تطبيق مبدأ العلمانية

1 – العلمانية، مبدأ عالمي شامل، هو من قيم الجمهورية

1.1 مبدأ جمهوري تكون عبر التاريخ

إن العلمانية صنعت تاريخنا الجماعي.

إن شهادة ميلاد العلمانية في مفهومها المعاصر قد خطتها الثورة (الفرنسية) مؤكدة على استقلالية المعتقد، بما في ذلك على الصعيدين الروحاني والديني. وهذا المفهوم هو مفهوم حديث لدرجة أنه تمت صياغته بحذر في المادة 10 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 : ” يمنع التعرض لأي شخص بسبب آراءه وأفكاره، بما في ذلك الدينية منها، شريطة ألا يخل التعبير عنها بالنظام العام الذي أرساه القانون”. وقامت الجمعية التشريعية في 20 أيلول/سبتمبر 1792 بعلمنة الأحوال المدنية والزواج وبهذا لم تعد المواطنة مرتبطةً بالدين. كما أن تاريخ العلمانية لم يخلوا من الأزمات والمواجهات فقد أدى اعتماد مرسوم التشكيل المدني لهيئة رجال الكهنوت، مكوناً تدخلاً سياسياً في مجال الدين، إلى انقسامات دامية.

كما أن دخول القانون المدني حيز التنفيذ قد أضفى نهائياً صفة العلمنة على حقوق الأشخاص والمجتمع.

وأخذت الكنيسة والجمهورية تدخلان تدريجياً في صراع بين وجه للبلاد يقابله وجه آخر بحيث أصبحت فرنسا ذي وجهان.

وعندها ترسخت العلمانية في مؤسساتنا مع اعتماد القانون الجمهوري الهام بتاريخ 9 كانون الأول/ديسمبر 1905 القاضي بالفصل ما بين الدين والدولة. وهكذا لم تعد فرنسا تعرف بنفسها على أنها أمة كاثوليكية المذهب، وقد كان هذا الانفصال مؤلماً لكثير من الفرنسيين وأثار العديد من النزاعات.

أما في المستعمرات، حيث تلتقي العلمانية الفرنسية بالإسلام، فقد اتسمت سياسة الجمهورية بالغموض والإبهام. ففي الجزائر التي كانت تعد جزأً لا يتجزأ من الجمهورية حتى العام 1962، نص قانون عام 1905 على التطبيق الكامل لمبادئ العلمانية. ولكن، ومن خلال مراسيم تطبيق استثنائية اعتمدتها محافظة الجزائر آنذاك، تم العمل بنظام استثنائي يرتكز على قانون خاص بالسكان الأصليين تم بموجبه الإبقاء على قواعد الأحوال الشخصية للمسلمين أو اليهود. وقد كشف الإعلان عن مبادئ جمهورية علمانية، والاستثناءات في تطبيقها على أراض معينة، عن تناقض خاص بالدولة الفرنسية المستعمرة. وحالت هذه العملية دون ازدهار علوم الإسلام في بيئة علمانية.

وبالرغم من هذه الاستثناءات، وما كان للمشادات والتصادمات العنيفة من دلالة رمزية، نجحت علمانية القرن العشرين في تحويل راية الحرب هذه إلى قيمة من القيم الجمهورية تحظى بقبول واسع النطاق، إذ التفت كافة مكونات المجتمع حول الميثاق العلماني. وقد كان إدراج العلمانية ضمن المبادئ الدستورية في عام 1946 ومن ثم في عام 1958 بمثابة تكريس لحالة التهدئة هذه.

فتاريخ العلمانية ليس قصة سير حتمي نحو التقدم بل إن العلمانية خرجت من كل معركة من تلك المعارك التي خاضتها بحلة جديدة، متجددة. ويندرج التجاذب القائم اليوم في هذا المنظور.

1.2 مفهوم العلمانية وما تحمله من آمال

من غير الممكن حصر العلمانية في مفهوم حياد الدولة. فركائزها الأساسية تقوم على الاحترام والضمانات والمتطلبات والعيش المشترك. وتشكل كل هذه الأمور مجموعة حقوق وواجبات للدولة والأديان والأفراد.

1.2.1 احترام تنوع الخيارات الروحانية والمذاهب

تتطلب العلمانية استقلالية السلطة السياسة كما استقلالية مختلف الخيارات الروحانية أو الدينية التي لا سلطة لها على الدولة كما أن ليس لهذه الأخيرة سلطة عليها.

وفي حيز علماني، يعد كل تدخل سياسي في ما يختص بالتوجهات الروحانية أمر غير مشروع. إن العلمانية تنطوي على حياد الدولة: فعليها ألا تمنح أية أفضلية لخيار روحاني أو ديني دون غيره. واستناداً إلى مبدأ المساواة لا تمنح الدولة العلمانية أي امتياز عام إلى أي من العبادات والأديان، كما أن العلاقات التي تقيمها مع كل منها يميزها مبدأ الفصل القانوني.

كما أنه يجب على كل ما هو ديني وروحاني الامتناع عن فرض أي هيمنة على الدولة وأن ينأى عن أي بعد سياسي. فالعلمانية لا تتطابق مع أي تصور ديني قد يرغب من خلاله التحكم في النظام الاجتماعي أو السياسي، باسم المبادئ المفترضة التي يحملها هذا الدين.

و تميز العلمانية بين حرية التعبير الروحانية أو الدينية في المجال العام، وهي حرية مشروعة وجوهرية للحوار الديمقراطي، وبين الهيمنة على المجال العام، الذي يعد أمر غير شرعي. ومن حق ممثلي هذه الخيارات الروحانية المختلفة أن يشاركوا بصفتهم هذه في الحوار العام، على غرار أي من مكونات المجتمع.

ويستفـيد من هذا الانفصال كل من الديانات والدولة على حد سواء: فالأولى تركز على مهمتها الروحانية وتجد فيها الفسحة لحرية التعبير. والثانية، الغير مقيدة بأي رابط مذهبي، تعد ملكاً لجميع المواطنين.

1.2.2 ضمان حرية المعتقد

علاوة على حيادية الدولة، فإن قانون عام 1905 يعطي العلمانية مضمونا إيجابيا : “تضمن الجمهورية حرية المعتقد. وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، مع مراعاة القيود، المنصوص عليها فيما يلي، وذلك لصالح النظام العام”.

لا يمكن للدولة أن تحجب “بستار من الجهل” الواقع الروحي أو الديني. وفي العلاقات مع العبادات ومع مجموع العائلات الروحانية، فإن الدولة تسهر على تمكينها جميعا من التعبير عن نفسها. كما تسمح كذلك للمجموعات الأكثر ضعفا أو الأقل عددا أو الأحدث عهدا بالتمتّع بهذه الحرية وذلك مع مراعاة مقتضيات النظام العام. تضمن العلمانية لجميع الخيارات الروحانية أو الدينية الإطار الشرعي الملائم لهذا التعبير.

وعلاوة على حرية العبادة والتعبير، فإن الدولة العلمانية، بصفتها ضامنة لحرية المعتقد، تحمي الفرد وتسمح بحرية الخيار للجميع، بأن يكون لهم اتجاها روحانياً أو دينيا، أو لا يكون، وبأن يغيّروا من هذا الاتجاه أو أن يعدلوا عنه. إنها تحرص على أن لا يكون بإمكان أي مجموعة أو أي طائفة فرض انتماء أو هوية طائفية على شخص ما، وبشكل خاص بسبب أصول هذا الأخير. إنها تحمي كل مواطنة ومواطن ضد أي ضغوط جسدية أو معنوية تمارس بذريعة الخضوع لأوامر روحية أو دينية ما. إن الدفاع عن حرية المعتقد الفردية ضد أي نوع من التبشير يأتي اليوم مكملاً لمفهومين مركزيين في قانون عام 1905 ، ألا وهما الفصل والحيادية.

و ينطبق هذا الأمر الملزم بدايةً على المدرسة، حيث ينبغي تمكين التلاميذ من اكتساب العلم وبناء الذات في جو من الطمأنينة من أجل أن يتملّكوا استقلالية الرأي. و يتعين على الدولة أن تمنع عنف وترهيب المجتمع من التأثير على عقولهم: حتى ولو سلمنا بأن المدرسة لا يمكن أن تكون مكاناً مطهراً ومعقماً، لا ينبغي أن تصبح صدى لأهواء الناس و إلا تعرضت للفشل والإفلاس في مهمتها التربوية.

لا يمكن للدولة العلمانية أن تبقى غير مكترثة أمام زعزعة النظام العام وممارسة الضغوط والتهديدات والممارسات العنصرية أو الداعية إلى التفرقة تحت ذرائع دينية أو روحية من شأنها نسف الأسس التي تقوم عليها المدرسة.

والعلمانية في التصوّر الفرنسي ليست مجرد “حارس حدود” يقتصر عمله على فرض احترام الفصل ما بين الدولة والأديان وما بين السياسة والعالم الروحاني أو الديني. تسمح الدولة بتوطيد القيم المشتركة التي ترتكز عليها الروابط الاجتماعية في بلدنا. ومن بين هذه القيم، المساواة بين الرجل والمرأة والتي على الرغم من كونها من الإنجازات الحديثة قد احتلت حيزا هاما في تشريعاتنا. إنها عنصر من عناصر الميثاق الجمهوري الحديث. لا يمكن للدولة أن تبقى مكتوفة الأيدي إزاء أية إساءة لهذا المبدأ. و بقيامها بهذه المهمة، فإن العلمانية لا تحل محل المقتضيات الروحانية أو الدينية الأخرى. إنها مجرد تأكيد على أن الدولة تدافع عن القيم المشتركة للمجتمع الذي انبثقت منه. وإذ تنطلق العلمانية من رؤية وطيدة للمواطنة، تتجاوز الانتماءات الطائفية أو المذهبية أو العرقية، فإنها تولد للدولة التزامات تجاه المواطنين.

1.2.3 مقتضيات مشتركة

يذكّر التاريخ بالمجهود الذي كان يطلب في الماضي من الديانات لتتكيّف مع الإطار العلماني. فإن التحفّظ الشديد للكنيسة الكاثوليكية في البداية إنما جاء من خوفها من فقدان كل شيء. ولقد كان خضوعها ثم تقبلها للأمر الواقع وأخيرا انضمامها للإطار العلماني له تأثير أساسي على عملية التهدئة وطمأنة الخواطر في مجتمعنا.

في الأساس، تتطلب العلمانية بذل مجهود تكيّف من جانب أية ديانة. وعليه، تفرض العلمانية بذل مجهود لشرح وتفسير كيفية التوفيق بين العقيدة الدينية والقوانين التي تحكم المجتمع، وذلك سعياً لجعل العيش معاً، على الأقل، ممكناً.

و الإسلام، كونه الدين الأحدث توطنا في فرنسا والذي يضم عددا كبيرا من الأتباع، يصّور أحيانا على أنه غير قابل للتماشي مع العلمانية. بيد أن الفقه الإسلامي قد أنتج، في أوج عصره وفي الفترة الأكثر إشعاعا التي عرفها، فكراً خلاقاً حول العلاقة ما بين السياسة والدين، كما وإن التيارات الأكثر عقلانية من بين التي كان ينطوي عليها كانت ترفض الخلط ما بين السلطة السياسية والسلطة الروحية. و يمكن للثقافة الإسلامية أن تنهل من معين تراثها ما من شأنه أن يتيح لها التكيف مع إطار علماني، كما أن من شأن العلمانية أن تسمح بتبلور ثقافي كامل للفكر الإسلامي بمعزل عن قيود السلطة.

وبالعلمانية يكتسب المواطن حماية لحرية معتقده، وفي المقابل، يتعين عليه احترام المجال العام الذي يمكن أن يتقاسمه الجميع. إن المطالبة بحيادية الدولة هو أمر يبدو من الصعب التوفيق بينه وبين إشهار نوع من التبشير الهجومي المثير خاصة في المجال المدرسي.

وتقتضي روح العلمانية هذا التوازن بين الحقوق والواجبات.

1.2.4 العيش معا وبناء قدر مشترك

و بالمقارنة مع ظروف عام 1905، فإن المجتمع الفرنسي قد تغيّر: لم يعد ينظر إلى سلطة الكنيسة الكاثوليكية على أنها خطر مهدد، حيث أن العلمانية أضحت في صميم الميثاق الجمهوري وفي حلّة جديدة.

لقد عرف بلدنا خلال قرن من الزمن تحولا جذريا. لقد أصبح يعرف التعددية على الصعيد الروحاني. إن فرنسا التي كان يطلق عليها قديما مسمى “البنت الكبرى للكنيسة” والغنية بتقاليدها البروتستانتية المتنوعة، باتت تضم أكبر طائفة يهودية في أوروبا الغربية. وقد شهدت العقود الأخيرة تنامي أديان جديدة. فالإسلام المنبثق بشكل رئيسي عن السكان ذوي الأصول المغربية والإفريقية والشرق أوسطية، أصبح ممثلاً اليوم بمجموعة هي الأكبر في الاتحاد الأوروبي، كما أن الأرثوذكسية لها وجودها أيضاً إلى جانب البوذية. وتضم فرنسا أيضا عددا هاما من الملحدين وأتباع الفلسفة اللا أغنوصية والمفكرين الأحرار.

ومن جهة أخرى، فإن العقليات قد تطوّرت.

ويتم اليوم التنويه بشكل إيجابي بالتنوّع والتعددية، حيث يطالب البعض باحترام الحقوق الثقافية التي يعتبرونها جانبا أساسيا من هويتهم.

إنه لمن العبث إنكار قوة الشعور بالانتماء إلى المجموعة أو الطائفة. ولكن تأجج مشاعر الانتماء لهوية ثقافية لا يجوز أن يتحوّل إلى تعصّب للتشبث بالاختلاف الذي يحمل بذور الاضطهاد والنبذ في مجتمع علماني ينبغي على كل فرد فيه أن يتمكن من أخذ البعد الكافي بالنسبة إلى التقاليد.

ومن وجهة النظر هذه، فإن الخطر مزدوج. فإن انحرف الشعور بالانتماء إلى مجموعة نحو التشبث بطائفية متصلبة، قد يهدد ذلك مجتمعاتنا المعاصرة بالانقسام والتشرذم. وفي المقابل، إن التنكر للتنوّع أو التعدّدية من خلال التشبث بالترديد تكراراً، وكأنه رقية، بوجود ميثاق جمهوري مثالي، هو أمر بعيد عن الواقع وفيه إيهام. تقف العلمانية اليوم أمام تحدي صياغة الوحدة مع مراعاة تنوّع المجتمع وتعدده.

و يمكن للإطار العلماني أن يشكل نقطة الالتقاء للتوفيق بين هذين الأمرين الملزمين، من خلال توفير الإمكانيات له، تلك الكفيلة بجعل أفرادا، لا يتقاسمون نفس القناعات أو المعتقدات، قادرين على التعايش معاً على نفس الأرض، بدلا من فرزهم كفسيفساء من الطوائف المنغلقة على نفسها والبعيدة إحداها عن الأخرى، نابذة لبعضها البعض. إن الإطار العلماني هو وسيلة لجعل الأفراد يتعايشون معا دون أن يتقاسموا بالضرورة نفس القناعات أو المعتقدات.

إن التمرس على المواطنة في مجتمعنا ذي الثقافات والأصول المختلفة يفترض منا تعلّم العيش معا.

و عندما تكون العلمانية في أزمة، يصعب على المجتمع الفرنسي أن يوفّر قدرا مشتركا. وفي المقابل، فإن السعي لصياغات جديدة ولترجمة عملية ملموسة للعلمانية المعاصرة من شأنه أن يسمح بصقل هذا القدر المشترك.

2 – العلمانية على الطريقة الفرنسية، مبدأ قانوني يعتمد على التجربة في التطبيق

تخضع العلمانية، بشكل رئيسي، لنظام قانوني محدّد نابع من قانون 9 ديسمبر/كانون الأول 1905 ينصّ على فصل الكنائس عن الدولة: إن الجمهورية علمانية وتحترم كلّ المعتقدات. فمن هذا المبدأ التأسيسي تنبع عدّة موجبات قانونية ملزمة للمنتفعين كما للخدمات العامة للدولة، ابتداءً من التربية الوطنية.

2.1 عناصر قانونية متناثرة

لقد اكتسب مبدأ العلمانية قيمة دستورية منذ أن وضع في دستور عام 1946. إن المادة في دستور عام 1958 التي تنقل المادة الأولى من دستور 1946 تؤكّد أن “فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة، وهي علمانية وديمقراطية واجتماعية”. وعليه، تمّ الارتقاء بمبدأ العلمانية إلى أعلى المستويات في تسلسل المعايير.

هناك قوانين هامة قد ثبتت قانونياً مبدأ العلمانية.

فما خلا هذه النصوص التأسيسية، يتشكل الجهاز القانوني من أحكام مبعثرة تتضمنها نصوص قانونية متفرقة. إنّ نظام العلمانية القانوني، هو أبعد من أن يشكّل مجموعة تخضع لترتيب معين، بل هو بالأحرى مكون من جملة نصوص لا تلاحم فيما بينها، سُنّت بالأخص انطلاقاً من المبادئ التأسيسية لقانون 1905، وذلك بصورة تدريجية، كلّما كانت تبرز قضايا متعلّقة بالقانون الذي ينصّ على الفصل.

وعلى صعيد القانون الدولي، تم التطرّق إلى مسألة الحرية الدينية لا سيما عبر نصوص تضمنها إعلان حقوق الإنسان بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 – الذي لا يتمّتع بأيّة قيمة قانونية ملزمة- أو المعاهدة من أجل مكافحة التمييز في مجال التعليم، التي تمّ اعتمادها بإشراف منظمة اليونيسكو، والميثاقين الدوليين لمنظّمة الأمم المتحدة بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 1966 حول الحقوق المدنية والسياسية من ناحية وحول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من ناحية أخرى. ولا يشير الاتحاد الأوروبي إلى مبدأ الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية أو الروحية، ويشهد على ذلك جيداً النقاش الدائر حالياً حول الإشارة إلى الإرث الديني في الاتفاقية الجماعية الأوروبية. بيد أن البناء السياسي للاتحاد الأوروبي، الذي لا يرتكز على أي أساس ديني، يتطابق عملياً مع مقتضيات العلمانية، ولو إنه فضل استعمال عبارة الأمور الدنيوية، على الصعيد الأوروبي.

أمّا فيما يتعلق بالمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان والحريّات الجوهرية، فتنصّ مادتها التاسعة على حماية الحرية الدينية لكنّ دون أن تجعل منها حقّاً مطلقاً. يجوز للدولة أن تضع لها قيوداً وفق ثلاثة شروط وهي أن يكون هذا التدخل منصوص عليه في القانون وأن يكون الهدف منه شرعياً وان يكون ضرورياً في إطار مجتمع ديمقراطي. ولقد اضطرت المحكمة (الأوروبية) إلى معالجة مسائل تتعلّق بالعلمانية على أساس هذه المادة التاسعة.

لقد أصدرت المحكمة قرارات قضائية حول موضوع العلمانية تؤكّد فيها على مقتضيات مماثلة لتلك التي أشار إليها الاجتهاد الفرنسي حول قضايا متعلّقة بموظفي القطاع العام أو بالمنتفعين. فيما يخص موظفي القطاع العام، صدر بتاريخ 15 فبراير/شباط 2001 حكم حول قضيّة معلّمة في مقاطعة جنيف كانت قد أنزلت بها عقوبات تأديبية لأنّها رفضت نزع حجابها، فردّت محكمة ستراسبورغ هذا الطلب لأنّ حظر الحجاب في إطار نشاط تعليمي في مدرسة ابتدائية يشكّل إجراءً ضرورياً في مجتمع ديمقراطي.

وفي قرار صادر بتاريخ 1 يوليو/تمّوز 1997، صادقت المحكمة أيضاً على حكم يدين جندي لممارسته التبشير الديني. أما فيما يتعلّق بالمنتفعين، فقد أقرّت المحكمة إمكانية الحدّ من ممارسة كاملة للحريّة الدينية.

وفي حكم صادر بتاريخ 3 مايو/أيار 1993، وبعد أن أشارت المحكمة إلى وجود تعليم خاص مواز للتعليم العام، أجازت منع ارتداء العلامات الدينية في المؤسسات العامة للتعليم العالي التركي من أجل حماية النساء من ضغوط تمارس عليها.

وفي قرار صادر بتاريخ 6 يوليو/تمّوز 1995، اعتبرت المحكمة أنّه لا يجوز لتلميذة أن تتعذر بمعتقداتها الدينية لترفض الخضوع لنظام المدرسة. فهذه الاجتهادات تشير إلى أن الحريّة الدينية لها حدود في مواجهة مقتضيات العلمانية الملزمة.

وتؤكد بالتالي هذه الاجتهادات أن العلمانية، بحد ذاتها، لا تتعارض مع الحرية الدينية التي تحميها المعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الجوهرية، على النحو التي تنص عليه هذه المعاهدة.

2.2 مقتضى ثنائي البعد

وعلى أساس هذه النصوص، يتضمّن مبدأ العلمانية أمر ملزم له بعد مزدوج: يقوم من ناحية، على حيادية الدولة ومن ناحية أخرى، على حماية حريّة المعتقد.

2.2.1 حيادية الدولة

تشكّل حيادية الدولة أوّل شرط من شروط العلمانية.

تنطوي حيادية الدولة بشكل أساسي على عاملين :

فمن ناحية، تتماشى الحيادية مع المساواة. والعلمانية، كونها مكرّسة في المادة الثانية من الدستور، فإنها تُلزم بالتالي الحكومة على توفير “المساواة لجميع المواطنين أمام القانون دون تمييز من حيث الأصل أو العرق أو الدين”. وعليه، ينبغي معاملة المنتفعين بالتساوي مهما كانت معتقداتهم الدينية.

ومن ناحية أخرى، يتعين على الإدارة، الخاضعة للسلطة السياسية، أن تمنح جميع ضمانات الحيادية بل وعليها أيضاً أن تحافظ على مظاهر هذه الحيادية كي لا يساور المنتفع أي شكّ بحياديتها. فهذا ما سمّاه مجلس شورى الدولة واجب الحيادية الملزم الذي يفرض نفسه على كلّ موظف يعمل في إدارة عامة. وبقدر ما يتمتّع هذا الموّظف العام، خارج نطاق عمله، بحريّة الإعراب عن آرائه ومعتقداته طالما لا يكون لذلك انعكاس على خدماته الوظيفية، بقدر ما ينبغي، في إطار الخدمة، تطبيق واجب الحيادية الملزم إلى أقصى الحدود. فأي تعبير عن المعتقدات الدينية في إطار الخدمة ممنوع كما أن ارتداء علامات دينية ممنوع أيضا،ً حتّى في حال لا يكون للموّظف صلة مع الجمهور. وحتّى في حال التقدّم إلى وظائف عامة، تستطيع الإدارة أن تأخذ بعين الاعتبار تصرّف مرّشح ما إلى وظيفة في الإدارة العامة إذا تبيّن أنّ تصرفه هذا لا يؤهله لممارسة المهام التي يرشح نفسه لها بمراعاة تامة لمبادئ الجمهورية.

وبشكل عام، لقد نصّ القانون الفرنسي على ترتيبات تتيح التوفيق بين حيادية الدولة وممارسة الشعائر الدينية.

فإن كان قانون 1905 قد نص على الفصل بين الكنيسة والدولة، فقد أسّس في المقابل مناصب يتبوأها مرشد ديني، ويجوز إدراج تكاليفها في ميزانية الإدارات أو الخدمات أو المؤسسات العامة التي قد لا تضمن مقتضيات العمل فيها احترام الحريّة الدينية. هكذا هو الأمر فيما يتعلّق بالجيش والمدارس الثانوية والسجون والمستشفيات. إضافة إلى ذلك، وإن كان قد تمّ علمنة المدافن، لقد سمحت الإجراءات التطبيقية بأخذ بعض التقاليد اليهودية والإسلامية بعين الاعتبار.

وأخيراً، ومنذ صدور قانون 1987، باتت الهبات المقدّمة إلى الجمعيات الدينية تتمتع بنظام ضريبي أكثر ملائمة لها، أصبحت تُعتبر بموجبه مشابهة لجمعيات النفع العام المعترف بها.

وبالتالي، إن شروط الحيادية المطلقة باتت مخفّفة بإدخال “ترتيبات عقلانية” عليها تسمح لكلّ شخص بممارسة حريّته الدينية.

2.2.2 حرية المعتقد

إن الركيزة القانونية الثانية للعلمانية هي بالطبع حريّة المعتقد التي باتت تقدم على إنها بالأخص حريّة دينية.

إنّ العناصر القانونية، في الأساسي منها، وخاصة الاجتهاد الصادر عن القضاء الإداري قد سعيا لضمان ممارسة فعلية للشعائر الدينية طالما لا يمسّ ذلك بالنظام العام.

ولكنّ، على غرار أيّ حريّة عامة، يجوز الحد من مظاهر التعبير عن حريّة المعتقد في حال وجود مخاطر تهدد النظام العام. هذا هو التطبيق التقليدي لنظام الحريّات العامة. فإن كانت الحريّة هي القاعدة وتدابير الشرطة هي الاستثناء، يجوز للسلطات العامة، تحت رقابة يمارسها القاضي على ما هو متناسب، أن تتخذ إجراءات تحدّ من مظاهر التعبير عن حريّة المعتقد من أجل تفادي المخاطر المهددة بالإخلال بالنظام العام.

2.2.3 نقاط التجاذب

تكمن صعوبة الترجمة القانونية لمبدأ العلمنة بالتجاذب الحاصل ما بين هذين القطبين اللذين لا يستحيل إطلاقاً توافقهما، ولكن قد يتعارض أحدهما مع الآخر، ألا وهما مبدأ حياديّة الدولة العلمانية ومبدأ الحرية الدينية .

وفي حرم المدرسة، تُطرح هذه المشاكل بحدّة. ففي هذه البيئة المغلقة جزئيا، على التلاميذ الذين تتكفل بهم المدرسة لفترة طويلة أن يتعلموا ويعيشوا سويّاً، علماً انهم في وضع ما زالوا فيه ضعفاء وعُرضة لمختلف التأثيرات والضغوط الخارجية. يتعين على المدرسة، من حيث سير العمل فيها، أن تتيح لهم اكتساب الأدوات الفكرية التي من شأنها أن تمكنهم، على المدى البعيد، من أن يتحلّوا باستقلالية للحكم على الأمور. لذا، فان إفراد مساحة للتعبير عن القناعات الروحية أو الدينيّة ليس أمرا من الواجب أن يتم بشكل تلقائي.

إن وجود تعليم له طابع ديني، قائم في إطار اتفاق شراكة مع الدولة، يتيح هكذا ترسيخ الحرية الدينية الكاملة مع مراعاة الطابع الخاص لكل من الديانات. إن حرية التعليم، كونها مبدأ أساسي معترف به في قوانين الجمهورية، تعتبر مبدأ له قيمة دستورية. وفي هذا الإطار، من البديهي انه لا توجد أية أحكام قانونية تتنافى وقيام مدارس مسلمة. ويحدّد قانون “دوبريه” (بتاريخ 31 كانون الأول /ديسمبر 1959) ماهية العلاقات بين الدولة ومؤسسات التعليم الخاصة، التي تتمتع أيضاً خصوصيتها بالحماية اللازمة. وداخل البيئة المدرسية، في ما خلا مؤسسات التعليم الخاصة، يكون التوفيق ما بين حرية المعتقد والمقتضيات المتعلقة بحياديّة الخدمات العامة، أمرا في غاية الدقّة. والواقع أن مسألة الحجاب ببعدها الإعلامي كانت مثالاً على ذلك. فعندما طُرحت المسألة للمرة الأولى عام 1989، ارتأت السلطات السياسية أن تلجأ إلى مجلس شورى الدولة، نظراً لسيل ردات الفعل الحماسية الذي أثارته المسألة.

اعترف مجلس الشورى، على هذا الأساس، بمبدأ حرية التلاميذ في ارتداء رموز دينية في حرم المدرسة، غير أنه أراد ضبط هذا الحق في التعبير، وهو حق معترف به قانونياً، عن طريق إدراجه في إطار المقتضيات المتصلة اتصالاً وثيقاً بسير العمل في المجال العام. وعليه، فقد سعى إلى حماية هذه المصلحة الإدارية العامة من أية عملية إعادة نظر تمسّ كيانها، وذلك عن طريق التوفيق ما بين الحق في التعبير، المعترف به بحكم القانون، واحترام متطلبات الخدمة العامة. وبالتالي أرسى مجلس شورى الدولة أربع مجموعات من الموجبات:

يمنع منعاً باتاً ممارسة الضغوط والأعمال الاستفزازية وممارسة التبشير أو الأعمال الدعائية.
تُرفض التصرفات التي قد تسيء إلى كرامة التلميذ أو أحد أعضاء الجسم التعليمي، أو التي قد تسيء إلى التعددية أو إلى حرية كل من هؤلاء. تُرفض كذلك التصرفات التي قد تعرّض صحتهم وسلامتهم للخطر.

يُستبعد كل ما من شأنه أن يسبب اضطراباً في سير النشاطات التعليمية أو الدور التربوي الذي يؤديه المدرّسون، كما كل ما من شأنه الإخلال بالنظام في المؤسسة أو إعاقة حسن سير العمل فيها على نحو طبيعي.

لا يجوز أن تتأثر المهمات الموكل بها لقطاع التربية في الحقل العام بتصرفات التلاميذ، ولا سيما فيما يخص محتوى البرامج ووجوب المواظبة على الحضور.

وبصورة عامة، لا تُمنع الرموز الدينية بحدّ ذاتها، ولكن قد يجوز منعها إذا ما ارتدت طابعاً بارزاً أو تفاخرياً. لذا لم يكن بوسع مجلس شورى الدولة إلا أن يدعو إلى تقدير وتقييم كل حالة على حدة بإشراف القاضي.

أياً كانت التعليقات التي أثارها رأي مجلس شورى الدولة، علينا أن نعترف على الأقل بأنه أتاح،على مدى خمسة عشرعاماً، التصدي لوضع متفجر لم يشأ المشرّع أن يعالجه.

غير أن الاجتهاد اصطدم بثلاث عقبات. أولاً، إن اعتماد تحرك ما وفقاً لكلّ حالة على حدة كان يفترض أن تتوفر لرؤساء المؤسسات التربوية ومديريها إمكانية أخذ المسؤوليات على عاتقهم، غير أنهم غالباً ما وجدوا أنفسهم منعزلين في بيئة صعبة. ثانياً، لم يعتقد القاضي أن بإمكانه التطرق إلى شرح وتفسير ما يعنى به بالرموز الدينية. وبالتالي، لم يكن بإمكانه التخوف من أبعاد التمييز بين الرجل والمرأة، المخالفة لمبدأ أساسي من مبادئ الجمهورية، والتي قد ينطوي عليها ارتداء بعض الفتيات للحجاب. ثالثا وأخيرا، منع الاجتهاد الرموز التفاخرية البارزة التي تحمل في طياتها، بحد ذاتها، بعدا تبشيريا. ولكن، في الواقع، كان رؤساء المؤسسات التربوية عاجزين عن ترسيم الحدود ما بين الرموز المجاهر بها غير الشرعية والرموز الشرعية غير التفاخرية.

2.3 نزعة أوروبية.

هل العلمنة خاصة من خصائص الدولة الفرنسية وحسب ؟

إن فرنسا البلد الأوروبي الوحيد الذي كرّس العلمنة بشكل صريح في دستوره. وفي ما يتعلق بالعلاقات بين الدولة والكنائس، بإمكاننا التمييز ما بين ثلاثة نماذج متواجدة في بلدان الاتحاد الأوروبي.

الأول ، وهو النموذج الأكثر بعداً عن التصور الفرنسي، يضم البلدان التي تعترف بدين للدولة.

النموذج الثاني يمزج بين صفة رسمية تمنح لبعض الديانات ومبدأ الفصل بين الكنائس والدولة.

النموذج الثالث، وهو الغالب اليوم في الاتحاد الأوروبي، يقوم على نظام فصل بسيط ما بين الكنائس والدولة، ويرتكز على أربعة مبادئ شبيهة بالمبادئ الفرنسية: لا تتدخل الدولة في محتوى العقيدة الدينية ولا تهتم بشؤون تنظيم الديانات وتُعامل على قدم المساواة الديانات والمذاهب الفلسفية الإنسية. وليس هناك ثمة ديانات وجودها مكرّس ولا ديانات ممنوعة.

بغضّ النظر عن النواحي القانونية، تشهد البلدان الأوروبية في الحقيقة الأنماط نفسها من التحول والتغيّير المرتبطة بإقامة شعوب مهاجرة، عرفت الترحال، على أرضها، و هي تعتنق ديانات لم يكن لها من قبل أي تمثيل. كانت فرنسا أول بلد يواجه هذا الأمر، نظرا لأهمية التيارات المهاجرة وقدَمها. تلتها في ما بعد المملكة المتحدة وألمانيا. أما إيطاليا، التي تشجع المفاوضات الثنائية بين الدولة والكنائس، وتصطدم بغياب أي محاور ممثل للإسلام، فهي تتابع باهتمام تأسيس مجلس فرنسي للديانة الإسلامية.

تواجه كل من الدول هذا التحدي الجديد متبعة التقليد الخاص بها. كما أن المطالب الدينية تختلف باختلاف ثقافة كل من الشعوب المهاجرة. وقد اختار معظم البلدان الأوروبية المنطق القائم على تقسيم هؤلاء إلى جماعات تعيش فيما بينها. ولكن، إزاء تصاعد التجاذب، انقلبت الموازين اليوم لصالح العودة إلى سياسة اندماج اكثر اعتمادا على الإرادة.

وفرنسا ليست البلد الوحيد الذي يشهد هذا التزاوج الصعب ما بين ظاهرتين متزامنتين وهما: تعطّل الاندماج الاجتماعي وتبدّل المشهد الديني أو الروحاني. وبغض النظر عن كلمة “علمنة”، فالمشكلة تتشارك فيها أوروبا بمجملها و فحواها: إفساح المجال أمام ديانات جديدة، وتدبير أمور مجتمع متنوع، ومكافحة التمييز، وتشجيع الاندماج والترويج له ومحاربة النزعات السياسية-الدينية المتطرفة التي تحمل في طياتها مشاريع طائفية. وفي فرنسا، تتخذ هذه التحديات بعدا يوازي أهمية مجموعة السكان المهاجرين، وهي مجموعة عريقة ومهمة وتشكل، منذ عقود من الزمن، جزءا لا يتجزأ من ثروة مجتمعنا.

تستند العلمنة إلى توازن بين الحقوق والمتطلبات .

في عام 1905، تم إرساء قانون الفصل نسبة للكنيسة الكاثوليكية بشكل أساسي. لقد ولّى زمن العلمنة التي تعتمد الكفاح فحلّت مكانها علمنة مهادنة، تقرّ بأهمية الخيارات الدينية والروحية، ومهتمة كذلك برسم حدود المساحة العامة المشتركة. فخلال قرن من الزمن، وبفعل الهجرة، بات المجتمع الفرنسي متنوعا، لا سيما على الصعيد الروحي أو الديني. ينبغي إفساح المجال لديانات جديدة وإنجاح عملية الاندماج في الوقت نفسه. لقد تبدلت طبيعة التحديات كما أصبحت الرهانات، في الوقت عينه، اصعب بدون شك: فكيف يتم التوفيق بين الوحدة واحترام التنوّع؟ هذا هو الرهان الملقى على عاتق مجتمع تحدوه الإرادة بان يرى الخيارات الفردية معترفا بها. ها أن العلمانية، التي هي أيضا طريقة لتنظيم “العيش معا”، ترتدي طابع حداثة جديد.

وبغية التأكيد على وجود قيم مشتركة في هذا السياق، يجب أن يكون هناك علمنة منفتحة ومفعمة بالنشاط، قادرة على أن تشكل نموذجا جذابا وموحّدا، كما يجب أن تسمح برسم مكانة المواطن والفسحة العامة المشتركة على نحو يسود فيه الانسجام.

ليست العلمنة مجرد قاعدة من قواعد اللعبة المؤسساتية. إنها قيمة من القيم المؤسسة للميثاق الجمهوري تمثل إمكانية التوفيق بين “العيش معا” والتعدديّة والتنوع./.