بحث قانوني عن حكم التحكيم وتأثير النظام العام على تنفيذه

تأثير فكرة النظام العام على حكم التحكيم وتنفيذه
(دراسة مقارنة)

الدكتور ممدوح عبد الحميد عبد المطلب•
الأستاذة إنعام السيد الدسوقي*•

المخلص

تبرز فكرة النظام العام عندما يحدث إصطداما بين حكم تحكيم قد يمس الأسس التي يقوم عليها كيان المجتمع والتي قد تكون عائقا. يمنع تنفيذ حكم التحكيم كليا أو جزئيا أو قد يؤدي الى عرقلة الوصول إلى الغاية التي تبتغيها الأطراف المعنية في سرعة فصل المنازعات. وإذا أستقر المشرع المصري والإماراتي على أن أحكام التحكيم لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن وأنها مقيدة فقط بما لا يخالف النظام العام، فلا يجوز الأمر بتنفيذ هذه الأحكام إلا بعد التحقق من عدم مخالفاتها للنظام العام، غدا الأمر حينئذ بيد الفقة والقضاء ليحاولا معا أن يضعا أطر قانونية وفقهية يمكن من خلالها التوفيق بين إعتبارات النظام العام واحكام التحكيم.

ولقد أستقر في يقين الباحث في خلاصة بحثه إلى ضرورة الموازنة بين فكرة النظام العام وبين الإتجاه الدولي لنمو التجارة الداخلية والخارجية وإزدهارها وإنه يجب في ظل مرونة فكرة النظام العام ونسبتها، أن تكون هناك ضوابط ومعايير محددة تضع هذه الفكرة الهلامية في ظل مرونة فكرة النظام العام ونسبيتها، أن تكون هناك ضوابط ومعايير محددة تضع هذه الفكرة الهلامية في إطار انضباطي يحددها استقرار أحكام القضاء على مبادئ رئيسية تصلح للتطبيق وإطار تشريعي ممثل في تحديد المشرع لحالات فكرة النظام العام.

المقدمة

تتسم إجراءات التقاضي – في غالبية الأحيان – بالبطء والتعقيد، ولذا فإن اتفاق الأطراف على التحكيم، يكشف عن رغبة، في حسم ما قد يثور بينهم من خلافات وينزع إلى حد كبير “صفة الخصومة” ويقضي على طول الإجراءات، والتحكيم هو إتفاق أطراف علاقة قانونية معينة (عقدية أو غير عقدية)، على أن يتم الفصل في المنازعة التي ثارت بينهم بالفعل (أو التي تحتمل أن تثور) عن طريق أشخاص يتم إختيارهم كمحكمين ويتولى الأطراف تحديد اشخاص المحكمين (أو على الأقل) يضمنون إتفاقهم على التحكيم بيانا لكيفية إختيار المحكمين أو أن يعهدوا لهيئة أو مركز من مراكز التحكيم الدائمة لتتولى تنظيم عملية التحكيم وفقا للقواعد أو النتائج الخاصة بهذه الهيئات او المراكز.
التحكيم وأهميته:

إذ كان التحكيم له مزاياه على الصعيد الوطني إلا أن اهميته تزداد تجاه المنازعات ذات الطابع الدولي، لأن الأمر ليس متروكا في حالة تنازع القوانين لقواعد الإسناد التي قد تؤدي إلى تطبيق قانون قد يصدم توقعات الأطراف، وإنما يختار أطراف العلاقة القانون الواجب التطبيق ولا مراء في أهمية هذه المزية التي يحققها التحكيم في علاقات التجارة الدولية لأن اطراف عقود التجارة الدولية في الغالب ينتمون إلى جنسيات مختلفة وانظمة قانونية متباينة مما يجعل عسيرا خضوع طرف لقانون بلد الطرف الآخر الذي هو ثمرة ثقافة وحضارة وتقاليد غريبة عنه .

يضاف إلى ما سبق أن تعقد المعاملات التجارية وتعلقها في الغالب بشروط وتفاصيل فنية معقدة، تضطر القاضي للإستعانة بالخبراء وإعداد تقارير فنية ولا شك أن المحكم الخبير أقدر على إستيعابها من رجل القانون حيث لا يشترط التشريع أن يكون المحكم رجل قانون فقد يكون مهندسا أو طبيبا أو رجل أعمال مما يجعله مؤهلا لفهم وإدراك طبيعة النزاع والإمساك به دون أن يكون مضطرا للإستعانة بالخبراء.

وفي إطار سعي الدول – وخصوصا الدول النامية – التي تسعى إلى جذب المستثمرين، تلجأ إلى النص صراحة في تشريعاتها على التحكيم كوسيلة لحل منازعات العقود الدولية لما في ذلك من أثر طيب في بث الطمأنينة في نفوسهم ويجعلهم بمناه عن هواجس التحيز وميل القضاء الوطني لحماية مصالح الدول محل العلاقة .

وإذا عرفنا أن علنية الجلسات والمرافعة تعتبر من أسس النظم القضائية، لبدأ واضحا أهمية النص في العقود التجارية التي تتضمن سرية الشروط وخاصة عقود نقل التقنية أو تراخيص إستغلال براءات الإختراع أن تتضمن نصا في إختيار التحكيم كوسيلة لفض المنازعات فيمكن نظر النزاع في جلسات لا يحضرها سوى أطراف النزاع وممثليهم، كما يحق لهم اشتراط عدم نشر الأحكام وهو أمر لا يتسنى تحقيقه بالنسبة لأحكام القضاء .

والتحكيم له مزاياه وعيوبه – شأن أي نظام تشريعي وضعي – إلا أنه أصبح واقعا قانونيا علينا أن نأخذ به ونقلص من عيوبه بسن التشريعات الوطنية التي تكرس النصوص الكفيلة بتحقيق التوازن وضمان حسن وكفاءة عملية التحكيم الذي يتم داخل البلاد.

القانون المصري للتحكيم:

تدخل المشرع المصري وأصدر قانونا ينظم التحكيم، ضمنه العديد من النصوص التي تواكب الإتجاهات الحديثة وتسهم في تحقيق قدر من الرعاية على أحكام التحكيم علاوة على ما يتضمنه قانون المرافعات من نصوص خاصة بتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لا تخضع للقانون الجديد. والمشرع المصري، نظم قواعد أحكام التحكيم ليسري على كل احكام التحكيم التي تصدر في مصر أياً كانت طبيعة النزاع أو طبيعة الأشخاص أطراف النزاع. وذلك في حدود عدم الإخلال بنصوص إتفاقية نيويورك التي تعالج الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها. وفي هذا النطاق تناول المشرع اتفاق التحكيم مبينا شروط صحة الإتفاق وآثاره وتشكيل هيئة التحكيم وإجراءات التحكيم وتحديد كيفية صدور حكم التحكيم وشروط حجيته وبطلانه ثم تنفيذه.

القانون الإماراتي للتحكيم:

نظم المشرع الإماراتي أحكام التحكيم في قانون الإجراءات المدنية، القانون الإتحادي رقم 11 لسنة 1992م وذلك في الباب الثالث من القانون.

وبطلان حكم التحكيم له العديد من الأسباب التي يجب توافرها لرفع دعوى البطلان وهي الحالات التي عهددتها المادة 53 من القانون المصري رقم 27 لسنة 1994 بشان التحكيم في المواد المدنية والتجارية، حيث أشار القانون سالف الذكر في الفقرة الثانية من المادة 53 إلى أن المحكمة تقضي عن تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا ما تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية. وفي القانون الإماراتي رقم 11 لسنة 1992 نجد أن بطلان الحكم يجوز في عدد حالات منها إذا وقع بطلان في الحكم او بطلان في الإجراءات اثر في الحكم (م/216) ومخالفة النظام العام تعد أحد صور البطلان في الحكم.

فكرة النظام العام:

النظام العام فكرة تستعصي بطبيعتها على التحديد. ويمكن أن يقال في شيء من التعميم والتقريب أن النظام العام هو “مجموع المصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع، سواء كانت سياسية او اجتماعية او إقتصادية “فقواعد النظام العام هي تلك التي يقصد بها تحقيق مصلحة عامة، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ويراد بالمصلحة العام كل أمر يتعلق بالنظام الأساسي للمجتمع بحيث يرجح على كل مصلحة فردية. ومن ثم وجب على جميع الأفراد أن يحترموا كل ما يتعلق بالنظام العام حتى ولو كان في ذلك تضحية بمصالحهم الخاصة، فإذا هم خرجوا على هذا النظام باتفاق خاص عد هذا الإتفاق باطلا. والآداب العامة هي مجموعة القواعد الخلقية التي تدين بها الجماعة في بيئة معيشة وعصر معين فهي بهذه المثابة تعتبر الشق الخلقي لقواعد النظام العام، وليس المقصود بالآداب العامة كل قواعد الأخلاق، وإنما يقصد بها قدرا من هذه القواعد تمثل الأصول الأساسية للأخلاق في الجماعة.

وهذه الفكرة بشقيها (النظام والآداب) فكرة نسبية متطورة، إذ تختلف الفكرة السائدة في كل بيئة وفي كل عصر، فكثير من ضروب التعامل التي كانت تعتبر صحيحة وإلى عهد قريب، أصبحت اليوم مخالفة للنظام العام في ظل التنظيمات الحديثة التي تدخل فيها الشارع بنصوص آمرة لا تجوز مخالفتها. وبناء على ذلك فإن فكرة النظام العام تضيق وتتسع تبعا للأفكار السائدة في المجتمع. فهي تنحصر في أضيق الحدود في ظل المذاهب الفردية التي تسرف في الإعتداد بحرية الفرد وتغفل الصالح العام. بينما تتسع في ظل المبادئ الإشتراكية التي تسرف في مصلحة المجموع وتضحي في سبيلها بالمصلحة الفردية. وإذا كانت فكرة النظام والآداب على هذا النحو من المرونة والتطور، فإنها تعتبر المنفذ التي تدخل منه العوامل الإجتماعية والإقتصادية والخلقية في النظام القانوني، كي تلاءم بينه وبين التطور الذي يتعرض له المجتمع في وقت واحد .

علاقة فكرة النظام العام وبطلان حكم التحكيم وتنفيذه:

تبرز فكرة النظام العام عندما تصطدم بحكم تحكيم يمس الأسس والمصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع وهنا تكون المشكلة سواء كان التحكيم وطنيا أو اجنبيا – حيث يؤدي ذلك إلى منع تنفيذ حكم التحكيم كليا أو جزئيا أو يؤدي إلى عرقلة الوصول إلى الغاية التي تبتغيها الأطراف وهي اللجوء الى التحكيم كطريق أسرع لحل المنازعات.

ولقد أختلف نهج المشرع المصري والإماراتي عن الفرنسي في معالجة الأمر، فالمشرع الفرنسي فرق بين التحكيم الدولي والتحكيم الداخلي، فحظر طرق الطعن ولم يسمح إلا بطلب البطلان أو منع التنفيذ وذلك في مجال التحكيم الدولي أما في مجال التحكيم الداخلي فلا يصح أن توضع أحكام التحكيم في وضع يسمو على أحكام القضاء بحيث تصبح محصنة لذا فإن أحكام التحكيم الداخلي تقبل الطعن بالإستئناف أو كان المحكم مفوضا بالحكم وفقا لقواعد العدالة والأنصاف .

بينما المشرع المصري وشابهه في ذلك الإماراتي أرسى مبدأ عدم جواز الطعن في حكم التحكيم بأي طريق من طرق الطعن العادية فكان طبيعيا أن يفتح الباب امام المحكوم ضده لرفع دعوى لا يطلب فيها اعادة نظر موضوع النزاع وإنما يطلب فحسب الحكم ببطلان حكم التحكيم. ولقد أرسى المشرع المصري ذلك في المادة 52، 53، 54 من القانون المصري والمقابل لها المواد 204، 211، 215، 216، 217، إلا إنه قد حدد حصرا أسباب يجب توافرها لرفع دعوى البطلان، لعل من أهمها في رأينا – هو بطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في مصر. وهو ما ذهب إليه أيضا المشرع الإماراتي في المادة 212 من القانون الإتحادي حيث حظر الطعن في أحكام المحكمين وقرر في المادة 217 من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي حيث حظر الطعن في أحكام المحكمين وقرر في المادة 217 من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي رقم 11 لسنة 1992م إن أحكام المحكمين لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن وانها مقيدة بما لا يخالف النظام العام.

وتثور فكرة النظام العام أيضا عند طلب تنفيذ حكم التحكيم حيث إشترط القانون المصري في المادة 58 فقرة 2/ب إنه لا يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم وفقا لأحكام هذا القانون إلا بعد التحقق بأنه لا يخالف النظام العام في مصر.

ولقد حاول الفقه ان يعالج هذه المسألة فذهب جانبا من الفقه إلى التأكيد عليها ومباركتها وإعتبارها بأنها تمثل أحد الأطر الهامة للطابع الوطني لفكرة النظام العام، وذهب جانب آخر من الفقه إلى التفرقة بين النظام العام العالمي والنظام الوطني والقول بالبطلان في حالة مخالفة حكم التحكيم لقواعد النظام العام العالمي وذهب جانب ثالث إلى القول بإهدار فكرة النظام العام بصفة كلية أو جزئية لأنها سوف تؤدي الى عرقلة تنفيذ أحكام التحكيم. وهذا التعارض الفقهي والإتجاهات التشريعية، كان دافعنا الأكاديمي لتناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة وتبرز أهمية معالجة المشكلة ليست على الصعيد النظري فقط وإنما على الصعيد العملي الواقعي فلقد مارست عمل المحاماة في مجال التجارة الدولية والتحكيم قرابة العشر سنوات وكم شاهدت من أحكام وقفت فكرة النظام العام ضد تنفيذها وساهمت في الحكم ببطلان حكم التحكيم.

موضوع وخطة الدراسة:

ونطاق بحثنا سوف يقتصر على معالجة هذه المسألة طبقا لأحكام القانون المصري الخاص بالتحكيم رقم 27 لسنة 1994 في المواد المدنية والتجارية. مقارنا بقانون دولة الإمارات العربية المتحدة الإتحادي رقم 11 لسنة 1992 في شأن الإجراءات المدنية وخصوصا الباب الثالث من المادة 203 حتى المادة 218. وتقسم خطة الدراسة الى فصول ثلاث تتناول المفاهيم العامة. وبطلان التحكيم وتنفيذه في ظل فكرة النظام العام.

الفصل الأول مفاهيم عامة

المبحث الأول في ماهية التحكيم

تمهيـد:
التحكيم هو طريق خاص لحل المنازعات قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية ويعتمد أساسا على أن أطراف النزاع هم اللذين يختارون قضاتهم بدلا من الإعتماد على التنظيم القضائي في البلد الذي يعتمد فيه. وهكذا ينشأ التحكيم من إرادة طرفي الخصومة – فهذه الإرادة هي التي تحقق التحكيم وهي قوام وجوده وبغيرها لا يتصور أن يخلق أو يكون، ولقد اتجهت النظم القانونية الحديثة لدعم هذا النظام وتطويره نظرا لما يحتويه نظام التحكيم من سرعة بالإضافة إلى رضائية الأطراف بالحكم الذي يصدره المحكم ما جعل من التحكيم في نظر بعض التشريعات نموذجا يجب الأخذ به خاصة في مجال التجارة الدولية نظراً لملائمة التحكيم لطبيعة هذا المجال .

كما أن للتحكيم طبيعته الإختيارية ولما لها من فوائد – حيث ان المحتكم – بإتفاقه على التحكيم لا يتنازل عن حماية القانون، ولا يتنازل عن حقه في الإلتجاء إلى القضاء وإلا فإن المشرع لا يعتد بهذا النزول ولا يقره، إذا أن الحق في الإلتجاء الى القضاء هو من الحقوق العامة التي تتعلق بالنظام العام بالدولة فإرادة المحتكم في عقد التحكيم تقتصر على مجرد إحلال المحكم محل المحكمة في نظر النزاع بحيث إذا لم ينفذ عقد التحكيم لاي سبب من الأسباب عادت سلطة الحكم الى المحكمة .

تعريف التحكيم:

هو الإتفاق على طرح النزاع على شخص معين أو أشخاص معينين ليفصلوا فيه دون المحكمة المختصة، فمقتضى التحكيم نزول الأطراف عن الإلتجاء إلى القضاء مع التزامهم بطرح النزاع على محكم أو أكثر ليفصلوا فيه بحكم ملزم للخصوم – وقد يكون هذا الإتفاق تبعا لعقد معين يذكر في صلبه يسمى شرط التحكيم وقد يكون بمناسبة نزاع معين قائم بالفعل بين الخصوم ويسمى في هذه الحالة مشارطة التحكيم .

إذن يرتكز التحكيم على أساسين هما إرادة الخصوم، وإقرار المشرع لهذه الإرادة وطبقا للتعريف السابق يكون معنى التحكيم هو “رغبة الأطراف في عدم عرض نزاعهم على قضاء الدولة ورغبتهم في إقامة محكمة خاصة بهم يختارونها بأنفسهم ويحددون لها موضوع النزاع وإجراءات التحكيم. فإذا كان التحكيم دوليا فهم يختارون القانون الذي يرغبون في تطبيقه – فيما بينهم ويعهدون بالفصل في النزاع لأشخاص يختارون لذلك هم المحكمون. المحكم ليس قاضيا مفروضا وإنما هو قاضي مختار بواسطة الخصوم بطريق مباشر أو غير مباشر” لذلك يصف التحكيم بأنه نظام للعدالة الخاصة أو أنه طريق اختياري لفض المنازعات كما ذهبت محكمة النقض المصري إلى إعتبار التحكيم طريق استثنائي لفض المنازعات .

وكما سبق القول يعتمد التحكيم أساسا على أن أطراف النزاع هم الذين يختارون قضاتهم بدلا من الإعتماد على التنظيم القضائي للبلد الذي يقيمون فيه – فإرادة الخصوم هي التي تنشأ التحكيم وبدون هذه الإرادة لا يتصور أن يخلق التحكيم أو يكون. إلا أن هذه الإرادة لا تكفي وإنما يتعين أن يقر المشرع إتفاق الخصوم وبعبارة أخرى إذا لم ينص المشرع على جواز التحكيم وجواز تنفيذ أحكام المحكمين، ما كانت إرادة الخصوم كافية لخلقة بإرادة الخصوم مع إقرار المشرع لهذه الإرادة – الجوهر القانوني للعملية التحكمية – والعبرة هنا أن تكشف إرادة الأطراف عن رغبتهم في النزول عن الإلتجاء إلى القضاء. وفي حسم النزاع عن طريق التحكيم – وإقرار المشرع للتحكيم مبناه تنظيم قواعده وإجراءاته وتوفير الضوابط والعلاقات التي تكفل حسن سير التحكيم تلافي أوجه القصور التي قد تشوبه. الأمر الذي يستدل حتما أن يكون للقضاء العادي دور معين في التحكيم .

نطاق إرادة الخصوم في التحكيم:

تتمثل إرادة الخصوم في التحكم في الإتفاق عليه أولا وفي الإتفاق على نوعه – وما إذا كان تحكميا مطلقا (أي بالصلح) أو تحكيما مقيدا (بالقضاء). وفي الإتفاق على أشخاص المحكمين، وإختصاصهم ومدى سلطتهم عند نظر النزاع، والمنازعات التي يجوز طرحها عليهم – وفي تحديد المراحل (المواعيد) والإجراءات الواجبة الإتباع أمامهم ومكان التحكيم كما قد ينعقد الإتفاق على عدم قابلية حكمهم لدى أي طعن أو على النزول عن حكم المحكمة، كما هو الشأن بالنسبة لحكم القضاء.
مظهر الإلزام في التحكيم:

إذا كان المشرع يوجب لتنفيذ حكم المحكمة أن يصدر الأمر بتنفيذه فذلك لمجرد التحقق من عمل المحكم ومراقبته، لأنه لا يستمد سلطته إلا من إتفاق الخصوم على التحكيم. وتقتصر الرقابة على مجرد التحقق من أن المحكم قد راعى الشكل الذي يتطلبه منه القانون سواء عند الفصل في النزاع أم عند كتابة حكمه – دون التعرض لموضوع النزاع – فالقاضي عندما يصدر الأمر بالتنفيذ يمهد فقط لإجراء وضع الصيغة التنفيذية على حكم المحكمة حتى لا يترك تقدير الأمر لقلم كتاب المحكمة وبعبارة أخرى لا يقدح من إعتبار التحكيم طريقا إلزاميا للتقاضي متى إتفق عليه الخصوم فإنه كون حكم المحكم غير قابل للتنفيذ بدون صدور الأمر بتنفيذه – أو كونه قابلا للإبطال بدعوى أصلية لأن إتباع مثل هذه الإجراءات لا يؤثر بطريق مباشر أو غير مباشر في الصفة الإلزامية للتحكيم. والوضع كذلك بالنسبة للأحكام الأجنبية – لا تنفذ إلا إذا أصدر أمر بتنفيذها من محاكم الدولة المراد تنفيذه في أرضها ومع ذلك لا يؤثر هذا الإجراء في كون المحكم الأجنبي متضمنا قضاءا ملزما .

الطبيعة القانونية للتحكيم:

تظهر أهمية تحديد طبيعة نظام التحكيم عند بحث القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع وكذلك ما يتعلق بقرار التحكيم، وعند طلب تنفيذه، فالذين يرون أن في التحكيم نظاما ذو طبيعة تعاقدية يخضعون لقانون الإرادة ليحكم موضوع النزاع ويعتبرون قانون التحكيم مجرد اتفاق لا يخضع للتدرج القضائي الذي يعرفه الحكم بمعنى آخر إذا أعتبر التحكيم اتفاقا فلا يكون واجب التنفيذ عند عدم وجود نص إلا إذا أقرته محكمة بناء على دعوى تقدم عليها الحكم لتنفيذ مضمونة.

وأما الذين يصبغون على التحكيم الطبيعة القضائية فيرون في قرار المحكمين “حكما” يقترب تماما من الحكم القضائي اي أعتبروا قرار التحكيم حكما قابلا للتنفيذ بذاته ولا يحتاج الأمر لأي جهة أخرى للأمر بوضع الصيغة التنفيذية عليه. وأما هؤلاء الذين يقفون موقفا وسطا فإنهم يرون في التحكيم حكما “ذا شكل تعاقدي”.

فالتحكيم إذن تتعاقب عليه صفتان الأولى هي الصفة التعاقدية حتى تبدو واضحة في الإختيار الخصوم لقضاء التحكيم كوسيلة لفض نزاعاتهم وإحجامهم على التوجه نحو قضاء الدولة – كذلك إختيار القانون الواجب التطبيق على الإجراءات وعلى موضوع النزاع، غير أن التحكيم يغير من طبيعته التعاقدية هذه الى طبيعته القضائية بفضل تدخل قضاء الدولة عندما يلجأ الأطراف اليه – لإعطاء قرار التحكيم الصفة التنفيذية فيتحول قرار التحكيم الى حكم قضائي .

ويختلف التحكيم عن الخبرة، فالمحكم يقوم بوظيفة القضاء ويحسم النزاع بين الخصوم ورأية يفرض عليهم – بينما الخبير لا يكلف إلا بمجرد إبداء الرأي فيما يطرح عليه من مسائل وهذا الرأي لا يلزم الخصوم، كما لا يلزم القاضي.

ويختلف التحكيم عن الصلح لأن الصلح عقد يتم بين أطراف الخصومة أنفسهم أو بمن يمثلونهم يقومون بمقتضاه بحسم خلافاتهم عن طريق نزول كل طرف عن بعض ما يتمسك به – بينما في التحكيم يقوم المحكم بمهمة القضاء – فالتحكيم اشد خطورة من الصلح لأن التجاوز عن الحق في الأخير معلوم قبل تمامه بينما في التحكيم تتعذر معرفة ما قد يمكن أن يحكم به. كما يلاحظ أن عقد الصلح غير قابل للتنفيذ في ذاته – ما لم يتم في صورة عقد رسمي او يتم امام المحكمة – بينما يصدر حكم التحكيم قابلا للتنفيذ بإتباع القواعد العامة وبعد الحصول على الأمر بتنفيذه كما أنه لا يمكن الطعن على عقد الصلح بطرق الطعن المقررة بالنسبة للحكام وان كان قابلا للبطلان أو الفسخ.

ويختلف التحكيم عن الوكالة – فبينما يستمد الوكيل سلطاته من الموكل ويملك التنصل من عمل الوكيل إذا خرج عن حدود وكالته ولا يتبعه الوكيل – كقاعدة عامة الذي يمكن أن يقوم به الموكل. ترى المحكم مستقلا تماما الإستقلال ولا يتمكن الأطراف من التدخل في عمله بل أن حكمه يفرض عليهم – بالرغم من الصفة الإختيارية لكل طرف بإختيار محكمة وفي حالة إختيار المحكم المرجح – بمثابة مدافع عنه (وكيل بالخصومة) ومع ذلك يظل من الناحية القانونية وصفتهُ كمحكم وليس كوكيل بالخصومة.

المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم:

حاول الفقه المصري وشابهه في ذلك المشرع الإماراتي منذ فترات غير بعيدة أن يضرب الأمثلة أو يضع تعددا لهذه الأسباب التي لا يجوز فيها التحكيم بحكم كونها غير قابلة للصلح وهذا التعدد ليس نهائيا أو غير قابل للمراجعة، وإنما هو إجتهاد فقهي من جانب الفقه المصري في تفسير الحالتين الرئيستين التي يمتنع فيهما التحكيم وهما:

أ‌- حالة المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية.
ب‌- حالة المسائل المتعلقة النظام العام.

أ‌- المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية البحتة ومسائل الجنسية والمسائل الجنائية:

ينص قانون التحكيم على أنه لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، كما ينص القانون المدني على أنه لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام، ولكنه يجوز الصلح على المصالح التي تترتب على الحالة الشخصية او التي تنشأ عن إرتكاب إحدى الجرائم. ومن ثم تكون المنازعات التي لا يجوز فيها التحكيم هي المتعلقة بالأحوال الشخصية – لأن المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية تدخل من بين المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية. وبالتالي فإن ما لا يجوز فيه التحكيم ينحصر إذن فقط في المسائل المتعلقة بالنظام العام. ولقد قصد المشرع بعدم إجازة التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظام العام إن تخضع لإشراف ورقابة السلطة العامة التي يمثلها ويهمها أن تسري عليها قواعد عامة موحدة .

أما بالنسبة للأحوال الشخصية:

فإن الإجماع ينعقد على تقسيمها إلى مواد متصلة بالأحوال الشخصية البحثتة ومواد تتصل بالمصالح المالية – أي تتصل بالمال – والأولى وحدها هي التي لا يجوز فيها الصلح والتحكيم – دون الثانية التي يجوز فيها هذا وذاك. ومن ثم لا يجوز التحكيم في خصومة تتصل بما إذا كان الولد شرعيا أم متبنى أم لا ينتسب إلى أسرة ما أو خصومة تتصل بما إذا كان عقد الزواج صحيحا أم باطلا، لو خصومة تتصل بما إذا كان شخص يعتبر وارثا أم غير وارث.

أما بالنسبة للجرائم:

فلا يجوز التحكيم بصدد تحديد مسؤولية الجاني الجنائية وما إذا كان ما إرتكبه يعد جريمة أو لا يعد كذلك. كما لا يجوز التحكيم بصدد النص الواجب التطبيق في قانون المرافعات جزاء على ما إرتكبه الجاني. ولكن لا يجوز التحكيم في شأن التفويض المستحق للمجني عليه. إذن لا يجوز التحكيم في صدد قيام الجريمة أو عدم قيامها وفي صدد نسبتها إلى فاعلها، وفي صدد العقوبة الجنائية الواجب أعمالها. كما لا يجوز التحكيم في الدعوى بطلب دين قمار – أو فيما إذا كان الدين يعتبر دين قمار أو لا يعتبر.

ب‌- المسائل المتعلقة بالنظام العام:

لما كانت المسائل المتعلقة بالمنفعة العامة لا تتصل كلها بالنظام العام فما لا يتصل منها بالنظام العام يجوز التحكيم بصدده. لذلك فلا يجوز التحكيم في الدعوى المتعلقة بنزع الملكية للمنفعة العامة لإتصالها بالنظام العام. كما لا يجوز التحكيم لذات السبب – فيما يتصل بأعمال السيادة أو في المنازعات المتعلقة بملكية الأموال العامة إذا آلت للدولة بطريق مشروع.

1. المنازعات التي لا تقل أمام القضاء لسبب متصل بالنظام العام:

إذا كان عدم قبول الدعوى يتصل بالنظام العام بمعنى أن المحكمة تلتزم من تلقاء نفسها بالحكم فيها بعدم القبول – فلا شك أن المحكم هو الآخر – يلزم بعدم قبول الدعوى من تلقاء نفسه وحتى ولو كان محكما مصالحا.

2. ضرورة أن يكون التحكيم صادرا من تتوافر له الصفة المقررة في التشريع:

لا يكفي أن يكون أطراف عقد التحكيم على كامل اهليتهم فقط – وإنما يتعين أن يكونوا أصحاب صفة في المنازعات التي تنشأ فيهم. فمثلا إذا اتفق على التحكيم بصدد ملكية عين وجب ان يكون هذا الإتفاق بين المالك لها مدعى ملكيتها – وذلك حتى يجدي التحكيم وحتى يتمكن المحكوم له من تنفيذ حكم المحكمة. كما إذا اتفق على التحكيم بصدد إيجار شقة معينة وجب أيضا أن يكون في الإتفاق بين المالك ومستأجر ذات الشقة.

ويبين من ذلك على المحكم مهمة خطيرة وبالغة الأهمية قبل إجراء التحكيم وهي التحقق من تلقاء نفسه – وبكامل الحيطة والحذر من صفة المحكمين وما إذا كانوا هم أصحاب الحقوق أو من يمثلوهم حتى لا يصدر الحكم في غفلة من صاحب الحق الأصلي. وقد أيدت محكمة النقض هذا الرأي بحكم لها – فقررت – أن المحكمة تلزم من تلقاء نفسها بالتحقيق من صفات الخصوم وعليها الحكم بعدم القبول ولو لم يتمسك ذات الخصم الأصلي صاحب المصلحة بهذا الدفع.

3. لا يعتد بالتحكيم إذا اتصل فقط بإجراءات التقاضي أمام محكمة ما ولا تلتزم المحكمة بحكم المحكم في هذه الحالة:

وهذا يعني أنه لا يجوز الإتفاق على التحكيم بصدد نزاع إجرائي بحت والزام المحكمة بتنفيذ حكم المحكم – فمثلا إذا أثير دفع يتصل بإختصاص المحكمة أو عدم إختصاصها بنظر الدعوى فلا يجوز إحالته وحده على التحكيم ولو كان الدفع لا يتصل بالنظام العام. لأنه متى أثير من الخصم. صاحب المصلحة وطرح على المحكمة طرحا صحيحا وجب عليها الفصل فيه وإن كان يجوز النزول عن التمسك بالدفع إذا لم يتعلق بالنظام العام.

وبعبارة أخرى، قد وضع المشرع القوانين الإجرائية لخدمة العدالة وحتى ترسم على هواها إجراءات التقاضي ويلتزم بها أطراف الخصومة ويحترمها القضاء وهي في هذا السبيل قد تراعي التسوية بين جميع المواطنين أياً كانت طبيعة منازعاتهم أو نوعها – فلا يملك أحد فرض إجراءات أخرى على المحاكم – بل لا تملك المحكمة أن تطلب إجراءات غير المقررة في التشريع ولا يملك الخصوم الإتفاق فيما بينهم جميعا على موالاة إجراءات مغايرة لتلك التي وضعها المشرع.

من كل ما تقدم يبين أنه يقع باطلا الإتفاق على التحكيم في شأن الخصومة الفرعية المتعلقة بإسقاط الخصومة الأصلية أو بإعتبارها كأن لم تكن أو تركها أو سقوطها بالتقادم او بالبطلان – كما يقع باطلا الإتفاق في التحكيم من الأمر المتصل بإعتبار الخصوم حاضرين أم متخلفين عن نظر الدعوى أو فيما إذا كان الطعن في الحكم يقبل أو لا يقبل. ويلاحظ أن ذلك لا ينطبق على ما اتصل بالدفوع الموضوعية فمن الجائز الإتفاق على التحكيم في شأن أن الحق سقط بالتقادم أم لم يسقط بعد أو أن الوفاء به المدعى حصوله، يعتد به أم لا يعتد، وإذا كان الأمر متصل بالنظام العام وجب على المحكم مراعاته .

آثار عقد التحكيم:

يترتب على التحكيم أثران هامان أحدهما سلبي والآخر ايجابي:

أما عن الأثر السلبي: فهو وجوب إحترام الإتفاق على التحكيم ما دامت الخصومة قد إتفق على فضها بطريق التحكيم وكانت قائمة بين أطراف أياً كان موقف الغير من هذه الخصومة.
أما عن الأثر الإيجابي: فهو فض الخصومة بطريق التحكيم والإعتداد بالحكم الصادر فيه وإعتباره كأنه صدر من المحكمة المختصة أصلا بالنزاع ولا سيما في ظل ما منحه القانون للتحكيم من قوة الأمر المقضي فيه مما يجعله واجب النفاذ لعدم جواز الطعن فيه – ولا يعوقه في التنفيذ إلا لأسباب قد حصرها المشرع.

الدفع بالإعتداد بشرط التحكيم:

يثور التساؤل عن مصير شرط التحكيم الذي تضمنه العقد الأصلي – إذا تعرض هذا العقد لسبب أدى إلى بطلانه أو فسخه أو إنهائه – فالمتصور منطقيا إذا تعرض العقد لأحد هذه العوارض فإنه يزول بكل ما تضمنه وبالتالي ينتهي أثر شرط التحكيم بالتبعية.

ولكن مع تطور الفقه وقضاء التحكيم التجاري الدولي انتهى إلى إعتناق مبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي – فلا تأثير لبطلان أو فسخ أو إنهاء هذا العقد على شرط التحكيم – فالشرط يظل صحيحا طالما إستكمل شروط صحته الخاصة به. علاوة على أن شرط التحكيم يخضع لقانون مختلف عن القانون الذي يخضع له موضوع العقد الأصلي – لذلك من المتصور أن يستوفي الشرط صحته رغم ما أصاب العقد الأصلي من عوارض وترتيبا على ما سبق ينتج الشرط أثره ويكون للمحكمين سلطة النظر في أي منازعات تنشأ عن بطلان أو فسخ أو إنهاء العقد بالرغم من الخلاف والجدل الذي ثار في الفقه المصري حول هذا المبدأ من حيث وجوده في القانون القديم .

إلا أن المشرع المصري قد حسم هذا الخلاف في القانون الجديد فنصت م(23) على أنه “يعتبر شرط التحكيم اتفاقا مستقلا عن شروط العقد الأخرى، ولا يترتب على بطلان العقد الأصلي أو فسخه أو إنهائه أثر على شرط التحكيم الذي يتضمنه إذا كان هذا الشرط صحيحا في ذاته” وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء المصري أخيرا – حيث أن مبدأ إستقلالية شرط التحكيم من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام التحكيم سواء كان تحكيما وطنيا أو تحكيما دوليا .

المبحث الثاني فكرة النظام العام

المقصود بالنظام العام والآداب:

لا يمكن حصر النظام العام في دائرة محدودة لا تختلط أو تتداخل مع غيرها ذلك أن هذه الفكرة مرنة وتضييق وتتسع بحسب ظروف كل مجتمع. فلا يمكن وضع قاعدة ثابتة تحدد المقصود بالنظام العام بصفة مطلقة يمكن ان تتفق مع كل زمان ومكان. ومرد ذلك أنها فكرة مرنة وأنها مسألة نسبية، فالمصلحة العامة هي أساس فكرة النظام العام، هذا الأساس متغير بحسب مفهوم كل دولة لفكرة المصلحة العامة ومصدرها بداية ونهاية .

ومن هذا المنطلق فقواعد قانون المرافعات التي تتعلق بالنظام العام هي التي تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة. ولو كانت سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأهلي وتعلو على مصلحة الفرد. وهذه المصلحة هي التي يتعين على الأفراد إحترامها وعدم مخالفتها حتى ولو كان بمقتضى اتفاق بينهم. ولذلك تضيق فكرة النظام العام اذا سادت المذاهب الفردية التي تدعو إلى سلطان الإرادة وإطلاق حريات الفرد، إذ لا تتدخل الدولة في شؤونهم – على خلاف ذلك – تتسع الفكرة إذا سادت المذاهب الإشتراكية، حيث تتدخل الدولة لضمان التوازن الإجتماعي فتقيد من نشاط الأفراد. كما تحد من حريتهم وتضع القيود الإجمالية التي تتفق وهذه المبادئ.

النظام العام في القانون المصري:

ولقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري في هذا الصدد ما يلي: “ويلاحظ أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جدا وقد بلغ من أمر مرونتها أن عمد التقنين الألماني إلى إغفال النص عليها عند صياغة المادة (138). فعلى أثر مناقشات هامة عنيفة جرت بوجه خاص في مجلس الريستاج انتهى الأمر بنصوص مختلفة جاء فيها ذكر العقد المخالف للآداب والنظام العام كذلك.

وكان الإعتقاد السائد أن نظرية النظام العام تنطوي على فكرة عامة مجردة تترتب عليها نتائج بالغة الخطورة من بينها أن القاضي ربما أباح لنفسه أن يتخذ من النظام نظرية فلسفية أو دينية يبينها على مجموعة المبادئ الدستورية أو على سياسة التشريع العامة أو على رأيه الخاص في المسائل الإجتماعية أو الفلسفة الأخلاقية أو الدينية. وقد دافع الحزب الإشتراكي الألماني بكل قوته عن النص المقرر لفكرة النظام العام. وكان يرمي من ذلك إلى إعتبار كل عقد لا يتفق ومبادئ حماية الطبقة العاملة مخالفا للنظام العام. على أن هذه النتائج بذاتها هي التي جعلت غالبية أعضاء الريستاج تنفر من النص المقرر للنظام العام. ومن كل معيار نظري وترغب في وضع معيار عملي بحت قوامه العرف والمبادئ المستفادة من الآداب العامة .

ومهما يكن من أمر فليس في الوسع نبذ فكرة النظام العام دون أن يكون مكان لهذه الفكرة من نصوص المشرع. لتظل منفذا رئيسا تجد منه التيارات الإجتماعية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني لتثبت فيها ما يعوزه من عناصر الجده والحياة – بيد أنه يخلق بالقاضي ان يتحرر من إحلال آرائه الخاصة في العدل الإجتماعي محل التيار الجامح للنظام العام أو الآداب فالواجب يقتضيه ان يطبق مذهبا عاما تدين به الجماعة بأسرها لا مذهب فرديا خاصا.

النظام العام في القانون الإماراتي:

وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، عرفت المادة الثالثة من قانون المعاملات المدنية الإتحادي رقم 5 لسنة 1985 النظام العام بأنه يعتبر من النظام العام، الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والميراث والنسب، والأحكام المتعلقة بنظم الحكم وحرية التجارة وتداول الثروات وقواعد الملكية الفكرية وغيرها من القواعد والأسس التي يقوم عليها المجتمع وذلك بما لا يخالف الأحكام القطعية والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية .

ويلاحظ على هذا التعريف ما يلي:

1. أن المشرع الإماراتي لم يعمد إلى وضع تعريفا لفكرة النظام العام وإنما حدد حالات أحكاما معينة معتبرها من النظام العام.
2. إن الأحكام التي إعتبرها المشرع الإماراتي من النظام العام في دولة الإمارات تشمل ما يلي:

– الأحوال الشخصية وتداول الثروات.
– نظام الحكم.
– حرية التجارة.
– قواعد الملكية الفكرية.
– القواعد والأسس التي يقوم عليها المجتمع.
وهذه الأحكام ليست حصرا دائما بل هي من قبيل الأمثلة التي عددها المشرع.

3. وإشترط المشرع الإماراتي أن لا تخالف الأحكام القطعية والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية.

والخلاصة إن فكرة النظام العام كما هي معروفة في القانون المدني وغيره من القوانين والمعروفة أيضا لدى قانون المرافعات، فوجودها يكسب القاعدة الإجرائية أهمية بالغة، ويكون البطلان جزاء مخالفتها وهو بطلان لا يتوقف التمسك به على رغبة المضرور فقط بل يتعين على القاضي أن يحكم بهذا الجزاء من تلقاء نفسه. كما أن هذا البطلان غير قابل للتصحيح او الزوال ويمكن التمسك به ولو لأول مرة أمام محكمة النقض.

المقصود بالآداب العامة:

الآداب في زمن معين ومكان معين هي مجموعة من القواعد والمبادئ وجد الناس أنفسهم ملزمين بإتباعها طبقا لناموس أدبي يسود علاقاتهم الإجتماعية، وهذا الناموس وليد الإعتقادات الموروثة والعادات المتأصلة وما جرى به العرف وتواتر الناس عليه. ويعتبر الدين أهم العوامل التي تؤثر في الناموس الأدبي للأمة، يضاف إليه العرف والعادات والتقاليد التي يسير عليها المجتمع. ولمعرفة ما إذا كانت القاعدة تتعلق بالآداب العامة من عدمه. فإنه يرجع إلى ما تعارف عليه الناس وساروا عليه، فإنه يعد من الآداب العامة، ومخالفة القاعدة عندئذ تؤدي إلى جزاء البطلان. فالمعيار إذن معيار إجتماعي عام وليس معيار ذاتي خاص، وإن كان غير ثابت بل ومتطور طبقا للبيئة الإجتماعية. فلو نظرنا إلى أمة من زمن معين فإننا نجدها تعتبر أمور معيشية مخالفة للآداب العامة مثل إرتداء ملابس البحر على الشاطئ ولكن في فترة لاحقة ونظرا لحدوث تطور اجتماعي اصبحت هذه العادات لا تخالف الآداب العامة .

دور القاضي بالنسبة لتحديد مفهوم النظام العام والآداب:

إن معيار النظام العام والآداب هو معيار عام ينظر فيه المجتمع وما تواتر عليه الناس ولا ينظر إلى فرد فيه. ومن ثم لا يجوز للقاضي أن يفسر النظام العام والآداب بطريقته الخاصة على هواه ووفق المذهب الشخصي الذي يعتنقه. بل يتعين عليه أن يفسر هذا المفهوم بالتفسير الملائم لروح العصر وآدابه في نظر المجتمع ومصالحه العامة فالقاضي في هذا المجال بمثابة المشرع، فهو الذي يعتبر أمرا مخالفا للنظام العام والآداب او متفقا معها، وذلك إذا خلا من تكييف البطلان وهل هو مطلق أم نسبي .

والخلاصة: أن فكرة النظام العام تقوم على أساس معيار موضوعي وهو المصلحة العامة فمعيارها هو الناموس الأدبي وما تعارف عليه الناس وصار جزءا من أخلاقهم وهو أيضا معيار موضوعي غير ذاتي وإن كان المعيار سالف الذكر من المعايير النسبية التي أن صلحت لأمة فإنها لا تصلح لأخرى، وقد يقال أن القاضي إذا ترك وشأنه لتحديد فكرة النظام العام والآداب فسوف يتحكم ويستند إلى هواه. لكن الرد على ذلك ينحصر في حسن اختيار القضاة وتعدد درجات التقاضي ما يكفل درء هذه المخاوف .

النظام العام والقواعد الآمرة:

القاعدة المتعلقة بالنظام العام والآداب هي قاعدة آمرة لا يجوز التفاق على مخالفتها وإلا وقع هذا الإتفاق باطلا بطلانا مطلقا. والبطلان المطلق يجوز لكل ذي مصلحة أن يتمسك به. ولا يوجد شخص معين يتقرر هذا البطلان لمصلحته. على خلاف البطلان النسبي الذي يتقرر لمصلحة شخص معين بالذات بقصد حمايته وحده، وبالتالي لا يجوز لغير هذا الشخص التمسك به .

بيد أن صفة الإلزام في القواعد الآمرة تبدو واضحة لا تثير أدنى شك. لأن هذه القواعد بحسب تعريفها لا يجوز الإتفاق على ما يخالفها أما القواعد المكملة فهي قواعد يجوز الإتفاق على ما يخالفها ومع ذلك فإنه من الواجب تأكيد صفة الإلزام في القواعد المكملة. أيضا فهذه القواعد ليست اختيارية يجوز للأطراف استبعادها إلا في وجود على تنظيم قانوني آخر غير التنظيم الذي تقضي به.

فمعاملات الأفراد لا بد أن تكون خاضعة لقانون معين وإذا كانت هناك بعض المسائل التي لا يؤثر تنظيمها بشكل أو بآخر على الأسس الجوهرية التي يقوم عليها المجتمع، ومن ثم فإن القانون يجيز للأفراد تنظيم هذه المسائل ووفقا لإرادتهم. إلا أنه لا يجيز لهم ترك هذه المسائل دون أي تنظيم على الإطلاق. فإذا حدث مثل هذا الترك فإن القواعد المكملة تنطبق في هذه الحالة على المسائل المتروك تنظيمها من جانب الأفراد وتكون في انطباقها ملزمة كالقواعد الآمرة تماما. ولكن شروط إلزامها على هذا النحو لا يوجد اتفاق بين الأفراد على تنظيم المسائل المذكورة تنظيما مختلفا، وعدم وجود مثل هذا الإتفاق هو شرط لإنطباق هذه القاعدة .

فالقواعد الآمرة تعمل في مجال يتعلق بكيان الدولة ومصالحها الأساسية ولهذه كانت القواعد آمرة ولا تصح مخالفتها. أما القواعد المكملة فإنها تعمل في مجال يتعلق بمصالح الأفراد، فيما ليس فيه مساس بكيان الدولة وفي هذا المجال ينبغي أن يترك الأفراد أحرارا لينظمون شؤنهم بالطريقة التي يرونها لأنهم أقدر من الدولة على هذا التنظيم، ولهذا توضع القواعد مكملة أو مفسرة، يجوز لهم الاتفاق على مخالفتها لأن مصالحتهم قد تكون في هذه المخالفة.

ولقد سلك المشرع طريقة تعتمد على معنى النص او مضمونة. فإذا افاد معنى النص او مضمونة انه يتضمن قاعدة لا يصح الإتفاق على خلافها نظرا لأنها تتعلق بكيان الجماعة ومصالحها الأساسية كانت قاعدة آمرة. اما إذا أفاد معنى النص أنه ينظم علاقة خاصة بين الأفراد وليس فيها مساس بكيان الجماعة أو مصالحها الأساسية، فإن القاعدة تكون مكملة. لأن موضوعها لا يستوجب عدم الإتفاق على خلافها وهذا ما يكون في النصوص المتعلقة بالإلتزامات والعقود المختلفة حيث يسود سلطان الإرادة، ويكون للأفراد ان ينظموا إتفاقهم بالطريقة التي تروق لهم .

وإذا كانت صياغة النص تطلق الحرية للأطراف في إختيار القانون الذي يحكم موضوع العلاقة بينها وما ثار بشأنهما من منازعات فإن هذه الحرية تحدها ضرورة مراعاة القواعد والقوانين الأمرة التي يحتم المشرع المصري أو الإماراتي عند تطبيقها مراعاتها لإعتبارات إقتصادية أو إجتماعية أو سياسية أو لحماية النظام العام والآداب العامة.

كما أن المستقر عليه أيضا – أن للدولة سلطة منع تنفيذ أحكام التحكيم التي تصطدم بالأسس الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي تقوم عليها كيان الدولة – أي المتعارضة مع النظام العام الذي لا يترادف مع الصفة الآمرة إذ ثم قواعد آمرة يراعى فيها مصالح الأطراف، وهذه لا تمس النظام العام – أما القواعد الآمرة المتعلقة بالنظام العام التي يبتغي بها المشرع حماية المصالح العامة. فإنها تعتبر من القواعد المتعلقة بالنظام العام.

أما في مجال تنفيذ الأحكام وأيضا في مجال القانون الذي يحكم إجراءات التحكيم. فلقد أخذ المشرع المصري بالإتجاهات الحديثة التي تعلي من شأن سلطان الإرادة – فلم يجعل – سريانه مفروض على إجراءات التحكيم التي تجري في مصر فنصت م”25″ على ما يلي: “لطرفي التحكيم الإتفاق على إجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم بما في ذلك حقها في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو مركز يحكم في جمهورية مصر العربية مع مراعاة أحكام هذا القانون، أن تختار إجراءات التحكيم التي تراها مناسبة”. وكذلك فعل المشرع الإماراتي إذ قرر هذا المعنى في المادة 203/1 من قانون الإجراءات المدنية الإتحادي رقم 11 لسنة 1992 حيث قرر “يجوز الإتفاق على التحكيم في نزاع معين بشروط خاصة”.
النظام العام والآداب وعلاقته بفكرة النظام العام العالمي:

سبق لنا ان إستعرضنا في مستهل بحثنا فكرة النظام العام وما تهدف إليه هذه الفكرة وقوامها هو حماية مصالح وكيان الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتعتبر هذه الفكرة بطبيعتها فكرة ذات طابع وطني. ولا يخفي تمايز وتغاير فكرة النظام العام من دولة لأخرى، بل تختلف من دولة لأخرى في الإقليم الواحد وبالرغم من مرونة هذه الفكرة وإتساعها وتضيقها حسب الأنظمة السائدة في الدول إلا أنه يمكن تحديدها في زمن معين وإرساء هذا الكيان تبعا لذلك. ولقد حرصت كل الشرائع على إعلاء هذا المبدأ حتى على المصلحة الفردية وصورة ذلك تقريرها البطلان إلى كل ما يصطدم ويخل بهذه القواعد.

أما عن فكرة النظام العام العالمي – فهي فكرة متسعة جدا لتحوي العالم أجمع بأنظمته المختلفة ومصالحة المختلفة وتطلعاته والتي في كثير من الأحيان تصطدم مع الكيان الواحد المتمثل في الدولة والذي يختلف من زمن لآخر. فضلا عن غموض هذه الفكرة من ناحية أهدافها. فترى الأستاذ الدكتور مختار البريري في مؤلفة التحكيم التجاري الدولي يقول: “أن القواعد الآمرة التي ببتغي بها المشرع حماية المصالح العامة فإنها تعتبر من القواعد المتعلقة بالنظام العام والتي تبرر رفض الإعتراف وتنفيذ الأحكام التي تصدر إخلالا بها .

ولا نجد مقبولا محاولة افتعال تفرقة مصطنعة بين النظام العام الداخلي والنظام العام الدولي في ميدان المعاملات الإقتصادية، فالنظام العام يصطبغ دائما بصبغة وطنية لا يصح تجاهلها تحت ستار فكرة غامضة – تتوسل بها الدول المتقدمة لإهدار مصالح الدول النامية. إستنادا إلى عدم تعلق نصوصها الوطنية الآمرة بالنظام العام الدولي الذي يعلو على النظام العام الداخلي. ولن يتسنى القول بوجود نظام عام دولي حقيقي إلا عندما تتلاشى هذه الهوة التي تفصل بين دول العالم المتقدم والدول النامية .

ونحن نصادق على هذا القول ونعتقد أنه حتى بعد تلاشي هذه الهوة- فستظل المصالح قائمة في كل من النظام العام الدولي والنظام العام الداخلي – والذي يتصور معه وقوع التصادم. فلا يمكن تغليب هذه الفكرة حتى لا تتلاشى فكرة النظام العام الداخلي الذي تحدد هوية وكيان الدولة والذي يمكن تصوره هو التوازن بين الفكرتين في إطار يغلب فكرة النظام العام الداخلي عند اللزوم.

وعودة على بدء، إذا تعلق الأمر بقواعد آمرة تمس النظام العام الداخلي فإن المحكم لا يمكنه التحرر منها حتى ولو كان مفوضا بإجراء تسوية وفقا لقواعد العدالة، ولا نجد بأسا في هذا المقام من قبول التفرقة بين الأطراف وتلك التي تهدف الى حماية المصالح العامة، فالأولى يمكن للمحكم بالتفويض الخروج عليها بإعتباره أصبح يملك ما يملكه الأطراف، فإذا كان لهؤلاء التنازل عن الحماية المقررة لهم فالمحكم يملك تجاهل النصوص التي تخولهم هذه الحماية، ومثال ذلك غض النظر عن التمسك بالتقادم الذي أكسب أحد الأطراف حقا أصبح عنصرا في ذمتة المالية. أما إذا تعلق الأمر بتنازل أحد الاطراف عن التمسك بتقادم لم يكتمل، فإن المحكم لا يمكنه إقرار هذا التنازل لتعلق الأمر بحق لا يملكه الأطراف.

أما إذا تعلق الأمر بتحكيم دولي وتم تفويض المحكم، فالسائد أنه يستطيع تجاهل القواعد الآمرة المتعلقة بالنظام العام الداخلي، ولا يقف امامه سوى النظام العام الدولي وقد سبق بيان ان فكرة النظام العام هي بطبيعتها ذات طابع وطني، وحكم التحكيم مآله التنفيذ في إقليم دولة معينة، فيحتم ألا يكون متعارضا مع نظامها العام .

ولا يخفي تمايز وتغاير فكرة النظام العام من دولة لأخرى، مما يضع فكرة نظام عام دولي موضوع شك ويجعل إطلاق سلطة المحكم في التحكيم التجاري الدولي مقيدة على الأقل بمراعاة النظام العام في دولة التنفيذ وإلا كان حكمه معرض لعدم التنفيذ لمخالفته للنظام العام في مثل هذه الدولة.

الفصل الثاني النظام العام وبطلان حكم التحكيم

تمهيد: أوضحنا في الفصل الأول ماهية التحكيم وفكرة النظام العام وفي هذا الفصل سوف نتناول بطلان حكم التحكيم إذا ما تعلق بالنظام العام. سواء أكان هذا البطلان بطلانا نسبيا أو بطلانا مطلقا.

المبحث الأول البطلان النسبي للتحكيم:

نظرية البطلان في القانون المدني المصري القديم لم تكن هناك ثمة قاعدة عامة بشأن البطلان، بل كانت هناك بعض النصوص المتفرقة في ثنايا المجموعة المدنية تقضي ببطلان بعض التصرفات في احوال معينة. كما كان القانون الفرنسي غامضا في هذا الشأن، حيث لم يقم إلا بنص المادة 117 التي تقضي بأن العقد الذي يشوبه الغلط أو الإكراه او التدليس لا يعتبر باطلا بطلانا مطلقا. وإنما يكون قابلا للبطلان وتحيل هذه المادة على م 1304 مدني التي تقضي بتقادم دعوى البطلان بمضي خمس سنوات. وطبقا للنظرية التقليدية في البطلان فإنه يجب أن تفرق بين أركان العقد وشروط صحته فأركان العقد هي: التراضي – المحل – السبب – الشكل في العقود التي تستلزم شكلا لانعقادها. كعقد الهبة والرهن العقاري. أما شروط الصحة تتعلق بأهلية المتعاقد لإبرام التصرف القانوني، وسلامة إرادته من العيوب كالغلط والتدليس والإكراه والإستغلال فإذا اختل ركن من أركان العقد كان باطلا بطلانا مطلقا أو منعدما، أما إذا اختل شرط من شروط الصحة كان العقد قابلا للبطلان، وهو ما يسمى بالبطلان النسبي .

فتوافر الرضا أمر أساسي لانعقاد العقد، ولكن يكون الإنعقاد صحيحا يتعين أن يكون الرضا صحيحا أيضا، ويكون كذلك إذا كان صادرا عن ذي أهلية، خاليا من العيوب التي تفسد الإرادة والمشار إليها آنفا ويبطل العقد بطلانا مطلقا إذا انعدم الرضا بالنسبة لأحد طرفي التعاقد أو لصدوره من مجنون أو صبي غير مميز أو إذا انعدم المحل أو كان موجودا ولكنه مخالفا للنظام العام والآداب، كذلك الحال إذا انعدم السبب او وجد ولكنه مخالفا للنظام العام والآداب، كذلك إذا اشترط القانون شرطا جعل جزاء مخالفة البطلان، كما هو الحال في شرط تعيين المدة في عقد الوعد، او لم يتم تسليم المعقود عليه من العقود العينية، وأخيرا إذا نص القانون صراحة على البطلان كجزاء مدني . ويبطل العقد بطلانا نسبيا أو يصبح فاسدا إذا إنعدمت اهلية المتعاقد او فسد رضائه لغلط او تدليس او إكراه او استغلال .

وفي التشريع الإماراتي نجد أن المشرع قد فرق بين عدة صور للبطلان وهي:

1. إذا انعدمت الأهلية، يكون العقد باطلا بطلانا مطلقا، وفقا للقانون المصري وقانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة.
2. البطلان النسبي في القانون المصري يكون جزاء لوجود غلط أو تدليس أو إكراه أو إستغلال متى توافرت الشروط التي نص عليها القانون.
3. إن قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات (مادة 182) يأخذ بفكرة العقد الموقوف كجزاء لوجود الإكراه المادي “فمن أكره بأحد نوعي الإكراه على إبرام عقد، لا ينفذ عقده ولكن لو أجاز المكره أو ورثته بعد زوال الإكراه صراحة أو دلالة يصبح العقد نافذا”.
4. إن قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة (م /187) قد جعل جزاء التدليس والغلط، والفسخ.
5. لم يأخذ قانون المعاملات المدنية في الإمارات بالإستغلال بإعتباره أحد عيوب الإرادة.

أما العقد الفاسد وفقا لأحكام قانون المعاملات المدنية الإتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (2/212) فهو ما كان مشروعا بأصله لا وصفه، فإذا زال سبب فساده وإذا بطل التصرف انعدم اثره فتسقط الحقوق والإلتزامات التي رتبها وإذا لم تكن قد نفذت فإنها لا تكون قابلة للتنفيذ – أما إذا نفذت فإنه يتعين إعادة الطرفين إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد وإذا تصرف المتعاقدين استنادا إلى تصرف باطل فتصرفه باطل بدوره، وإستنادا على قاعدة أن ما ترتب على الباطل فهو باطل – فلا يجوز للشخص أن ينقل لغيره أكثر مما يملك .

والخلاصة : أن الأصل أن التصرف الباطل لا يرتب أثرا. ولكن العدالة تصطدم بهذا المبدأ، خاصة وأن العقد الباطل قد يكون مرتبا لمراكز قانونية ثابتة ومصالح معينة يؤدي البطلان إلى الإضرار بها وزوالها وتكون حماية هذه المصالح أولى من المصالح التي يهدف تقرير البطلان إلى حمايتها. من أجل ذلك رتب القانون نظريتي انتقاص العقد، وتحوله، وتقرير البطلان يكون بدعوى البطلان وهذه الدعوى المفروض أن تكون قاصرة على البطلان النسبي للقضاء على العقد الفاسد لكن هذا لا يمنع من الكشف عن البطلان بدعوى مبتدأه، كما أنه ليس هناك ما يمنع من التمسك بالبطلان في صورة دفع في دعوى قائمة.

ويرى الدكتور عبد الحكم فودة: أن البطلان في حقيقته وصف يلحق التصرف القانوني الذي انعقد مخالفا للأوضاع التشريعية التي نص عليها المشرع وستهدف منها المصلحة العامة أو سمة جوهرية من المصلحة الخاصة، فيقال لمثل هذا التصرف أنه باطل فعقد البيع الذي يبرمه صغير دون سن التمييز تصرف قانوني ينعت بالبطلان المطلق لمخالفة المتعاقد لقاعدة من قواعد النظام العام المتعلقة بالأهلية. ولا يكفي أن يقال ان البطلان وصف للتصرف – بل هو أيضا جزاء على المخالفة التي إرتكبت في حق القانون – وبمقتضى هذا الجزاء يفقد التصرف فعاليته وتشل آثاره القانونية، تحقيقا لهدف الشارع يحمل الأفراد على إحترام القواعد القانونية التي تنظم إنشاء التصرفات. لكن لا يقتصر البطلان على مخالفة النصوص القانونية. بل يمكن أن يتحقق إذا نص عليه المتعاقدان في العقد، كالنص في عقد الوعد بالبيع على أن البائع إذا تصرف في العين محل الوعد، خلال فترة إعلان الرغبة يكون تصرفه باطلا ولا يعتد به، فإذا أشهر هذا التصرف فإن التصرف اللاحق ببيع العين يبطل قانونا إعمالا لنص عقد الوعد ويسري في مواجهة المشتري الجديد الذي يفترض فيه علمه بأمر هذا الشرط نتيجة الشهر” .

ومما تقدم يمكن أن نعرف البطلان “بأنه وصف يلحق التصرف القانوني المعيب لنشأته مخالفا لقاعدة قانونية أو اتفاقية، فيؤدي إلى توقيع جزاء يتمثل في شل فعالية التصرف وإفقاده آثار القانونية”.

الأثر النسبي فيما يتعلق بحكم التحكيم الباطل بطلانا نسبيا:

تعطي م (20) من قانون المرافعات المصري للقاضي حق توقيع جزاء البطلان رغم عدم النص عليه صراحة طالما اثبت الخصم الذي تقرر الشكل لصالحه أن الغاية قد تخلفت من جراء عدم مراعاة الشكل – فقد يكون الإجراء القانوني معيبا عن خلاف النموذج القانوني الذي وضعه المشرع. كإغفال شكل معين، أو بيان معين ويسكت النص عن توقيع جزاء البطلان ولا توجد مادة لاحقة تشير إلى هذا الجزاء ومثال العمل الإجرائي الذي يدخل الشكل عنصرا فيه – واقعة تسليم أوراق المحضرين وهي من الأعمال الإجرائية يجب ان تتم إلى الشخص نفسه أو في موطنه ويجوز تسليمها في الموطن المختار في الأحوال التي بينها القانون (م 10/1 مرافعات). هذا العمل الغاية منه ضمان وصول ورقة الإعلان – فإذا لم تتحقق هذه الغاية فالعمل الإجرائي باطل لتخلف الغاية من العمل الإجرائي ذاته .

وفي التشريع الإماراتي يجوز للخصوم طلب بطلان حكم المحكمين عندما تنظر المحكمة في المصادقة عليه في الأحوال الآتية:

1. إذا كان قد صدر بغير وثيقة تحكيم او بناء على وثيقة باطلة أو سقطت بتجاوز الميعاد أو إذا خرج الحكم عن حدود الوثيقة.
2. إذا صدر الحكم من محكمين لم يعينوا طبقا للقانون أو صدر عن بعضهم دون أن يكونوا مأذونين بالحكم.
3. إذا صدر الحكم بناء على وثيقة تحكيم لم يحدد فيها موضوع النزاع او صدر من شخص ليس له أهلية الإتفاق على التحكيم أو من محكم لا تتوافر فيه الشروط القانونية.
4. إذا وقع بطلان في الحكم او بطلان في الإجراءات أثر على الحكم .

ومفاد ذلك أنه يجب على المتمسك بالبطلان إثبات عدم تحقق الغاية من الشكل أو البيان وعدم تحقق الغاية من الإجراء أيضا، ذلك أن القانون ما دام لم ينص على البطلان جزاء لشكل أو بيان معين فإنه يدل بهذا على عدم إرادته توافر هذا الشكل او البيان إلا بالقدر اللازم لتحقيق الغاية من العمل الإجرائي الذي يتضمنه. وكما وأن البطلان النسبي متعلق بالمصلحة الخاصة، فزمامه بيد من تقرر الإجراء المخالف لمصلحته، فله أن يتجاوز عنه وله أن يتمسك به وإذا تجاوز عنه فلا يجوز للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، كما وأنه بطلان نسبي لا يفيد إلا من تقرر لمصلحته، فلا يجوز لغيره أن يتمسك به للإفادة منه شأنه شأن العقود والاحكام.

ومن أمثلة البطلان النسبي في التحكيم، بطلان الإجراءات التالية لإنقطاع سير الخصومة، فلقد قررت محكمة النقض المصرية “بطلان الإجراءات التي تتم بعد قيام سبب انقطاع سير الخصومة في الدعوى وهو – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – بطلان نسبي قرره القانون لمصلحة من شرع الإنقطاع لحمايتهم وهم خلفاء المتوفى أو من يقومون مقام من فقد أهليته أو تغيرت صفته، وذلك حتى لا تتخذ هذه الإجراءات دون علمهم ويصدر الحكم في غفلة منهم فلا يجوز للخصم الآخر التمسك بهذا البطلان”. “نقض جلسة 11/1/1997 – المكتب الفني السنة 28 رقم 46 ص 194” .

وتجدر الإشارة إلى أن إنقطاع الخصومة سواء كان بسبب وقف الإجراءات او انقطاع سير إجراءات التحكيم لا يعد أمرا متعلقا بالنظام العام، فالبطلان المترتب عليه بطلان نسبي، لا يملك طلبه إلا الخصم الذي قام به سبب الإنقطاع، فإذا صدر الحكم رغم توفر أحد أسباب الإنقطاع – فهذا الطرف وحده الذي يملك طلب البطلان ولا يستطيع الطرف الآخر التمسك بتوافر أحد أسباب الإنقطاع لدى خصمه للتوصل إلى بطلان الحكم، ونظرا لعدم تعلق الأمر بالنظام العام، يجوز لمن قام به سبب الإنقطاع النزول عن التمسك بهذا السبب، بل ويجوز له إجازة وتصحيح ما تم من إجراءات أثناء فترة الإنقطاع – لذا نجد أن قضاء النقض يجيز النزول ولو ضمنا عن التمسك بإنقطاع الخصومة كما يجيز العدول عن الحكم بإنقطاع الخصومة .

ولا يفوتنا في هذا المقام ان نشير إلى مدى سلطة المحكم في التصدي لهذا النوع من البطلان النسبي، فهو لا يملك التصدي وإصدار القرار في هذا الشأن، حيث أن مهمته محددة سلفا فلا يجوز له التعرض لاي موضوع خارج هذه المهمة حتى ولو كانت مقرر لمصلحة الأطراف، فهو لا يملك الحكم بأكثر مما طلبه الخصم أو الحكم بما لم يطلبه وإلا كان حكمه معرضا للبطلان. فالمحكم لا تنطبق عليه قاعدة إن قاضي الأصل هو قاضي الفرع، فهو لا يفصل إلا فيما طرح عليه. ولا يملك التصدي فيما لم يعرض عليه ولم يطلب منه الفصل فيه – لذا يعد سببا من اسباب بطلان الحكم تجاوز المحكم حدود مهمة أو التصدي لما لم يتفق الأطراف على عرضه على التحكيم .

ولا شك أن البطلان المقرر في القانون لمصلحة الخصوم وجب عليهم التمسك به إذا رأو إعماله طبقا لمصلحتهم فيكون لهم التمسك به وحتى في هذه الحالة يجب على المحكم أن يراعى ذلك – دون التصدي التلقائي له في مثل هذه الحالات مع مراعاة أن سلطة المحكم قد تقف عند إعتبار عدم التمسك بالبطلان المقرر لمصلحة الاطراف، هو تنازل ضمني عن هذا الحق .

وقد يثور التساؤل – هل يجب على المحكم التخلي عن نظر النزاع إذا ما تحقق من وجود مخالفة للنظام العام أم أن يقضي ببطلانه؟ يقضي المحكم بالبطلان فالصحة كالبطلان، فطالما يملك المحكم تقرير الصحة يملك تقرير بطلانه لمخالفته للنظام العام، وأنه يملك تقريره فورا لأن القول بتقرير البطلان عند إعلانه فقط، يعني أنه سيستمر في نظر المنازعة رغم علمه بأن سيقضي بالبطلان في النهاية.

وعلى العكس من ذلك يرى د. عزمي عبد الفتاح، “وجوب تخلي المحكم عن نظر النزاع لمخالفته للنظام العام، وذلك تأسيسا على أنه، لا يجوز للمحكم أن يقضي بالبطلان خاصة إذا لم يثر أحد الخصوم مسألة البطلان لانه ليس كقاضي الدولة الذي يملك إثارة هذه المسألة من تلقاء نفسه، أما إذا آثار أحد الخصوم هذه المسألة، جاز له (المحكم) أن يتصدى لها.

إن سلطة المحكم محدودة بموضوع النزاع كما حدده الخصوم في إتفاق التحكيم ولا يصح تجاوزها… قد يمس البطلان حقوق الغير مثل القضاء ببطلان الشركة أو براءة الإختراع – حيث يكون للبطلان أثرا بالنسبة للكافة ولا يمكن قبولها بالنسبة للمحكم الذي يستمد سلطاته من إتفاق الخصوم ولا يجوز مد هذه السلطات للغير .

وتعليقا على ما سبق سرده أنه طالما امتد اثر البطلان بالنسبة للغير فتحقيقا للعدالة لا بد أن تتاح للغير فرصة لحماية مركزه القانوني من أثر حكم امتد إليه وهو لم يتمكن من إبداء دفوعه في خصومه لم تشمله، ولقد عالج أستاذنا الدكتور مختار البريري هذا الموقف بسرد الآتي: “أن القول بإمتداد آثار الحكم إلى الغير يستوجب فتح الباب امام الغير للتدخل في خصومة التحكيم، وهو أمر لا يتصور مع قيام التحكيم على إتفاق لا تمتد آثاره إلا إلى اطرافه ولكن لا يبقى سوى تقدم الغير بطلب التدخل على أن يخضع امر قبوله لموافقة الطرفين أما إذا لم يتحقق ذلك وصدر الحكم. فيجب أن يتاح له امر الإعتراض وفقا لنظام اعتراض الخارج عن الخصومة، وهو ما يستوجب في تقديرنا تدخل المشرع لإعادة إمكانية الطعن بطريق اعتراض الخارج عن الخصومة لمواجهة الحالات العملية التي تضع الغير ذا المصلحة بين شقي الرحى – فلا هو طرف يملك ما يملكه الأطراف من الحضور وإبداء أوجه دفاعه ولا هو أجنبي من الغير الذين لا تمتد إليهم آثار التحكيم وفقا لما تتجه إليه بعض الآراء”. .

المبحث الثاني  البطلان المطلق لحكم التحكيم

تعرضنا في المبحث الأول للبطلان النسبي لحكم التحكيم، وموضوع دراستنا هو تعرض حكم التحكيم لمخالفة النظام العام والذي يجعله القانون باطلا بطلانا مطلقا.

في القانون المصري الجديد رقم 27/94 – نصت الفقرة الثانية من المادة 53 على سبعة أسباب للبطلان جاءت على سبيل الحصر – مما يعني عدم جواز الطعن بالبطلان على حكم التحكيم لأي سبب آخر وهذه الأسباب هي كالأتي:

لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:

1. عدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلان أو قابليته للإبطال أو سقوطه بإنتهاء مدته.
2. تعذر إبداء دفاع أحد الخصوم.
3. إستبعاد تطبيق قانون الإرادة على موضوع النزاع.
4. مخالفة القانون أو اتفاق الأطراف بشأن تشكيل هيئة التحكيم.
5. فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو تجاوزه لحدود هذا الإتفاق.
6. وقوع بطلان في حكم التحكيم او في إجراءات التحكيم على نحو أثر في الحكم.
7. إذا كان أحد طرفي إتفاق التحكيم وقت إبرامه فاقد الأهلية أو ناقصها.

وفي التشريع الإماراتي القانون الإتحادي رقم 11/1992 حدد الأسباب التالية لقبول دعوى البطلان وهي:

1. صدر الحكم بغير وثيقة تحكيم او بناء على وثيقة باطلة أو تجاوز ميعاد التحكيم أو خرج المحكم عن حدود الوثيقة.
2. إذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم.
3. إذا صدر الحكم من محكمين لم يعينوا طبقا للقانون أو صدر من بعضهم دون أن يكونوا مأذونين بالحكم في غيبة الآخرين أو صدر بناء على وثيقة تحكيم لم يحدد فيها موضوع النزاع أو صدر عن شخص ليست له أهلية الإتفاق على التحكيم أو من محكم لا تتوافر فيه الشروط القانونية.

ومخالفة حكم التحكيم للنظام العام تتطلب صدور حكم متضمنا لما يخالف النظام العام – فالعبرة بالمفهوم المعتمد للنظام العام وهي مسألة على جانب كبير من الأهمية، فالعبرة في هذا المقام ليست بتعلق الحكم بمسألة تمس النظام العام، وإنما بتضمن الحكم فعلا ما يخالف النظام العام وهي صياغة موفقة للنص وتؤكد تبديد التشابك بين اتفاق التحكيم وصحته وبطلانه وبين حكم التحكيم، فإذا إبرم الورثة المحتملين إتفاقا بشأن تركة مستقبلة إبان حياة مورثهم وتضمن الإتفاق شرط تحكيم وثار نزاع بين الورثة وعرض الأمر على هيئة التحكيم فأقرت الإتفاق وأصدرت حكمها بتسوية النزاع فإن الحكم يكون باطلا لمخالفته للنظام العام .

أما إذا أصدرت الهيئة حكمها ببطلان الإتفاق فإن الحكم يكون صحيحا وكذلك إذا تضمن حكم التحكيم القضاء بفوائد تأخيرية لصالح أحد الأطراف بسعر يزيد عن الحد الأقصى المحدد قانونا… فإن قضاء النقض قرر مخالفة الحكم للنظام العام ونزل بسعر الفائدة إلى الحد القانوني.

ولقد سبق ان أوضحنا أنه لا اطراد بين الصفة الآمرة وبين النظام العام وأية ذلك، بخصوص سعر الفائدة أن القانون خول البنك المركزي أو المصرف المركزي تحديد أسعار الفائدة دون تقيد بأي حد أقصى يتضمنه أي قانون علما بأن الأمر متعلق بعلاقات تجارية دولية، مما لا يجعل الحد الأقصى الوارد في القانون المدني مكونا لأحد الأسس الإقتصادية التي يقوم عليها المجتمع وبالتالي لم تعد تدخل في مفهوم النظام العام في مجال المعاملات التجارية .

وفي مصر تعتبر مخالفة للنظام العام المصري، أحكام التحكيم التي تصدر مخالفة لقوانين التسعيرة او لقواعد المنافسة المشروعة أو لقوانين محاربة الاحتكارات، وذلك لإتصال هذه القوانين بالمصالح الإقتصادية، وتبرز هنا أهمية “التمسك بالمفهوم المصري” للنظام العام ومن هنا يلزم الإصرار على الطابع الوطني لفكرة النظام العام ولذلك لا يمكن منع القاضي المصري من الحكم ببطلان حكم التحكيم الخاضع للقانون المصري حتى لو كان صادرا في تحكيم دولي في مصر أو الخارج إستنادا إلى إتساق الحكم مع النظام العام الدولي الذي تكون له الغلبة على النظام العام الوطني وهو ما كان ممكنا لو تمت صياغة النص دون تقييد النظام العام وتحديده وفقا للمفهوم المصري ولا يعد هذا المسلك متعارضا مع انضمام مصر لإتفاقية نيويورك، لأن المادة الخامسة 2/ب تجيز رفض الإعتراف وتنفيذ الأحكام إذا كان مخالفا للنظام العام في البلد المطلوب تنفيذ الحكم فيها.

لكن يلاحظ إن بطلان حكم التحكيم يقف عند حدود مخالفته للنظام العام إذا كان ممكنا تجزئة ما قضى به. ومثال ذلك قضاء النقض الذي لم يقرر منع تنفيذ حكم التحكيم إلا في حدود ما قضى به – متجاوزا الحد الأقصى لسعر الفائدة ولا تحتاج المحكمة لتمسك أحد الأطراف بمخالفة الحكم للنظام العام كما هو الشأن في الأسباب الأخرى وإنما عليها أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها حتى لو كانت دعوى البطلان مؤسسة على سبب آخر .

وهذا ما أكده واضعي قواعد لجنة الأمم المتحدة بالصمت أمام ما قد يعد في إطار نظام قانوني وطني معين بمثابة قواعد اختيارية – وتلك التي تعد قواعد وجوبية لايجوز للأطراف في العلاقات الدولية الخاصة أن يتفقوا على التحلل منها. ويبدوا أن هذا الصمت من جانب واضعي قواعد لجنة الأمم المتحدة قد جاء مقصودا ومرجعه الرغبة في تفادي الخوض في مشكلة عامة تتفاوت في شأنها المواقف التشريعية والفقهية او ترجح إتجاه على آخر.

والذي يمكن استخلاصه من ذلك من الناحية التطبيقية انه لم تلجأ المادة الأولى من قواعد لجنة الأمم المتحدة الى استخدام تعبير “النظام العام” بمعنى القواعد الآمرة في ظل نظام قانوني معين – كما انها تفادت تعبير “النظام العام الدولي” وبمفهوم استبعاد تطبيق ما ورد من قواعد في النظام القانوني الذي اشارت الى تطبيقة قاعدة إسناد معينة مع ما يفترضه ذلك من أن الخطاب موجه إلى القاضي الوطني في قيامه بمهامه تجاه حكم مطروح عليه بمناسبة الإعتراف به أو الأمر بتنفيذه.

وحقيقة الأمر أن التكليف في المادة الأولى من قواعد لجنة الأمم المتحدة – إنما يخاطب به الأطراف أنفسهم وكذلك المحكمون الذين يتولون نظر النزاع المطروح عليهم، ولذلك كان طبيعيا تجنب الإشارة الى تعبير النظام العام بشقيه وأن تستعمل اللجنة عبارة أكثر دقة في الإفصاح عن القصور وهي القواعد التي لا يجوز الخروج عنها وذلك للتأكيد على أن هناك بالضرورة امور لا يجوز الخروج عنها تكون لها الغلبة وتسمو على القواعد الإتفاقية وما في حكمها .

رفع دعوى البطلان:

يكون لذى المصلحة الذي كان طرفا في خصومة التحكيم رفع دعوى البطلان إذا توافر احد الأسباب آنفة الذكر، والا يعوقة عن رفع دعوى سبق الإتفاق على نزوله عن الحق في رفعها، أما بعد صدور الحكم فيجوز له النزول عن إمكانية رفع الدعوى إذا توافرت فيه الصفة وتوافر له سبب من أسباب البطلان، ويلاحظ في هذا المقام أن لأي طرف صفة في رفع دعوى البطلان إذا تأسست على مخالفة الحكم للنظام العام، وتجدر الإشارة إلى أن كافة الأحكام الخاصة بدعوى البطلان من حيث الأسباب والميعاد وتتحديد المحكمة المختصة لا تسري إلا بالنسبة لأحكام التحكيم الخاضعة للقانون.

ميعاد الطعن بالبطلان في حكم التحكيم:

في مصر يجب رفع دعوى البطلان خلال 90 يوما التالية لتاريخ إعلان الحكم للمحكوم ضده طبقا لنص م “54” من القانون الجديد للتحكيم، بينما في الإمارات تخضع للقواعد العامة لرفع الدعوى. وفي مصر تختص بدعوى البطلان في التحكيم التجاري الدولي محكمة الدرجة الثانية التي تتبعها أصلا بنظر النزاع إذا كان التحكيم داخليا، أما في حالة التحكيم دولي ينعقد الإختصاص لمحكمة استئناف القاهرة أو لمحكمة الإستئناف المتفق عليها. ومؤدي هذا أن الحكم في دعوى البطلان يصدر دوما من محكمة إستئنافية، بينما في الإمارات يخضع الإختصاص للقواعد العامة .

دور المحكمة التي تنظر دعوى البطلان:

يقتصر دور المحكمة التي تنظر دعوى البطلان على الحكم برفض الدعوى أو الحكم بالبطلان وهي لا تقضي بالبطلان إلا إستنادا لتوافر سبب من الأسباب السابق حصرها وإذا قضت بالبطلان فهي لا شأن لها بموضوع النزاع فلا تملك التصدي لفحص طلبات الأطراف وإصدار حكم ينهي النزاع – فالإلتجاء إليها إنما اقتصر على طلب فحص الحكم من حيث صحته أو بطلانه وفقا للنصوص القانونية المنتظمة لذلك، فهي لا تملك مراجعة الحكم موضوعيا والحكم ببطلانه تأسيسا على سوء تفسير نصوص العقد أو نصوص القانون لأن أسباب البطلان وردت على سبيل الحصر وليس من بينها مثل هذا السبب .

تقييمنا للبطلان المترتب على مخالفة حكم التحكيم للنظام العام بالمفهوم المصري:

لا تحتاج المحكمة في حالة مخالفة حكم التحكيم للنظام العام لتمسك أحد الأطراف بمخالفة الحكم للنظام العام كما هو الشأن في الأسباب الأخرى وإنما عليها أن تقضي بالبطلان من تلقاء نفسها. فيعد النظام العام هو السبب الوحيد الذي يمكن للهيئة أن تتصدى له دون حاجة لتمسك الأطراف به، كما أننا نجد أن الأسباب الأخرى معظمها يرتقي الى مستوى البطلان النسبي، الذي يتحدد وفقا لتصحيح الإجراء الباطل – بتحقق الغاية من الإجراء بالرغم من بطلانه وتارة بإعتبار صمت الأطراف بمثابة تراضي ويعد نزولا ضمنيا عن تمسكهم بالحق المقرر لهم التمسك به.

مما يتضح معه ان في مخالفة حكم التحكيم للنظام العام هو السبب الوحيد الذي يستوجب البطلان المطلق لحكم التحكيم وهذه نيتجة منطقية لما يحتويه هذا السبب من مبررات تجعله في مقدمة هذه الأسباب لتعلقه بالكيان الإقتصادي والإجتماعي للدولة طبقا لمفهومها ومنظورها هي لهذه الفكرة.

الفصل الثالث النظام العام وتنفيذ حكم التحكيم

المبحث الأول حقيقة المقصود بالأمر بالتنفيذ:

لا يعد الأمر بالتنفيذ دليلا على صلاحية الحكم للتنفيذ الفوري، وإنما وضع الصيغة التنفيذية عليه هي وحدها دليل هذه الصلاحية وإذن لا ينظر في صلاحية الحكم للتنفيذ إلا عند تسليم صورته التنفيذية إلى المحكوم له بعد تذييلها بصيغة التنفيذ.

ولا يقصد بإجراء الأمر بالتنفيذ أن يتحقق القاضي من عدالة المحكم فلا ينظر في سلامة أو صحة قضائية في موضوع الدعوى لأنه لا يعد هيئة إستئنافية في هذا الصدد. ولا يعد صدور الأمر بالتنفيذ، في ذاته دليلا على سلامة هذا القضاء، كما لا يقصد بإجراء الأمر بالتنفيذ الحكم بمنحه صفة الورقة الرسمية لأن هذه الصفة يتميز بها حال صدوره، وإنما حقيقة المقصود من الإجراء هو الإطلاع على الحكم ومشارطة التحكيم والتثبت من عدم وجود ما يمنع تنفيذه، أي التثبت والتحقيق من أن هناك مشارطه أو شرط تحكيم بصدد نزاع معين، وإن هذا النزاع هو الذي طرح بالفعل على المحكم وفصل فيه في مواجهة من اتفق على التحكيم، وأن هذا النزاع لا يتصل بالجنسية أو الأحوال الشخصية أو المسائل التي لا يجوز فيها الصلح. وأن المحكم لم يخرج عن حدود المشارطه ولم يتجاوز الميعاد المقرر وأن المحكم هو الذي إختاره الخصوم وأن الحكم يتمتع بالشكل المقرر بالنسبة للأحكام ولم يبن على إجراء باطل .

وبعبارة مختصرة شاء المشرع أن يراقب عمل المحكم لأنه لا يستمد سلطته إلا من إتفاق الخصوم على التحكيم فأوجب قبل التنفيذ بوضع الصيغة التنفيذية عليه من جانب قلم التنفيذ أوجب أن يخضع لرقابة وإشراف قاضي التنفيذ بالمحكمة كإجراء تمهيدي أولي يسبق وضع الصيغة التنفيذية لمجرد التحقق أن الحكم قد صدر بالفعل تنفيذا لمشارطه تحكيم وأن المحكم قد راعى الشكل الذي يتطلبه منه القانون سواء عند الفصل في النزاع أم عند كتابة الحكم.

ويؤكد إتجاه الرأي المتقدم أن حكم التحكيم وفقا لما ذهب اليه الفقه والقضاء في مصر وفرنسا وبلجيكا والإمارات – يعتبر قد صدر من يوم كتابته والتوقيع عليه وتسري كل إثارة ويحتج بحجيته من هذا التاريخ شأنه شأن الأحكام العادية، وإنما إجراء تنفيذه ووضع الصيغة التنفيذية عليه يقتضي أولا، الرجوع إلى قاضي التنفيذ للأسباب المتقدمة.

ولقد قررت محكمةالنقض المصرية في حكم لها:

“ولو أن الأمر الصادر بتنفيذ حكم المحكم، والذي يعتبر بمقتضاه واجب التنفيذ يقض به مراقبة عمل المحكم قبل تنفيذ حكم من حيث التثبت من وجود مشارطه التحكيم. وأن الحكم راعى الشكل الذي يتطلبه القانون سواء عند الفصل في النزاع أو عند كتابة الحكم دون أن يتحول للقاضي حق الفصل في الحكم من الناحية الموضوعية ومدى مطابقته للقانون… وبالتالي تلحق الحجية الحكم بمجرد صدوره وتكون له جميع الآثار التي تكون المحكم القضائي ولو لم يكن صدر الأمر بالتنفيذ…. لأن صدور الأمر إنما يتطلب من أجل التنفيذ وليس من اجل قوة الثبوت… ومن ثم ووفقا لما جرى عليه قضاء محكمة النقض – لا يجوز المجادلة في حجية حكم المحكم، وحتى يفرض أنه لم يتم تنفيذه، طالما الحجية قائمة لم تنقضي بأي سبب من الأسباب التي تنقضي بها قانونا… وإذ التزم الحكم المطعون فيه هذا النظر وأستند في قضائه الى أن المطعون عليه أصبح مالكا لكامل العقار الذي تقع به شقة النزاع طبقا لما انتهى اليه حكم التحكيم في المنازعات التي كانت قائمة بينه وبين الطاعن، وخلص الى عدم جواز المطالبة بإجرة شقة أصبح هو مالكها، فإنه لا يكون قد خالف قانون ولا يعيبه إغفاله الإشارة إلى دفاع الطاعن بشأن بطلان حكم التحكيم طالما أن التمسك به لا يعتبر دفاعا جوهريا ولا يتغير به وجه الرأي في الدعوى، ومن ثم يكون الطعن على غير أساس” (نقض 15/2/1978 – 29 – 472) .

متى يصير حكم المحكم قابلا للتنفيذ الجبري:

قدمنا إنه لا يعد الأمر بالتنفيذ دليلا على صلاحية الحكم للتنفيذ الفوري، وإنما وضع الصيغة التنفيذية عليه هي وحدها الدليل على هذه الصلاحية، وإذن لا ينظر من صلاحية الحكم للتنفيذ إلا عند تسليم صورته التنفيذية إلى المحكوم له بعد تذيلها بصيغة التنفيذ.

ويراعى مدى قابلية الحكم للتنفيذ الجبري القواعد العامة المقررة في صدد الأحكام القضائية، مع ملاحظة أن حكم المحكم غير قابل للطعن فيه بالطرق العادية، وبالتالي فهو قابل للتنفيذ الجبري، فإذا كان المحكم مصالحا فإن حكمه يكون قابلا للتنفيذ الفوري، لأنه غير قابل للطعن، وإذا كان التحكيم في الإستئناف فإن الحكم أيضا يكون حائزا لقوة الأمر المقضي به، ومن ثم يقبل التنفيذ الفوري وكذلك الحال إذا أتفق الخصوم على أن حكم المحكم غير قابل لأي طعن.

ولما كان إعفاء المحكم من التقيد بقواعد المرافعات – في التشريعات الأجنبية التي لا يعفيه في الأصل منها – لا يجعل حكمه غير قابل للطعن فإن هذا الحكم لا يكون قابلا للتنفيذ الفوري إلا إذا كان مشمولا بالنفاذ المعجل على هذا المحكم التقيد بقواعد المرافعات في هذا الصدد، وإذا لم يكن حكم المحكمة مشمولا بالنفاذ المعجل وانقضى ميعاد استئنافه فإنه يصير قابلا للتنفيذ الجبري بسبب إكتسابه قوة الأمر المقضي به .

ومما يتقدم يتضح لنا أن التحكيم في السابق كان يخضع للإستئناف كطريق عادي للطعن ثم ألغي الإستئناف وايضا الطعن بالتماس إعادة النظر ثم أتى المشرع مؤخرا والغي كل طرق الطعن العادية والغير عادية بالنسبة لحكم المحكم ، ولم ينص سوى على الطعن بالبطلان لأسباب حصرية سبق أن تعرضنا لها في الفصل الثاني.

وقبل التعرض للتنفيذ في القانون المصري الجديد في التحكيم التجاري الدولي وكذلك في التشريع الإماراتي نود أن نتعرض “لحكم التحكيم” وذلك بغرض انتهاء الخصومة بصدور هذا الحكم. في ظل القانون رقم 27 لسنة 1994 المصري نصت م 52 فقرة (1) على أنه “لا تقبل أحكام التحكيم التي تصدر طبقا لأحكام هذا القانون الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية”.

وبهذه الفقرة أوصد المشرع الباب وأقام نوعا من الحصانة المتميزة لأحكام التحكيم، فهي تسمو حتى على أحكام القضاء التي تخضع للمراجعة موضوعا وشكلا في الإستئناف. فضلا عن إمكان الطعن فيها بالتماس إعادة النظر، كما كان يمكن الطعن فيها بالنقض في حالة الخطأ في تطبيق القانون. وتتمتع بهذه الحصانة كل أحكام التحكيم التي تصدر وفقا لأحكام قانون التحكيم أي أحكام التحكيم الذي تجري في مصر أو الإمارات سواء أكان تحكيما وطنيا أو دوليا أو أحكام التحكيم التي تجري في الخارج وأتفق اطرافه على خضوعه للقانون المصري أو الإماراتي.

وإذا كان المشرع المصري قد ساير مواقفه في ظل نصوص المرافعات من ناحية حظر “ستئناف حكم التحكيم” إلا أن المادة (511) من قانون المرافعات كانت تسمح بالطعن في حكم التحكيم عن طريق التماس إعادة النظر وذلك وفقا لأحكام م(241) مرافعات بإستثناء الحالة الواردة في البند الخامس من هذه المادة والتي تتعلق بحكم يقضي بما لا يطلبه الخصوم أو بأكثر مما طلبوه، إذا كان يعتبر ذلك سببا من أسباب بطلان حكم التحكيم وفقا لنص 512/1 والتي تواجه حالة خروج الحكم عن حدود الوثيقة .

تنفيذ حكم التحكم وفقا للقانون بشأن أحكام التحكيم في المواد المدنية والتجارية:

تنص م “55” من القانون المصري على أن احكام المحكمين الصادرة طبقا لهذا القانون تحوز حجية الأمر المقضي به وتكون واجبة النفاذ، وإذا اضفنا إلى ذلك ما سبق بخصوص عدم قابلية حكم التحكيم للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية، فإن حكم التحكيم لا يكتسب بمجرد صدوره حجية الأمر المقضي فحسب، بل يصدر حائزا لهذا الأمر المقضي به .

حجية الحكم:

ويقصد بالحجية في قانون المرافعات، أن الحكم الصادر يحمل عنوان الحقيقة بخصوص ما فصل فيه بالنسبة لأطراف الدعوى وفي حدود الأساس الذي قامت عليه الدعوى، ومؤدى ذلك أنه لا يجوز إثارة النزاع نفسه تأسيسا على السبب ذاته بين الأطراف انفسهم الذين صدر الحكم في مواجهتهم فاصلا فيما نشب بينهما من نزاع، ولا يقبل الجدل في هذه الحجية التي يكتسبها بمجرد صدوره. حتى ولو كان مازال ممكنا الطعن فيه وتنسبط هذه الحجية الى كافة الأحكام قضائية كانت او تحكمية وأيا كان نوع القضاء مدنيا تجاريا جنائيا، عاديا أو إستثنائيا .

وترتيبا على ما سبق فإن من صدر حكم التحكيم لصالحه يحق له التمسك بحجية هذا الحكم إذا قام الطرف الآخر برفع دعوى أما القضاء للنظر في الموضوع الذي فصل فيه حكم التحكيم وكانت الدعوى مؤسسة على السبب الذي استندت إليه دعوى التحكيم. ولكن هل تلتزم المحكمة او هيئة التحكيم بأن تحكم من تلقاء نفسها بحجية التحكيم وعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها ؟

قد أجاب نص م (101) من قانون الإثبات المصري المقابل له في القانون الإماراتي المادة 49 من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية الإتحادي رقم 10 لسنة 1992 على أن الأحكام التي حازت قوة الأمر المقضي تكون حجة فيما فصلت فيه من الحقوق ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه الحجة ولكن لا تكون لتلك الأحكام حجة إلا في نزاع قائم بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم وتتعلق بذات الحق محلا وسببا – وتقضي المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها.
ويبرر فقه المرافعات فكرة تمتع الأحكام القضائية بالحجية بأن هذه الحجية ترتبط بوظيفة القضاء ولم يقررها القانون لصالح الخصوم، وإنما قررها للصالح العام الذي يدعو إلى إستقرار الحماية القضائية، ولا يؤثر في هذا نزول الخصوم عن هذه الحجية ولا إتفاقهم، حقيقة أن للخصم أن ينزل عن حقه ولو كان مؤكدا في عمل قضائي، كما له ان يتفق مع خصمه على تنظيم مختلف لعلاقتهما، لكن حجية الحكم شيء مختلف فالمسألة الأولى تتعلق بمصلحة خاصة هي مصلحة الأطراف أما الثانية تتعلق بأحد مرافق الدولة العامة، فالدولة تنظم عمل القضاء، ولكن لا تكون له هذه الإمكانية إلا مرة واحدة بالنسبة لنفس الدعوى.

أما في مجال التحكيم فنحن أمام تنظيم يرتكز على إرادة الأطراف، فهم يختارون الإلتجاء إلى هذا الطريق بمحض إرادتهم، وهم يختارون محكميهم ويستبدلونهم، وهؤلاء يباشرون مهمتهم في الحدود التي يرسمها الأطراف، فالأمر منقطع الصلة بالدولة أو مرفق من مرافقها، فإذا صدر حكم التحكيم فإنه يصدر حائزا للحجية حماية لمصالح الأطراف الخاصة، دون وجود أي إعتبارات تتعلق بمرفق عام او بمصلحة عامة .

ولذلك إذا اتفق الأطراف على رفض ما قضى به التحكيم وعقد العزم على بدء إجراءات تحكيم جديدة أمام هيئة تحكيم جديدة – فهذه الهيئة لا تملك من تلقاء نفسها الحكم بعدم قبول طلب التحكيم استنادا لحجية حكم التحكيم السابق صدوره، ولا يتسنى لها ذلك إلا إذا تمسك أحد الأطراف بهذه الحجية وأخذا بمنطق أن القاضي لا يحجبه عن نظر النزاع إلا تمسك أحد الأطراف بإتفاق التحكيم، فهو لا يقضي بعدم قبول الدعوى من تلقاء نفسه وفي ذلك يقول أستاذنا الدكتور أحمد أبو الوفا أنه:
يملك الخصوم تجديد الاتفاق على تحكيم ذات المحكم ولو كان أصدر حكمه فإذا لم يرضى بالحكم أطراف النزاع فليس ثمة ما يمنع من تجاهله وإعادة الإتفاق على تحكيم ذات المحكم. فإن حكم التحكيم يرتكز على “إرادة الطرفين” فإذا رفض النزول على حكم الهيئة جميع الأطراف، فلا يتصور أن يوصد القضاء أبوابه تمسكا بحجية حكم صادر عن قضاء خاص يستمد أساس اختصاصه من إرادة الأطراف ولا يمثل حكمه عنوانا للحقيقة شأن حكم القضاء إلا إذا تمسك بحجيته أحد الأطراف. لأننا أمام حجية يسبغها قانون التحكيم حماية لمصالح الأطراف الخاصة وليس لحماية المصلحة العامة المرتبطة بحجية أحكام القضاء التي تصدر عن مرفق عام من مرافق الدولة يستمد اختصاصه من القانون مما يحتم إعتبار ما يصدر عنه ممثلا للحقيقة الملزمة للأطراف، وللمحكمة نفسها تحقيقا لإستقرار المعاملات ومنعا من شغل القضاء إلى مالا نهاية بنظر منازعات سبق الفصل فيها .

وإذا كان حكم التحكيم شأنه شأن حكم القضاء يصدر متمتعا بالحجية في الحدود السابق ذكرها، فإنه يتميز عنها بصدوره حائزا لقوة الأمر المقضي بما يجعله حكما واجب النفاذ وذلك لعدم جواز الطعن فيه.

وكما رأينا أن حكم التحكيم يصدر حائزا للحجية وهو لا يقبل الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن مؤدي ذلك أنه يصدر متمتعا بالحجية وقوة الأمر المقضي ويكون واجب النفاذ، وتتخذ إجراءات تنفيذه، وكما سنرى لا يعوق هذا التنفيذ إلا أسبابا اوردها المشرع على سبيل الحصر، وهذا بخلاف القاعدة أمام المحاكم فعلى الرغم من أن م (145)- مرافعات الجديد – تنص صراحة على النزول عن الحكم يستتبع النزول عن الحق الثابت به ومن ثم يكون للخصوم تجاهل الحكم والإلتجاء من جديد إلى المحاكم وفي التشريعات الأجنبية التي لا تجعل حجيته الشيء المقضي به من النظام العام كالتشريع (الفرنسي واللبناني) إلا أنه يجوز الإلتجاء إلى ذات المحكمة التي أصدرت الحكم لأن القاضي إذا أستنفذ ولايته بإصدار حكمه امتنع عليه الفصل في ذات النزاع من جديد، وهذه القاعدة من النظام العام ، وهي لا تنبثق من قرينة الحجية. هذا ويلاحظ أن حجية الشيء المقضي به قد أصبحت بمقتضى القانون المصري الجديد متعلقة بالنظام العام ومن ثم لا يجوز في جميع الأحوال طرح النزاع الذي سبق صدور حكم فيه أمام المحاكم أياً كانت .

ومقام بحثنا هو تنفيذ حكم التحكيم وبالتالي نود أن نتعرض لنطاق حجية حكم التحكيم فيما يتعلق بالأشخاص أن حكم التحكيم شأنه شأن حكم القضاء لا يكون حجة إلا على أطرافه أخذا بمبدأ نسبية الأحكام. فأطراف الدعوى التي صدر فيها الحكم والذين أعلنوا وتمكنوا بناء على ذلك من إبداء دفوعهم – هم وحدهم الذين يحتج عليهم بالحكم .

ويجب عدم الخلط بين القوة الملزمة لإتفاق التحكيم – فالإتفاق قد تتعدد أطرافه فتتمد القوة الإلزامية لهذا الإتفاق لكل الأطراف ومع ذلك لا يكون للتحكيم الصادر حجة إذا لم يتم إعلان الجميع بالحضور أمام هيئة التحكيم، وإقتصرت خصومة التحكيم على بعض أطراف الإتفاق، فهنا رغم التزام الجميع بإتفاق التحكيم، فالحكم لا يحتج به على أطراف الإتفاق الذين لم يثر بينهم نزاع ولم يشاركوا في خصومة التحكيم. فإذا تعلق الأمر بشركة تضامن، تضمن أحد بنودها نصا أن يلتزم الأطراف بالإلتجاء الى التحكيم في منازعتهم التي تثور فيما بينهم أو فيما بينهم وبين الشركة ثم ثار نزاع بين أحد الشركاء والشركة بشأن تصفية حساباته، وتم الإلتجاء الى التحكيم، فإن الحكم الذي يصدر لا يحتج به إلا في العلاقة بين الشركة وبين هذا الشريك ولا يعتد ولا يصح أن يحتج بذلك باقي الشركاء فالحكم حجة من مواجهة من أعلن بطلب التحكيم .

وإذا تعلق الأمر بمجموعة شركات، فإن الحكم الصادر في علاقة إحدى هذه الشركات بالغير لا يحتج به في مواجهة بقية الشركات التي تتمتع كل منها بوجود قانون مستقل وذلك بعكس حالة المشروعات المشتركة، أو شركات المحاصة، حيث لا يكون هناك كيان قانوني مستقل فإن التحكيم الذي يتم بيد أحد الأطراف في المشروع المشترك او بين أحد المحاصين والغير، ويكون مؤسسا على سبب يتعلق بالمشروع المشترك أو الشركة المحاصة ، فإن الحكم تكون له حجية بالنسبة للجميع وذلك إذا كان عقد الشراكة أو المحاص الذي أبرم اتفاق التحكيم قد أبرز صفته كنائب عن شركائه ومثل في خصومة التحكيم أصلا وبصفته نائبا .

لكن تدق المشكلة بالنسبة للغير الذين لم يكونوا أطرافا في إتفاق التحكيم ولم يتمكوا بالتالي من المشاركة في خصومة التحكيم، ومع ذلك يؤثر الحكم في مراكزهم القانونية. ويمس حقوقهم نظرا لصلتهم القانونية بأحد الأطراف ولقد سبق لنا الإشارة في هذا الوضع في الفصل الثاني من هذا البحث عن كيفية علاج هذه المشكلة. أما عن أحكام التحكيم التي تخضع لنصوص القانون المصري الجديد المنظمة لحجية وتنفيذ أحكام التحكيم فلقد نظمها المشرع كالأتي: نظم المشرع قواعد تنفيذ أحكام التحكيم التي تصدر طبقا لهذا القانون أي تطبق قانون التحكيم الجديد عند تحديد سريان قانون التحكيم التي تصدر في الخارج إذا اتفق الأطراف على خضوع التحكيم للقانون المصري بوصفه قانون الإرادة، بشرط أن يكون الأمر متعلقا بتحكيم تجاري دولي .

ويتضح مما سبق أن نصوص قانون التحكيم المتعلقة بتنفيذ الأحكام تسري على ما يلي:

1. أحكام التحكيم الذي يجري في مصر أياً كان الأطراف وأيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور النزاع حولها.
2. أحكام التحكيم الذي يجري في الخارج إذا كان تحكيما تجاريا دوليا وأتفق الأطراف على إخضاعه لقانون التحكيم المصري.

وترتيبا على ما سبق تنحصر أحكام هذا القانون المنظمة لتنفيذ أحكام التحكيم على الأحكام التي تصدر من الخارج دون اتفاق الأطراف على خضوع التحكيم للقانون المصري ويخضع تنفيذ هذه الأحكام لقواعد قانون المرافعات المنظمة لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية إلا إذا زاحمتها قواعد اتفاقية نيويورك والتي تسري أيضا على الأحكام التي تصدر في دولة ويراد تنفيذها في دولة أخرى، أو الأحكام التي لا تعتبر وطنية وفقا لقانون الدول المطلوب تنفيذ الحكم فيها.

إجراءات تنفيذ حكم التحكيم الخاضع للقانون المصري:

تنص المادة 56 من قانون التحكيم على أنه ينعقد الإختصاص بإصدار أمر التنفيذ للأحكام الخاضعة لهذا القانون لرئيس المحكمة المختصة أصلا بالنزاع إلا إذا تعلق الأمر بتحكيم تجاري دولي، سواء جرى في مصر أو في الخارج – فينعقد الإختصاص لرئيس محكمة إستئناف القاهرة أو أي محكمة إستئناف أخرى يتفق عليها الأطراف ويجوز لرئيس المحكمة ندب قضاة المحكمة لإصدار، الأمر بالتنفيذ.

ويتقدم المحكوم لصالحة بطلب تنفيذ الحكم مرفقا به ما يلي:

1. أصل الحكم او صورة موقعة منه.
2. صورة من إتفاق التحكيم.
3. ترجمة مصدق عليها من جهة معتمدة إلى اللغة العربية لحكم التحكيم إذا لم يكن صادرا بها.
4. صورة من المحضر الدال على إيداع الحكم (الأصل أو صورة منه موقعة) باللغة التي صدر أو ترجمة باللغة العربية مصدقا عليها من جهة معتمدة إذا كان صادرا بلغة اجنبية وذلك في قلم كتاب المحكمة المختصة – طبقا لنص المادة التاسعة من القانون المصري الجديد.

ويلاحظ أنه لا يمكن قبول طلب التنفيذ إلا بعد انقضاء ميعاد رفع دعوى بطلان حكم التحكيم وهو – تسعون يوما من تاريخ إعلان الحكم للمحكوم عليه أما إذا كان المحكوم عليه قد رفع دعوى البطلان خلال الميعاد فيصبح ممكنا قبول طلب تنفيذ الحكم لأن الأصل أن مجرد رفع دعوى البطلان لا يوقف هذا التنفيذ.

وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور أحمد أبو الوفا : “من القواعد الأساسية في التشريع أن الأشكال في تنفيذ الحكم ليس من قبيل التظلم منه، ومن ثم لا تجدي إلا إذا كان مبناه وقائع لاحقه على صدور الحكم – إحتراما لمبدأ حجية الشيء المحكوم به إذ المفروض أن الحكم قد حسم جميع ما تعلق بالوقائع السابقة على صدوره، وبعبارة أخرى لا يعد الإستشكال وسيلة تظلم من الحكم ، فحجيته تفرض على سائر المحاكم عدا المحاكم التي تملك إعادة النظر فيه إذا طرح أمامها التظلم منه بمقتضى الطرق الخاصة التي وضعها المشرع للتظلم من الأحكام .

وقبل أن أعمال القواعد المتقدمة يمنع قاضي الأمور المستعجلة (قاضي التنفيذ في القانون الجديد) من الحكم بوقف تنفيذ حكم المحكم، لأن هذا الحكم متى صدر نهائيا أصبح واجب التنفيذ وقائما الى أن يقضي ببطلانه ممن يملك الحكم به، ولأن قاضي التنفيذ لا إختصاص له في بحث ما قد يعيب حكما نهائيا واجب النفاذ لخروج هذا البحث عن ولايته، ولكن الرأي الصحيح في هذا الصدد أن اختصاص محكمة الموضوع ببطلان حكم المحكم لا ينفي اختصاص قاضي التنفيذ بوقف تنفيذه، لأن هذا الأخير لا يفصل بصحة حكم المحكم أو ببطلانه وإنما يحكم بوقف التنفيذ مؤقتا متى تحقق من جدية النزاع.

وتأييد لهذا الرأي ما قررته محكمة النقض في حكم أصدرته في 10 مارس سنة 1955 وما قالته المحكمة العليا في هذا الصدد – أن للقاضي له بهذه المثابة أن يقدر وجه الجد في النزاع في إحدى هذه الأحوال ليحكم بوقف تنفيذ الحكم مؤقتا، لا ليحكم بين الخصمين في أصل الحق وهو بطلان حكم التحكيم الذي يجب أن يبقى سليما ليقول قضاء الموضوع كلمته فيه وفصل قاضي التنفيذ في هذه الحالة لا يعني كونه تقديرا وقتيا يلتمس به للنظرة الأولى ما يبدو أنه وجه الصواب في الإجراء المطلوب بصدد توافر شروط التنفيذ الجبري أو عدم توافرها .

ويرى الأستاذ الدكتور/ مختار بريري – أنه لا يختلف الأمر إذا قرن طالب البطلان طلبه في صحيفة دعوى البطلان، بطلب وقف التنفيذ إذا رأت المحكمة إستناد الطلب إلى أسباب جدية” فلها أن تأمر بوقف التنفيذ خلال ستين يوما من تاريخ أول جلسة محددة لنظر طلب وقف التنفيذ وعليها في هذه الحالة الفصل في دعوى البطلان خلال ستة أشهر من تاريخ صدور أمرها بوقف التنفيذ أن تأمر بتقديم كفالة أو ضمان مالي ويلاحظ أن كافة المواعيد السابق ذكرها رغم ما توصي به الصياغة تتسم بالطابع التنظيمي ولا يترتب على مخالفتها آثار قانونية .

وأخذا بهذا النظر نجد أن المادة 58/2 في القانون المصري تلزم القاضي بالإمتناع عن إصدار – أو التنفيذ إذا تحقق من توافر إحدى الحالات الأتية:

1. تعارض حكم التحكيم مع حكم سبق صدوره في المحاكم المصرية في موضوع النزاع والفرض هنا أننا أمام حكم قضائي بات، لأن هذا الحكم لا يصح الجدل ومناقشة ما أنتهى إليه الحكم على نحو يتعارض معه. ويجب أن يكون الحكم القضائي قد فصل في موضوع النزاع الذي صدر بشأنه حكم التحكيم المراد تنفيذه، لكن هل يمتنع القاضي عن الأمر بالتنفيذ حتى إذا تنازل الطرف المحكوم لصالحه قضائيا عن حقوقه المترتبة على هذا الحكم وقبل حكم التحكيم ولم يتمسك بالحكم القضائي الصادر لصالحه؟

الواقع أن قبول هذا الطرف للتحكيم أو الإستمرار فيه مع صدور حكم قضائي لصالحه يعني النزول ضمنا عن التمسك بالحقوق المترتبة على هذا الحكم كما لا يعد الأمر ماسا بمصالح الدولة أو كيانها السياسي أو الأقتصادي أي يخرج الأمر عن دائرة النظام العام. ولذا يجب على من صدر الحكم القضائي لصالحه ان يتمسك به ويطلب رفض التنفيذ تأسيسا على ذلك.

2. تضمن الحكم لما يخالف النظام العام، ويسري هذا البطلان على ما سبق أن أشرنا اليه في الفصل الثاني، بشأن الإستناد إلى هذا السبب لرفع دعوى البطلان. فالعبرة بالمفهوم المعتمد للنظام العام، مع إمكان تجزئة الحكم إذا كان الموضوع قابلا للتجزئة، فيصدر الأمر بتنفيذ الشق الصحيح، ويرفض تنفيذ الشق المخالف للنظام العام وعلى خلاف الحالة الأولى يأمر القاضي برفض التنفيذ إذا تبين له وجود ما يخالف النظام العام الدولي دون حاجة لتمسك أحد الأطراف بذلك.

3. عدم إعلان المحكوم عليه إعلانا صحيحا، والواقع أن هيئة التحكيم ملزمة بأن تسلم لكل طرف صورة من حكم التحكيم خلال ثلاثين يوما من صدوره، ولذا يصعب تحقق ذلك عملا إلا في الحالات التي يمتنع فيها طرف عن المشاركة في إجراءات التحكيم، كأن يرفض تعيين محكمة، وتتولى المحكمة ذلك وتصدر حكمها لما تحت يدها من مستندات، ولم يكن مشروع القانون يتضمن هذه الحالة التي لا تتلاءم مع الوضع الغالب في التحكيم.

ولا يخفي أن حصر هذه الأسباب التي تتوافر إحداها يتعين على القاضي رفض طلب التنفيذ، يعني عدم إمكان رفضه هذا الطلب لأي سبب آخر… ولكن تثور مشكلة إذا انقضى ميعاد رفع دعوى البطلان أو رفعت ولم يطلب وقف التنفيذ. هل يمكن للقاضي وقف التنفيذ إذا إتضح له وجود سبب من أسباب بطلان الحكم؟ لا شك ان له ذلك في حالة وجود مخالفة للنظام العام المصري، لأن السبب مشترك بين دعوى البطلان ورفض طلب التنفيذ. لكن ماذا لو أتضح له عدم وجود اتفاق التحكيم أو بطلانه أو تجاوز المحكمين حدود مهمتهم؟.

يذهب رأي إلى أن لقاضي التنفيذ رفض طلب التنفيذ إذا تبين له أحد أسباب البطلان، لأنه لا يتصور إصدار أمر بتنفيذ حكم إذا لحق به أحد هذه الأسباب. ويرى الأستاذ الدكتور مختار بريري – خلاف ذلك – لأن توفر سبب من أسباب البطلان، وعدم قيام مخالف البطلان لمصلحته بالتمسك به – بإستثناء حالة مخالفة النظام العام – برفع دعوى البطلان، لا يعني إلا نزوله عن التمسك بهذا البطلان – كما أن دعوى بطلان حكم المحكمين وفقا لتفسير النقض لا تتعلق بالنظام العام – وإنما يجب أن يتمسك بها صاحب المصلحة وخاصة أن حكم التحكيم يصدرحائزا للحجية ولقوة الأمر المقضي به، ووفقا لقضاء النقض تسمو إعتبارات قوة الأمر المقضي على إعتبارات النظام العام .

وإذا قضى بالبطلان لاحقا، يوقف التنفيذ وتعاد الحال إلى ما كان عليه ويعتبر ما تم كأن لم يكن، أما إذا رفضت دعوى البطلان، فيستمر التنفيذ دون أي عقاب، مع ملاحظة أن الأمر الصادر بتنفيذ حكم المحكمين لا يقبل التظلم منه ولكن رغم ندرة تحقق صور الإشكال في التنفيذ في أحكام التحكيم، فلا يوجد ما يمنع أحكامها ولو نظريا. أما الأمر الصادر برفض التنفيذ فيجوز التظلم منه للمحكمة المختصة أصلا أو المحكمة الإستئنافية حسب الأحوال على أن يرفع التظلم خلال ثلاثين يوما من صدور الأمر برفض التنفيذ.

ونود في هذا المقام الإشارة الى تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي وفقا لإتفاقية نيويورك، بإعتبار أن مصر من الدول الموقعة على الإتفاقية ودون أي تحفظات- رغم أن الإتفاقية سمحت للدول الموقعة بالتحفظ. وأما عن مرحلة الحصول على الإعتراف وتنفيذ حكم صادر لصالح طرف موقع على هذه الإتفاقية في مصر فيجب على من صدر الحكم لصالحه ان يتقدم بطلبه مرفقا به ما يلي:

1. أصل الحكم الرسمي أو نسخة معتمدة.
2. أصل اتفاق التحكيم او نسخة معتمدة.
3. تقديم ترجمة رسمية معتمدة أو بواسطة مترجم تم حلفه اليمين وذلك إذا كان صادرا بلغة غير لغة الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها – ويقدم الطلب ومرفقاته للجهة المختصة لقانون الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها .

ووفقا لنص م “297” مرافعات مصري، تختص بالطلب المحكمة الإبتدائية التي يراد تنفيذ في دائرتها وذلك بالأوضاع المعتادة لرفع الدعوى وذلك على أساس أننا نواجه – حكم تحكيم صدر من الخارج أو لا يعتبر وطنيا وفقا للقانون المصري. وينحصر الإختصاص في إصدار الأمر بالتنفيذ أو رفض طلب التنفيذ للمحكمة، وهي لا تملك الرفض إلا إذا اثبت الخصم المراد التنفيذ ضده توافر إحدى الحالات الآتية:

1. عدم أهلية أطراف التحكيم، طبقا لقانون الجنسية وفقا للقانون المصري.
2. عدم صحة اتفاق التحكيم – وفقا لقانون إرادة الأطراف فإذا لم يحدد هذا القانون – تقدير صحة أو بطلان الإتفاق في قانون البلد التي سينفذ فيها الحكم إذا لا فائدة من حكم تحكيم لا سبيل لتنفيذه.
3. خروج المحكمين عن حدود اتفاق التحكيم ومع ذلك يجوز الإعتراف في الحدود التي لم يحدث فيها تجاوز – إذا كانت التجزئة ممكنة.
4. مخالفة تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءاته طبقا لقانون الإرادة أو لقانون البلد الذي أجرى فيه التحكيم.
5. عدم إكتساب الحكم الصفة الإلزامية أو صدور أمر بإلغائة أو أيقافه من السلطة المختصة في البلد التي تم فيها التحكيم، أو وفقا للقانون الذي صدر الحكم بموجبه. ويكون للسلطة المطلوب منها إصدار الأمر بالتنفيذ وفق الفصل في الطلب ولها أن تأمر المحكوم عليه بتقديم الضمان المالي.
6. إذا كان النزاع لا يقبل التسوية بطريق التحكيم في البلد المطلوب التنفيذ فيها أو كان الإعتراف بالحكم وبتنفيذه يخالف النظام العام.

مما سبق يتضح أن هذه الأسباب تكاد تتطابق مع الأسباب التي تضمنها القانون المصري بإستثناء حالة عدم إكتساب الحكم الصفة الإلزامية وفقا لقانون البلد الذي أصدر فيه أو للقانون الذي صدر الحكم في ظله ويرى الدكتور مختار بريري “أن هذا السبب ملائم لمنع التنفيذ أو وقفه، ولا يصلح سبب لطلب البطلان. لكن المشرع المصري عند معالجته للأسباب التي تعوق تنفيذ الحكم – لم يورد هذا السبب مما يفهم منه أن قاضي التنفيذ عليه الإستجابة لطلب التنفيذ، حتى لو أثبت الخصم أن الحكم لم يصبح ملزما ومازال ممكنا الطعن فيه – أو أنه تم الغاؤه بالفصل أو أيقافه من البلد الذي صدر فيه وذلك عند طلب تنفيذ حكم اجنبي تسري عليه نصوص قانون التحكيم المصري .

والباحث يصادق على الرأي السابق فيما أنتهى إليه في هذا الصدد ويبقى لنا التعرض لتنفيذ حكم التحكيم وفقاً لقانون المرافعات يستبعد تطبيق نصوص قانون التحكيم الجديد إلا إذا اتفق الأطراف على سريانه كما وأن صدور الحكم في الخارج – لا يعني الخضوع لقواعد اتفاقية نيويورك التي تستلزم أن يكون التحكيم له طابع دولي مستمد من النزاع ويترتب على ذلك ان حكم التحكيم الصادر من الخارج، ويراد تنفيذه في مصر، لا تسري عليه قواعد قانون التحكيم في هذه الصورة إلا نصوص قانون المرافعات المصري وتنظيم المواد 269 إلى 298 كيفية تنفيذ الأحكام الصادرة من المحاكم الأجنبية على أحكام التحكيم في بلد أجنبي، بشرط أن يكون صادرا في مسألة يجوز التحكيم فيها للقانون المصري. ويلزم لتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي وقف للمواد الآنفة الذكر توافر مايلي:

1. شرط المعاملة بالمثل، أي يجوز التنفيذ بالشروط المقررة في قانون البلد الأجنبي الذي صدر فيه الحكم، لتنفيذ أحكام وأوامر التحكيم التي تصدر في مصر.
2. التأكد من عدم اختصاص المحاكم المصرية بالمنازعة والتحقق من إختصاص هيئة التحكيم الذي أصدرته والنص يعالج أصلا التأكد من اختصاص المحاكم الأجنبية بإصدار الحكم الأجنبي المراد تنفيذه، وهذا يتحدد وفقا لقواعد الإختصاص القضائي الدولي المقررة في القانون الأجنبي.
3. التحقيق من تكليف الخصوم بالحضور وأنه تم تمثيلهم تمثيلا صحيحا.
4. أن حكم التحكيم حاز قوة الأمر المقضي طبقا لقانون البلد التي صدر فيها الحكم أو القانون الذي صدر بموجبه
5. عدم تعارض حكم التحكيم مع حكم سبق صدوره من المحاكم المصرية وعدم تضمنه ما يخالف النظام العام والآداب – ومفهوم النظام العام هنا لا يترادف مع الصفة الآمرة للقواعد القانونية الواردة بالقانون المصري، وإنما المقصود تضمن الحكم الأجنبي ما يتصادم والأسس الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وذلك وطبقا لما سبق سرده في الفصل الثاني من هذا البحث.

ويلاحظ أن نصوص المرافعات قد تضمنت ما أغفله المشرع في قانون التحكيم الجديد، بشأن اشتراط أن يكون الحكم حائزا على الصفة الإلزامية لقانون إصداره، وهذا الحكم يتفق مع قوانين الإتفاقية، ومن الطبيعي أن تنطبق قواعد اتفاقية نيويورك عندما يكون الحكم الصادر من الخارج متعلق بمنازعة ذات طابع تجاري دولي، ولا يمكن أعمال نصوص قانون المرافعات التي لم يلغها المشرع. وذلك إعمالا لنص م “301” مرافعات والتي تعطي الأولوية لأحكام الإتفاقات الدولية – مما يعني إعطاء الأولوية لإتفاقية نيويورك وغيرها التي أنضمت مصر إليها.

هذا فيما يتعلق بتنفيذ حكم التحكيم المصري والأجنبي طبقا للقوانين المصرية المنظمة لذلك والمتمثلة في القانون المصري الجديد رقم 27 لسنة 1994 في الأحوال السابق ذكرها، ونصوص قانون المرافعات التي لم تلغى في حالة ما إذا كان الحكم اجنبي وغير متعلق بمنازعة ذات طابع تجاري دولي وقواعد اتفاقية نيويورك إذا كانت المنازعة ذات طابع تجاري .

المبحث الثاني تأثير النظام العام على التنفيذ

تمهيد:

بعد أن إستعرضنا في المبحث الأول من هذا الفصل الأمر بتنفيذ حكم التحكيم وبما أن المشرع قد أحاط حكم التحكيم بحصانة بالغة إنتهت معه بأن أوصد كل أبواب الطعن على هذا الحكم وصولا به بأسرع وقت للتنفيذ، ولم يبطل المشرع هذا التنفيذ إلا إذا ترآى للقاضي أن هذا التنفيذ يتعارض مع النظام العام “ففي هذه الحالة فقط يتعين عليه الأمر بوقف هذا التنفيذ”.

ورأينا بأن محكمة النقض قضت بأن التمسك بحجية حكم التحكيم أمر لا يتعلق بالنظام العام سواء في التحكيم الداخلي، أو في التحكيم الدولي، ورأينا أنه طبقا لنص م (56) من القانون المصري الجديد لا يمكن قبول طلب التنفيذ إلا بعد إنقضاء 90 يوما من تاريخ إعلان التحكيم للمحكوم عليه أما إذا كان المحكوم عليه قد رفع دعوى البطلان خلال المدة المنصوص عليها فيصبح ممكنا قبول طلب تنفيذ الحكم لأن الأصل أن مجرد رفع دعوى البطلان لا يوقف التنفيذ، كما أنه يمتنع على قاضي التنفيذ إذا وجد أي سبب من الأسباب الثلاثة التي سردها المشرع على سبيل الحصر أن يصدر أمره برفضه التنفيذ إذا ما توافرت إحداهما.

ولقد إسترعى إنتباهنا أن أثر هذه الأسباب على رفض التنفيذ هو أثر نسبي بإستثناء حالة مخالفته للنظام العام بمفهومه المصري، أن محكمة النقض قضت في ظل قانون المرافعات القديم بأن حكم المحكمين يكون له حجية وقوة ملزمة بمجرد صدوره، وطالما لم يستأنف الحكم – فلا يقبل النعي عليه بأنه، أو أن موضوع النزاع لم يحدد في مشارطة التحكيم التي خلت من موافقة المحكمين على قبول المهمة فاياً كان وجه الرأي في هذه الأسباب – فإنه لا يجوز للخصوم أن يأتوا بما يتناقض والحجية – لأن قوة الأمر المقضي تسمو على إعتبارات النظام العام ولذلك يثور عند التنفيذ عدة مشكلات ولتحديدها ينبغي أولا ان يحدد معيار هذه المنازعات، وثانيا أنواعها .

منازعات التنفيذ

أ- معيار هذه المنازعات:

هناك شرطان يجب تحققهما حتى نكون أمام منازعة تنفيذ:

1. أن يكون التنفيذ جبريا أي الذي تجريه السلطة العامة قهرا عن المدين.
2. أن تتعلق المنازعة بسير هذا التنفيذ أو بإجراءاته.

ب- أنواع منازعات التنفيذ:

تنقسم منازعات التنفيذ إلى موضوعية ووقتية والمنازعات الموضوعية هي تلك التي يطالب فيها المدعى بوضع حد لموضوع النزاع مثل طلب الحكم بصحة التنفيذ أو بطلانه – أما المنازعات الوقتية – فهي تلك التي يكتفي فيها المدعي بطلب اتخاذ إجراء وقتي الى حين الفصل في موضوع المنازعة، مثل طلب الحكم بوقف التنفيذ مؤقتا، وهذا هو ما أجازه قانون التحكيم المصري الجديد من حيث إيقاف إجراءات التنفيذ لحين الفصل في بطلان حكم التحكيم.

ج- التفرقة بين منازعات التنفيذ وطرق الطعن في الأحكام:

وتظهر أهمية هذه التفرقة عندما يكون سند التنفيذ حكما قضائيا فهذا الحكم يصلح سببا للطعن فيه بطرق الطعن التي قد تزال مفتوحة أثناء التنفيذ لكنها لا تصلح سببا للمنازعة في التنفيذ وهنا تكمن المشكلة، ولقد أوصد المشرع المصري أبواب للطعن على حكم التحكيم إلا في حدود حصرية وأنسحب هذا الأثر أيضا على تنفيذ حكم التحكيم.

د- التفرقة بين منازعات التنفيذ والتظلم من وصف الحكم:

وصف الحكم بأنه نهائي هو جزء من الحكم له حجيته ولذلك لا يجوز الإستناد إلى الخطأ في وصف الحكم كسبب للمنازعة في التنفيذ – لأن منازعات التنفيذ ليست طريقا للمساس بالحجية.

وطبقا لما سبق أن أشرنا في بحثنا في الفصل الثاني والثالث ان حكم التحكيم يصدر حائزا لحجيته ولقوة الأمر المقضي به بحيث أنه لا يجوز المساس بهذه الحجية طبقا للقانون المصري الجديد للتحكيم، بعكس ما جاء بإتفاقية نيويورك للإعتراف وتنفيذه بالأحكام الأجنبية التي تقضي بإيقاف التنفيذ إذا لم يحز الحكم صفته الإلزامية في قانون بلد صدور الحكم وهذه مشكلة أخرى لم يتم معالجتها في القانون المصري الجديد للتحكيم.

ولكن من الأسباب الموجبة لطلب الأمر بوقف التنفيذ وأهمها من ناحية رعاية المشرع لها هي – إذا كان طالب الأمر بوقف التنفيذ على سبب سابق على صدوره لأنه ليس للحكم حجة على غير أطرافه. وقد أشرنا سلفا أن هذا الموضوع لم يعالج من جانب المشرع المصري مواكبا بذلك خطته من أن يشمل التحكيم الداخلي والخارجي معا في قانون واحد – كما أشرنا إلى كيفية معالجة هذا الأمر.

ولقد إسترعى إنتباهنا موقف المشرع المغربي الذي قام بتغيير نصوصه حتى تتواكب مع ظروف موضع التحكيم وعالج بها ما سبق ان أشرنا اليه آنفا – حيث نص قانون المسطرة (المرافعات المغربية المدنية الجديد) على عدم قبول المحكمين الطعن في اي حال م”319″ من قانون المسطره فهو بعد أن نص على عدم قبول حكم المحكمين الطعن في أية حالة – عاد فأوضح أن ” آثار أحكام المحكمين” لا تسري بالنسبة للغير الذي يمكن له ان يقدم تعرض الغير أو (إعتراض الغير الخارج عن الخصومة).

ولقد عرف القانون الغربي “الغير” بأنه:

‌أ- الغير هو الشخص الذي لم يكن مدعيا ولا مدعى عليه أو متدخلا في الدعوى أو ممثلا بأحد الخصوم (حارس الأشياء مثلا).
‌ب- الشخص الذي ناب عنه في الدعوى وكيل تعاقدي او نائب شرعي في الحالة التي لا تكون فيها هذه الوكالة أو هذه النيابة صحيحة أو في الحالة التي يتجاوز فيها الوكيل او النائب الشرعي صلاحيته.
‌ج- ويعتبر الغير الذي لم يكن ممثلا في الدعوى – الحلف الخاص- إذا كانت حقوقه قد نشأت – قبل صدور الحكم في الدعوى.
‌د- إذا صدر حكم في مواجهة أحد الورثة بوصفه ممثلا لتركة وكان الحكم الصادر نتيجة تدليس إرتكبه الوريث بحق الورثة.
‌ه- الدائنون – إذا كان الحكم قد صدر نتيجة للتواطؤ والغش يقصد الإضرار – بحقوق الدائنين – فيعتبرون إذ ذاك من الغير أو إذا كان الحكم على المدين مبني على الصورية وكنا نود أن يسلك المشرع المصري مسلك المشرع المغربي في هذا الصدد .

النظام العام يتدخل للتفريق بين الداخلي والدولي:

أخذت ضرورة التفريق بين التحكيم الدولي والتحكيم الداخلي تفرض نفسها من خلال النظام العام الداخلي الذي لم تجد الدول في مصلحتها تطبيقه على الأجانب وقد تساءل الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن معنى النظام الأعلى للمجتمع وأجاب “أن النظام العام والآداب هي الباب الذي تدخل منه العوامل الإجتماعية والإقتصادية” والخلقية فتؤثر في القانون وروابطه وتجعله يتمشى مع التطورات الإجتماعية والإقتصادية “ويخرج الدكتور السنهوري بنتيجة” أن النظام العام فكرة نسبية طبقا للزمان والمكان ومن هنا فرق الفكر القانوني في العالم بين النظام العام الدولي والنظام العام الداخلي – فالمصلحة العليا لمجتمع ما هي شيء والمصلحة العليا لكل المجتمعات الدولية في العالم شيء آخر .

فالنظام العام الدولي أبوابه عريضه ونوافذه مشرعة وهو يترفع عن نسبية المكان ويحاول الإرتباط بمبادئ عامة – مثل تلك التي أشار اليها نظام محكمة العدل الدولية في لاهاي – أي الإتفاقيات الدولية والأعراف الدولية والمبادئ العامة للقانون المعترف به في الأمم المتحدة، وإجتهاد وفقه كبارة العلماء.

ويرى الباحث أن المصلحة الوطنية تستوجب حماية المراكز القانونية بإعتبارها عملا من أهم أعمال المشرع والمتمثل في أجهزة الدولة التي تعمل من اجل المحافظة عن هذا الكيان الإجتماعي لسن تشريعات تكفل له حماية مركزه القانوني بأن لا تجعله في مثل مركز الأجنبي – الذي يستفيد من دولية التشريعات وأهمها الغاء كل طرق الطعن على أحكام التحكيم – مما يجعل مصلحة الفرد تتضاءل، حيث يطول ويشمله تنفيذ حكم تحكيم لم يكن هو أصلا طرفا فيه. وهذه مشكلة تنفيذ لم يعالجها المشرع المصري أو الإماراتي، وبالرغم من قضاء محكمة النقض المصري السابق الإشارة اليه في متن البحث إلا أنها شملته من زاوية واحدة ولا يمكن تعميمها حسب واقع الحال والظروف.

كما يتحتم عدم التوسع في قبول أحكام التحكيم الأجنبية وتطبيقها بما يحقق التوازن في المراكز القانونية سواء كانت مراكز اجنبية أم مراكز وطنية مع عدم إعطاء مميزات لم يمنحها أصلا قانون دولة الحكم الذي صدر فيه حكم التحكيم لانه من الممكن على المدى البعيد أن يجد المشرع نفسه أمام مشكلات تجنبتها دولة البلد الذي صدر الحكم فيه مقدما، ومثالها كما سبق أن أوضحنا – هو تضمن اتفاقية نيويورك للإعتراف وتنفيذ الأحكام بعدم صدور الأمر بالتنفيذ إذا لم يحز الحكم الصفة الإلزامية في دولة الحكم الذي صدر فيه. وهنا لم يعالج المشرع المصري هذه الحالة، بل توسع وقرر أنه حتى ولو لم يكن الحكم الذي صدر في الخارج نهائيا وباتا فإنه أيضا يجوز تنفيذه.

وفي نهاية المبحث نستعرض معا تساؤلا: وما الموقف إذا حدث تعارض بين قاعدة آمرة واجبة الإتباع وتحقق الإستقرار القضائي مع حكم تحكيم لا يتضمن إخلالا بالنظام العام ولكنه يهدد المراكز القانونية الثابتة، التي يستحيل معها إرجاع الحال كما كان عليه؟! وواقع الأمر أن الإستقرار التشريعي يتطلب مناصرة الإتجاه الذي يقضي بالموائمة بينها.

خاتمة ونتائج وتوصيات

إستعرضنا في هذا البحث تأثر فكرة النظام العام على حكم التحكيم وتنفيذه في القانون المصري مقارنا بالتشريع الإماراتي حيث تناولنا ماهية التحكيم بإعتباره اتفاق اطراف علاقة قانونية معينة على أن يتم الفصل في المنازعات التي تثور بينهم عن طريق أشخاص يتم إختيارهم كمحكمين وماهية النظام العام بإعتباره مجموع المصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع وهي فكرة نسبية مرنة. وإستعرضنا أيضا فكرة البطلان النسبي والبطلان المطلق للأحكام بصفة عامة وأحكام التحكيم بصفة خاصة، وأوضحنا أن مخالفة حكم التحكيم للنظام العام تشكل بطلانا مطلقا. ثم إستعرضنا بعد ذلك تعلق النظام العام وتأثيره على تنفيذ حكم التحكيم من حيث الأمر بتنيفذ هذا الحكم وإمتناع القاضي عن إصدار الصورة التنفيذية للحكم إذا ما وجد أن هناك تعارضا مع النظام العام.

ولقد أسفر بحثنا عن النتائج التالية:

1. قانون التحكيم المصري يعد خطورة كبيرة على طريق التقدم لنظام التحكيم المصري، وتكمن أهميته في إعطائه دفعة للتجارة والإستثمار وانه يساير نسق القانون النموذجي الذي وضعته لجنة القانون التجاري الدولي بالأمم المتحدة ولكي يكون القانون متمشيا مع المجموعة الدولية بخصوص التحكيم التجاري الدولي.
2. إن القانون المصري وأن إختلف في بعض المسائل التي تخرج عن مبادئ القانون النموذجي فإنما فعل ذلك ليكون أكثر إتساقا مع النسيج التشريعي المصري ولعل مما ينفرد به التشريع المصري هو تنظيمه للتحكيم الداخلي والدولي في بوتقة واحده.
3. حظر المشرع الطعن في احكام التحكيم التي تصدر طبقا لهذا القانون الخاص بالتحكيم بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية ولا تقبل دعوى البطلان إلا في أحوال إستثنائية عددها حصرا، كما قرر أيضا أن المحكمة تقضي ببطلان الحكم إذا ما تضمن ما يخالف النظام العام في مصر.
4. أن المشرع قيد القاضي الذي يصدر أمر التنفيذ بأنه لا يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم وفقا لقانونه المصري إلا بعد التأكد بأنه لا يتضمن ما يخالف النظام العام في مصر.

فالنظام العام أصبح سببا يعطي القاضي في محكمة الموضوع الحكم بالبطلان من تلقاء نفسه إذا ما تم مخالفته من قبل المحكم، ويعطي قاضي التنفيذ الحق في رفض إصدار أمر التنفيذ إذا ما ظهر له ان الحكم به تعارض مع النظام العام في مصر.

ولقد إنتهينا إلى انه:

1. يجب الوضع في الإعتبار الموازنة بين إعتبارات صيانة قيم المجتمع وآدابه وبين إعتبارات نمو التجارة الدولية والداخلية وإزدهارها، وأنه يجب في ظل مرونة فكرة النظام العام ونسبتها أن تكون هناك ضوابط أو معايير محددة تضع هذه الفكرة الهلامية في إطار انضباطي، ويمكن ان يضع هذا الإطار أما محكمة النقض أو التمييز أو المشرع المصري أو الإماراتي، حتى لا تترك أحكام التحكيم في مهب رياح السلطة التقديرية لقاضي الموضوع او قاضي التنفيذ.
2. ونوصي أيضا بأن يتم الفصل بين التحكيم الداخلي والتحكيم الخارجي في القانون المصري والإماراتي ووضع قواعد خاصة لكل منهما تتفق وطبيعتها.
3. العمل على تدريب كوادره قادرة على صياغة شرط التحكيم في عقود التجارة الدولية والداخلية ولعل تجربة دبي في إنشاء مركز أبوظبي للتحكيم التجاري ومركز دبي للتحكيم التجاري وكذلك تجربة دول مجلس التعاون في إنشاء مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، خير مثال على ذلك.

المراجـع

أولا: الكتب:

1. د. أحمد أبو الوفا “التحكيم الإختياري والإجباري” منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الرابعة 1983.
2. د. توفيق حسن فرج “المدخل للعلوم القانونية” الدار الجامعية، الطبعة الثالثة بيروت – لبنان 1993
3. د. عبد الحكم فودة “البطلان في قانون المرافعات المدنية والتجارية” الطبعة الثانية دار المطبوعات الجامعية، الأسكندرية 1993 – “البطلان في القانون المدني والقوانين الخاصة” الطبعة الثانية، دار المطبوعات الجامعية، الأسكندرية 1993.
4. د. عبد الحميد الأحدب “التحكيم في أربعة أجزاء الأول عن أحكامه ومصادره، والثاني عن التحكيم في البلاد العربية والثالث عن التحكيم الدولي والرابع عن وثائق تكميلية” توزيع مؤسسة نوفل، بيروت – لبنان 1986.
5. د. عبد الحميد الشواربي “التحكيم والتصالح في ضوء الفقه والقضاء والتشريع” دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1996.
6. د. سامية راشد “التحكيم في إطار المركز الإقليمي بالقاهرة” دار منشأة المعارف الإسكندرية، مصر 1986.
7. د. سمير السيد تتاغو “النظرية العامة للقانون” منشأة المعارف، الإسكندرية مصر 1985.
8. د. مختار أحمد بريري ” التحكيم التجاري الدولي” دار النهضة العربية القاهرة، مصر 1995.
9. د. منير عبد المجيد “قضاء التحكيم في منازعات التجارة الدولية” دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1995.
10. د. ناريمان عبد القادر اتفاق التحكيم “دراسة مقارنة” دار النهضة العربية، القاهرة مصر 1996.
11. المستشار/ معوض عبد التواب “المستحدث في التحكيم التجاري الدولي” الطبعة الأولى، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية 1997.
12. د. محمود هاشم “قواعد التنفيذ الجبري وإجراءته في قانون المرافعات” الطبعة الثانية، دار الفكر العربي 1991.
13. د. محمود هاشم “النظرية العامة للتحكيم” دار الفكر العربي – القاهرة 1990.
14. د. وجدي راغب “تأصيل الجانب الإجرائي في هيئة التحكيم” بحث منشور في مجلة كلية الحقوق، جامعة الكويت، السنة السابعة، العدد الرابع، ديسمبر 1983.
15. د. عبد الحميد الأحدب “التحكيم في البلاد العربية” المجلد الثاني، بيروت لبنان، 1986.
16. د. آمال حمد الفزايري “دور قضاء الدولة في تحقيق فاعلية التحكيم، منشأة المعارف بالاسكندرية، مصر 1993م.

ثانيا: الموسوعات:

1. الموسوعة الذهبية لأحكام محكمة النقض المصرية في ثلاثين عاما للأستاذين/ حسين الفكهاني، وعبد المنعم حسني.
2. المدونة الذهبية لأحكام النقض، للأستاذ/ عبد المنعم حسني.