بحث ودراسة قانونية مميزة حول المسؤول عن الضمان أو الملزم بالتعويض

في المسؤول عن الضمان أو الملزم بالتعويض

وبعد أن فرغنا من سرد القواعد العائدة إلى ترتب المسؤولية عن الفعل الضار وعن جبر الضرر ننتقل إلى القواعد التي ترشد إلى الشخص الذي يسأل ويلزم بالضمان أو التعويض وأولى تلك القواعد تلك القاعدة الواردة في المادة التاسعة والثمانين بالنص التالي [ يضاف ] الفعل إلى الفاعل لا إلى الآمر ما لم يكن مجبراً ] وقد أوردها العراقي في الفقرة الأولى من المادة الخامسة عشر بعد المائتين والأردني في الفقرة الأولى من المادة الثالثة والستين بعد المائتين , أما المعاملات فقد أوردتها في الفقرة الأولى من المادة التاسعة والثمانين بعد المائتين بإضافة تعريف للإجبار وهو ( على أن الإجبار المعتبر في التصرفات الفعلية هو الإكراه الملجيء وحده ) والحكمة في ذلك أن المقرر في الشرع أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق , فالأمر بالجريمة باطل وتجب مخالفته , والباطل في حكم العدم , وفي كل موضع لم يصح فيه الأمر لا يضمن الآمر بل يضمن المأمور , لأن الفاعل هو علة الفعل لذلك ينسب حكمه إليه ولا ينسب إلى الآمر به , والأصل في المعلومات أن تضاف إلى عللها , ولا يستثنى من ذلك إلا إذا كان الآمر مجبراً أي مكرهاً لأن الفاعل يغدو آلة في يده , ويشترط أن يكون الإكراه ملجئاً , ومثال ذلك ما لو أتلف أحد مال غيره بأمر آخر فالضمان على المتلف ما لم يكن مجبراً وكان الآمر جاداً بتهديده وقادراً على إيقاع تهديده بالفعل 0
ومن تطبيقات القاعدة أنه لو استأجر إنسان نجاراً ليسقط جداره على قارة الطريق ففعل فتلف به إنسان أو حيوان فإن الضمان على النجار لعدم صحة الأمر , وكذلك لو أمر فلان فلاناً بحفر بئر في الطريق فوقع فيها إنسان أو دابة فالحكم المترتب للضمان يلزم الحافر و أما في مسؤولية الآمر فتطبق القاعدة عادةً إذا كان الآمر سلطاناً يخاف منه , أو سيداً يأمر عبده , أو أباً يأمر ابنه فيما يسوغ لله شرعاً فالضمان على الآمر 00

وقد أوضح حكم السلطان في الفقرة الثانية من المادة ( 289) من المعاملات بقولها ( ومع ذلك لا يكون الموظف العام مسؤولاً عن عمله الذي أضرّ بالغير إذا قام به تنفيذاً لأمر صدر إليه من رئيسه متى كانت إطاعة هذا الأمر واجبة عليه أو كان يعتقد أنها كانت واجبة وأقام الدليل على إعتقاده بمشروعية العمل الذي وقع , وكان مبنياً على أسباب معقولة وأنه راعى في عمله جانب الحيطة والحذر ) ولا نجد بداً من أن نقف هنا عند حدود تخليص الفاعل إذا كان موظفاً عاماً يطيع أمر رئيسه فنقول : إن هذه المادة توقع عبء إثبات أسباب التخلص على الموظف بإقامة البينة على مشروعية العمل وقيامه على أسباب معقوله ومراعاة جانب الحيطة والحذر , لذا فلا تسأل الرئيس قبل ذلك وتقدير الدليل يعود إلى محكمة الموضوع 0 على أن علم الإدارة في شأن المأمور إذا كان عسكرياً على خلاف ذلك , لأن تسلسل الرتب في الشؤون العسكرية يوجب على المأمور إطاعة الآمر , وهذا ما سماه الفرنسيون في الحقوق الإدارية بنظرية الحراب Theorie des baionettes 00 لأن الأوامر العسكرية خاصة في حالة الحرب , والشرطية والأمنية في أحوال الإضرابات الداخلية لا تحتاج إلى مناقشة فإذا أطاع الأدنى رتبة رئيسه الأعلى رتبةً , فهو غير مسؤول ويسأل الرئيس 00
وحين يكون أمامنا المباشر وحده , تتلقانا القاعدة القائلة [ المباشر ضامن وإن لم يتعمد ] , وقد وردت في المادة الثانية والتسعين من المجلة , ووردت أحكامها في المادة الثالثة والثمانين بعد المائتين من المعاملات , والمباشر هو الذي يلي الأمر بنفسه فإنه يضمن الضرر المتولد عن فعله سواءً كان عن قصد منه أو لم يكن 00 والمباشرة علة للتلف إسماً لإضافة الحكم إليها , ومعنى لأنها مؤثرة فيه وحكماً لعدم تراخي الحكم عنها هذا قضاءً 00 وأما ديانة فبالتعمد ضمان على المباشر مع الإثم , وأما بغير التعمد فضمان ولا إثم , ولذلك أضيفت عبارة ( وإن لم يتعمد ) استناداً لهذا الفرق ذلك أن عدم التعمد لا يصلح أن يكون عذراً مسقطاً للحكم بالقضاء , وأمثلة ذلك ما لو أتلف إنسان مال غيره يظنه ماله نفسه يضمن , ولو سقط شيء من ظهر الحمّال فتلف ضمنه الحمّال لأن الغنم بالغرم , وكذلك الأمر بالنسبة للسيارات العامة وسيارات النقل والطائرات والسفن في العصر الحديث 00 ولو طرق الحداد الحديدة المحمّاة بالنار فطار شررها فأحرق ثوب إنسان مارّ في الطريق يضمن قيمة ا لثوب , ولو انقلب النائم أو الصغير على مال لغيره فأتلفه أو شخص فقتله يضمن قيمة المال أو دية القتيل , ولو استأجر شخص شخصاً آخر لهدم جداره فسقطت حجارة في أثناء الهدم على مال أحد فأتلفته ضمن الهادم مع أنه غير متعمد ولا متعدّ على أن لهذه القاعدة قيدين :
الأول : التعدي 00 فلو قتل إنسان من جاء ليقتله أو ليأخذ ماله وكان لا يمكن دفع هذا المتعدي إلا بالقتل فالمباشر لا يضمن لكونه غير متعدّ , فهو في حالة ضرورة 0
الثاني : في الملك الذاتي 00 فلو حفر إنسان في ملكه أو سقى أرضه سقياً معتاداً فتلف بحفره أو سقيه شيء لا يضمن لأنه في ملكه ولم يتجاوز 0
تلك حالة المباشر , وأما المتسبب فقد أوردت حكم حالته المادة الثالثة والتسعون من المجلة بقاعدة [ المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد ] 0
كما ورد حكمها ضمن مقررات المادة الثالثة والثمانين بعد المائتين من المعاملات 0 ويضيف شارح المجلة المرحوم الأستاذ علي حيدر على القاعدة بعبارة ( أو بالتعدي) ويعللها بأن السبب في تضمين المباشر مطلقاً , وتضمين المتسبب عند التعدي أو التعمد هو أن المباشرة علة وسبب مستقل للتلف , اما التسبب فليس سبباً مستقلاً فاقتضى أن ترافقه صفة عداء ليصلح علة للتضمين , وإن ضمان المتسبب للضرر مشروط بأن يكون فعله مفضياً إلى ذلك الضرر بغير حق , وتوضيحاً للفرق بين المباشرة والتسبب يرجع إلى المادة /888/ من المجلة ويفهم منها أن الإتلاف تسبباً هو التسبب في تلف شيء مفضٍ إلى تلف شيء آخر فمثلاً إن من قطع حبل قنديل معلق يكون سبباً مفضياً لسقوطه على الأرض وانكساره فيكون قد أتلف الحبل مباشرة وكسر القنديل تسبباً , فتعدّيه على الحبل تسبّب في كسر القنديل 00

ومثل ما إذا شقّ واحد ظرفاً فيه سمن فسال السمن وتلف فيكون قد أتلف الظرف بمباشرته , والسمن بتعدّيه على الظرف 00 ويبين من كل ذلك أن مرجع التفرقة في الحكم بين المباشرة والتسبب أن المباشرة علة مستقلة وسبب للإضرار بذاته , فلا يجوز إسقاط حكمها بداعي عدم التعمد أو عدم التعدي 00 أما التسبب فليس بالعلة فلزم أن يقترن العمل فيه بصفة التعمد أو التعدي ليكون موجباً للضمان وقد قيل كل متعمدٍ متعدّ ولا عكس 00
ومن الأمثلة التطبيقية للقاعدة ما إذا أجفل حيوان بكرٍ من زيدٍ ففرّ وضاع فلا ضمان على زيد . أما إذا كان قد أجفله قصداً وضاع فإنه يضمن قيمته , وكذلك لو أراد رجل أن يحرق حصائد أرضه فأوقد فيها النار فذهبت إلى أرض جاره وأحرقت زرعه لا يضمن , إلا أنه يضمن حين يعلم أنه لو أحرق حصائده تتعدى النار إلى زرع جاره لأنه إذا علم ذلك كان قاصداً إحراق زرع الغير , وقد يؤخذ الدليل على العلم من القاعدة الشرعية ( دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه ) , ويعبر فقهاء الحقوق الحديثة موضوع المسؤولية في حالة العلم هذه بالإهمال وعدم الاحتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة , فمن لم يراع هذه الإحتياطات يضمن , وينطبق ذلك على حالة ما لو حلّ إنسان رباط دابة أو فتح اسطبلها أو فتح قفص طائر فشردت الدابة أو طار الطير , فعند الإمامين لا يضمن لأن عدم العقل في الحيوان والطير لاينفي أن لهما اختياراً , وعند الإمام محمد يضمن لأن فرار الحيوان وطيران الطير أمر طبيعي و وقد سارت المجلة على قوله , وكذلك أخذت القوانين العصرية بهذا القول لعدم الاحتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة , أما لو سارت السيارة سيراً طبيعياً في الطريق العام فأحدثت به خسفاً ثم سقطت دابة في الخسف فهلكت فلا ضمان على سائق السيارة لأنه غير متعمد وإن كان متسبباً طالما أن سيره كان طبيعياً ومعتاداً 00
وما القول في حال ما إذا اجتمع مباشر ومتسبب 00 فعلى من الضمان ؟؟

الجواب : في القاعدة القائلة [ إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر ] الواردة في المادة التسعين من المجلة بإضافة مثل هو ( مثلاً لو حفر بئراً في الطريق العام فألقى الرجل حيوان آخر في تلك البئر ضمن الذي ألقى الحيوان ولا شيء على حافر البئر ) , كما وردت في الفقرة الثانية من المادة السادسة والثمانين بعد المائة بصياغة مختلفة بعض الشيء , قد تختلف في الحكم وهي كما يلي : ( إذا اجتمع المباشر والمتسبب ضمن المتعمد أو المعتدي منهما فلو ضمنا معاً كانا مختلفين في الضمان ) لأن القانون العراقي اشترط التعمد أو التعدي في المباشرة إسوة بالتسبب , أما الأردني في المادة الثامنة والخمسين بعد المائتين والمعاملات في المادة الرابعة والثمانين بعد المائتين , فقد أوردا نص المجلة صياغةً وحكماً , وفي شرح القاعدة ومثلها الوارد في المجلة نجد أن حفر البئر بحدذاته لا يستوجب تلف الحيوان ولو لم ينضم إليه فعل المباشر وهو إلقاء الحيوان لما حصل تلف الحيوان , فلم يحصل التلف بمجرد عملية حفر البئر , فالحفر : هو الوصف الأول 00 والإلقاء : هو الوصف الثاني 00 وقد قيل إن كل حكم يثبت بعلة ذات وصفين يضاف الحكم إل الوصف الذي وجد منهما أخيراً 00 ومن أمثلة القاعدة ما لو دلّ إنسان سارقاً على مال أو قاتلاً على قتيل , فالضمان على السارق أو القاتل دون الدّال 0
ويستثنى من القاعدة ما لو دلّ المودع ( أي الوديع ) السارق على الوديعة وسرقها هذا فالضمان على الوديع لتركه واجب الحفظ عليها , وعلى أن الأصح أن يكون الإثنان ضامنين تكافلاً مثلما ورد في القانون العراقي , ولما عليه العمل في معظم القوانين العصرية إذ لا يصح إعفاء السارق من المسؤولية فهنا يكون المباشر والمتسبب ضامنين , بيد أن هناك مثلاً للإستثناء يقصر الضمان على المتسبب دون المباشر وهو ما إذا حكم القاضي بناءُ بناءً على الشهادة القائمة المعتبرة ثم رجع الشهود عن شهادتهم 00 فإنهم يضمنون للمحكوم عليه ما قد خسره دون القاضي مع أنهم متسببون والقاضي هو المباشر 00

وعلة ذلك أن الشهود يعدون بحكم المباشرين لأن القاضي مجبور على الحكم بعد قيام البينة وليس في وسعه أن يمتنع عن الحكم , وإلا تعرضّ لدعوى الإشتكاء على الحكام أي مخاصمة القضاة حتى أنه قديماً إذا امتنع عن الحكم بعد توفر أسبابه يستحق العزل 0
وقبل أن نختم هذا الفصل الذي استعرضنا فيه قواعد مساءلة الإنسان العاقل المدرك نتائج أفعاله , نجد من الضروري أن نرد على سؤال من يتساءل : وماذا عن البهيمة إذا أحدثت ضرراً في نفس الإنسان أو ماله من جماد وحيوان 00؟
– هل نحاكمها كما كانت تحاكم البهائم في بلاد الغرب حتى إلى ما بعد القرون الوسطى ويحاكمها قضاة من البشر ويقضون عليها بعقوبات مختلفة وأكثرها الموت 00؟ وكم حكموا بذبح دجاجات أتلفت الزروع بعد أن ادعى عليها أصحاب الزرع التالف , وكأن لها عقلاً يعي , ولساناً ينطق ويدافع عنها 00 !! في الوقت الذي أشرقت فيه شمس الحضارة في بلاد المشرق وفي ظلال الرسالات السماوية وخاتمتها رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وأضاءت العالم الذي دان بها حيث ارتبطت المسؤولية بالعقل واقتصرت على الإنسان الذي حباه الله به 0
نقول : نحن لم نحاكم البهائم ولا نحاكمها , ولكن لا نغفل عن ذكر ما يترتب على فعلها من آثار , ونجد في ذلك القاعدة المشهورة [ جباية العجماء جبار] الواردة في المادة الرابعة والتسعين من المجلة والمادة الواحدة والعشرين بعد المائتين من العراقي والمادة التاسعة والثمانين بعد المائتين من الأردني والمادة الرابعة عشر بعد الثلاثمائة من المعاملات , وقد توسع القانون العراقي في أحكام الأفعال الضارة الحاصلة من الحيوان ومدى مسؤولية أو عدم مسؤولية صاحبه في ست مواد من 221 لغاية 226 , وقد أخذت هذه القاعدة من حديث شريف { العجماء جرحها جبار}”1″ 0 والمراد بذلك ما تحدثه البهيمة من ضرر مهدور لا مؤاخذة فيه بشرط أن يكون الفعل قد صدر عنها من تلقاء نفسها , ويقال عن البهيمة عجماء لأنها لا تفصح ولا تتكلم , وجبار معناها هدر 00

ومثال ذلك لو ربط إنسان دابة في فناء داره فلبطت إنساناً فقتل فلا ضمان على صاحبها 00 وهنا يتحمل بيت المال دية القتيل , وكذلك إذا ربط شخصان دابتيهما في محل لهما حق الربط فيه فأتلفت إحدى الدابتين الأخرى فلا يلزم الضمان على صاحب المتلفة 00غير أنه يكون صاحب البهيمة مسؤولاً وضامناً حال تعديه أو إهماله أو قلة احترازه , فلو رأى إنسان حيوانه يتلف شيئاً ولم يمنعه ضمن قيمة التلف , وكذلك إذا كان لرجل حيوان تخسشى مضرته كالكلب العقور أو الثور النطوح أو الجمل الصائل , وقام إنسان آخر بإشهاد الناس على صاحب هذا الحيوان وحالة الحيوان ضمن صاحبه كل ما يتلفه بعد ذلك , وكذلك لو سيّب دابته في الطريق العام أو في ملك الغير , ذلك أنه في هذه الأحوال يعتبر متسبباً , أما القوانين الحديثة في بلاد الغرب بعد أن نبذت محاكمة البهائم , فقد اتخذت مواقف مختلفة تجاه المسؤولية عن فعل الحيوان , وتبعتها القوانين العربية المعاصرة , فمنها ما رتب مسؤولية حارس الحيوان على افتراض الخطأ كقرينة قابلة لإثبات العكس إذ أن بعض هذه القوانين أتاحت لحارس الحيوان إقامة الدليل على أنه التزم جانب الحيطة لمنع حيوانه من الإضرار بالغير كالقانون التونسي والمراكشي والسويسري , وبعضها لم يبح له إلا إثبات السبب الأجنبي كالمشروع الفرنسي ـ الإيطالي , واللبناني والسوري والمصري 00 أمام القانون البولوني فقد اكتفى من حارس الحيوان بإقامة الدليل على أن خطأ ما لم يقع منه أو من أحد تابعيه 0

ــــــــــ
(1) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه وتكملته : والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس

في الملكية واكتسابها
يجمع علماء النفس على أن التملك غريزة في الإنسان , ومن مقتضى ذلك أن يسعى من لا يملك وراء تملّك الأشياء , وإذا ما ملكها تولّى المحافظة عليها , وعمل على تحسين وضعها والدفاع عنها تجاه كل معارض أو معتدٍ والمطالبة بها في حالة غصبها بكافة الوسائل جزائية كانت أو مدنية , والدولة تحمي حق الإنسان في ملكه , ومن أولى مقاصد القوانين , ودوائر الأمن والمحاكم حماية هذه الحقوق , على أن ذلك مرهون بأن تكون الحقوق مكتسبة بسبب أو بسند مشروع , بدون غصب ولا تعدّ على الغير , ونذكّر بالحديث الشريف الذي نقلناه في الفصل الأول من الباب السابق وهو { من أحيا أرضاً فهي له وليس لعرق ظالم حق } وهذا الحديث حكم في أن الإعتداء لا يكسب حقاً 0
وقد قالت القاعدة الرومانية منذ القديم : Ne rerum doninia in incarto
وترجمتها ( لا يجوز أن تبقى ملكية الأشياء في ريبة ) 0

فالسبب المشروع , والسند المشروع . بدون تعدّ ولا غصب , يكسب الإنسان حق الملكية 00 وقد أعطت القوانين الحديثة للمزارع الذي يحيى أرضاً ميتة لا يملكها أحد حق تملكها إذا استمر على ذلك مدة معينة كخمس سنوات أو عشر سنوات , فإذا ما أثبت تصرفه فيها بصورة هادئة ومستمرة وعلنية بلا منازع ولا معارض , وبحسن نية فله حق تسجيل ملكيته لها , وما ذلك إلا مكافأة لنشاط الإنسان وتشجيعاً له على استثمار الأراضي , وبذلك يحصل صاحب العقار ـ أو ربّه أو سيده ـ على سند الملكية 0

وهذا السند هو الذي يحفظ له حق تملكه , ولذلك قال المثل الحقوقي الفرنسي : Nul seigneur sans titre
وترجمته ( لا سيد بلا سند ) 00 وقد أوجبت القوانين المعاصرة ذلك في العقارات لكونها ثابته وليس فيها تحرك من يدٍ إلى يدٍ 00 فتنتقل بالتسجيل ثم أتى الحكم بعد ذلك على الآليات والأسهم 0
أما في المنقولات العادية فتكفي الحيازة قرينة على التملك وبذلك تقول القاعدة العربية [ الحيازة في المنقول سند الملكية ] والقاعدة الفرنسية :
En fait de meubles possession
وتصلح ترجمة للقاعدة العربية 0

نقل الملكية
إذا ما تملك المرء بموجب سند مشروع , أو سند , فإنه يحق له بعد ذلك أن يتصرف في ملكه في أوجه التصرف الثلاثة : الاستعمال , الاستثمار , التنازل وهذا ما قال عنه الرومان : Usus fructus abusus
وإما إذا لم يكن يملك , فلا حق له بالتصرف بنقل الملكية , وقد قالت بذلك القاعدتان الرومانيتان :
الأولى : Nemo dat quam habet
وترجمتها ( لا ينقل الإنسان حقاً لا يملكه 00) 0
والثانية :
Nemo plus juris in alium transferre potest quam ipse habet
وترجمتها(لا يستطيع الإنسان أن ينقل إلى الغير أكثر مما يملك هو نفسه )0
على أن أجمل ما قيل في هذا الصدد , القاعدة المستمدة من المثل العربي الفقهي الشهير : [ فاقد الشيء لا يعطيه ] فلله ما أروعها قاعدةً بليغة 0
وتذهب الشريعة الغراء إلى أبعد من ذلك معتمدة على الحكم بمعناه الشرعي للأمور من الحلّ والحرمة , فتحرم إعطاء ما يكون الحصول عليه عن طريق الحرام وبذلك أتت قاعدتها [ ما حرم أخذه حرم عطاؤه ] الواردة في المادة 34 من المجلة , لأن الحرام لا يجوز فعله , ولا الأمر بفعله , فالحرمة والعقاب على الآخذ والمعطي معاً , لذلك لا يكتسب ما أخذ من الحرام سواء كان على سبيل المنحة ابتداءً أم على سبيل المقابلة , فمن المقرر شرعاً أنه كما لا يجوز فعل الحرام لا يجوز التشجيع أو الإعانة عليه لقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }”1″” 0
ــــــــــ
(1) المائدة 2

وتطبيقاً لهذه القاعدة يمنع أخذ الربا وكذلك إعطاؤه , وأخذ الرشوة فعطاؤها وكذلك حلوان الكاهن وأجرة النائحـة والمغنية والبغي والواشمة وسمسارة الزواج وقيمة السمّ إن لم يكن دواءً وبوصفة من طبيب , والخمر ولحم الخنزير وكل ما لا يعتبر مالاً غير متقوم شرعاً00 وكذلك لا يجوز للوصي أن يعطي شيئاً من مال اليتيم , كما لا يجوز له أن يأخذه لنفسه 0 ويستثنى من ذلك أنه إذا خشي بشكل جدي ومؤكد أن يستولى ظالم على مال اليتيم كان له أن يؤدي شيئاً منه لإنقاذ الكل , وكذلك لو غصب شخص مال القاصر ولم يكن للوصي بينة عليه وتأكد له أن الغاصب يحلف كاذباً لو استحلف فله أن يدفع له شيئاً من مال الصغير لاسترداد المغصوب ولكن الحرمة في هذين الاستثناءين تبقى على الآخذ ولا تقع على عاتق المعطي 0
ومن متفرعات نقل الملكية القاعدة الواردة في المادة (54) من المجلة ونصها [ يغتقر في التابع مالا يغتفر في المتبوع ] وتضيف المادة شرحاً للقاعدة هو ( فلو وكل المشتري البائع بقبض المبيع لا يجوز , أما لو أعطى البائع جولقاً ليكيل ويضع فيه الطعام المبيع ففعل ذلك كان قبضا من المشتري ) وعلة الجزء الأول من هذا الشرح الخاص بعدم جواز توكيل البائع بقبض المبيع هو أنه لو هلك المبيع فهلاكه على البائع لأن التسليم والتسلم لا يكون من جانب واحد , أما بالنسبة للجزء الثاني فالتوكيل بالكيل من طرف المشتري هو توكيل من صاحب الصلاحية بالملف فكأنه قبض وأمر البائع كوكيل بكيل ما اشتراه 0
ومن تطبيقات القاعدة الأصلية أن التابع مادام تابعاً فيغتفر فيه ما لا يغتفر فيما إذا صار متبوعاً , فلو وقف امرؤ العقار ببقرته يصح معها لأنها من حوائج المتبوع ولوازمه , أما لو أراد الوقف عليها لوحدها منفردة فلا يصح , ولو سرق مصحفاً مرصعاً بالياقوت لا تقطع يده حداّ لأن المصحف متبوع وسرقته لا توجب القطع , والياقوت وإن كانت سرقته توجب القطع في حالة سرقته منفرداً لكن بتبعيته للمصحف اغتفر فيه فلا يقطع , ولو حلف امرؤ لا يشري صوفاً فاشترى شـاة عليها صوف لم يحنث لأن الصـوف دخل في البيع تبعاً للشاة لا قصداً ,

فاغتفر فيه 0 فإن دخل مقصوداً يحنث , وكذلك لو حلف لا يشتري آجراً أو خشباً فاشترى داراً لم يحنث 0 كان هذا في نقل الملكية حقيقةً , أما مجازاً فهناك القاعدة الواردة في المادة الثامنة والتسعين من المجلة , وهذا نصها:
[ تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات ] ويضيف الشراح ولو بقيت العين على حالها , وأصل هذه القاعدة ما ورد في الحديث حين أهدت بريرة لحماً للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل له إنه تصدّق به عليها فقال ( هو عليها صدقة ولنا هدية )”1″ 0
ومعلوم أن الصدقة لا تجوز للنبي وأهل بيته , ولكن هذا اللحم إن كان قد أعطي قبلاً صدقة لبريرة ولكنها بعد أن صار في ملكها تصرفت به بسبب آخر هو الهدية , والإهداء غير ممنوع للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأهله 0
ومن تطبيقات القاعدة أنه إذا باع أحد داره لشخص ثم باعها المشتري لآخر فإن للبائع الآخر طلب الشفعة في الدار إن كان حاصلاً على سبب الشفعة , ولو تصدق رجل على قريبه وعادت إليه الصدقة بالوراثة ملكها وما ضاع ثوابه , ومن الأمثلة تبدل الموهوب في يد الموهوب له مانع من الرجوع في الهبة ولو قام سبب الرجوع , وكذلك خروج الموهوب من ملك الموهوب له لتبدل سبب الملك 0
ــ
(1) رواه محمود بن حيان والحاكم عن بريدة

شمول الملكية

من قواعد هذا الشمول القاعدة الواردة في المادة (49) من المجلة بالنص التالي : [ من ملك شيئاً ملك ماهو من ضروراته ] وأضافت المادة إلى هذا النص مثلاً هو ( فمن اشترى داراً ملك الطريق الموصل إليها ) , والمقصود بالضرورات هنا الأشياء التي تتبع شيئاً هي مثله في الدخول تحت الدلالة , فهي الضرورة العقلية التي تحرك الفكر لإدراك الحكم للشيء بدون ذكره وليست بمعنى الإضطرار , ويضرب على ذلك مثلاً إذا اشترى إنسان قفلاً دخل المفتاح في ملكه إذ لا يعقل أن يستفيد من القفل بدون مفاتيحه , وكذلك لو اشترى امرؤ بقرة من أجل أن يحلبها دخل رضيعها في البيع , ومن ملك عرصة ملك علوها وسفلها لأنهما من ضرورياتها , وقد نصت القوانين الحديثة على أن ملك العلو والسفل لمالك الأرض , على أنه بالنسبة للطريق الموصل على الدار المشتراة فيملك الطريق إذا لم يكن داخلاً في ملك خاص , ويراعى في ذلك أن يكون مفهوم التملك هو ألا تؤدي الطريق إلى ملك الغير حتى لايحرم هذا الغير من الإستفادة من ملكه بسلوك الطريق إليه , وإلا فينتقل الأمر إلى أن يكون حق إرفاق للإثنين أو لأكثر من إثنين إن وجد الأكثر 0

وشبيه بأصل هذه القاعدة , القاعدة الرومانية التي تقول :
Accessio cedit principale accessiorium sequitur principale
وترجمتها ( مالك الأصل مالك للفرع ) 0
ويقابلها التطبيق الجزائي لقاعدة ( التابع تابع ) التي بحثناها في الباب الثاني 0

الزواج والأسرة

تلاحظ قلة القواعد والأمثلة في هذا الباب , ولعلّ سبب ذلك يعود إلى أن الفقهاء اعتمدوا على سيادة أحكام الديانة في هذا الباب , ولعلّ سبب ذلك يعود إلى أن الفقهاء اعتمدوا على سيادة أحكام الديانه في هذا الموضوع أكثر من أحكام القضاء , وقد تكون العلة أيضاً ارتباط أحكام الزواج ارتباطاً نفسياً واجتماعياً وخلقياً بنظام الأسرة , وكون ذلك عائداً إلى سرّ خلق المخلوقات , فالرجوع في شؤون الأحوال الشخصية على ما أمر الله به من السكن والمودة والرحمة هو خير ما ينظم هذه الأحوال ويكفلها وصدق الله تعالى في قوله : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }”1″ 0
ومن حكم التشجيع على الزواج التوسع في الأهلية له , فقد أعطى الشرع , وأعطى القانون , وحتى القانون الروماني القديم أهلية للذين لم يبلغوا من الرشد , ولكن بعد بلوغهم من التمييز , أهلية لكي يتزوجوا وما ذلك إلا رغبة المشرع في إنشاء أسر جديدة , وفي إحصان من وافاه البلوغ من ذكر وأنثى درءاً للفاحشة وحرصاً على سلامة الأخلاق العامة , ومدّ في هذه الأهلية على ما بعد الزواج في حين أنه أبقى حدود سن الرشد بالنسبة للمعاملات 0 وفي كلٍ حكمة 0
وقد ورد في هذا الصدد قاعدة رومانية تقول :
Habilis ad nuptias habilis ad pacta nuptialia
وترجمتها:[ الأهلية المطلوبة لعقد الزواج هي ذات الأهلية في أثناء الزواج]
ولذلك وجدنا أن القاصرة المتزوجة التي لم تبلغ سن الرشد في المعاملات تستطيع أن تتصرف في شؤون مهرها ونفقتها وجهازها , وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء 0
ــــــــــ
(1) الروم21

وكذلك فـي موضوع الموافقة علـى الزواج , نذكر بالقاعدة التي أوردناها في الفصل الأول من الباب الأول وهي ( لا ينسب إلى ساكت قول ولكن السكوت في معرض الحاجة بيان ) وذلك في صدد موافقة المخطوبة على زواجها , إذ أن حكم سكوت البكر وكونه موافقة يسري على القاصرة كما يسري على الراشدة , مما يوجب عرض المر عليها لأخذ موافقتها , بينما في المعاملات المالية لا يعرض الولي أو الوصي الأمر على القاصر 0
ولسيادة الإتفاق والتراضي في الزواج شأن كبير , إذ يجب أن لا يكتفي بالمساكنه المشتركة بين الزوجين , وإنما يجب أن يسود بينهما التفاهم والتراضي ولذلك قالت القاعدة الرومانية :
Nuptias non concubitus sed consensus facit
وترجمتها : ليست المساكنة المشتركة هي التي تصنع الزواج , بل التفاهم 0

ولضمان بقاء التفاهم والمودة واستمرارها بين الزوجين في حياتهما حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس من إيقاع الفتنة بين النساء وأزواجهن , إذ ورد عنه في الحديث الشريف : { ليس منا من خبّب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده }”1″ 0
ــــــــــ
(1) رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه 0

الطلاق

ولاستقرار الحياة في العش الزوجي , حذر الرسول الكريم ا لنساء من طلب الطلاق تعسفاًُ , بالحديث الشريف { إيما امرأة طلبت طلاقها من زوجها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة }”1″ 0 ولكن إذا ساءت العلاقة الزوجية وتعذّر التفاهم وغدت المعيشة بين الزوجين صعبة أو مستحيلة , فقد حلّ الطلاق , وقد جاء حكم ذلك منذ القديم 0 وفي القاعدة الرومانية القائلة :
Consensus nupteas facit dissensus divorcium facet
وترجمتها : ما صنع الاتفاق , يلغيه الطلاق 0
وعند فقهاء الشريعة الغراء لا يصح الطلاق إلا عن وعي وإدراك وإرادة حرة , وبذلك جاءت القاعدة الشرعية [ لا طلاق في إغلاق ] 0 وهي نص حديث شريف “2”” , وقد بين المطرزي في المغرب ان معنى الإغلاق هو الإكراه لأن المكره مغلق عليه أمره , وعن أبن الأعرابي أغلقه على شيء أي أكرهه , وقال أبو داوود في سنته ( الإغلاق أظنه الغضب ) ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته المشهورة لأبي موسى الأشعري حين ولاّه القضاء (إياك والغلق ) أي الضجر والقلق , ومعنى الحديث لا تطلق التطليقات كلها دفعة واحدة حتى لا يبق منه شيء , ولكن تطلق المرأة طلاق السنة , ولذلك أخذت قوانين الأحوال الشخصية باعتبار الطلقات المتعددة في مجلس واحد طلقة واحدة 0
ــــــــــ
(1) كنز العمال
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأبو بعلى والحاكم والبيهقي عن عائشة رض الله عنها0

النسب

لا يخفى على المتبصر أن النسب للإنسان صنو الروح للجسد , ولذلك احترمت الشريعة الغراء حق الإنسان في نسبه بما ورد في الحديث { الولد للفراش وللعاهر الحجر}”1″ , والمقصود بذلك أن النسب لصاحب فراش الزوجية , وهذه قرينة شرعية , وقانونية بالمعنى الحديث , وفي رأي الإمام الأعظم ابي حنيفة أن عقد الزواج وحده كافٍ لثبوت النسب إذا جاءت بالولد أمه بعد انقضاء أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من تاريخ العقد , ولم يشترط الإمام إثبات الدخول حتى ولا إمكانيته وذلك حملاً على الصلاح والتقوى وحسن السمعة وحرصاً على مصلحة الولد وشرف الأسرة بثبوت النسب وإبعاد تهمة الزنا التي يندر وجودها في المجتمع المسلم المتمسك بدينه , غير أنه يستثني , رحمه الله , من هذا الثبوت حالة استحالة الإنجاب كما لو جاءت الزوجة بولد وكان زوجها دون سن البلوغ أو كان عاجزاً لا يمكنه التناسل , وأما لدى الملكية والشافعية ورواية عن ابن حنبل فإن العقد وإن كان سبباً لثبوت النسب غير أنه لا بد فيه من الدخول أو إمكان الدخول , أما إذا استحال التلاقي بين الزوجين فإن نسب الولد لا يلحق بأبيه , وهناك رواية أخرى عن أبن حنبل تبناها ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم الجوزية تشترط إضافة إلى العقد تحقق الدخول ولا تكتفي بإمكانه , وإلى هذا الرأي ذهب بعض فقهاء الزيدية من الشيعة خلافاً للإمام الشوكاني الذي اختار رأي جمهور الفقهاء في هذا الموضوع 0
وقد سبق أن قال فقهاء الرومان بثبوت النسب للفراش في قاعدتهم التي تقول :
Pater is est nuptiae demonstrant
وترجمتها : [ الولد هو الذي يثبته عقد الزواج] 0
الولد للفراش : ما أعدل وما أجمل هذه القاعدة التي نطق بها الرسول الكريم , فهي تحفظ الأنساب , وتصون السر وترسي قواعد المجتمع السليم , وتكفل للفرد عيشاً حراً كريماً من ساعة أن يرى النور , ففيها تبدأ حياته , ومن حقه على التشريع أن يصون كرامته بثبوت نسبه الصحيح من لحظة ولادته 0
ــــــــــ
(1) متفق عليه عن عائشة ( الفتح الكبير ج3) 0

في الميراث

مما لا يشك فيه عاقل فضل الله تعالى في إقامة ميراث الأحياء من الأموات حفظاً على أسباب الحياة للأفراد في مجتمعهم , وحفظاً للثروات , وهي وسائل كسب المعيشة من الضياع , وقد جاء في حكمتين فرنسيتين :
تقول أولاهما : Lemort saisit le vif
وترجمتها : [ يمسك الميت بالحي ] 0
وتقول الأخرى : La [ersonne de lheritier est celled u mort
وترجمتها : [ شخصية الوريث هي شخصية الميت , وشبيهة بهذه الحكمة قاعدة رومانية ]
Hereditas nihil aliud est quam successis in universam
وترجمتها : الوارث خلف عام للمورث بكافة حقوقه تجاه الغير 0
ومن هذه القواعد يقوم استمرار الرابطة بين المورث وورثته في ملكية ما كان يملكه المورث , وما له من حقوق وما عليه من واجبات , ففي بعض التشريعات خاصة الشرع الإسلامي تكون الخلافة والإلتزام ضمن حدود ما آل إلى الوارث من تركة المورث , وفي تشريعات أجنبية يختلف الوضع بين قبول الوارث للتركة قبولاً مطلقاً0 وبين التقييد أو عدم القبول حسب وضع التركة المالي
وأما بالنسبة لتنفيذ الوصية وإبقاء الديون , فمن المقرر في الشرع الإسلامي والقوانين الحديثة أن الديون تستوفى من التركة ثم تنفذ الوصية بعد ذلك 00
وبهذا تقول القاعدة الرومانية : Nemo liberalis nisi liberatus
وترجمتها : [ لا يستوفي الموصى لهم حقهم إلا بعد الدائنين 0]

في إيقاع العقوبة

لاشك أن من بديهيات الأمور في القضاء الجزائي أن لا يعتبر جريمةً كل فعل يصدر عن الإنسان , بيد أن الفعل الذي يستهدف الناس في أرواحهم وأعراضهم وأموالهم , أو النيل من سلامة المجتمع وأمنه وتنظيماته التي تتولى تسيير شؤونه أو يتحدى قوانيه لا يجوز أن يبقى بدون عقاب لأن الله تعالى نزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن , ولكن المعاقبة لا يجوز أن يترك فرضها ثم إيقاعها إلى رأي القاضي , فلا بدّ من سلطة أعلى تمثل الشعب لتولي هذا الأمر , فإعطاء الوصف الجرمي لفعل ما ليس من شأن القاضي , وإنما هو شأن المشرع لذلك فإذا رأى المشرع أن فعلاً ما يشكل جرماً , فإنه يقرر ذلك بقانون يصدره فيحدد الجرم كما يحدد عقوبته , ولذلك أتى الرومان منذ القديم بالقاعدة التالية :

Nullum crimen sine lege , nulla poena sine lege
وترجمتها : [ لا جريمة بلا قانون , ولا عقوبة بلا قانون0]
وفي الحدود والقصاص في الشريعة الإسلامية تطبيق سامٍ لمثل هذه القاعدة التي تتفق مع تكريم الخالق لعباده , وستظل قاعدة أبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها 0
وبمقابل هذه القاعدة , نجد قاعدة يقع عبء تطبيقها حتى على الفرد العادي بوصفه عضواً في المجتمع , إذ من المفروض فيه أن يكون مستقيماً في سلوكه تجاه الآخرين في مجتمعه , وتجاه الدولة , ولذلك لا تقبل منه معذرة بالجهل بالقانون , وقد قالت القاعدة الرومانية : Nemo legem ignorare censitur وترجمتها : [ لا يفترض في أحد الجهل بالقانون 0]
ومن المعروف أن فقهاء الشريعة قالوا منذ القديم بأنه لا يقبل الجهل بالأحكام في دار الإسلام , وقد أورد هذه القاعدة قانون المعاملات المدنية في مادته التاسعة والعشرين بالنص التالي[ الجهل بالأحكام الشرعية ليس عذراً ]0

كما وردت في الفقه الفرنسي بالنص التالي :
Rersonne n’est cens’ee ignorer la loi
وترجمتها : [ لا تقبل من أحد معذرة جهل القانون 0]
ومن جملة القواعد , ما يتعلق منها بإعفاء المجرم من العقاب إن كان فاقد الأهلية العقلية , لأن مناط المسؤولية هو سلامة العقل والإدراك 0 ولذلك تقول القاعدة الرومانية :
Quae enim in eo culpa sit , cum suae non sit
وترجمتها : [ من يرتكب جريمة دون رشد , لا يكون مسؤولاً ]0
وبالطبع فإن إعفاءه من العقوبة الجزائية لا يمنع من إلزامه بالتعويض المدني وتحصيل ذلك من ماله إن كان له مال 0
ويجدر التنبيه على أن هذه القاعدة لا يقتصر تطبيقها على الميدان الجزائي وإنما هو حكم عام في كافة القضايا 0
وفي حالة معاقبة الإنسان على فعل مدان جزائياً يكتفي منه بملاحقته ومعاقبته مرة واحدة , ولا يجوز معاقبته ثانية , وبهذا قالت القاعدة الرومانية :
Non bis in idem
وترجمتها : [ لا عقوبتين لنفس العمل ]0

المحاكمة الجزائية

تتصدر قواعد هذا الفصل القاعدة القائلة [ كل انسان بريء حتى يدان بحكم ] وهي قاعدة إنسانية واجتماعية , تتفق مع كرامة الإنسان وتعتبر تطبيقاً لما أمر به الله تعالى في كتابه الكريم في سورة الحجرات : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } 0
وكفى بذلك تحذيرا للناس من الإتهامات الباطلة 0

ومن القواعد الرومانية القاعدة القائلة :

Electa una via , non datur recursus ad alteri
وترجمتها : [ اختيار طريق واحد لايجيز الرجوع إلى غيره ]0
ولازالت هذه القاعدة تطبق في معظم قوانين الإجراءات الجزائية في العصر الحديث , وهي انه إذا اختار المضرور من جريمة الطريق المدني للحصول على التعويض عما أصابه من ضرر فلا يحق له الرجوع إلى الطريق الجزائي 0
وفي إقامة الدعوى الجزائية , توجد القاعدة الفرنسية التي تقول :
Ad’efaut de peaignant , pas de juge

وترجمتها : [ إذا لم يوجد شاكٍ , فلا قاضي] 0
ومعلوم أن الشاكي أو المشتكي إما أن يكون المضرور نفسه الذي يبلغ النيابة العامة وهي تتولى بدورها إقامة الدعوى الجزائية بصفة الإدعاء العام التي تتمتع بها دفاعاً عن المجتمع لأنها تمثله , وإما أن تقوم النيابة مباشرة بالإدعاء بهذه الصفة , وقد يضيف المشتكي نفسه إلى الدعوى العامة مدعياً بالحق المدني , حتى أنه لو سقطت الدعوى العامة بالعفو العام يظل يتابع دعواه المدنية أمام المحكمة الجزائية يطلب التعويض , وهناك بعض الدعاوي تتوقف فيها الدعوى العامة على إقامة المضرور نفسه مدعياً شخصياً , وبعضها تسقط بإسقاط الحق الشخصي0
وفي أنظمة النيابة العامة قاعدة فرنسية تقول :
La plume est serve , la parole est libre
وترجمتها : [ القلم عبد , واللسان طليق ] 0

ذلك أن هذه المؤسسة تتبع أسلوب التسلسل في أعمال النيابة , فعضوها الأعلى درجةً بأمر الأدنى درجةً مثلاً بإقامة الدعوى بأمر خطي , وعلى هذا أن يطيع هذا الأمر , ولكـن بعد إقامتها وفي أثناء المحاكمة وحين يبدي مطالبته فيها لا يتقيّد بالأمر ويستطيع أن يطلب البراءة إذا رأى ما يوجبها 0
وفي الأعراف القضائية القديمة في فرنسا كانت توجد قاعدة تحظر التوكيل في المرافعة إلا الملك , لأنه نائب عن المجتمع , فله أن يوكل من أتباعه من يشاء إذ تقول القاعدة :
Nul ne plaide par procureur , hormis le roi
وترجمتها : [ لا يرافع أحد بواسطة وكيل , باستثناء الملك ]0

ولا تزال هذه القاعدة مطبقة في المحاكمات الجزائية العصرية على نطاق أضيق إذ يتوجب على المتهم الذي يحاكم وجاهياً حضوره حتى يقبل حضور محاميه , فإذا ما غاب لا يقبل حضور محاميه , باستثناء الدعوى الجزائية البسيطة التي يعاقب فيها القانون بالغرامة أصلاً دون الحبس , وقد ألمعنا إلى ذلك فيما سبق 0

الإعفاء

ونأتي الآن إلى قاعدةٍ أمّ تواجه القضاة الجزائيين , وكل من بيده أمر فرض أية عقوبة بدنية أو مالية أو مسلكية أو أي تدبير جزاء فعلٍ غير مشروع , وهي القاعدة التي سنها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف , ألا وهي { ادرءوا الحدود بالشبهات , فلأن يخطيء الأمام في العفو خير له من أن يخطيء في العقوبة }”1″ 0 ويعرف الفقهاء الشبهة بأنها ما يشبه الثابت وليس بالثابت , كشبهة المالك في سرقة المال المشترك , فالشخص الذي يسرق مالاً يشترك في ملكيته مع الآخر يدرأ عنه الحد لأنه لم يأخذ مالاً خالصاً لغيره , وإنما أخذ مالاً مشتركاً يشارك في كل جزئية من جزئياته 00 وهذه المشاركة تعتبر شبهة في الملك , ومعلوم أن السرقة لا تقع إلا على مال الغير , وإلى هذا ذهبت تعريفات قوانين العقوبات إلى أن السرقة هي أخذ مال الغير بدون رضاه 0

وكذلك الشبهة في البينة أو شبهة عدم الثبوت و فالشخص الذي يعترف بارتكابه جريمة من جرائم الحدود ثم يعدل عن هذا الاعتراف فإن العدول يعتبر شبهة في عدم الثبوت ويترتب عليه درء الحدّ المثل الشهير على ذلك هو اعتراف ماعز حينما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعترف أمامه بارتكابه الزنا ويريد أن يتطهر , فقد روى مسلم : { أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني زنيت وأريد أن تطهرني , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إرجع واستغفر الله وتب إليه و فرجع 00 وجاء من الغد فقال له مثل ذلك , فرده النبي صلى الله عليه وسلم , فلما كان اليوم الثالث جاء فقال مثل ذلك فردّه النبي صلى الله عليه وسلم , وأرسل إلى قومه وسألهم عنه لعلّ به جنوناً فقالوا : ما ننكر من عقله شيئاً , فعاد المرة الرابعة واعترف بالزنا وقال : يا نبي الله طهرني , فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحفروا له حفرة وجعلوه فيها إلى صدره وأمر برجمه فرجموه حتى مات 00 فقال رسول الله عليه وسلم : استغفروا لماعز لقد تاب توبة لو قسمت بين أمةٍ لوسعتهم } “2” 0
ــــــــــ
(1) الترمذي والحاكم والبيهقي 0
(2) رواية مسلم عن بريدة 0

وسبب هذه القاعدة الإنسانية العادلة , التي يتقبلها العقل وبرضاها الضمير بكل ارتياح هو أن القانون يحمي الوضع الظاهر , ومن يدعي خلاف الظاهر فعليه إثباته , وقد عرفت الشريعة الإسلامية هذه القاعدة بهذا الشكل الرائع قبل أن تعرفها غيرها من التشريعات , فاعتبرت أن الأصل براءة الذمة , وبقاء ما كان على ما كان , والأصل في الصفات العارضة العدم , ولا يزول اليقين بالشك , ثم أوجبت التشريعات الحديثة على القضاة أن لا يحكموا إلا بالدليل اليقيني القاطع , وإذا قضوا بناءً على اعتراف فيجب أن يكون هذا الاعتراف مطابقاً للواقع وخالياً من أية شبهة وغير مقترن بإكراه مادي أو معنوي 00 ولذلك ففي محاكم الجنايات القائمة على نظام المحلفين إذا حازت البراءة وحازت الإدانة عدداً متساوياً من الأصوات تحكم المحكمة بالبراءة ولا يصح أن يقال إن البراءة لم تثبت بدليل يقيني فهي الأصل والرجوع غليها هو الرجوع إلى الأصل 00 والأصح أن يقال إن الإدانة لم تثبت بدليل يقيني 00 وقالت القاعدة الرومانية : In dubio pro reo وترجمتها : [ في حالة الشك يقضي بالبراءة ]0
ويلي تلك القاعدة من حيث النتيجة في التطبيق القاعدة [ الضرورات تبيح المحظورات ]0 وهي الواردة في المادة الحادية والعشرين من المجلة والمادة الثانية عشر بعد المائتين في فقرتها الأولى من العراقي والمادة الثانية والعشرين بعد المائتين من الأردني , والمادة الثالثة والأربعين من المعاملات , وتقتصر في شرح الجزء الجزائي من تطبيقها في هذا الباب , وقد عمد الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عدم قطع يد السارق عام المجاعة نظراً لحالة الضرورة , ودرء الحد لشبهة المجاعة , وشبيه بها القاعدة الفرنسية القائلة : N’e cessit’e n’a pas de loi وترجمتها : [ في الضرورة , لا قانون 0 ]
ولا نرى يأساً من أن نورد في المتفرقات من هذا الباب المثل الفرنسي القديم , الذي قبل في عهد ما قبل الثورة الفرنسية الكبرى وهو :Qui vole un oeuf vole un boeug وترجمتها : [ من يسرق بيضة يسرق ثوراً ] 0

وقد أطلق هذا المثل حتى لا يتراخى القضاة في مجازات السارق بداعي وضاعة المال المسروق , وشبيه بهذا المثل , المثل العامي السائد في بلاد الشام (اللي يسرق بيضة بيسرق جمل ) 0 على أن القوانين الجزائية الحديثة أعطت للقاضي صلاحية تخفيض العقوبة لتفاهة المال المسروق 00
وهناك قاعدة رومانية قديمة كانت تقول : Volenti non fit injuria
وترجمتها : [الرضا لا يصنع جريمة 0]
والمقصود أن رضا الضحية برفع العقوبة عن المجرم , ومثلها ما إذا طلب مريض يائس من شفائه من الطبيب أو من شخص آخر أن يعطيه سماً , فلا عقوبة على الفاعل , وكذلك الفقير المعدم أو من كان في حالة كره فيها حياته إذا طلب قتله لا يعاقب قاتله , هذه القاعدة انقرضت من زمن بعيد , خاصة بالنسبة للإنتحار والإسلام حرمه كما أن القوانين عاقبت من يحرض إنساناً على الانتحار 0
على أن الرضا الحاصل بعد وقوع الجريمة , وهو ما يكون من قبيل الصفح أو الصلح قد يكون له تأثير على العقوبة إما بتخفيفها قانونياً , أو تقديرياً في مختلف الجرائم 00 أو حتى بإسقاطها في الجرائم الخفيفة وخاصة ما يتوقف الإدعاء العام فيها على الإدعاء الشخصي 0

في الإدارة

أول ما وجدناه من قواعد في أسس الحكم والإدارة القاعدة الواردة في المادة الثامنة والخمسين من المجلة والمادة الثالثة والثلاثين بعد المائتين من الأردني والمادة الثامنة والخمسين من المعاملات ونصها : [ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة ] 0 فهي خير توجيه يقيم إتباعه أساس الحكم العادل قال ابن القيم الجوزية في كتابه ( الطرق الحكيمة ) : إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض , فإن ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثمّ شرع الله ودينه , والله سبحانه أعلم وأحكم أن يخص طرق العدل وأماراته 00
وهذه القاعدة الهامة ذكرها بعض الفقهاء منهم ابن نجيم والسيوطي , وعلّق ابن نجيم على ذلك بقوله ( إذا كان فعل الإمام مبنياً على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة لم ينفذ أمره شرعاً إلا إذا وافق الشرع , فإن خالفه لم ينفذ ) 0
قال المصنّف رحمه الله في شرح الكنز ناقلاً عن أئمتنا/ طاعة الإمام في غير معصية واجبة , فلو أن الإمام أمر بصوم يومٍ واجب ـ /ابن نجيم1/157ـ 158/ والسيوطي /83/ ـ ذلك كأن للإمام ولاية نظارة على عموم الرعية في الأمور العامة , وإناطة تصرفاته بالمصلحة مردها أن السلطان إنما أعطي السلطة من الله تعالى لأجل صيانة دم عباده ووقاية عرضهم وأموالهم , وقد أتت القاعدة بصيغة المصدر المحذوف فاعله لتنفيذ التعميم 0
وتسري القاعدة على من ينيبه السلطان كالقاضي والوالي والوصي وناظر الوقف , وكذلك كل من ولي أمراً سواء كانت ولايته عامة أو خاصة ولعلها جاءت من الحديث الشريف { من ولي من أمور هذه الأمة عملاً فلم يحطها ينصح لم يرح رائحة الجنة }”1″ 0
ــــــــــ
(1) كنز العمال

ومن تطبيقاتها أن للوالي أن يعطي من طريق الجادة أحداً ليبني عليه إذا كان لا يضر بالعامة فإن كان يضر فليس له ذلك , وبالمقابل للسلطان أن يجعل ملك الرجل طريقاً عند الحاجة على أن يؤدي ثمنه , وهذا ما يعرف في القوانين المعاصرة بالاستملاك للمنفعة العامة مقابل تعويض عادل ومن الأمثلة انه لا يجوز للقاضي أن يصرف فائض وقف لوقف آخر اتحدّ واقفهما أو اختلفا بل له أن يشتري بالفائض مستغلاً للوقف الفائض عنه , ومثل ذلك أن حوالة الولي بمال الصغير لا تصبح إلا إذا كان المحال عليه أملأ عليه من المحيل , وكذلك لا يصح صلحه إذا كان فيه ضرر , والقتيل الذي لا وارث له ليس للسلطان أن يعفو عن قاتله لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم والسلطان نائب عنهم , وترك العشر لصاحب الأرض لا يجوز , لأنه إضاعة حقٍ من بيت المال إلا إذا كان لفقير فيجوز تحويلاً من بيت مال الخراج لبيت مال الصدقة , أما إذا كان لغنيّ فيضمنه السلطان من ماله لبيت المال , وفي الحقوق الدستورية المعاصرة لا يجوز لمجلس الأمة أو المجلس التشريعي أن يسنّ القوانين المخالفة للدستور , وقد ضمنت القوانين الحديثة دفع ضمنت القوانين الحديثة دفع جور ذوي السلطان بإقامة المحاكم , ومن واجب السلطان أن يسوّي في العطاء المرعية , ونلفت النظر أخيراً في مجال التصرف على الرعية وإناطته بالمصلحة إلى قاعدة تعدّ بديهية , ولذلك لم يرد ذكرها بين القواعد في أي تشريع , وهي أن [ الأصل في الأشياء الإباحة ] وهي تطبق في كافة الأمور الدينية أو في الأمور الدنيوية , وسواء أكانت الأمور الدنيوية تتعلق بالقضايا المدنية أو قضايا المعاملات بين الناس أو في القضايا الجزائية , لأن الأصل في الإنسان أن يكون بريئاً حتى يدان بحكم , وكذلك تطبق في علاقة المحكوم بالحاكم , على أنه لا يجوز للفرد أن يتجاوز حدود الإباحة إلى ما يؤذي المصلحة العامة أو مصلحة الغير ’ أو ما يتعرض لحدّ من حدود الله تعالى 0

ونأتي بعد ذلك على قاعدة [ القديم يترك على قدمه ] الواردة في المادة السادسة من المجلة , وهذه القاعدة تؤمن في التطبيق استقرار الأمور وصيانتها من العبث وتحترم حقوق الناس , وقد عرفت المادة (166) من المجلة القديم بأنه هو الذي لا يوجد من يعرف أوله , فمنتهى الوقت الذي يعلمه الناس يعتبر حداً للقدم , وسبب هذه القاعدة لغلبة الظن أن القديم ما وضع إلا بوجه مشروع , وهو يترك على حاله لحسن الظنون بالناس , على أنه إذا قامت الحجة على أنه لم يكن مبنياً على سبب شرعي فإنه لا يترك على قدمه بل يزال إذا كان فيه ضرر فاحش

ومن تطبيقات هذه القاعدة أن الوقف القديم الذي جهل مصرفه وشروطه ينظر إلى المعهود من حاله فيما سبق ويعمل بحسبه , وكذلك لو كان لدارٍ مسيل على دار الجار من مدة لا يدركها الأقران كان ذلك المسيل قديماً , فليس للجار منعه 0 وتفصل دعاوي حق الشرب وحق المرور وحق المسيل , وهو ما يعرف في التشريعات الحديثة بحقوق الإرتفاق ـ توفيقاً لهذه القاعدة , وليس لصاحب الحق نفسه أن يحوله من جهة إلى جهة أو يصرف الممر إلى دار أخرى إلا إذا أذن له جاره لأن جاره هو نفسه يخالف القاعدة , ويتشرط في اعتبار التصرف القديم أن يكون ما يتصرف به قائماً في يد المتصرف على حين الخصومة , بل يكفي أن يثبت المدعي وجوده في يده قبلها وأن المدعى عليه أحدث يده عليه ومنع المدعي منه , لأن اليد الحادثة لا عبرة لها بل العبرة لليد الحقيقية , ثم إذا جهل حال المتنازع فيه ولم يعرف هل هو قديم أو حادث , فالأصل فيه أنه إذا كان في طريق خاص يعتبر قديماً حتى يقوم الدليل على خلافه , وإن كان في طريق العامة يعتبر حديثاً , ولولي السلطة أن ينقضه 0
ولو ادعى أحد الخصمين الحدوث وادعى الآخر القدم فالقول قول من يدعي القدم والبينة بينة من يدعي الحدوث , ولو ادعى أحد الخصمين الحدوث ودفع الآخر بمرور الزمن فمن منهما يكلف بالبينة 00؟ هناك خلاف , ولكن الأوجه أن تقدم بينة مدعي مرور الزمن ذلك لأنه يدعي عدم صلاحية القاضي لرؤية الدعوى عليه 0

ومن القواعد التوجيهية التي ترسم للراعي خطط إنشاء مؤسسات لخدمة الرعية القاعدة التي تقول [ مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ] وقد انفرد قانون المعاملات المدنية للإمارات العربية المتحدة في تخصيص مادته الثانية والثلاثين لهذه القاعدة , وهي قاعدة جوهرية , وما أكثر أمثلتها , فمثلاً فيما يتعلق بالقانون العام إذا كان واجباً إقامة العدل بين الناس فقد صار واجباً على ولي الأمر إنشاء المحاكم وتعيين القضاة لأنه لا تتم إقامة العدل إلا بإنشاء المحاكم , وإذا كان واجباً على ولي الأمر صيانة أرواح الرعية وأموالهم فواجب عليه إنشاء دوائر الأمن والشرطة لأن الصيانة المطلوبة لاتتم إلا بهذا الإنشاء , وإذا كان العلم فرضاً فقد فرضت إقامة المدارس وتعيين المعلمين إلى آخر ما تقتضيه المصالح , وفيما يتعلق بالقانون الخاص إذا ك ان فرضاً على المرء أداء الأمانة ففرض على الوديع أن يؤمن للودية حرزاً تحفظ فيه , وإذا كان فرضاً على الشريك إلاّ يخون شريكه فقد غدا فرضاً أن يمسك قيداً ويسجل فيه بكل أمانة حقوق شريكه 00 وأخيراً إذا كان واجباً على المرء أن يقول الحق فواجب عليه أن يشهد بما رأى وسمع مباشرة حين يدعى على الشهادة عملاً بقوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } 0 وكذلك بقول رسوله صلى الله عليه وسلم :{ إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع }”1″ وهكذا 000 لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويتبعه الحكم 0
وعلى سبيل الإستطراد نورد القاعدة المناظرة لها وهي [ ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام ] , فإنشاء دار للدعارة حرام لأن الفاحشة وهي الزنا ترتكب فيها وكذلك دور المقامرة , فالعمل قد لا يكون بحد ذاته حراماً , ولكن إذا كانت إقامته بقصد الوصول إلى فعل ما هو محرم فهو يصبح حراماً 00 فبناء دار بحد ذاته ليس حراماً ولكن إذا بنيت بقصد فتحها لترويج وممارسة البغاء فقد غدا بناؤها حراماً وهكذا 00
ــــــــــ
(1) رواه أبو نعيم وابن عدي والحاكم وصححه
وهنا نعود للإستظلال بظل قيام الأحكام على النوايا عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريءٍ ما نوى }”1″
ومن القواعد التوجيهية التي تسد الذريعة إلى إرتكاب الحرام قاعدة : [ ما حرم فعله حرم طلبه ] الواردة في المادة الخامسة الثلاثين من المجلة , لأن السكوت على الحرام والتمكين منه حرام ومكروه , فمن باب أولى طلبه 00 لذلك حرمت القوانين افتتاح دور الدعارة , كما حرمت الكتب والنشرات التي تحرض على الفاحشة وحرمت على الموظفين طلب الرشوة وعلى الراشين التوسط لها 0
وكذلك تحليف الكاذب اليمن ممنوع أصلاً إذا تيقّن كذبه ويستثنى من ذلك ما لو ادعى أحد دعوى صادقة فأنكر المدعى عليه فله طلب تحليفه اليمين على نفي الدعوى , وعلة هذا الإستثناء وجود أمل بالنكول وعندئذٍ يصل المدعي إلى حقه , فرجاء الوصول إلى الحق يبرر الطلب وليس رجاء الإقدام على حلف يمين كاذبة
ومن تطبيقات هذه القاعدة أنه لا تسمع دعوى من ارتكب فعلاً محرماً أو ارتكب غشاً ليصل إلى حق يدعيه , إذ ليس للإنسان أن يستفيد من غشه لأن من حرم عليه فعلً ما حرم عليه أن يطلب ما يحقق له ثمرة هذا الفعل , وقد وردت بذلك قاعدة لاتينية تقول : Nemo auditor propriam turpitudinem
وترجمتها : [ لا يسمع طلب من يستند إلى الغش الذي إرتكبه بنفسه ] 0
فالشارع لا يعين مبطلاً , كما لا يعين على إبطال الحق 0
وشبه بهذه القاعدة الواردة في المادة الرابعة والثلاثين من المجلة والتي تقول [ما حرم أخذه حرم عطاؤه] وقد عالجناها في الفصل الخاص يكسب الملكية , ونعود إليها في هذا الفصل لأنها أيضاً قاعدة توجيهية يستفيد منها الحاكم في إدارته بالحكم فلا يعطي المحكومين ما يحرم عليهم أخذه لأن من المقرر شرعاً أنه كما لا يجوز فعل الحرام لا يجوز التشجيع عليه أو الإعانة عليه لقوله تعالى :
{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }”2″0
ــــــــــ
(1) متفق عليه 0
(2) المائدة /2/0

تحقيق المصلحة

هناك مجموعة من القواعد التي تدير شؤون الرعية في علاقاتهم ومعاملاتهم مع بعضهم يتولى المشرع تطبيقها في تشريعه والقاضي في قضائه ورجل الإدارة في إدارته , ومنها القاعدة الواردة في المادة السادسة والأربعين من المجلة ونظيرتها في المادة السابعة والعشرين بعد المائتين من الأردني , ونصها هو التالي : [ إذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع ] وقد أضافت المجلة مثلاً لنص القاعدة هو ( وبناءً عليه ليس للمراهن أن يبيع المال المرهون عند دائنه من آخر ) وهو مثل تطبيقي لهذه القاعدة , لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات , ذلك أن المانع في بعض الصور قد يكون لعلة اقتضت ترجيحه على المقتضى , فإذا كان من المقتضى أن يتصرف المالك في ملكه غير أنه لا يسوغ له هذا التصرف إذا تعلق فيه حق الغير كالمرتهن أو الحاجز , أو إذا كان يضرّ بجاره ضرراً بيناً فلا يجوز للإنسان أن يستعمل ملكه بصورة تضر جيرانه كالدق والخبط في بنائه بحيث يهزّ بناءهم , كما لا يجوز له إبقاء نار يشيع دخانها ورائحتها فتؤذيهم في سكناهم , ومن تطبيقات ذلك أيضاً لدى فقهاء الشريعة أنه لا يجوز للإنسان أن يعمّق في حفر بئره إذا أدى ذلك إلى التأثير على مستوى المياه الجوفية التي لغيره الحق في الإستفادة منها , وكذلك لو أوقد امرؤ ناراً في أرضه في يوم تعصف فيه رياح شديدة فانتقلت النار بسبب الرياح إلى الأرض الجار فأحرقت فيها بيدراً كان موقد النار في هذه الحالة ضامناً , ولا يقال إنه استعمل ما يقتضيه حقه في ملكه , فتعارضه مع منع الأذى عن الجار جعل المانع مقدماً على المقتضى , وقد سمى علماء الحقوق الحديثون ذلك بنظرية التعسف في استعمال الحق وصيغت بها موادّ في القوانين الحديثة في ثلاثينات القرن العشرين وما تلاها واعتبروا نظريتهم هذه فتحاً مبيناً في عالم الفقه الحقوقي مع أن فقهاء المسلمين سبقوهم على ذلك ببضعة عشر قرناً يوم أن كان الغرب يغوص في لجة مـن النظريات الأنانية التي تعتبر حق الملكية حقاً مطلقاً لا يقيده قيد ولا يجده حد

حتى أنه لم يتحرر من هذه النظريات يوم صدور القانون المدني الفرنسي في مطلع القرن التاسع عشر وهو أول القوانين الحديثة , ويعتبر ذلك تطبيقاً للحديث الشريف ( لا ضرر ولا ضرار ) وهو القاعدة المشهورة في الباب الخامس 0
وبالعودة إلى قاعدة تقديم المانع على المقتضى في العبادات حكم منع الزوج من إتيان زوجته في حالة الإحرام 00 ومنع النساء من صلاة الجماعة في زماننا هذا سداً للذرائع , هذا ونوضح على سبيل الدقة أن تطبيق هذه القاعدة يكون في الرتبة والاعتبار بتقديم المانع على المقتضى لا في الزمن 0

غير أن للقاعدة استثناءات , للضرورة , منها أنه لأحد الشريكين في العقار أن يسكنه في غيبة شريكه , ويكون للشريك الغائب بعد عودته أن يسكن نظير ما سكن شريكه أو أن يستوفي أجر المثل منه , ومنها تجويز المستأجر على العمل في عين أن يستأجر غيره , وكذلك بيع ثمر الكرم المشترك بين حاضر وغائب أو بالغ ويتيم وحفظ حصة الغائب أو اليتيم حتى لا يتعرض الثمر للتلف , وكذلك بيع البضاعة الموجودة تحت الحراسة في المحكمة لنفس الغاية , وأيضاً تجويز تعمير العقار المشترك صوناً له فالمقتضى يقدم في هذه الأحوال على المانع للضرورة0
ثم نأتي إلى قاعدة هامة , هي قاعدة [ المشقة تجلب التيسير ] الوارد نصها في المادة السابعة عشر من المجلة , وهي قاعدة أساسية في كل نواحي الحياة , وواجب تطبيقها على كل من بيده أمر, سواء كان متسرعاً , أو حاكماً , أو إدارياً أو قاضياً , أو حتى فيما بين المتعاقدين المدنيين أو فيما بين الجناة والمجني عليهم لأن التيسير من أحكام الإسلام من أحكام الإسلام العامة , ومن صفات فروض العبادة وسائر التكاليف 00
فقد جاء في القرآن الكريم { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }”1″ ,
ــــــــــ
(1) البقرة /185/

وجاء { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }”1″0
وجاء في الحديث الشريف { أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة , يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا}”2″ 0 وجاء في معرض تفسير سورة الإنشراح [ لن يغلب عسر يسرين ] 0
وتعني هذه القاعدة أن الصعوبة تعتبر سبباً للتسهيل ويلزم التوسيع في وقت الضيق , ويتفرع على هذا الأصل من الأحكام الفقهيه كالقرض والحوالة والحجر وغير ذلك , وما جوّزه الفقهاء من الترخيص والتخفيفات في الأحكام الشرعية هو من هذه القاعدة , ويدخل في تطبيق هذه القاعدة سبعة فروع :
أولاً الإكراه : فلا أثر لتصرف جرى تحت الإكراه المادي او المعنوي , ملجئاً أو غير ملجيء 0
ثانياً الجهل : فلو علم الشفيع وجهل الثمن أو جهل المشتري على شفعته , وكذلك التناقض في محل الخفاء فيعتبر عفوا ولا يمنع من الدعوى 0
ثالثاً العسر وعموم البلوى : لذلك جوّز الفقهاء بيع السلم على خلاف القياس دفعاً لحاجة المفاليس , وخيار الشرط للتروي دفعاً للندم والبيع بالوفاء , واستئجار البائع الدار من المشتري وفاءً , وخيار نقد الثمن دفعاً للمماطلة والرد للعيب والتحالف وللغبن الفاحش والحجر والوكالة والمزارعة والمساقاة للحاجة وكذا عزل القاضي وأي صاحب وظيفة لتيسير أمور الناس تجاه ما يجلبه القاضي أو الموظف على العباد , وكذلك مشروعية الوصية في ثلث المال عند الوفاة ليتدارك الإنسان ما فاته في حياته وأبقى المشرع الباقي من التركة رحمةً بالورثة , وأخيراً جواز نكاح المرأة التي لم يرها الخاطب 0
ــــــــــ
(1) البقرة /280/
(2) كنز العمال

رابعاً النقص : ومنه عدم تكليف الصغير والمجنون وتفويض الأمر لوليهما , وعدم تكليف النساء مما يجب على الرجال 0
خامساً السفر : ومنه تحميل شهادة الشاهد لغيره , أي نقل الشهادة 0
سادساً المرض : استشهاد الشاهد المعذور لمرض أو غيره في بيته , والصلاة قعوداً أو استلقاءً لمعذرة المرض , والإفطار في السفر والمرض والعجز , والإعفاء من الجندية الإجبارية 0
سابعاً النسيان : وهو عذر يؤدي إلى سقوط الإثم في حقوق الله تعالى , أما في حقوق العباد فيعتبر شبهة لدرء العقوبة , وكذلك لا يؤاخذ المرء إن نسي ما عليه من دين حتى مات وكذلك إذا نسي ثمن المبيع و بخلاف ما إذا كان بنيّة الغصب 0
ولأهمية هذه القاعدة وما يتفرع عنها أو يقاربها ننقل ما قاله عنها الشافعية شعراً :
خمس مقررة قواعد مذهــب للشـافعي فكـن بهن خبيراً
ضرر يزال , وعادة قد حكّمت وكذا المشـقة تجلب التيسرا
والشكّ لا ترفـع به متيقنــاً والنية اخلص إن أردت أجوراً
ويترفع عن هذه القاعدة قاعدة تليها في الترتيب أوردتها المجلة في مادتها الثامنة عشر بالنص التالي [ إذا ضاف الأمر اتسع ] وأضافت إلى ذلك شرحاً لها بعبارة ( يعني أنه إذا ظهرت مشقة في أمر ب=يرخص فيه ويوسع ) , وميدان تطبيقها أنها تجري في ما ليس فيه نص صريح , وإلا فلا تقابل المنصوص عليه وأمثلتها ما لو تحقق عسر مديون لا كفيل له فيرخص له بالتأدية وقت اليسر عملاً بقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة على ميسرة }”1″
كما أنه لو ثبت على عدم إقتداره على دفع الدين جملة واحدة يرخص له بتأديته تقسيطاً , وقد نصت على ذلك المادة 916 من المجلة والمادة 344 من القانون المدني السوري والمادة 359 من قانون المعاملات المدنية للإمارات العربية المتحدة وكثير غيرها 00
ــــــــــ
(1) البقرة /280/
وفي تطبيق هذه القاعدة يوجد مجال واسع في حالات الضيق التي تحل بالمواطنين فيتعين على ولي الأمر أن يخفف عنهم كما في أحوال الحروب والزلازل والفيضانات , ولذلك تتخذ الدول إجراءات كثيرة لتخفيف العبء عن مواطنيها بل والتعويض لهم عما أصابهم من ضرر 0
وفي السير على درب التيسير ورفع الحج وتدارك الضرورة نقف على قاعدة [ الضرورات تبيح المحظورات ] وقد وردت في المادة الحادية والعشرين من المجلة والمادة الثانية والعشرين باد المائتين من الأردني , وقد أخذها الفقهاء من الآية الكريمة { إلا ما اضطررتم إليه }”1″ 0 وبفضل هذه القاعدة تعامل الأمور الممنوعة معاملة الأمور المباحة , لأن الضرورة من الإعذار المرخصة لإجراء الفعل الممنوع , وشرط هذا الترخيص هو قيام حالة الأضرار , والإضطرار هو الحاجة الشديدة بحيث أن تكون المحظورات دون الضرورات شدة أما إذا كانت أكثر منها فلا يجوز إجراؤها ولا تصبح مباحة إذ لا يباح المحظور إذا زاد عن الضرورة , وسنعود إل ذلك في القاعدة المقبلة , ومن تطبيقاتها جواز أخذ مال الممتنع عن أداء الدين بغير إذنه , وإتلاف مال الغير بإكراه ملجأ يعتبر عذراً للمكره ( بفتح الراء) كما إذا هجمت دابة على شخص ولم يستطع من رها إلا بقتلها فيجوز له قتلها ولا يضمن , وكذلك يسوغ لولي الأمر هدم الأبنية المجاورة للحريق منعاً لسريانه , وكذلك منع المصاب بالأمراض الوبائية من مخالطة الناس خوفاً من أن يسري الوباء إليهم , وهذا ما يسمى حديثاً بالحجر الصحي , وكذلك رمي شيء من حمولة السفينة المشرفة على الغرق تخليصاً لنفوس الركاب , وقد جوزت ذلك قوانين التجارة البحرية الحديثة واعتبرته عذراً معفياً من التعويض , ورخصة الإضطرار على ثلاثة أنواع :

1- الاضطرار المبيح من قبيل الاستثناء من التحريم كإباحة أكل الميتة أو لحم الخنزير أو شرب الخمر إنقاذاً للنفس إذا تيقن للمرء الهلاك , حتى أنه لو امتنع المضطر فمات أو قتل يؤاخذ لأنه رمى نفسه بالتهلكة 0
ــــــــــ
(1) الأنعام /119/

2- نوع لا تسقط حرمته ولكن يرخص فيه , فالرخصة تغير حكم الفعل وهو المؤاخذة ولا تغير وصفه , والإمتناع عنه أفضل , ولكنه لو امتنع ففعل لا يؤاخذ بل صار مأجوراًُ كإتلاف مال المسلم أو القذف في عرضه أو إجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب شريطة أن يكون الإكراه تاماً أو ملجئاً وكذلك نظر الطبيب إلى العورة للمداواة 0
3- نوع لا يباح ولا يرخص أصلاً لا بالإكراه التام ولا بخلافه , كقتل المسلم وقتل عضو منه بغير حق والزنا وضرب الوالد فالقاعدة لا تتناول هذا النوع بل هو مستثنى منها 0
ومن قواعد هذا الباب قاعدة [ الضرورات تقدر بقدرها ] الواردة في المادة الثانية والعشرين من المجلة , وقد جرى بحثها في الفصل الأول من الباب الخامس فليرجع غليها , إلا أننا نعود إليها في هذا الباب تنبيهاً على أنه لا يحق للإنسان أن يتجاوز مقدار الضرورة في خروجه على القواعد العامة التي تحفظ لكل إنسان حقوقه وتصونها له في عقله وبدنه وماله , وقد ذكرنا لها تطبيقات في الحقل المدني , ونضيف لها هنا في الميدان الجزائي تطبيقاً في حالة الدفاع المشروع عن النفس أو المال , والذي تعتبره قوانين العقوبات عذراً محلاً , فلو تعرض إنسان لهجوم من آخر بسلاح قاتل , ولم يجد مناصاً من التخلص منه أو إنقاذ حياته إلا بقتله فقتله كان معذوراً وأعفى من العقاب , ولكنه لو استطاع أن يتخلص منه بوسيلة ما , بأن تمكن من أخذ سلاحه أو تهيأ له من تمكن من المهاجم وأبعده عنه فلا يسوغ أن يستفيد من العذر إذا قتله بعد ذلك لأن الضرورة تقدر بقدرها 0
ومن قواعد تحقيق المصلحة قاعدة [ الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة ] , وهي الواردة في المادة الثانية والثلاثين من المجلة , وقد علّمنا الفقهاء جزاهم الله عنا كل خير أن الضرورة هي الحاجة الملجئة إلى ما لا بدّ منه , ولها أحكامها كما سلف بيانه , أما الحاجة فهي ما يستدعي تسهيلاً للأمور ولكنها دون الضرورة 00

وأعقبها في نص المجلة مثل هو ( ومن هذا القبيل تجويز بيع الوفاء , فإنه لما كثرت الديون على أهل بخارى مست الحاجة إلى ذلك فصار مرعياً) , فالحاجة إلى تسهيل أمور الإقراض بضمان ما يسمى بالبيع بالوفاء دعت إليه , فاشتراط بيع منافع المبيع للمشتري ترغيباً له في إقراض ما له مع ذلك لم يكن مشروعاً , وإنما أجازه البخاريون , والحاجة لم تكن عامة وإنما ك انت خاصة بأهل بخارى وقد سميّ هذا في مصر ببيع الأمانة وسماه الشافعية الرهن المعاد , لأن للبائع الحق باسترداد مبيعه عن طريق الشراء من المشتري , ويكون المشتري قد انتفع به فترة البيع بالوفاء لأنه مالك له وقتئذٍ , وننوه هنا إلى أن القانون المدني السوري لم يأت على حكمه واقتصر على التأمين العقاري والرهون , وإن تجويز الحكم بموجب هذه القاعدة يضاف إلى الحاجة فيما يظهر إذا كان تجويزه مخالفاً للقياس وإلا كانت إضافته إلى القياس إلى 00 ذلك أن أكثر ما ورد على خلاف القياس من الأحكام الشرعية مبني على الحاجة والحاجة مبنية على التوسيع والتسهيل فيما يسع العبد تركه , وكالإجازة والسلم والاستصناع , وهذه من تطبيقات القاعدة , فالإجازة جاءت على خال القياس لأن العقود عليه وهو المنفعة معدوم مادياً ولكن الحاجة أجازتها , وكذلك أجيز السلم على خلاف القياس لأنه بيع مال ليس بحاضر وذلك لحاجة أصحاب البساتين على النقود في الوقت الذي لم تظهر فيه ثمرات بساتينهم , وكذلك الإستصناع لأن صناعة الشيء لم تكن تامة وقت الإنعقاد , ولكن أجازوها للحاجة بشرط أن تكون العين المصنعة من الصانع , أما إن كانت من المستصنع كانت إجازة أي استئجار خدمة الصانع في صناعة المال المقدم من المستصنع , ومن الشبيه بحالات تطبيق هذه القاعدة جواز الكفالة , وقد جوزّها الإجماع بقوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم }”1″ 0
وكذلك استئجار الظئر للإرضاع بقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن }”2″ 00 وكذلك تجويز الوصية