حكم للمحكمة الدستورية : إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة

باسم صاحب السمو أمير الكويت
الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح
المحكمة الدستورية
بالجلسة المنعقدة علناً بالمحكمة بتاريخ 14 من جمادى الآخرة 1430هـ الموافق 7 من يونيه 2009م.
برئاسة السيد المستشار/ يوسف غنام الرشيد رئيس المحكمة
وعضوية السيدين المستشارين/ فيصل عبد العزيز المرشد
وراشد يعقوب الشراح وصالح مبارك الحريتي وخالد سالم علي
وحضور السيد/ سامي أبو العينين رمضان أمين سر الجلسة

صدر الحكم الآتي:
في القضية المحالة من المحكمة الكلية (دائرة الجنايات/ 7) رقم (163) لسنة 2007 المباحث الجنائية (169/2007) حصر العاصمة:
المقامة من: النيابة العامة.
ضد: 1- عبد الكريم حمد المحمد.
2- تركي خالد تركي المطيري.
المقيدة في سجل المحكمة الدستورية برقم (1) لسنة 2009 “دستوري”.

الوقائع
حيث إن حاصل الوقائع – حسبما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – أن النيابة العامة أسندت إلى (المتهمين) عدة تهم نسبت فيها إليهما أنهما في غضون عام 2006 بدائرة مخفر المباحث الجنائية محافظة العاصمة ارتكب (المتهم الأول) تزويراً في محرر رسمي بقصد استعماله على نحو يوهم بأنه مطابق للحقيقة، واستعمال محرر رسمي فقد قوته القانونية قاصداً الإيهام بأنه ما زال محتفظاً بقوته القانونية، وسرقة بطاقة مدنية وذلك على النحو المبين بالتحقيقات، وقيام (المتهم الثاني) بارتكاب تزوير في محرر رسمي بقصد استعماله على نحو يوهم بأنه مطابقة للحقيقة، وانتحال شخصية، واستعمال محرر رسمي زوره غيره مع علمه بتزويره، واشتراكه في جريمة بعد وقوعها حال علمه بتمام ارتكابها بإخفاء البطاقة المدنية المتحصلة من جريمة السرقة موضوع التهمة المسندة إلى المتهم الأول وذلك على النحو المبين بالتحقيقات، وطلبت النيابة عقابهما بالمواد (49/ ثانياً) و(55/1) و (217/1-2) و(219) و(257) و (259/1) و(260) و(261) و(282) من قانون الجزاء.

وأثناء سير الدعوى الجزائية أمام محكمة الجنايات دفع المحامي (محمد منور المطيري) الحاضر مع (المتهم الثاني) بعدم دستورية نص البند ثانياً من المادة (49)، ونص المادة (55/1) من قانون الجزاء لمخالفتهما لنص المادة (33) من الدستور بشأن مبدأ شخصية العقوبة، قولاً منه بأنه لا يجوز إنزال العقاب على من لم يكن فاعلاً للجريمة أو شريكاً فيها، وإذ ارتأت محكمة الموضوع جدية الدفع بعدم الدستورية فقد قضت بوقف الدعوى وإحالة الأمر إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه.
وقد ورد ملف الدعوى إلى إدارة كتاب هذه المحكمة وقيدت في سجلها برقم (1) لسنة 2009 دستوري، وتم إخطار ذوي الشأن بذلك.
هذا وقد نظرت هذه المحكمة الدعوى على الوجه المبين بمحاضر جلساتها، وقررت إصدار الحكم بجلسة اليوم.

المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع المرافعة، وبعد المداولة.
حيث إن إجراءات الإحالة لهذه المحكمة قد استوفت أوضاعها المقررة قانوناً.

وحيث إن المادة (49) من قانون الجزاء تنص على أنه “يعد شريكاً في الجريمة بعد وقوعها من كان عالماً بتمام ارتكاب الجريمة وصدر منه فعل من الأفعال الآتية: … ثانياً: إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها، ويستوي أن يتعلق الإخفاء بذات الأشياء المتحصلة أو المستعملة في ارتكاب الجريمة أو يتعلق بأشياء استبدلت بها أو نتجت من التصرف فيها.”، كما تنص المادة (55/1) من ذات القانون على أن “يعاقب الشريك في الجريمة بعد وقوعها بالعقوبة المقررة لها، إلا إذا كانت الجريمة جناية فلا يجوز أن تزيد العقوبة على الحبس مدة خمس سنوات”.

وحيث إن مبنى النعي على هذين النصين – حسبما يبين من حكم الإحالة – أن أولهما قد جرم فعل إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها بعد وقوعها وكان الفاعل على علم بتمام ارتكابها، وأسبغ على المخفي وصف الشريك في الجريمة بعد وقوعها، وأن النص الثاني أنزل العقاب الذي حدده على من أسبغ عليه هذا الوصف، في حين أن الاشتراك في الجريمة يتطلب قصداً خاصاً وإتيان فعل من الأفعال المكونة للاشتراك كالتحريض أو الاتفاق أو المساعدة مما يستوجب عقلاً ومنطقاً أن تكون هذه الأفعال سابقة على ارتكاب الجريمة أو معاصرة لها لأنها تقع بناء على فعل الشريك وما قصد إليه، ولهذا فإن معاقبة من أخفى الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها دون قيامه بأي دور في الجريمة قبل ارتكابها واعتباره شريكاً فيها بعد وقوعها يخالف مبدأ شخصية العقوبة المنصوص عليه في المادة (33) من الدستور.

وحيث إن هذا النعي سديد، ذلك أن النص في المادة (30) من الدستور على أن “الحرية الشخصية مكفولة” وفي المادة (32) منه على أنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون…” وفي المادة (33) منه على أن “العقوبة شخصية” يدل – وحسبما جرى به قضاء هذه المحكمة – على أن مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة الذي يخول المشرع بموجب سلطته التقديرية – التي يمارسها وفقاً للدستور – الحق في إنشاء الجرائم وتحديد العقوبات التي تناسبها، وأن اتخذ هذا المبدأ من كفالة الحرية الشخصية بنياناً لإقراره، وأساساً لتأكيده إلا أن هذه الحرية ذاتها هي التي تقيد محتواه ومضمونه، بحيث لا يكون إنفاذه إلا بالقدر اللازم الذي يكفل صونها، ولازم ذلك أنه يجب أن تكون الأفعال المؤثمة محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها حتى يكون المخاطبون بها على بينة من حقيقة تلك الأفعال التي يتعين عليهم اجتنابها وذلك تحقيقاً لهدف المشرع من العقوبة وهو الزجر الخاص للمجرم جزاءً وفاقاً لما اقترفته يداه من جرم، والردع العام لغيره لحمله على الإعراض عن إتيان الجرم، كذلك فإن مراعاة الحرية الشخصية تقتضي عدم إعمال نصوص عقابية يساء تطبيقها بالنسبة إلى المراكز القانونية القائمة للمخاطبين بها.

كما أن شرعية العقوبة بينها وبين شخصية العقوبة صلة لا تنفصم، فهما ترتبطان بمن كان مسئولاً عن ارتكاب الجريمة، فالأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحملها إلا المسئول عنها قانوناً، ذلك بأن الشخص لا يحمل إلا وزر نفسه، ولا يدعى إلى حمل وزر غيره، فعاقبة الجريمة لا يؤخذ بها إلا من جناها ولا يعاقب عنها إلا شخص من قارفها، سواء كان فاعلاً أصلياً لها أو كان شريكاً فيها، وهذه الأمور وإن كانت تتسق مع قواعد العدالة – من منظور اجتماعي – فإنها تجد أصلها الثابت في مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء، وآية ذلك قول الله تعالى في محكم التنزيل (ولا تزر وازرة وزر أخرى) سورة الإسراء الآية (15)، وقوله عز وجل (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) سورة سبأ الآية (25).

وحيث إن الاشتراك في الجريمة – بحسب الأصل – لا يعتبر قائماً إلا إذا توافر في حق الشريك إتيانه بفعل من الأفعال التي تدل عليه من تحريض أو اتفاق أو مساعده للفاعل الأصلي للجريمة قبل وقوعها أو في وقت معاصر لها، وثبوت اتجاه إرادته وانصراف قصده من وراء هذا السلوك إلى وقوعها، إذ أن المدار في الاشتراك في الجريمة هو علاقة الشريك بذات الفعل المؤثم المكون للجريمة، وليس بأشخاص من ساهموا معه فيها، فالشريك يستمد صفته من فعل الاشتراك الذي ارتكبه وقصده منه ومن الجريمة التي وقعت بناء عليه، فهو بالقطع شريك في الجريمة ذاتها وليس مجرد شريك مع شخص فاعلها، ولما كان النصان المطعون فيهما قد اعتبرا من قام بإخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها بعد تمام ارتكاب الجريمة شريكاً فيها وعليه عقوبتها، دون أن يصدر منه قبل وقوعها أي فعل من أفعال الاشتراك ينبئ بانعقاد نيته واتجاه إرادته وانصراف قصده إلى ارتكاب الجريمة ذاتها، فإن تجريم فعل الإخفاء وإنزال العقوبة المقررة للجريمة الأصلية بالمخفي على الرغم من أنه كان بمنأى عنها ومنقطع الصلة بها حتى تمام وقوعها، تحت وصف الشريك في الجريمة بعد وقوعها مؤداه حتماً إلصاق جرم بشخص لم يقترفه وعقابه عن وزر لم يفعله، مما ينطوي بعينه على إهدار لأحكام الدستور بشأن شخصية العقوبة والحرية الشخصية، والتي تقتضي أن تكون سلطة المشرع التقديرية في إنشاء الجرائم وفرض العقوبات التي تناسبها بما يكفل صون هذه الحرية وحمايتها، ودون خروج على أحكام الدستور.

ومن الجدير بالذكر أن المشرع الكويتي قد جرم فعل إخفاء أدلة الجريمة حيث نص في المادة (133/1) من قانون الجزاء على أن “كل من علم بوقوع جناية أو جنحة، إذا كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بوقوعها، وأعان الجاني على الفرار من وجه القضاء إما بإيواء الجاني المذكور، وإما بإخفاء أدلة الجريمة، يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة واحدة وبغرامة… أو بإحدى هاتين العقوبتين”.

ولا مراء في أن تجريم فعل إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها في قواعد الاشتراك في الجريمة بعد وقوعها، والتي تعتبر من القواعد العامة، بالإضافة إلى تجريم فعل إخفاء أدلة الجريمة بموجب هذا النص الخاص من شأنه أن يفضي إلى ازدواج تشريعي يستعصى على التوفيق في مجال تجريم هذا الفعل، كما أنه يؤدي إلى التباس لدى المخاطبين بأحكام هذه النصوص بشأن حدودها ونواهيها، بالإضافة إلى ذلك فإن العدالة تأبى المساواة في العقاب بين شخص اشتراك مع الجاني في ارتكاب الجريمة بكل تفاصيلها قبل وقوعها وبين شخص لم يقم بأي دور فيها، وكل ما فعله هو إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها بعد تمام وقوعها. ولهذه الاعتبارات السابقة آثرت معظم التشريعات المقارنة الاكتفاء بتجريم فعل إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها بعد تمام وقوعها بنصوص خاصة وعدم تجريم هذا الفعل في القواعد العامة تحت وصف الاشتراك في الجريمة بعد وقوعها.
وترتيباً على ما تقدم يتعين القضاء بعدم دستورية النصين المطعون فيهما لمخالفتهما حكم المادتين (30) و (33) من الدستور.

فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة:
(أولاً): بعدم دستورية نص البند “ثانياً” من المادة (49) من قانون الجزاء فيما تضمنه من اعتبار الشخص شريكاً في الجريمة بعد وقوعها إذا قام “بإخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها بعد تمام وقوعها، ويستوي أن يتعلق الإخفاء بذات الأشياء المتحصلة أو المستعملة في ارتكاب الجريمة أو يتعلق بأشياء استبدلت بها أو نتجت من التصرف فيها.”.

(ثانياً): بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة (55) من ذات القانون فيما تضمنته من معاقبة من صدر منه فعل إخفاء الأشياء المتحصلة من ارتكاب الجريمة أو التي استعملت في ارتكابها باعتباره شريكاً فيها بعد وقوعها.
أمين سر الجلسةرئيس المحكمة