المهن الطبية ومواقع التواصل الاجتماعي – المحامي علي العريان

تمهيد

كما اجتاح التلفاز بيوت آبائنا، ثم اكتسح الهوائي أسطح منازلهم، ليأتي عصر الفضائيات ومن بعده عالم الإنترنت، فقد غزت مواقع التواصل الاجتماعي حياتنا فأصبح الكبير فينا والصغير يستعملها ويسجل حسابا فيها، وكما احتدم الجدل مع كل طفرة من تلك الطفرات نجده يثور اليوم حول هذه المواقع، ومن أوجه ذلك الجدل الاستعمال المهني عموما لمواقع التواصل الاجتماعي واستعمال أصحاب المهن الطبية لها سواء كانوا أطباء بشريين أو أطباء أسنان أو صيادلة أو غيرهم، وثار النقاش حول الضوابط المهنية ومدى مواءمة استعمال تلك الفئات لهذه المواقع على الصعيد المهني، خصوصا بعد أن انتشرت في كثير من دول العالم عموما وفي الكويت خصوصا ظاهرة استعمال أصحاب المهن الطبية لتلك المواقع لأغراض مختلفة مثل تقديم المشورة الصحية والطبية للمتابعين ونشر الوعي الصحي ورفع مستوى الثقافة الصحية العامة والتواصل المهني مع الزملاء ومناقشة مسائل التخصص الفنية، ومن جانب آخر يقوم البعض أيضا بالتسويق لنفسه ولمؤسسته العلاجية والترويج للمنتجات الطبية والأدوية والتقنيات، وهو الأمر الذي يثير العديد من الإشكاليات القانونية والأخلاقية والمهنية، فعلى سبيل المثال: ما هو السلوك القويم والسليم للصيدلي أو الطبيب في تفاعله مع المتابعين والمرضى على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وهل نحن بحاجة إلى قانون أو لائحة أو قرار تنظيمي أو قواعد إرشادية أو ميثاق شرف يحكم سلوك أصحاب المهن الطبية على هذه المواقع؟ وإن كنا بحاجة إلى ذلك فما هو مضمونها؟ وهل من شأن مواقع التواصل الاجتماعي أن تحول عمل الطبيب أو الصيدلي من مهني نزيه إلى عمل تجاري يهدف إلى التسويق لتحقيق الأرباح وجني الأموال؟ وما هي المخاطر القانونية التي قد يتعرض لها المهنيون من مستعملي هذه المواقع؟، في هذا المقال سنبين أهمية هذا الموضوع ونماذج لما أدى إليه من دراسات وأبحاث وقواعد تنظيمية، ثم سنشير إلى بعض المحاذير القانونية وفقا للقانون الكويتي والتي يتوجب على مستخدم هذه المواقع مراعاتها.

دراسات أكاديمية

استجابة لهذه التغيرات فقد عمد الباحثون إلى كتابة ونشر الدراسات الأكاديمية التي تسبر غور الإشكاليات المهنية والقانونية والأخلاقية المتعلقة باستعمال الطبيب أو المهني الطبي لمواقع التواصل الاجتماعي، ففي دراسة أجريت بعنوان “تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المهنية الطبية: مراجعة نوعية منهجية للفرص والتحديات The impact of social media on medical professionalism: a systemic qualitative review of challenges and opportunities” قام الباحثون بالبحث عن المراجع التي كتبت في موقع PubMed باللغتين الإنكليزية والألمانية حول هذا الموضوع بين سنتي 2002-2011 فوجدوا بأن هنالك 108 مصدرا يتناول ذلك منها 46 بحثا أصيلا والبقية تعليقات أو تحريرات أو ورقات رأي تتعلق ببحوث كتبت في هذا المجال.

اهتمام الاتحادات والنقابات الطبية والجمعيات المهنية بتنظيم وضبط الاستعمال المهني لمواقع التواصل الاجتماعي

وعلى صعيد آخر فقد اهتمت النقابات والجمعيات المهنية وأحيانا الجهات الرسمية أيضا بتنظيم هذا الفضاء، ونذكر على سبيل المثال الجمعية الطبية الأمريكية American medical association حيث أصدر مجلس الشئون الأخلاقية والقضائية فيها تقريرا حول (المهنية في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي)، قامت من خلاله بمد نطاق ميثاقها الأخلاقي code of medical ethics ليشمل سلوك الطبيب على شبكة الإنترنت، ومن بين الإرشادات المهمة التي تضمنها التقرير المذكور:

– التأكيد على حماية حق المريض في الخصوصية والسرية

– الفصل بين الحسابات المهنية والحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي

– التزام الزميل بتنبيه زملائه بشأن سلوكياتهم غير المهنية التي يلاحظها على شبكة الإنترنت، وقيامه بإبلاغ الجهات المختصة عنها إذا لزم الأمر.

ومن بين تلك الكيانات المهنية التي اهتمت بتنظيم هذا الفضاء هو اتحاد لجان الدولة الطبية the federation of state medical boards (FSMB) وهي منظمة غير ربحية تمثل سبعين لجنة طبية في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أجرى الاتحاد مسحا على 48 لجنة طبية في الدولة فوجد أن 92% من تلك اللجان (44 لجنة) قد تعاملت مع مشكلات مرتبطة باستعمال أصحاب المهن الطبية لمواقع التواصل الاجتماعي، وانتهت بعض تلك المشكلات بجزاءات تأديبية قاسية أحيانا بحق الطبيب مثل تعليق ترخيص مزاولة المهنة أو التقييد من صلاحياته، وذلك فقد أصدرت اللجنة المختصة بالأخلاق والمهنية في الاتحاد قواعد إرشادية بشأن استعمال أصحاب المهن الطبية لمواقع التواصل الاجتماعي، ومن التعليمات التي وردت في تلك القواعد:

– ضرورة الحفاظ على حدود اجتماعية ومهنية كافية بين صاحب المهنة الطبية والمريض، تماما مثل تلك الحدود الموجودة في المستشفى أو العيادة.

– تجنب التواصل مع المرضى الماضين والحاليين عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا تلك التي يكون فيها تركيز كبير على الاعتبارات الشخصية مثل الفيسبوك.

– الفصل بين الحسابات الشخصية والحسابات المهنية وعدم الخلط بينهما.

– واجب الزملاء بإبلاغ الجهات المختصة عن السلوكيات غير المهنية التي يشاهدونها من زملائهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

– استعمال بريد الكتروني مستقل للتواصل المهني بعيدا عن البريد الالكتروني الشخصي، وذلك لتجنب مشكلة التمثيل والصفة، حيث يكون واضحا ما لو كان صاحب المهنة الطبية يخاطب المريض بصفته الشخصية أم بصفته موظفا في المؤسسة العلاجية وصاحب مهنة.

محاذير والتزامات قانونية

لم يضع المشرع الكويتي قانونا خاصا ينظم استعمال المهنيين لمواقع التواصل الاجتماعي، كما لا توجد في الكويت أية قواعد إرشادية في هذا الموضوع، ولذا فعلينا الرجوع لعامة القوانين لنسقطها على مواقع التواصل الاجتماعي ونستخلص منها ضوابط السلوك المهني فيه، ومن أهم ما قد يقع فيه الصيدلي أو الطبيب من مخالفات وما يتوجب عليه أن يراعيه من واجبات ما يلي:

إفشاء أسرار المريض أو جهة العمل ونشر صور المرضى

من المخالفات القانونية التي قد ينزلق إليها الطبيب أو الصيدلي الذي يستعمل مواقع التواصل الاجتماعي وفقا للقانون الكويتي هو إفشاء أسرار المريض وكشف خصوصياته لعامة المتابعين، وهو الأمر المحظور قانونا ما لم يحصل الطبيب على موافقة مسبقة من المريض وذلك بحكم المادة (6) من القانون رقم 25 لسنة 1981 بشأن مزاولة مهنة الطب البشري والمهن المعاونة، وكذلك قد تنضوي هذه السلوكيات تحت طائلة المساءلة الجنائية وفقا لقانون جرائم تقنية المعلومات وقانون المطبوعات والنشر والذي يحظر المساس بكرامة الأشخاص وحياتهم الخاصة وإفشاء سر من شأنه أن يضر بسمعتهم، وكذلك جرم القانونان الأخيران كشف ما يدور في أي اجتماع أو ما هو محرر في وثائق أو مستندات أو مراسيم أو أي أوراق أو مطبوعات قرر الدستور أو أي قانون سريتها أو عدم نشرها، حتى لو كان ما نشر صحيحا، ويقتصر النشر على ما يصدر عن ذلك من بيانات رسمية، وهو الأمر الذي تبرز أهميته حين يكشف الطبيب أو الصيدلي أسرارا تتعلم بوزارة الصحة العامة مثلا أو حين ينشر خبرا في موقعه الشخصي حول انتشار وباء بما يثير الذعر في الناس.

بل وينجرف البعض إلى أكثر من ذلك فينشر صورة المريض دون رضاه وبما يشكل جريمة إساءة استعمال هاتف وفقا للقانون رقم 37 لسنة 2014 بشأن إنشاء هيئة تنظيم الاتصالات وتقنية المعلومات، كما يشكل جريمة مساس بكرامة الأشخاص، وإذا كانت الصورة مخالفة للنظام العام والآداب العامة ولم تكن تحقق أغراضا تعليمية منضبطة بحيث وجهت إلى الجمهور دون اعتبار لفئاتهم العمرية فقد تشكل شبهة جريمة من جرائم القانون رقم 63 لسنة 2015 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات.

حظر الدعاية والإعلان والتسويق

حظر المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1981 بشأن مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان والمهن المعاونة لهما في مادتيه 10 و 11 أن يقوم الطبيب بالدعاية لنفسه بأي طريقة كانت، كما حظر عليه أن يروج لمنتجات أو مؤسسات طبية معينة بدافع المصلحة الشخصية سواء كانت تلك المصلحة مباشرة أو غير مباشرة، وتكمن الحكمة التشريعية لذلك في الحيلولة دون تحويل المهن الطبية إلى عمل تجاري وضمان حياد ونزاهة وموضوعية المشورة الطبية التي يقدمها صاحب المهنة الطبية للجمهور.

من ناحية أخرى فهنالك القانون رقم 38 لسنة 2002 بشأن الإعلان عن المواد المتعلقة بالصحة وقد نص في مادته الأولى على ما يلي:

“يحظر بغير ترخيص من وزارة الصحة، الإعلان عن طريقة الوسائل الإعلامية، المقروءة والمسموعة والمرئية أو غيرها من وسائل الإعلان الأخرى، عن الأدوية البشرية أو البيطرية، أو الخلطات والتركيبات النباتية أو الحيوانية أو الكيميائية، أو الأغذية الخاصة ذات التأثير الصحي، بدعوى أنها معدة للعلاج أو للتأثير في الشكل والمظهر العام أو للتزود بالطاقة والحيوية أو لإنقاص الوزن أو زيادته أو من أجل الوقاية من الأمراض أو للتجميل وتغيير التركيب العضوي لأجزاء من الجسم، كما يسري هذا الحظر على الآلات والأجهزة والمعدات والمواد الأخرى التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الصحة”، ويعد هذا القانون من القوانين الجنائية حيث رتب عقوبة على مخالفته تصل إلى الحبس لمدة عام.

وجوب بذل العناية الواجبة في المحافظة على صحة المريض

علاوة على ذلك فقد أرسى القانون المذكور معيار العناية الواجبة على صاحب المهنة الطبية، حيث ألزمه بتوخي المحافظة على صحة المريض وذلك بتسخير كل إمكانياته وخبراته ومعلوماته واتباع ما يقتضيه ضميره وآداب مهنته لبلوغ هذا الهدف، وحث القانون الطبيب على طلب المشورة المناسبة ممن هو أعلم منه وأفقه إذا دعت الضرورة لذلك، وتبرز أهمية ذلك بشدة في مواقع التواصل الاجتماعي حيث يميل البعض إلى إجابة كل ما يطرح عليه من سؤال ويتحرج من عدم المعرفة فيدلو بدلوه في غير مجال تخصصه.

تنظيم العلاقة المهنية بين أصحاب المهن الطبية

وينظم المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1981 العلاقة المهنية بين الأطباء وأصحاب المهن الطبية حيث يجب أن تبنى هذه العلاقة على الاحترام المتبادل والتعاون الوثيق في خدمة المرضى وتجنب المزاحمة غير المشروعة بين الزملاء والتجريح غير البريء والحط من كرامة الزميل بالانتقاص من مكانته العلمية أو الأدبية.

قضية مطعم ماكدونالدز ضد أحد أطباء الأسنان في الكويت

رغم قلة السوابق القضائية في المحاكم الكويتية حول استعمال الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان لمواقع التواصل الاجتماعي إلا أننا يمكن أن نجد حكما قضائيا ابتدائيا مثيرا للاهتمام، حيث اتهم أحد أطباء الأسنان الكويتيين بارتكاب جريمة إساءة استعمال الهاتف وتقليد العلامة التجارية المملوكة لمطعم ماكدونالدز على نحو يوهم الجمهور بأنها مطابقة لمنتجات الشركة، واتهم طبيب الأسنان أيضا باستعمال العلامة التجارية دون إذن مسبق من مالكها، وكانت وقائع الدعوى التي استندت إليها هذه الاتهامات أن الشاكية ادعت بأن الطبيب قد نشر مقاطع على الانستغرام يزعم من خلالها بأن بعض الأطعمة التي تبيعها الشركة الشاكية تسبب مرض السرطان واختلال هرمونات الجسم وتسبب الدهون على الكبد وأنها تحتوي على مواد حافظة تحول دون تعفنها حتى بعد مرور 5 أشهر من تاريخ إنتاجها، وانتهت محكمة الجنح العادية في حكمها إلى براءة المتهم مما أسند إليه من اتهامات وكان من بين أسباب الحكم ببراءته عدم وجود ما يدل على ملكية مطعم ماكدونالدز للعلامة التجارية لعدم تسجيلها في سجل العلامات التجارية وهو ما يتطلبه القانون، وعدم وجود ما يحدد الشركة الشاكية تحديدا كافية يثبت تحقق كافة أركان الجرائم المذكورة.

خاتمة وتوصيات

من المهم أن تكون لدى الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وأصحاب المهن الطبية حد أدنى من المعرفة القانونية الكفيلة بحمايتهم عند استعمالهم لمواقع التواصل الاجتماعي، كما أن اتباع الضمير المهني والحس الأخلاقي هو الرقيب الأنجح في ضبط سلوكيات صاحب المهنة على هذه المواقع، من ناحية أخرى فعلى النقابات والجمعيات المهنية وجهات الاختصاص وعلى رأسها وزارة الصحة أن تفعل دورها في وضع قواعد إرشادية لضبط تلك الممارسات ومساءلة من يتجاوز على القوانين واللوائح وآداب المهنة إداريا، كما ينبغي على هذه الجهات القيام بدور توعي اتجاه أصحاب المهن الطبية ومراقبة المحتوى الذي ينشرونه على مواقع التواصل الاجتماعي.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت