 / 1 / 2015 مكتب فني 66 ق 19 ص 170

برئاسة السيد القاضي / حسام عبـد الرحيم رئيس محكمة النقض وعضوية السادة القضاة / علي فرجـاني ، محمد رضا حسين ، محمد عبد الوهاب وأحمد الوكيل نواب رئيس المحكمة .

———-

قتل خطأ . إصابة خطأ . مسئولية جنائية . مسئولية تقصيرية . مسئولية مفترضة . حكم ” تسبيبه . تسبيب معيب ” . نقض ” أسباب الطعن . ما يقبل منها ” .
الخطأ المشترك . لا يَجُب مسئولية أي من المشاركين فيه .
خطأ الغير . لا يرفع مسئولية غيره الواقع خطأ في جانبه . قد يخففها . حد ذلك ؟
عدم استيثاق القائمين على مأمورية ترحيل المساجين من تحميل سيارة الترحيلات المسئولين عن تأمينها بأعداد لا تفوق طاقتها وتوفير التهوية الكافية أو بذل العناية للحفاظ على سلامتهم . خطأ جسيم بما تفرضه عليهم أصول وظيفتهم وطبيعة مهمتهم .
قضاء الحكم بتبرئة ضباط الشرطة المسئولين عنها من تهمتي قتلهم وإصابتهم خطأ لدفع مسئوليتهم لانشغالهم بسلامة الطريق وتأمينه . قصور وفساد . يوجب نقضه والإعادة . علة ذلك ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لما كان البيِّن من الحكم المطعون فيه أنه أسس براءة المطعون ضدهم من تهمتي القتل والإصابة الخطأ على قوله : ( …. وكان الثابت للمحكمة من مطالعة الأوراق وقيد ووصف النيابة أن صور الخطأ التي نسبتها للمتهمين قد تمثلت في : 1- قيامهم بتحميل صندوق سيارة الترحيلات فوق طاقته التي أعد لاستيعابها . 2- ترك المرحلين لفترة طويلة داخل الصندوق دون أن يقوموا بفتحه لهم . 3- تركهم داخل الصندوق دون إمدادهم بالمياه والهواء اللازم للإبقاء على حياتهم نظراً لطول الغلق ولتعطيل الشفاطات ، فإن المحكمة ستبدأ حديثها بتناول الصورتين الثانية والثالثة بداية ثم ترتد لتناول الصورة الأولي بالتمحيص والبحث . فإنه وعن الصورة الثانية : فقد ثبت للمحكمة من أقوال المجني عليهم فضلاً عن أقوال المتهمين والشهود أنه قد تم فتح الباب لهم عدة مرات لمناولتهم المياه ولتمكينهم من قضاء حاجتهم ثم يعاد غلق الصندوق عليهم مرة أخرى ، ولا ترى المحكمة في ذلك ما يشكل خطأ يمكن نسبته للمتهمين وذلك لاتفاقه مع ما تقضى به التعليمات من وجوب أخذ منتهى الحيطة والحذر مع المتهمين المرحلين وعدم التهاون في ذلك ؛ لما فيه خطر محدق يهدد أفراد المأمورية وجنود السجن ذاته والمنشأة التي يتواجدون داخل أسوارها ، كما أن طول فترة الاحتجاز لا يسأل عنه المتهمون ؛ إذ إن مرجعه لأسباب تبعد كل البعد عنهم تمثلت في استثنائية تلك المأمورية من حيث عدد المرحلين الضخم والذي بلغ سبعمائة وثمانية وخمسين سجينًا والذين صدرت التعليمات بتسليمهم للسجن في وقت واحد مع ما تستغرقه كل سيارة من وقت تسليم المرحلين المتواجدين بها ، وهو الأمر الذي يكون مرجعه لإدارة السجن ولتعليمات وزارة الداخلية التي خلت من منح المتهمين سلطة التعامل بشكل استثنائي يسمح لهم بفتح الصندوق والسماح للمرحلين بالتواجد خارجه عند طول فترة الانتظار ، إلَّا أن الثابت للمحكمة أن المتهم الأول لم يدخر جهداً في حدود ما سمحت به تلك الظروف الاستثنائية من أن يقوم بفتح باب حجز السيارة عدة مرات لكي يمنح المجني عليهم المياه ويمكنهم من قضاء حاجتهم وأنه كان جادًا في ذلك وقد تبدت جديته في أمره بكسر قفل الباب عند اكتشاف فقد مفتاحه حتى يدخل المياه للمجني عليهم ثم أمره بإعادة غلق الصندوق بواسطة قيد حديدي من ذلك الذي كان بأيدي بعض المرحلين ، ومن ثم فقد انتفت تلك الصورة من صور الخطأ في حق المتهمين . وأمَّا عن الصورة الثالثة : والخاصة بواقعة تعطيل الشفاطات الخاصة بالسيارة والتي أخذتها النيابة العامة على المتهمين كإحدى صور الخطأ المنسوبة إليهم والتي أسهمت – من وجهة نظرها – في حدوث الوفاة والإصابة ، فإن المحكمة قد تشككت في سلامتها لحد بعيد وذلك أخذاً مما ثبت من مناقشة الخبير الهندسي الذي قام بمعاينة السيارة بديوان القسم بعد فترة وجيزة من وقوع الحادث والتي أسفرت عن أن الشفاطات تعمل بكفاءة ، وعند مواجهته بما أسفرت عنه معاينة النيابة التي أجريت للسيارة يوم الواقعة والتي أثبت بها أن الشفاطات لا تعمل ، عزى في إجابته ذلك إلى أمرين : أولهما : أن تكون يد الإصلاح قد امتدت إليهما بعد الحادث سعيًا لطمس معالم الجريمة ، والثاني أن يكون من أجرى المعاينة لم يكن على دراية بالطريقة الفنية السليمة التي تعمل بها وتدار فأثبت ملحوظته تلك نتيجة لذلك على الرغم من صلاحيتها للتشغيل ، والمحكمة عند استعراضها لهذين الأمرين بغية ترجيح أحدهما على الآخر ، ثبت لها من أقوال سائق السيارة أنه ليس هو سائقها الأصلي وأنه لا يعلم عن تلك السيارة شيئا سوي كيفية التعامل مع المقود ودواسة القود والفرامل ومعدل السرعات ( الفتيس ) وأنه يجهل وظائف باقي الأجهزة والأزرار التي بلوحة التحكم بالسيارة وأيها يكون مسئولاً عن تشغيل الشفاطات ، وكان الخبير الهندسي قد أوضح في أقواله أنه لكي تعمل تلك الشفاطات لابد أن يدار مفتاح التشغيل جزئيًا دون إدارة للمحرك ذاته حتى يتم توصيل دائرة الكهرباء الخاصة بالسيارة ثم يتم الضغط على زر تشغيل الشفاطات الموجود أمام السائق ، وهو ما يكشف عن ضرورة أن يكون السائق عالمًا بتلك المراحل وترتيبها حتى تعمل الشفاطات ، إلَّا أنه وقد ثبت من أقوال السائق أنه لم يكن هو السائق الأصلي لتلك السيارة وأن أحدًا لم يخبره عن كيفية تشغيل الشفاطات وأنه كان يقوم بإطفاء محرك السيارة بالكامل عند توقفه بها داخل أسوار السجن انتظارًا لحلول دوره في تسليم من معه من المرحلين ولا يقوم بتشغيله إلَّا بقدر ما يلزم لتحريك السيارة لتحل محل السيارة التي تسبقها عند تقدم الطابور للأمام كلما أنهت إحدى السيارات المتقدمة تسليم مرحليها ثم يقوم بإعادة إطفاء السيارة إطفاءً كاملاً ، فإن ذلك يكشف عن أن المتسبب في عدم عمل الشفاطات هو جهل ذلك السائق بكيفية تشغيلها ، وأن ذلك لم يكن ناشئاً عن عطب بها حال استعمال تلك السيارة لترحيل المجني عليهم ، وهو ما يضفي على أقوال المتهم …. بظلال الصدق عندما قرر أن الشفاطات كانت تعمل بكفاءة حال تحرك السيارة من ديوان القسم وحتى وصولها لفناء السجن وأنه قد تمكن من التأكد من ذلك بحكم جلوسه بجوار السائق في تلك السيارة وسماعه صوتها وهي تعمل ، الأمر الذي ترى معه انتفاء الخطأ كلية في هذا الشق في جانب المتهمين وأنه لا يد لهم فيه ، وأن مرد ذلك هو عدم انتباه السائق لحقيقة فنية كان يتعين عليه مراعاتها عند التوقف بالسيارة من عدم فصل دائرة الكهرباء بواسطة مفتاح التشغيل على نحو يؤدي لتوقف الشفاطات عن العمل لفقدانها مصدر التيار وليس لعطبها وعدم صلاحيتها ، وهو ما اتفق مع ما قرره المتهم الأول لدى استجوابه أمام المحكمة بهيئتها الاستئنافية الحالية ، وكان الالتزام بإحاطة السائق علمًا بكيفية التعامل مع تلك السيارة يقع على من اختاره لأداء ذلك العمل على الرغم من كونه غير مختص به أصلاً وليس على المتهمين الماثلين الذين كانت أذهانهم مشغولة بالاهتمام بجوانب أخرى تتعلق بسلامة الطريق وتأمينه حتى يصلوا بالمرحلين للوجهة المنشودة دون حدوث اشتباك أو مقاومة وما إلى ذلك من الظروف التي كانت تحيط بالواقعة في ذلك التوقيت والمعلومة للكافة والتي لم تكن لتسمح لهم بتوقع أن سائق السيارة يجهل كيفيـــــة إدارة الشفاطات الخاصة بها والصالحة للعمل أصلاً مما لم يثر شكهم حيالها وحيال مسألة تشغيلها من عدمه ، كما أن السائق كان لا بد أن يلفت نظر أحدهم لجهله بوظائف السيارة التي كلف بقيادتها حتى ينشأ في حقهم الالتزام بإحاطته علمًا بكيفية التعامل مع أجهزتها على النحو السليم ، أما وإن ذلك لم يحدث منه فليس عليهم في السكوت عن ذلك من سبيل ، وهي جميعًا الأمور التي تضافرت مع بعضها البعض لكي يقر في وجدان المحكمة معها أن الشفاطات لم تكن تعمل نتيجة لسلوك سائق السيارة جاهلاً غير مدرك للقواعد الصحيحة للتشغيل وليس عن عطب ألم بها وحال بينها وبين أن تعمل ، ومن ثم فإن ما نسب للمتهمين من خطأ في هذا الشق يكون غير سديد . وأما عن الصورة الأولي : والتي نسبتها النيابة العامة للمتهمين فإن المحكمة تشاطرها الرأي فيها وتتفق معها تمام الاتفاق ، في أن الخطأ قد ثبت في حق المتهمين في هذا الجانب إذ الثابت أنهم قد قاموا بتحميل السيارة عددًا من المرحلين يفوق ما أعد له صندوق الحجز بها ، إلَّا أنه ولما كان من المقرر وفق ما سلف أنه لا يكفي للإدانة في جرائم القتل والإصابة الخطأ إثبات حصول الخطأ فقط وإثبات وقوع الضرر فقط بل ينبغي أيضًا إثبات علاقة السببية بين هذا الخطأ وذلك الضرر كعلاقة السبب بالمسبب وإثبات أنه لولا هذا الخطأ لما وقع الضرر ، وأن خطأ الغير إذا ما كان يكفي بذاته لإحداث النتيجة فإنه يقطع علاقة السببية بين خطأ الجاني وبين تلك النتيجة ، وكان الثابت للمحكمة من مطالعة الأوراق وما قرره نائب كبير الأطباء الشرعيين لدى مناقشته واستجوابه أمام المحكمة بهيئتها الاستئنافية أن واقعة قتل المجني عليهم وإصابة الباقين كانت محققة الحدوث حتى وإن لم يرتكب المتهمون أي خطأ من الأخطاء المنسوبة إليهم ، فلقد كانت الوفاة والإصابة ستحدث حتى في ظل تحميل صندوق السيارة للعدد المتناسب مع مساحته من المرحلين ، وكانت ستحدث أيضًا حتى وإن وقعت تلك الواقعة في الصباح الباكر قبل اشتداد وارتفاع درجة حرارة الطقس ودون أن يتم احتجاز المرحلين المجني عليهم لوقت طويل ، كما أنها كانت حتمًا ستقع نتيجة لإطلاق الغاز حتى ولو كانت شفاطات السيارة تعمل بكفاءة ، وأنها في جميع الأحوال كانت ستقـع في حيز زمني ضيق جدًا لا يتجاوز حــد الدقائق العشر ، وهي الفــــترة التي لم تكن لتسمح لأحــــــد من المتهمين بالتدخل ليحدث فارقًا كان من الممكن أن يؤدي إلى اختلاف النتيجة التي آل إليها الموقف ، وكانت أقوال نائب كبير الأطباء الشرعيين هي الأقوال التي ترتاح إليها المحكمة ، وتأخذ وتعول عليها دون سواها من أقوال باقي من سئلوا بالتحقيقات نظرًا للحقائق الفنية التي استند إليها والتي لا تقبل الشك أو الجدل والمتمثلة في عدم العثور على غازي أول وثاني أكسيد الكربون بعينات دماء المجني عليهم المتوفين اللذين كان لابد من العثور عليهما إذا ما كان أحد المجني مغشيًا فقط قبل واقعة إطلاق الغاز تحت تأثير الإعياء الشديد مما يقطع بنفي حدوثه ، كما أن العثور على غاز الـ c . s المسيل للدموع بجميع عينات الدماء التي خضعت للتحليل يقطع بأن جميع من ماتوا كانوا على قيد الحياة وقت إطلاق الغاز عليهم ، كما أن المحكمة تثق في تلك الأقوال نظرًا لخبرته التي تفوق خبرة من سئلوا بالتحقيقات واتفاقها مع ما أدلوا به بشأن المسائل التي لا خلاف عليها فنيًا من حيث إن الغاز الذي أدى للوفاة قد أطلق من قنبلة غاز وليس من عبوات الرادع الشخصي وأن الفترة الزمنية اللازمة لحدوث الوفاة في ظل تلك الظروف كانت ضيقة جدًا ومن جماع ما سبق تخلص المحكمة إلى أنه وإن كان هناك خطأ قد ثبت في حق المتهمين تمثل في قيامهم بتحميل صندوق حجز سيارة الترحيلات فوق طاقته التي أعد لاستيعابها ، إلَّا أن علاقة السببية – مباشرة أو غير مباشرة – قد انقطعت ما بينه وبين النتيجة التي تحققت نظرًا لاستغراق خطأ مطلق الغاز له والذي أطلق الغاز على مجموعة من السجناء المحتجزين داخل صندوق ضيق محكم الإغلاق مخالفاً بذلك ما تمليه عليه التعليمات ، وأن المجني عليهم لولا واقعة إطلاق الغاز عليهم وعلى الرغم من سوء الظروف التي تسبب المتهمون في وضعهم تحت وطأتها ، لم يكن واحد منهم وحتى لحظة إطلاق الغاز عليه قد وافته المنية أو حتى قد فقد وعيه نتيجة شدة الإعياء الناشئ عن سوء التهوية وطول فترة الاحتجاز وحرارة الطقس وزيادة العدد ، وأنه لو لم تحدث الواقعة التي أدت لإطلاق الغاز على المجني عليهم والذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من مغادرة السيارة لتسكينهم داخل السجن لكانوا رغم كل تلك الظروف قد غادروا السيارة جميعًا أحياء وفى وعيهم الكامل ، وهو أمر فني بحت كشفت عنه مناقشة الخبير الذي اطمأنت إليه المحكمة ، ومن ثم فإن المحكمة ترى أنه لم يعد بالواقعة ما يمكن نسبته للمتهمين الماثلين من سلوك مؤثم قانوناً يمكن مؤاخذتهم عليه جنائيًا ممـــا ترى معه والحال كذلك القضاء ببراءتهم من التهمتين المنسوبتين إليهم عملاً بنص المادة 304/1 من قانون الإجراءات الجنائية ، مع إحالة الأوراق للنيابة العامة لاستكمال التحقيقات نحو تحديد شخص مطلق الغاز المتسبب في موت المجني عليه وإصابة الباقين …. ) وما ذكره الحكم من ذلك سواء في نفيه الخطأ عن المطعون ضدهم في الصورتين الثانية والثالثة أو بالقول بانقطاع رابطة السببية في الصورة الأولى خطأ في القانون ؛ ذلك بأنه ما دام أن المطعون ضدهم وهم ضباط شرطة ومسئولون عن مأمورية ترحيل المساجين إلى سجن …. ومن واجبهم تأمينهم والحفاظ على سلامتهم وسلامة أرواحهم فلم يراعوا تلك الواجبات وقاموا بتحميل سيارة الترحيلات بأعداد تزيد عن المقرر لها قانوناً وتركهم داخل صندوق الترحيلات لفترات طويلة في ظل ظروف تفوق طاقة الإنسان من سوء تهوية وارتفاع درجة الحرارة ، وأنه بفرض عمل الشفاطات في ظل وجود هذا العدد من المساجين داخل صندوق سيارة الترحيلات لن يكون لها أي تأثير في عملية التهوية ، بالإضافة إلى كل هذا فقد قام مجهول من بينهم بإطلاق قنبلة الغاز المسيل للدموع عليهم ، فقد أخطـأوا سواء كانوا قد وقعوا في هذا الخطأ وحدهم أو اشترك معهم آخرون كسائق سيارة الترحيلات أو المجهول وبالتالي فقد وجبت مساءلتهم في جميع الأحوال ؛ لأن الخطأ المشترك لا يجب مسئولية أي من المشاركين فيه ، وإذ يصح في القانون وقوع خطأين من شخصين أو خطأ مشترك ، وكان خطأ الغير – بفرض ثبوته – لا يرفع مسئولية غيره الذي يقع خطأ في جانبه وإنما قد يخففها إلَّا إذا تبين من ظروف الحادث أن خطأ الغير كان العامل الأول في إحداث الضرر الذي أصاب المضرور ، وأنه بلغ من الجسامة بحيث يستغرق خطأ غيره ، وكان عدم استيثاق القائمين على مأمورية ترحيل المساجين من عدم تحميل سيارة الترحيلات المسئولين عن تأمينها بأعداد من المرحلين تفوق طاقتها مع عدم توفير التهوية الكافية لهم أو ما يطلب منهم في مقام بذل العناية للحفاظ على سلامتهم وسلامة أرواحهم ، وبالتالي فإن التقاعس عن تحري ما سلف والتحرز فيه لهو خطأ جسيم بما تفرضه عليهم أصول وظيفتهم وطبيعة المهمة القائمين عليها ، عليهم أن يتحملوا وزره ، وهي مسئولية لا يدفعها قالة الحكم بانشغال المطعون ضدهم بالاهتمام بجوانب أخرى تتعلق بسلامة الطرق وتأمينه ، فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بالقصور في التسبيب وبالفساد في الاستدلال ، بما تستوجب نقضه والإعادة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوقائـع
اتهمت النيابة العامة المطعون ضدهم بوصف أنهم :
(1) تسببوا وآخر مجهول من رجال الشرطة خطأ في موت المجني عليه/ …. وستة وثلاثين مجني عليهم آخرين المبينة أسماؤهم بالتحقيقات وبالكشف المرفق وكان ذلك ناشئًا عن إهمالهم ورعونتهم وعدم احترازهم وعدم مراعاتهم للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة وإخلالهم إخلالاً جسيمًا بما تفرضه عليهم أصول وظيفتهم ، ذلك بنقلهم المجني عليهم وثمانية آخرين والبالغ عددهم الإجمالي خمسة وأربعين شخصًا داخل صندوق الحجز الحديدي لسيارة الترحيلات قسم شرطة …. واستبقوهم مكدسين به حال كونه لا يتسع سوى لأربعة وعشرين شخصًا فقط دون مراعاة لآدميتهم لمدة جاوزت ست ساعات منذ السابعة والثلاثين دقيقة من صباح يوم …. وحتى الواحدة والثلاثين دقيقة دون تهوية كافية لهذا العدد في ظل طقس حار ثم أطلق عليهم هذا المجهول غازاً مسيلاً للدموع داخل ذلك الصندوق الحديدي فأصابهم اختناق تنفسي من جراء الغاز المطلق والظروف المحيطة المساعدة على زيادة تأثير الغاز في حيز ذلك الصندوق ، ونكلوا عن مساعدتهم بامتناعهم عن فتح باب الصندوق لهم وإخراجهم منه بعد إطلاق الغاز مدة تزيد عن عشر دقائق مما أودى بحياتهم وذلك على النحو المبين بالتحقيقات وتقرير الصفة التشريحية المرفقة .
(2) تسببوا وآخر مجهول من رجال الشرطة خطأ في إيذاء المجني عليه/ …. وسبعة آخرين المبينة أسماؤهم بالتحقيقات وكان ذلك ناشئًا عن إهمالهم ورعونتهم وعدم احترازهم وعدم مراعاتهم للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة وإخلالهم إخلالاً جسيمًا بما تفرضه عليهم أصول وظيفتهم ، ذلك بنقلهم المجني عليهم وسبعة وثلاثين آخرين والبالغ عددهم الإجمالي خمسة وأربعين شخصًا داخل صندوق الحجز الحديدي لسيارة الترحيلات قسم شرطة …. واستبقوهم مكدسين به حال كونه لا يتسع سوى لأربعة وعشرين شخصًا فقط دون مراعاة لآدميتهم لمدة جاوزت ست ساعات منذ السابعة والثلاثين دقيقة من صباح يوم …. وحتى الواحدة والثلاثين دقيقة دون تهوية كافية لهذا العدد في ظل طقس حار ثم أطلق عليهم هذا المجهول غاز مسيل للدموع داخل ذلك الصندوق الحديدي فأصابهم اختناق تنفسي من جراء الغاز المطلق والظروف المحيطة المساعدة على زيادة تأثير الغاز في حيز ذلك الصندوق ، ونكلوا عن مساعدتهم بامتناعهم عن فتح باب الصندوق لهم وإخراجهم منه بعد إطلاق الغاز مدة تزيد عن عشــــر دقائــق مما أحدث بهم الإصابات المبينة بالتقرير الطبي المرفق وأقوال طبيب السجن بالتحقيقات وذلك على النحو المبين بالتحقيقات .
وطلبت عقابهم بالمادتين 238 ، 244 من قانون العقوبات ، والمادة الثالثة من قانون هيئة الشرطة ، ومبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 ، والمادة 45/2 من القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء الصادرة عام 1955 ، والمادة 1027/1 من الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة والمصدق عليها بتاريخ 14/1/1928 ، والمادة الخامسة من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المصدق عليه بتاريخ 20/3/1984 ، والقانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون واللوائح المنظمة .
وأحالتهم إلى محكمة جنح …. الجزئية لمعاقبتهم طبقًا للقيد والوصف الواردين بأمر الإحالة .
وادعى المجني عليهم وورثة المتوفين مدنياً قبل المتهمين ووزير الداخلية بإلزامهم أن يؤدوا لهم مبلغ …. على سبيل التعويض المؤقت .
ومحكمة جنح مركز …. الجزئية قضت حضوريًا عملاً بمواد الاتهام . بمعاقبة المتهم الأول/ …. بالحبس لمدة عشر سنوات مع الشغل والنفاذ المؤقت ، وعلى المتهمين الثاني/ …. ، والثالث/ …. ، والرابع/ …. بالحبس لمدة سنة وأمرت بإيقاف تنفيذ العقوبة لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخ صيرورة الحكم نهائيًا وذلك عن التهمتين للارتباط والمصروفات وإحالة الدعوى المدنية إلى المحكمة المدنية المختصة بلا مصروفات .
استأنف المتهمون ، ومحكمة بنها الابتدائية …. – بهيئة استئنافية – قضت حضوريًا أولاً : بقبول تدخل وزير الداخلية بصفته مسئولاً عن الحقوق المدنية تدخلاً انضماميًا في الدعوى الجنائية . ثانيًا : بقبول الاستئنافين شكلاً وفى الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف وبراءة المتهمين من التهمتين المنسوبتين إليهم . ثالثًا : بإحالة الأوراق للنيابة العامة لاستكمال التحقيقات نحو تحديد شخص مطلق الغاز المتسبب في موت المجني عليهم وإصابة الباقين والتصرف في الأوراق على ضوء ما يسفر عنه تلك التحقيقات .
فطعنت النيابة العامة في هذا الحكم بطريق النقض … إلخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحكمـة
من حيث إن النيابة العامة تنعي على الحكم المطعون فيه إنه إذ قضى ببراءة المطعون ضدهم من جريمتي القتل والإصابة الخطأ المسندتين إليهم قد أخطأ في تطبيق القانون ، وشابه القصور في التسبيب ، فضلاً عن الفساد في الاستدلال ، ومخالفة الثابت بالأوراق ؛ ذلك بأن الحكم انتهى في قضائه إلى انتفاء ركن الخطأ في جانب المطعون ضدهم تأسيساً على الثابت من أقوال المجني عليهم والمتهمين والشهود أنه قد تم فتح باب سيارة الترحيلات للمجني عليهم عدة مرات لمناولتهم المياه ولتمكينهم من قضاء حاجتهم ، ثم يعاد غلق الصندوق عليهم مرة أخرى ، ولا ترى المحكمة في ذلك ما يشكل خطأ يمكن نسبته للمتهمين ولاتفاقه مع التعليمات ، ولا يُسأل المتهمون عن طول فترة الاحتجاز وإنما المسئول عن ذلك إدارة السجن وثابت للمحكمة أن المتهم الأول لم يدخر جهداً من أن يقوم بفتح باب حجز السيارة عدة مرات وأنه كان جادًا في ذلك ، أما بخصوص واقعة تعطل الشفاطات الخاصة بالسيارة فكان ذلك نتيجة لسلوك سائق السيارة جاهلاً غير مدرك للقواعد الصحيحة للتشغيل وليس عن عطب ألم بها وحال بينها وبين أن تعمل ، أما بالنسبة لتحميل صندوق سيارة الترحيلات بعدد من المرحلين يفوق ما أعد له صندوق الحجز بها ، فإنه وإن كان قد ثبت في حق المتهمين الخطأ في هذا الشق إلَّا أن علاقة السببية – مباشرة أو غير مباشرة – قد انقطعت ما بينه وبين النتيجة التي تحققت نظراً لاستغراق خطأ مطلق الغار مخالفاً بذلك ما تمليه عليه التعليمات ، وأن المجني عليهم لولا واقعة إطلاق الغاز عليهم وعلى الرغم من سوء الظروف التي تسبب المتهمون في وضعهم تحت وطأتها ، لم يكن واحد منهم وحتى لحظة إطلاق الغاز عليه قد وافته المنية أو حتى قد فقد وعيه نتيجة شدة الإعياء الناشئ عن سوء التهوية أو طول فترة الاحتجاز وحرارة الطقس وزيادة العدد وأنه لو لم تحدث الواقعة التي أدت لإطلاق الغاز على المجني عليهم لكانوا قد غادروا السيارة أحياء وفى وعيهم الكامل ، مما كان يحتم على المطعون ضدهم أن يتدخلوا لحماية المجني عليهم من إطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم رغم أن مهمتهم بل واجبهم تأمينهم والحفاظ على سلامتهم وأرواحهم وهو ما يعتبر خطأ جسيمًا في جانبهم يوجب مسئوليتهم ولا ينفيها كثرة أعباء عملهم كقوة لتأمين المرحلين أو خطأ وقع من قائد سيارة الترحيلات ، وما ذكره الحكم في خصوص المجهول مطلق الغاز على المجني عليهم ينفيه ما هو ثابت بالأوراق من أنه أحد ضباط الشرطة أو القوة المرافقــــة التي كانت تحت إمرة المطعون ضدهم ، وقد خلا الحكم من سبب إطلاق هذا الغاز على المجني عليهم ، هذا إلى أن الحكم إذ قال بانتفاء رابطة السببية بين فعل المطعون ضدهم وبين وفاة المجني عليهم استناداً إلى ما جاء بأقوال نائب كبير الأطباء الشرعيين من أن إطلاق الغاز وحده كافٍ في إحداث الوفاة حتى ولو كانت الشفاطات تعمل بكفاءة أو تحميل صندوق السيارة بالعدد المناسب أو كانت في الصباح الباكر قبل ارتفاع درجة الحرارة أو دون احتجاز المرحلين المجني عليهم لوقت طويل ، على حين الثابت بالأوراق والتقارير الطبية المرفقة أن هذه الظروف سالفة الذكر مع إطلاق الغاز قد عجل بإحداث وفاتهم وهو ما يكفي لتوافر رابطة السببية بين الفعل والنتيجة ، مما كان يتعين على المحكمة تمحيص الدعوى وإجراء التحقيق اللازم بخصوص مطلق الغاز المسيل للدموع للوقوف على حقيقته وعلاقته بالمطعون ضدهم إلَّا أنها أخفقت في ذلك وأحالت الأوراق للنيابة العامة للتحقيق حال عدم جواز ذلك ، كل ذلك يعيب الحكم بما يستوجب نقضه .
وحيث إنه يبين من الحكم المطعون فيه أنه أسس براءة المطعون ضدهم من تهمتي القتل والإصابة الخطأ على قوله : ( …. وكان الثابت للمحكمة من مطالعة الأوراق وقيد ووصف النيابة أن صور الخطأ التي نسبتها للمتهمين قد تمثلت في : 1- قيامهم بتحميل صندوق سيارة الترحيلات فوق طاقته التي أعد لاستيعابها . 2- ترك المرحلين لفترة طويلة داخل الصندوق دون أن يقوموا بفتحه لهم . 3- تركهم داخل الصندوق دون إمدادهم بالمياه والهواء اللازم للإبقاء على حياتهم نظراً لطول الغلق ولتعطيل الشفاطات ، فإن المحكمة ستبدأ حديثها بتناول الصورتين الثانية والثالثة بداية ثم ترتد لتناول الصورة الأولي بالتمحيص والبحث . فإنه وعن الصورة الثانية : فقد ثبت للمحكمة من أقوال المجني عليهم فضلاً عن أقوال المتهمين والشهود أنه قد تم فتح الباب لهم عدة مرات لمناولتهم المياه ولتمكينهم من قضاء حاجتهم ثم يعاد غلق الصندوق عليهم مرة أخرى ، ولا ترى المحكمة في ذلك ما يشكل خطأ يمكن نسبته للمتهمين وذلك لاتفاقه مع ما تقضى به التعليمات من وجوب أخذ منتهى الحيطة والحذر مع المتهين المرحلين وعدم التهاون في ذلك ؛ لما فيه خطر محدق يهدد أفراد المأمورية وجنود السجن ذاته والمنشأة التي يتواجدون داخل أسوارها ، كما أن طول فترة الاحتجاز لا يسأل عنه المتهمون ؛ إذ إن مرجعه لأسباب تبعد كل البعد عنهم تمثلت في استثنائية تلك المأمورية من حيث عدد المرحلين الضخم والذي بلغ سبعمائة وثمانيـــة وخمسين سجينًا والذيـــن صدرت التعليمات بتسليمهم للسجن في وقت واحد مع ما تستغرقه كل سيارة من وقت تسليم المرحلين المتواجدين بها ، وهو الأمر الذي يكون مرجعه لإدارة السجن ولتعليمات وزارة الداخلية التي خلت من منح المتهمين سلطة التعامل بشكل استثنائي يسمح لهم بفتح الصندوق والسماح للمرحلين بالتواجد خارجه عند طول فترة الانتظار ، إلَّا أن الثابت للمحكمة أن المتهم الأول لم يدخر جهداً في حدود ما سمحت به تلك الظروف الاستثنائية من أن يقوم بفتح باب حجز السيارة عدة مرات لكي يمنح المجني عليهم المياه ويمكنهم من قضاء حاجتهم وأنه كان جادًا في ذلك وقد تبدت جديته في أمره بكسر قفل الباب عند اكتشاف فقد مفتاحه حتى يدخل المياه للمجني عليهم ثم أمره بإعادة غلق الصندوق بواسطة قيد حديدي من ذلك الذي كان بأيدي بعض المرحلين ، ومن ثم فقد انتفت تلك الصورة من صور الخطأ في حق المتهمين . وأما عن الصورة الثالثة : والخاصة بواقعة تعطيل الشفاطات الخاصة بالسيارة والتي أخذتها النيابة العامة على المتهمين كإحدى صور الخطأ المنسوبة إليهم والتي أسهمت – من وجهة نظرها – في حدوث الوفاة والإصابة ، فإن المحكمة قد تشككت في سلامتها لحد بعيد وذلك أخذاً مما ثبت من مناقشة الخبير الهندسي الذي قام بمعاينة السيارة بديوان القسم بعد فترة وجيزة من وقوع الحادث والتي أسفرت عن أن الشفاطات تعمل بكفاءة ، وعند مواجهته بما أسفرت عنه معاينة النيابة التي أجريت للسيارة يوم الواقعة والتي أثبت بها أن الشفاطات لا تعمل ، عزى في إجابته ذلك إلى أمرين : أولهما : أن تكون يد الاصلاح قد امتدت إليهما بعد الحادث سعيًا لطمس معالم الجريمة ، والثاني أن يكون من أجرى المعاينة لم يكن على دراية بالطريقة الفنية السليمة التي تعمل بها وتدار فأثبت ملحوظته تلك نتيجة لذلك على الرغم من صلاحيتها للتشغيل ، والمحكمة عند استعراضها لهذين الأمرين بغية ترجيح أحدهما على الآخر ، ثبت لها من أقوال سائق السيارة أنه ليس هو سائقها الأصلي وأنه لا يعلم عن تلك السيارة شيئا سوي كيفية التعامل مع المقود ودواسة القود والفرامل ومعدل السرعات ( الفتيس ) وأنه يجهل وظائف باقي الأجهزة والأزرار التي بلوحة التحكم بالسيارة وأيها يكون مسئولاً عن تشغيل الشفاطات ، وكان الخبير الهندسي قد أوضح في أقواله أنه لكي تعمل تلك الشفاطات لابد أن يدار مفتاح التشغيل جزئيًا دون إدارة للمحرك ذاته حتى يتم توصيل دائرة الكهرباء الخاصة بالسيارة ثم يتم الضغط على زر تشغيل الشفاطات الموجود أمام السائق ، وهو ما يكشف عن ضرورة أن يكون السائق عالمًا بتلك المراحل وترتيبها حتى تعمل الشفاطـــــــات ، إلَّا أنه وقد ثبت من أقوال السائق أنه لم يكن هو السائق الأصلي لتلك السيارة وأن أحدًا لم يخبره عن كيفية تشغيل الشفاطات وأنه كان يقوم بإطفاء محرك السيارة بالكامل عند توقفه بها داخل أسوار السجن انتظارًا لحلول دوره في تسليم من معه من المرحلين ولا يقوم بتشغيله إلَّا بقدر ما يلزم لتحريك السيارة لتحل محل السيارة التي تسبقها عند تقدم الطابور للأمام كلما أنهت إحدى السيارات المتقدمة تسليم مرحليها ثم يقوم بإعادة إطفاء السيارة إطفاءً كاملاً ، فإن ذلك يكشف عن أن المتسبب في عدم عمل الشفاطات هو جهل ذلك السائق بكيفية تشغيلها ، وأن ذلك لم يكن ناشئاً عن عطب بها حال استعمال تلك السيارة لترحيل المجني عليهم ، وهو ما يضفي على أقوال المتهم …. بظلال الصدق عندما قرر أن الشفاطات كانت تعمل بكفاءة حال تحرك السيارة من ديوان القسم وحتى وصولها لفناء السجن وأنه قد تمكن من التأكد من ذلك بحكم جلوسه بجوار السائق في تلك السيارة وسماعه صوتها وهي تعمل ، الأمر الذي ترى معه انتفاء الخطأ كلية في هذا الشق في جانب المتهمين وأنه لا يد لهم فيه ، وأن مرد ذلك هو عدم انتباه السائق لحقيقة فنية كان يتعين عليه مراعاتها عند التوقف بالسيارة من عدم فصل دائرة الكهرباء بواسطة مفتاح التشغيل على نحو يؤدي لتوقف الشفاطات عن العمل لفقدانها مصدر التيار وليس لعطبها وعدم صلاحيتها ، وهو ما اتفق مع ما قرره المتهم الأول لدى استجوابه أمام المحكمة بهيئتها الاستئنافية الحالية ، وكان الالتزام بإحاطة السائق علمًا بكيفية التعامل مع تلك السيارة يقع على من اختاره لأداء ذلك العمل على الرغم من كونه غير مختص به أصلاً وليس على المتهمين الماثلين الذين كانت أذهانهم مشغولة بالاهتمام بجوانب أخرى تتعلق بسلامة الطريق وتأمينه حتى يصلوا بالمرحلين للوجهة المنشودة دون حدوث اشتباك أو مقاومة وما إلى ذلك من الظروف التي كانت تحيط بالواقعة في ذلك التوقيت والمعلومة للكافة والتي لم تكن لتسمح لهم بتوقع أن سائق السيارة يجهل كيفية إدارة الشفاطات الخاصة بها والصالحة للعمل أصلاً مما لم يثر شكهم حيالها وحيال مسألة تشغيلها من عدمه ، كما أن السائق كان لا بد أن يلفت نظر أحدهم لجهله بوظائف السيارة التي كلف بقيادتها حتى ينشأ في حقهم الالتزام بإحاطته علمًا بكيفية التعامل مع أجهزتها على النحو السليم ، أما وإن ذلك لم يحدث منه فليس عليهم في السكوت عن ذلك من سبيل ، وهي جميعًا الأمور التي تضافرت مع بعضها البعض لكي يقر في وجدان المحكمة معها أن الشفاطات لم تكن تعمل نتيجة لسلوك سائق السيارة جاهلاً غير مدرك للقواعد الصحيحة للتشغيل وليس عن عطب ألم بها وحال بينها وبين أن تعمل ، ومن ثم فإن مـــــا نسب للمتهمين من خطأ في هذا الشق يكون غير سديد . وأما عن الصورة الأولي : والتي نسبتها النيابة العامة للمتهمين فإن المحكمة تشاطرها الرأي فيها وتتفق معها تمام الاتفاق ، في أن الخطأ قد ثبت في حق المتهمين في هذا الجانب إذ الثابت أنهم قد قاموا بتحميل السيارة عددًا من المرحلين يفوق ما أعد له صندوق الحجز بها ، إلَّا أنه ولما كان من المقرر وفق ما سلف أنه لا يكفي للإدانة في جرائم القتل والإصابة الخطأ إثبات حصول الخطأ فقط وإثبات وقوع الضرر فقط بل ينبغي أيضًا إثبات علاقة السببية بين هذا الخطأ وذلك الضرر كعلاقة السبب بالمسبب وإثبات أنه لولا هذا الخطأ لما وقع الضرر ، وأن خطأ الغير إذا ما كان يكفي بذاته لإحداث النتيجة فإنه يقطع علاقة السببية بين خطأ الجاني وبين تلك النتيجة ، وكان الثابت للمحكمة من مطالعة الأوراق وما قرره نائب كبير الأطباء الشرعيين لدى مناقشته واستجوابه أمام المحكمة بهيئتها الاستئنافية أن واقعة قتل المجني عليهم وإصابة الباقين كانت محققة الحدوث حتى وإن لم يرتكب المتهمون أي خطأ من الأخطاء المنسوبة إليهم ، فلقد كانت الوفاة والإصابة ستحدث حتى في ظل تحميل صندوق السيارة للعدد المتناسب مع مساحته من المرحلين ، وكانت ستحدث أيضًا حتى وإن وقعت تلك الواقعة في الصباح الباكر قبل اشتداد وارتفاع درجة حرارة الطقس ودون أن يتم احتجاز المرحلين المجني عليهم لوقت طويل ، كما أنها كانت حتمًا ستقع نتيجة لإطلاق الغاز حتى ولو كانت شفاطات السيارة تعمل بكفاءة ، وأنها في جميع الأحوال كانت ستقع في حيز زمني ضيق جدًا لا يتجاوز حد الدقائق العشر ، وهي الفترة التي لم تكن لتسمح لأحد من المتهمين بالتدخل ليحدث فارقًا كان من الممكن أن يؤدي إلى اختلاف النتيجة التي آل إليها الموقف ، وكانت أقوال نائب كبير الأطباء الشرعيين هي الأقوال التي ترتاح إليها المحكمة ، وتأخذ وتعول عليها دون سواها من أقوال باقي من سئلوا بالتحقيقات نظرًا للحقائق الفنية التي استند إليها والتي لا تقبل الشك أو الجدل والمتمثلة في عدم العثور على غازي أول وثاني أكسيد الكربون بعينات دماء المجني عليهم المتوفين اللذين كان لابد من العثور عليهما إذا ما كان أحد المجني مغشيًا فقط قبل واقعة إطلاق الغاز تحت تأثير الإعياء الشديد مما يقطع بنفي حدوثه ، كما أن العثور على غاز الـ c . s المسيل للدموع بجميع عينات الدماء التي خضعت للتحليل يقطع بأن جميع من ماتوا كانوا على قيد الحياة وقت إطلاق الغاز عليهم ، كما أن المحكمة تثق في تلك الأقوال نظرًا لخبرته التي تفوق خبرة من سئلوا بالتحقيقات واتفاقها مع ما أدلوا به بشأن المسائل التي لا خلاف عليها فنيًا من حيث إن الغاز الذي أدى للوفاة قد أطلق من قنبلة غاز وليس من عبوات الرادع الشخصي وأن الفترة الزمنية اللازمة لحدوث الوفاة في ظل تلك الظروف كانت ضيقة جدًا ومن جماع ما سبق تخلص المحكمة إلى أنه وإن كان هناك خطأ قد ثبت في حق المتهمين تمثل في قيامهم بتحميل صندوق حجز سيارة الترحيلات فوق طاقته التي أعد لاستيعابها ، إلَّا أن علاقة السببية – مباشرة أو غير مباشرة – قد انقطعت ما بينه وبين النتيجة التي تحققت نظرًا لاستغراق خطأ مطلق الغاز له والذي أطلق الغاز على مجموعة من السجناء المحتجزين داخل صندوق ضيق محكم الإغلاق مخالفاً بذلك ما تمليه عليه التعليمات ، وأن المجني عليهم لولا واقعة إطلاق الغاز عليهم وعلى الرغم من سوء الظروف التي تسبب المتهمون في وضعهم تحت وطأتها ، لم يكن واحد منهم وحتى لحظة إطلاق الغاز عليه قد وافته المنية أو حتى قد فقد وعيه نتيجة شدة الإعياء الناشئ عن سوء التهوية وطول فترة الاحتجاز وحرارة الطقس وزيادة العدد ، وأنه لو لم تحدث الواقعة التي أدت لإطلاق الغاز على المجني عليهم والذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من مغادرة السيارة لتسكينهم داخل السجن لكانوا رغم كل تلك الظروف قد غادرو السيارة جميعًا أحياء وفى وعيهم الكامل ، وهو أمر فني بحت كشفت عنه مناقشة الخبير الذي اطمأنت إليه المحكمة ، ومن ثم فإن المحكمة ترى أنه لم يعد بالواقعة ما يمكن نسبته للمتهمين الماثلين من سلوك مؤثم قانوناً يمكن مؤاخذتهم عليه جنائيًا مما ترى معه والحال كذلك القضاء ببراءتهم من التهمتين المنسوبين إليهم عملاً بنص المادة 304/1 من قانون الإجراءات الجنائية ، مع إحالة الأوراق للنيابة العامة لاستكمال التحقيقات نحو تحديد شخص مطلق الغاز المتسبب في موت المجني عليه وإصابة الباقين …. ) ، وما ذكره الحكم من ذلك سواء في نفيه الخطأ عن المطعون ضدهم في الصورتين الثانية والثالثة أو بالقول بانقطاع رابطة السببية في الصورة الأولى خطأ في القانون ؛ ذلك بأنه ما دام أن المطعون ضدهم وهم ضباط شرطة ومسئولون عن مأمورية ترحيل المساجين إلى سجن …. ومن واجبهم تأمينهم والحفاظ على سلامتهم وسلامة أرواحهم فلم يراعوا تلك الواجبات وقاموا بتحميل سيارة الترحيلات بأعداد تزيد عن المقرر لها قانوناً وتركهم داخل صندوق الترحيلات لفترات طويلة في ظل ظروف تفوق طاقة الإنسان من سوء تهوية وارتفاع درجة الحرارة ، وأنه بفرض عمل الشفاطات في ظل وجود هذا العدد من المساجين داخل صندوق سيارة الترحيلات لن يكون لها أي تأثير في عملية التهوية ، بالإضافة إلى كل هذا فقد قام مجهول من بينهم بإطلاق قنبلة الغاز المسيل للدموع عليهم ، فقد أخطـأوا سواء كانوا قد وقعوا في هذا الخطأ وحدهم أو اشترك معهم آخرون كسائق سيارة الترحيلات أو المجهول وبالتالي فقد وجبت مساءلتهم في جميع الأحوال ؛ لأن الخطأ المشترك لا يجب مسئولية أي من المشاركين فيه ، وإذ يصح في القانــــون وقوع خطأين من شخصين أو خطأ مشترك ، وكان خطأ الغير – بفرض ثبوته – لا يرفع مسئولية غيره الذي يقع خطأ في جانبه وإنما قد يخففها إلَّا إذا تبين من ظروف الحادث أن خطأ الغير كان العامل الأول في إحداث الضرر الذي أصاب المضرور ، وأنه بلغ من الجسامة بحيث يستغرق خطأ غيره ، وكان عدم استيثاق القائمين على مأمورية ترحيل المساجين من عدم تحميل سيارة الترحيلات المسئولين عن تأمينها بأعداد من المرحلين تفوق طاقتها مع عدم توفير التهوية الكافية لهم أو ما يطلب منهم في مقام بذل العناية للحفاظ على سلامتهم وسلامة أرواحهم ، وبالتالي فإن التقاعس عن تحرى ما سلف والتحرز فيه لهو خطأ جسيم بما تفرضه عليهم أصول وظيفتهم وطبيعة المهمة القائمين عليها ، عليهم أن يتحملوا وزره ، وهي مسئولية لا يدفعها قالة الحكم بانشغال المطعون ضدهم بالاهتمام بجوانب أخرى تتعلق بسلامة الطرق وتأمينه ، فإن الحكم المطعون فيه يكون معيباً بالقصور في التسبيب وبالفساد في الاستدلال ، بما تستوجب نقضه والإعادة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .