مفهوم القاعدة الجنائية الإجرائية

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يتضمن قانون الإجراءات الجنائية مجموعة من القواعد القانونية الجزائية التي تحدد كيفية التحري عن الجرائم والتحقيق مع المتهمين بارتكابها وإحالتهم إلى المحاكم المختصة وإجراء محاكمتهم وإصدار الأحكام بحقهم وتحديد طرق الطعن فيها وتنفيذها والسلطات المختصة بذلك(1)، فضلاً عن شغل ذمة المرتكب بالمسؤولية المدنية عن الضرر الذي قد ترتبه الجريمة(2).

وهذا بدوره يوضح بأن لقواعد الإجراءات الجنائية صفة شكلية أوأجرائية، وبمعنى آخر أنها وسيلة لتطبيق قانون العقوبات، كما يستفاد من ذلك بأن قواعد الإجراءات الجنائية قواعد أساسية لا يمكن الاستغناء عنها ويجب تطبيقها في جميع الوقائع الإجرامية بالكيفية التي نظمها قانون الإجراءات الجنائية(3).

والقاعدة الجنائية الإجرائية شأنها في ذلك شأن كل قاعدة قانونية تتكون من شقين، تكليف وجزاء، بيد أن هذين الشقين من الصعب أن يجتمعا معاً في نص واحد من نصوص قانون الإجراءات الجنائية، فالغالبية العظمى من هذه النصوص تعد من قبيل النصوص (الوصفية) التي تتألف في الدرجة الأولى من جملة التكاليف منفكة عن الجزاء(4)، فبينما القاعدة الجنائية الموضوعية يغلب عليها أن تقوم بتحديد السلوك (إيجابي أو سلبي) المحظور وتحديد الجزاء الذي يستحق عند ممارسة هذا السلوك، فالقاعدة الإجرائية عادة ما تبين وصفاً للأسلوب الواجب إتباعه دون أن تبين في أعقاب هذا الوصف الجزاء الذي يترتب على إغفال العمل بهذا الأسلوب من جانب القائم بالإجراء، وبهذا يتعين للوقوف على هذا الجزاء الالتجاء إلى قاعدة أخرى في موقع آخر(5)، فالجزاء الجنائي الإجرائي موجود، لكنه يأتي مقرراً في نصوص أخرى منفكة الصلة بنصوص التكليف، وهي في الحقيقة جزء متمم للقاعدة الجنائية الإجرائية وشق لا تكتمل مقومات القاعدة الإجرائية بدون وجوده(6).

وبهذا يمكن التعبير عن ذلك بأن ظاهرة النص غير المستوعب للقاعدة، والذي لا يحتوي إلا على إحدى شقيها تاركاً الشق الآخر ليحتويه نص آخر، أكثر شيوعاً في مجال القواعد الجنائية الإجرائية منه في مجال القواعد الجنائية الموضوعية(7) والتي غالباً ما يكون نص كل قاعدة منها مستوعباً على شقي التكليف والجزاء في ذات النص.

فإذا كان ذلك هو الوضع الغالب في القواعد الإجرائية، إلا أنه كثيراً ما يرد تحديد الجزاء الإجرائي في ذات الموضع الذي يشتمل على تكليف القاعدة، ولكنه يفهم بصورة ضمنية بحكم اللزوم العقلي، والتفسير المنطقي للنص ذاته مثل(8) نص المادة (92) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي حيث نصت على أنه: “لا يجوز القبض على أي شخص أو توقيفه إلا بمقتضى أمر صادر من قاضي أو محكمة أو في الأحوال التي يجيز فيها القانون ذلك”، ففي حالة القبض على أي شخص أو توقيفه بدون أمر قضائي أو في غير الحالات حددها القانون على سبيل الحصر، فإن إجراء القبض أو التوقيف يكون باطلاً لا يترتب عليه أية آثار قانونية إجرائية، وكذلك نص المادة (145) من ذات القانون حيث نصت على أنه “يجب حضور المتهم في المحاكمة الوجاهية ولا يغني عن ذلك حضور وكيله”. فإذا جرت محاكمة المتهم في المحاكمة (الوجاهية) بدون حضوره، فإن إجراءات المحاكمة تكون باطلة بالمفهوم المخالف حتى ولو حضر وكيل المتهم دونه، كما يظهر ذلك في نص المادة (398) من قانون الإجراءات الجنائية المصري رقم 150 لعام 1950 حيث قررت: “تقبل المعارضة في الأحكام الغيابية الصادرة في المخالفات والجنح من المتهم او من المسؤول عن الحقوق المدنية في ظرف العشرة أيام التالية لإعلانه بالحكم الغيابي خلاف ميعاد المسافة القانونية”، حيث أفصحت هذه المادة منطقياً باللزوم العقلي عن الجزاء الذي يستحق حين تقدم المعارضة بعد انقضاء العشرة أيام، وهو أنها ترفض ولا يتم قبولها.

وفي تبيان ذلك يجب العلم بأن تجاهل تكليف القاعدة الجنائية الإجرائية قد يجعل الجزاء المترتب عليه غير مقتصراً على الشكل وذلك ببطلان الإجراء، بل قد يصل الجزاء الجنائي إلى صورة العقوبة(9) التي توقع على من يقوم بالإجراء ذاته، أو قد يأخذ صورة الجزاء المدني(10) متى ما ألحق العمل الإجرائي ضرراً بمن وقع عليه.

وبناءاً على ذلك فإن الجزاء الجنائي قد يتمثل في الانعدام أو البطلان وقد يتمثل في عدم القبول أو السقوط أو العقوبة بالإضافة إلى بطلانه، وبهذا ينتمي إلى دائرة الجزاءات القانونية التي عادة ما تسعى إلى إعادة الحالة إلى ما كانت عليه، وأحياناً إلى تحقيق الردع تبعاً للمذهب الفلسفي الذي يحدد هدف الجزاء الجنائي. ومن ملاحظة شق التكليف في مختلف القواعد الجنائية الإجرائية يظهر بأن هذه القواعد ترد على ما يسمى بالإجراء الجنائي من ناحية، وتوجه خطابها إلى فئات من الأشخاص والجهات من ناحية أخرى. فالإجراء الجنائي هو موضوع القاعدة الجنائية الإجرائية وهو كل عمل مادي بحت (كالقبض)، أو عمل مادي ذي مضمون نفسي (كالأمر بالقبض) بدور حول سلوك إجرامي مرتكب، ويتناوله بالتحري والتحقيق توصلاً إلى مرتكبه وتوجيه الاتهام إليه ومحاكمته والطعن فيما تنتهي إليه المحاكمة من حكم وتنفيذه(11).

وينقسم الإجراء الجنائي إلى إجراء استقصائي إذا كان سابقاً على إقامة الدعوى، وإجراء قضائي إذا كان متعلقاً بقيام الدعوى وسيرها، وإجراء تنفيذي إذا كان لاحقاً لحكم واجب النفاذ، فالإجراء الاستقصائي يتخذ صورة التحري وجمع الاستدلالات ويبت في نتيجة المرحلة الاستقصائية قاضي التحقيق بأن هل تقام الدعوى أم لا، والإجراء القضائي هو كل تعبير عن إرادة أو إفصاح عن معرفة يتلقاها طرف ذو صفة عامة أو ذو صفة خاصة في الرابطة الجنائية الإجرائية أو أحد أعوان هذا الطرف ويكون من شأنه إحداث أثر قانوني يتعلق بنشأة هذه الرابطة أو بمسارها أو بانقضائها، أما الإجراء التنفيذي هو كل ما يتعلق بتنفيذ الحكم من ناحية وجوب هذا التنفيذ وكيفية إجرائه(12).

أما بالنسبة لفئات لأشخاص والجهات التي توجه إليهم القاعدة الإجرائية خطابها فهم(13):

الادعاء العام (النيابة العامة) ومساعدوه من كتبة ومحضرين.
مأموروا الضبط القضائي ومساعدوهم من رجال السلطة العامة.
القاضي ومساعدوه من الكتبة.
أطراف الدعوى الجنائية من الأفراد والخصوم (المتهم والمجني عليه)، والمسؤول مدنياً والمدعي بالحق المدني بوصفهما من أطراف الدعوى المدنية التابعة للدعوى الجنائية.
أطراف الدعوى الجنائية من غير الخصوم مثل الشاهد والخبير والمحامي.
وعلى أساس ذلك فإن قواعد الإجراءات الجنائية بالمعنى الضيق يقتصر مفهومها على المطالبة القضائية من جانب الدولة بصفتها شخصاً معنوياً بحقها في توقيع العقوبة على مرتكب السلوك الإجرامي، بينما تتناول هذه القواعد بالمعنى الواسع مسائل أخرى وإن لم تكن دائماً مسائل جنائية، ولكنها مسائل قضائية قد تتصل بالقانون الخاص وبالنظر لاتصالها بالجريمة اختص بها قانون الإجراءات الجنائية، كالمسائل التي يحكم القاضي الجنائي فيها بتعويض المتضرر من الجريمة، وقد تتصل هذه المسائل بما هو إداري في جوهره وقضائي في شكله، كالتدابير الاحترازية والعقوبات التبعية إذا تمثلت بالعزل من الوظائف العامة أو الحرمان من القبول في أية خدمة في الحكومة(14).

من هذا فإن تقنين القواعد الجنائية الإجرائية يعرف بأنه مجموعة القواعد الواجبة الإتباع لتنظيم الإجراءات الخاصة باستقصاء الجريمة وأدانة مرتكبها وكذلك تحديد اختصاصات السلطات والأجهزة التي تتولى تطبيق هذه القواعد(15). وعليه فإن كل إجراء يريد به القانون التوصل إلى مرتكب السلوك الإجرامي، وجمع الأدلة قبله، والطرق اللازمة لذلك كتحريك الدعوى الجنائية واستماع الشهود واستجواب المتهم وندب الخبراء، والإحالة إلى المحكمة المختصة وتقرير حالة المتهم العقلية وقدرته على الدفاع عن نفسه وتوقيفه أو عدم لزوم ذلك وإصدار حكم عليه وكيفية التوصل إلى الحكم البات ومن ثم قواعد التنفيذ، وحقوق المحكوم عليه قبل وبعد تنفيذ الحكم المحكوم به، يجب أن ينص عليه ضمن القواعد الجنائية الإجرائية والتي غالباً ما يحتوي على الجزء الغالب منها قانون الإجراءات الجنائية (أصول المحاكمات).

_______________

1- ينظر: د. علي محمد جعفر، مبادئ المحاكمات الجزائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1994، ص6، د. عوض محمد عوض، المبادئ العامة في قانون الإجراءات الجنائية، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1999، ص5.

2- ينظر: د. عبد الفتاح مصطفى الصيفي، تأصيل الإجراءات الجنائية، دار الهدى للمطبوعات، الإسكندرية 2004، ص37

3- ينظر: د. عبد الجبار عريم، شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، ج1، مطبعة المعارف، بغداد 1950، ص8.

4- ينظر: د. سليمان عبد المنعم و د. جلال ثروت، أصول المحاكمات الجزائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1996، ص26 وما بعدها، د. عبد الفتاح الصيفي، تأصيل الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص38.

5- ينظر: د. رمسيس بهنام، الإجراءات الجنائية (تأصيلاً وتحليلاً)، منشأة المعارف، الإسكندرية 1977، ص45.

6- ينظر: د. سليمان عبد المنعم و د. جلال ثروت، المرجع السابق، ص26.

7- ينظر: د. رمسيس بهنام، الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص46.

8- والأمثلة على ذلك كثيرة منها نصوص المواد (225، 233، 280) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي.

9- والمثال على ذلك هو نص المادة (72) الأصولية حيث نصت بأن: “لا يجوز تفتيش أي شخص أو دخول أو تفتيش منزله أو أي محل تحت حيازته إلا في الأحوال المبينة في القانون” فبالإضافة إلى جزاء بطلان إجراء التفتيش في غير الأحوال المبينة قانوناً قد وردت العقوبة على ذلك في نص المادة (428) من قانون العقوبات حيث نصت: “1- يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين: أ- من دخل محلاً مسكوناً أو معداً للسكن أو إحدى ملحقاته وكان ذلك بدون رضا صاحبه وفي غير الأحوال التي يرخص فيها القانون بذلك، …”، وكذلك ما نصت عليه المادة (45) من قانون الإجراءات الجنائية المصري رقم 150 لسنة 1950، حيث نصت بأنه: “لا يجوز لرجال السلطة العامة الدخول في أي محل مسكون إلا في الأحوال المبينة في القانون، أو في حالة طلب المساعدة من الداخل أو في حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك”، فبالإضافة إلى بطلان إجراء الدخول في حالات عدم توافر ما يبرره، فإنه يستوجب العقاب الوارد في المادة (128/4) من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937.

10- ينظر في تفصيل ذلك: د. محمود محمود مصطفى، شرح قانون الإجراءات الجنائية، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي، القاهرة 1988، ص34، د. عمر السعيد رمضان، مبادئ قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1967، ص39.

11- ينظر: د. رمسيس بهنام، الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص47.

12- 13- ينظر: د. رمسيس بهنام، المرجع السابق، ص47-49، د. سليمان عبد المنعم، د. جلال ثروت، أصول المحاكمات الجزائية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1996، ص28-29.

14- ينظر: د. عبد الفتاح الصيفي، النظرية العامة للقاعدة الإجرائية الجنائية، المرجع السابق، ص44.

15- ينظر: د. سامي النصراوي، دراسة في أصول المحاكمات الجزائية، ج1، مطبعة دار السلام، بغداد 1976، ص5.