النزاهة مؤسسة وقضية

حسن كريم عاتي

المقدمة

ما زال الحديث عن النزاهة محط اهتمام، ويستمر هذا الاهتمام، طالما هناك حكومات تتولى الإدارة العامة وتدير الأموال العامة عبر موظفين لها، فإدارة الدولة تشترط كي تحظى بالاعتبار أن يكون ممثلة الهيئة العامة خير تمثيل وأن تدير شؤون هذه الهيئة بأعلى درجات الإتقان متوخية تحقيق الأهداف، بأقصر وقت وأقل كلفة.
فالدولة تمتلك القوة والمال، لكنها بهذا الامتلاك لا تمثل نفسها، بقدر تمثيلها لشعبها، وإن هذا التمثيل يتأتى من تفويض الشعب لها عبر أكثر من وسيلة، وأبرزها في عصرنا الأساليب الديمقراطية… وبهذا يكون صاحب الحق في الأصل في امتلاك القوة والمال هو الشعب، وما يضع في يد الدولة تفويضاً لها بأداء الدور بالنيابة.

لذلك فأن الشعب يمتلك القوة والمال التي في يد الدولة، لكن الشعب بالمقابل يتكون من موظفين يؤدون بالمجمل دور الدولة، فنكون من حيث ـ صلة الموضوع بالبحث ـ أمام موظف يمثل الحكومة ومواطن يمثل الشعب، وهنا يكمن حجم الأداء وجودته، فرضا المواطن عن أداء الموظف يمثل مؤشر جودة الأداء. وهو يمثل المدخل الأوسع في التعامل مع النزاهة بوصفها قضية تعني بوجودها وحضورها وتفاعلها جميع الموظفين والموظفين معاً، فالسلطة سلطة المواطن والمال مال المواطن، ولكن التصرف بهما يكون حكراً على الموظف لغرض تنظيم شؤون الدولة وأعمالها، وبما يحقق أهداف المواطن، عبر برامج الدولة التي تفترض في الأصل قبول المواطن عنها. فنكون بأقصى حالات الرضا حين تتحقق شروط:

• نيابة الحكومة عن الشعب وتمثيله في القوة والمال.
• وأن تحقق الحكومة عبر برامجها قبول الشعب عبر الموافقة على برامجها.
• وأن يكون موظف الحكومة عبر أداءه حقق هو الآخر رضا المواطن.
لذلك فأنه من خلال مفهوم النزاهة الأوسع تأخذ أكثر من محور مستثمرة في ذلك جميع ما يتاح من قيم أخلاق ودين واجتماع وقانون.

النزاهة قضية

إذا كانت جميع القيم عبر استثمارها تؤدي إلى خلق بيئة نزيهة وطاردة للفساد، فأن هذه القيم لا يمكن أن تحقق من فوق وعبر تشريعات أو تعليمات أو أوامر أو قرارات، فبالنزاهة مصلحة حقيقية لجميع الأطراف التي هي في تكوين الدولة خصوصاً (عبر الشعب أو السلطات) وعلى الأعم الأغلب أن هذه القيم في مجتمعات ظروفها طبيعية تكون ذات أثر واضح ومؤثر على سلوك الأفراد، وأن مخالفتها يترتب عليه الجزاء بجميع أنواعه، إلا أن المجتمعات التي تمر بظروف استثنائية (من حرب أو فقر أو ظروف طارئة وقسرية وظلم) تتعرض تلك القيم إلى الاضطراب، وأحياناً إلى التشويه، فيمكن التغاضي عن الآثار السلبية للفساد وإيجاد التبريرات عن حصوله، وهذا التشويه والاضطرابات وإن كان غير مبرر أصلاً غير أنه يرتبط باضطراب القيم والتي هي نتيجة ظروف غير معتادة تمر بها الشعوب.

لذلك فأن انحسار الظروف، وتغير الأحوال لا يلازمه مباشرة عودة القيم إلى التأثير الذي كانت عليه قبل تأثرها بالظروف التي شوهتها، وإنما تستمر منظومة القيم متأثرة، وأحيانا يستقر هذا التشويه، أما نتيجة اعتياد تداوله أو لوجود مصلحة لدى أطراف، يطلق عليهم بالمفسدين، وهو ما يتطلب أن تنهض طليعة المجتمع من (رجال دين ورجال ثقافة ورجال سياسة ومن علماء ومن مصلحين) إلى التصدي لإصلاح هذه المنظومة، وبما يعيد إليها تأثيرها المتوقع في منع التصرف بأموال البلاد وبأحوال العباد بما لا يلاءم الأغراض التي من أجلها وجدت خصوصاً من قبل الموظف الحكومي ممثل الدولة الذي ينوب عن المواطن في استعمال السلطة والمال.

وهذا هو المبدأ الأصل، الذي يجعل من النزاهة قضية عامة على جميع المواطنين مراعاتها، وقضية خاصة يُعنى بها المتعلمين والعلماء والمثقفين والعارفين في كونها في طليعة اهتماماتهم في خلق بيئة طاردة للفساد مشجعة للنزاهة وبما يحقق المصلحة العامة في خدمة المواطنين .

وإذا كانت هذه الفئة تمثل طليعة المجتمع وتتحمل المسؤولية الشرعية والأخلاقية والاجتماعية والأدبية في مكافحة الفساد، فأنها من باب أولى تكون أولى الفئات التي تحاسب نفسها وتحاسب من في معيتها حين تكون في المسؤولية وتمتلك التصرف بالمال العام والسلطة العامة، لأن بصلاحها تصلح بطانتها، وفي فسادها تفسد البطانة، بل الأكثر تأثيراً في خلق البيئات النزيهة أو خلق البيئات الفاسدة، مصداقاً لقول الرسول الأكرم ((شر أمتي علمائها إذا فسدوا)).

ومن هنا يبرز دور المسؤول في إدارة الدولة، فيتطلب أن يكون انموذجاً في الزهد عن الأموال العامة، وبعيداً كل البعد عن التصرف بإدارته عن الأغراض الشخصية، وهما مدخلان للوقاية من الفساد المالي والفساد الإداري، وأن يكون مراقباً للعاملين من معيته في المؤسسة التي فوضه الناس التصرف فيها بما يحقق مصالحهم، وهو المدخل الأهم في طرد الفساد بأنواعه عن المؤسسة التي يكون مناط إدارتها به.

وتزداد المسؤولية اتساعاً، إن كان يمثل فئة أو حزب أو مجموعة منحته الثقة في النيابة عنها وتمثلها في الوظيفة العامة، فتكون الأمانة مناطها أكثر من طرف، في قمتها الناس عموماً، تفصيلها انتماءه السياسي أو الديني أو المهني، أو ممثلي الشعب من البرلمان أو غيره، لذلك لا يمكن النظر إلى قمة المسؤولية الحكومية في مؤسسات الدولة بوصفها مغنماً يخول صاحبه الغزو على المال العام أو المصلحة العامة أو حقوق المواطنين،

بل هي الأثقل على الإطلاق من أي أمانة في حياة الشعوب والأمم، لأن بها صلاح الناس أو فسادهم، وإن كانت لصلاح المسؤول أو فساده، وهو ما يدعونا دائماً إلى القول: أن حجم المحاسبة يرتبط بحجم المسؤولية، فالفساد وإن كان صغيراً فهو مؤذٍ ويزداد أثره السيء كلما أزداد حجمه، وأكثرها سوءاً حين يكون من القائمين على إدارة المال العام أو المصلحة العامة أو الذين تكون حوائج الناس المحقة لديهم، وتكون الأهواء الشخصية ميزانهم في منعها أو منحها.
وإذا كان المعنى بذلك المسؤول الحكومي، فأن المسؤولية نفسها تقع على علماء الأمة ومثقفيها ورجال السياسة فيها، وأصحاب القرار كبرت مسمياتها أم صغرت، لأنهم أصحاب رأي يؤثر في الناس، وتتخلق أغلبية الناس بأخلاق طليعتها على تنوع اهتماماتهم ، ذلك المبدأ المضاف في جعل النزاهة قضية معينة بها النخب في المجتمع.
إن ما تقدم يمثل المدخلات في نزاهة المجتمع في استعمال المال العام والسلطة العامة للأغراض التي خصصت لها.
لكن من هو صاحب المصلحة الحقيقية في تحقيق النزاهة بوصفها قضية ؟

على الرغم من أن النزاهة وانحسار الفساد يمثلان مصلحة حقيقية للجميع، غير أن المستفيد الأهم ـ على الإطلاق ـ هو المواطن، صاحب المال وصاحب السلطة وصاحب التفويض الذي أناب به إلى الحكومة للنيابة عنه في إدارتهما.
لذلك ليس من المصلحة أو الحكمة أن لا يكون المواطن المستفيد الأول أو المتضرر الأول من وجود الفساد أو حضور النزاهة أن يكون صوته خافتاً أو أن يلجأ إلى الصمت، بوصف الأمر لا يعنيه ويعني النخب فقط، فالمواطن هو المالك وما يحدث في حالة وقوع الفساد، هو تصرف (خيانة أمانة) من المفسد في أمواله وفرصه ومستقبله، بل مستقبل أبناءه ومستقبل الأجيال القادمة، ومن باب أولى أن يكون أول الصارخين بالحق ضد الفساد، لأن به مصلحة له ومن الحكمة أن يكون أكثر حرصاً على ما يملك، وهو بهذا الصوت يكون أكثر قدرة في محاربة الفساد لأن به يسحب التفويض عن المفسدين ويحمل النخب مسؤوليتها التاريخية التي تتطلب انحيازها إليه، ويحول الموضوع من نطاقه الضيق بوصفه عيوب صغيرة تعتري الإدارة إلى قضية رأي عام تمثل عيوبها مدخل انهيار الدولة واصطفافها إلى جانب الظلم والتعسف، ويهدد السلم الأهلي ومدعاة للاضطراب، الذي يتطلب وبشكل ملح المعالجة.
لذلك فأن المواطن صوت محق يستغيث، لاسترداد حق يتصرف به المفسد باعتماد السكوت أو الصمت أو التراخي.
مما تقدم فأن النزاهة قضية تعتمد جملة معايير تجعل من مسؤولية الجميع تحملها والدفاع عنها، منها:
1. إن المال العام والسلطة العامة حق أصيل لمجموع المواطنين.
2. إن إنابة الحكومة (من سلطة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية) تكون بتفويض من المواطن.
3. إن عمل الموظف الحكومي (على تنوع الدرجات الوظيفية) تمثل أمانة من مجموع المواطنين للموظف الحكومي بالتصرف بالمال العام والسلطة العامة نيابة.
4. إن الوظيفة العامة مسؤولية وليست مغنماً، فلا يحق للموظف الحكومي التصرف بها إلا بحدود هذه المسؤولية، ولا يحقق من خلالها مصلحة شخصية.
5. تتحمل النخب، بوصفه القادرة على خلق الرأي العام، سواء كانت سياسية أو ثقافة أو دينية أو اجتماعية مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية والأدبية والاجتماعية بالدفاع عن مجموع المواطنين عبر الحفاظ على حقهم في أموالهم وسلطتهم.
6. أن يتصدى المواطن صاحب المصلحة والحق في النزاهة ومنع الفساد لمكامن الفساد وفضحه، فليس من المصلحة أو الحكمة سكوته عن حقه الذي يسلب على مرأى منه.

النزاهة مؤسسة

على اتساع المسؤوليات على الجميع بقضية النزاهة، غير أن النزاهة كمؤسسة (هيئة النزاهة) تختص بمسؤولية مباشرة وتشترك مع الجميع بالنزاهة كقضية، فالآمال كبيرة عبر هذه المؤسسة أن تحقق أهداف المواطنين ومصلحتهم في إدارة المال العام والسلطة العامة، وهي تشعر بحجم المسؤولية وتدرك حجم الآمال المعقودة عليها.
فالمواطن يعتقد أن هيئة النزاهة عليها أن تحقق جميع التفاصيل المتصلة بالنزاهة كقضية. وأن تحقق النزاهة وتكافح الفساد وتحاسب المفسدين في جميع تفاصيل الدولة وفي جميع الحالات التي يراها منافية لنزاهة.
والسؤال الذي يُعد مدخلاً ملائماً لمناقشة هذا الجانب، والذي تتوقف عليه التفاصيل اللاحقة، هو:
• هل بنى العراق(البرلمان) مؤسسة للنزاهة عبر تشريعات تتصل بهيئة النزاهة تتبنى جميع التفاصيل المتصلة بالنزاهة كقضية أم جعلها مختصة بعدد من الجرائم التي عدها منافية للنزاهة وتشكل خطورة على المال العام والسلطة العامة ويتضرر منها المواطن ومستقبله؟
وإذا كان هذا السؤال حيوي ومفصلي في التعامل مع النزاهة كمؤسسة فأنه يشير بوضوح إلى سؤال آخر هو:
• فما دور المؤسسات الرقابية الأخرى؟
وبالعودة إلى تشريعات المتصلة بهيئة النزاهة، نرى أن هنالك الأمر (55) لسنة 2004 الملغي والقانون رقم 30 لسنة 2011 النافذ هما اللذين نظما عملها منذ تأسيسها وما زالت الهيئة تعمل على وفق هذين التشريعين.
وبالعودة إلى اختصاصات الهيئة على وفق القانون النافذ نلاحظ إنها اختصت بتسعة مواضيع هي التي حددتها المادة/1 منه، من بينها (الرشوة والاختلاس وتجاوز الموظفين حدود وظائفهم…)، إضافة إلى جرائم أخر شملتها المادة، والسؤال: هل النزاهة كقضية مرتبطة فقط بهذه الأنواع من أنواع الفساد الحقيقية أو المحتملة في مجتمع نهض من تخريب كبير في قيمه نتيجة لظروف معروفة؟ وهل المفسدون يقتصرون في جرائمهم على هذا العدد من الجرائم في سلطتهم على المال العام والسلطة العامة؟
إن الفساد بوصفه ممارسة مرفوضة من جميع المنادين بالنزاهة وعلى تعدد وتنوع ثقافاتهم، فأن منابعها متعددة، وتعد من أهم هذه المنابع، المسالك المؤدية إلى تولي الأشخاص للوظيفة العامة، حيث بهم مناط عمل الدولة ويمتلكون صلاحية التصرف بالمال العام والسلطة العامة، وعند تفحص هذه المسالك نلاحظ هناك مصدرين رئيسين لهما:

الأول: الوظائف التي يكون سبب توليها المباشر انتخاب المواطنين أو الهيئات الممثلة لهم، والذي يرتبط أصلاً بجوانب تشريعية تتصل بقانون الأحزاب وبقانون الانتخاب.
وقد يبدو أن إثارة هذا الموضوع مدعاة لتدخل هيئة النزاهة بالشأن السياسي، ولكن بالعودة لاختصاص الهيئة يلاحظ أن صفتها التحقيقية في تعقب الفساد لا يجعل أحدا بمنأى من المحاسبة حين ينهض اختصاص الهيئة خصوصاً بعد إلغاء الفقرة/ ب من المادة/ 136 من قانون أصول المحاكم الجزائية، التي رفعت الحصانة عن الموظف الحكومي في حالة ارتكاب جرائم تستوجب مسألته قانونياً.

إن إثارة السؤال أيضا مدعاة لمراجعة خطورة الجرائم المحتمل ارتكابها من وظائف بهذه الأهمية والحساسية لأن أعلى الهرم السياسي والإداري للدولة يتشكل نتيجة لهذين القانونين فجميع الوظائف العليا أما أن تكون نتيجة مباشرة للانتخابات (مجلس النواب)، أو نتيجة غير مباشرة (بعد مصادقة مجلس النواب)، من سلطة تنفيذية أو قضائية. وإن هذين القانونين هما اللذين يأتيان بالنخب السياسية لإدارة المال العام والسلطة العامة.
وبغض النظر ـ بشكل كامل ـ عن الجانب السياسي، فأن مناط عمل هيئة النزاهة وفقاً لقانونها النافذ، هي الجرائم التي قد ترتكب من شخصيات الدرجات العليا في الدولة.

– وهو ما يثير السؤال: هل أن الجرائم التي تتصل بقانون الأحزاب أو الحملات الانتخابية التي تأتي بالدرجة العليا في إدارة الدولة وتمتلك سلطات واسعة بالتصرف بالمال العام والسلطة العام من اختصاص هيئة النزاهة؟
إن الإجابة الصريحة تكفل بها قانون هيئة النزاهة النافذ وهي ليس من اختصاصها، بل من اختصاص جهات رقابية أخرى؟
وهو مدعاة لتساؤل المواطن حين يرى أو يشعر الإخفاق في البرامج الحكومية السياسية أو ما يتصل بالنخب السياسي، أين هيئة النزاهة؟
ويمكن الإجابة بوضوح أن هيئة النزاهة تكون حاضرة حتى بالنسبة لهذه المسؤوليات حين يكون هناك اعتداء منها على المال العام والسلطة العامة وضمن اختصاصها، وأن قانونها يلزمها الحياد تجاه الرؤى السياسية أو الايديولوجيات أو الأفكار أو الانتماء على تنوعها.

الثاني: الوظائف التي يكون سبب توليها التعيين: على الرغم من توافر المنظومة التشريعية العراقية على جملة قوانين تنظيم الوظيفة العام وتحدد شروط توليها، وأخلاقيات العمل بها، والواجبات المترتبة عليها والحقوق الناتجة عنها، غير أن إمكانية التعويل عليها خصوصاً عند التعيين، مثل أحد الجرائم التي تنهض مسؤولية هيئة النزاهة في متابعتها ومكافحتها، سواء سبب التعيين تحقيق مصلحة شخصية للقائم بالتعيين (كالرشوة مثلاً) أو التجاوز حدود وظيفته.
ويعد هذا المصدر للوظيفة العامة من أوسع المسالك التي تتطلب العناية والاهتمام، من جملة أسباب:

من بينها حجمها الكبير، واتصالها المباشر بمصالح المواطنين، وبوصفها لاحقاً تمثل أهم عناصر الحكومة التنفيذية أو القضائية، لأن استبدالها لا يتم بوقت قصير، مثلما يحدث للوظائف التي يكون منبعها الانتخاب وتتصل بالعمل السياسي، فهذا المصدر يمثل جسد الدولة الحقيقي ومنه تتحقق الخبرة، وبه توضع السياسات الاستراتيجية لتنفيذ البرامج، فهو وإن كان التعيين في بدء تحقيقه يمثل درجات وظيفية في أسفل سلم الدرجات، لكن بتعاقب سنوات العمل يتحول إلى أعلاها ويمتلك نتيجة ذلك صلاحية التصرف بالمال العام والسلطة العامة. وهنا مكمن الخطورة التي تتطلب العناية باختيار الموظف في الوظيفة العامة.
وإذا كان ما أسلفنا من توافر التشريعات في هذا الجانب غير ان التشريع الأهم الذي يكون مناط المنافسة بين الموظفين لتولي الوظيفة العامة ما جاءت به المادة/16 من الدستوري العراقي التي جعلت من تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع المواطنين، وتكفل الدولة اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، فأن المادة آنفاً وأن لم ينص الدستور على ضرورة تشريع قانون ينظم تكافؤ الفرص، غير أن وجوده ضرورة توفر للمواطن المطالبة والتدقيق والاعتراض إذا شعر بوجود حيف وقع عليه يمنعه من تولي الوظيفة العامة.
وبذلك إضافة إلى تشريعات أخرى يتم تنظيم تولي الوظيفة العامة من قبل المواطنين، وتأتي بنتيجة نأمل منها تولي الكفء والحريص والأمين والمبدع المسؤولية.

– ولكن هل من مسؤولية هيئة النزاهة تشريع مثل هذا القانون؟
– إن القول الأول الذي يبعد الهيئة عن الرؤيا السياسية، لا يصلح أن يكون تبريراً للهيئة ويرفع المسؤولية عنها عن السبب الثاني، وأن كان غيره من الأسباب ينهض وهو: أن التشريع من مسؤوليات جهات حددها الدستور العراقي، وإن مسؤولية النزاهة باقتراح مشاريع القوانين التي تحد من الفساد وتحقق النزاهة. ولم يكن من بينها مثل هذا المشروع لعدم اتصاله المباشر باختصاص الهيئة.

ومن جميع ما تقدم فيما يتصل بالنزاهة كمؤسسة:
– تم التأكيد على الوظيفة العامة والأشخاص الذين يتولون إدارتها، لأنهم يمثلون جسد إدارة الدولة وواضعي سياستها ومنفذي برامجها.
– لم يتم التطرق إلى نوع البرامج السياسية أو أولويات الحكومة أو اختصاصاتها في رسم السياسة النقدية أو المالية أو مشاريعها أو خططها لأنه خارج اختصاص هيئة النزاهة.

ونعود للتساؤل الأول:
هل هيئة النزاهة وإن كانت معنية بالنزاهة كقضية ـ مسؤولية عن النزاهة كقضية أم مؤسسة؟ ويبرز السؤال الثاني مباشرة، وهو ما دور المؤسسات الرقابية الأخرى.

– إن من الشروط الأساسية لمؤسسة مثل (هيئة النزاهة) أن تكون من بين المؤسسات الأكثر التزامناً بالقانون، والقانون الواجب عليها تنفيذه قانونها النافذ الذي حدد اختصاصاتها لأن توسعها خارج هذا القانون تكون قد مارست الفساد (تجاوز الموظف حدود وظيفته) وهو ما يتناقض مع تسميتها واختصاصها.

– إن ما هو خارج اختصاص هيئة النزاهة تكفلت به القوانين الأخرى الذي بموجبه تم تشكيل مؤسسات معنية تنفيذية، من بينها ديوان الرقابة المالية/ مكاتب المفتشين العموميين/ القضاء العراقي/ اللجان المعنية بمكافحة الفساد في مجلس النواب ومجالس المحافظات.

– إن النزاهة كقضية مسؤولية جماعة يتحملها الجميع الموظف والمواطن، وسواء كانت لهم صفة أفراد أو نخب في طليعة المجتمع، وسواء نظم عملهم قانون تمثله مؤسسة حكومية أو مؤسسة غير حكومية (إعلامية ـ منظمات مجتمع مدني)، فاتساع رقعة الفساد، تتطلب اتساع جبهة التصدي له.
إذن فهيئة النزاهة تشترك مع الجميع في هم التصدي للفساد، وتدرك أنه قضية، غير أنها لا تستطيع أن تسلك سوى طريق المؤسسة المختصة بمكافحة أنواع محددة من الجرائم نص عليها قانونها النافذ، وذلك ليس خيار لها فقط، وإنما ما الزمه بها قانونها الذي شرعه مجلس النواب.

ولكنها أمام خيار حدده لها مجلس النواب، وأمام رغبة المواطن وآماله في هيئة النزاهة، ما الذي يمكن أن تحققه في فعل مؤثر في الواقع للتصدي للفساد؟
إن من بين أساسيات تعتمدها هيئة النزاهة للتصدي للفساد، إن تعمل:
1. التنسيق العالي مع الأجهزة الرقابية الأخرى لمتابعة الفساد وبما لا يخرجها عن اختصاصها.
2. التعاون مع الجهات التنفيذية في تلافي الأخطاء التي لم تصل حد الجريمة بعد، وإصلاح مسارات العمل الإداري وبما يحقق الشفافية العالية في إدارتها.
3. متابعة الفساد والمفسدين وتقديمهم إلى القضاء من دون تمييز بين الذين يرتكبون الجرائم من حيث الدرجة الوظيفية أو الانتماء الفئوي لهم، أو جسامة الجريمة .
4. أن تعمل بمهنية عالية ووفق الإجراءات القانونية التي لا تتيح للمفسدين التهرب من المسألة القضائية.
5. أن لا تمتلك هيئة النزاهة أو تميل إلى الانتماءات السياسية وأن تمتلك الحياد من الجميع وأن تتعامل بموضوعية مع جميع القضايا المعروضة أمامها أو تختص بالتحقيق فيها.
6. أن تولي الإجراءات الوقائية في مكافحة الفساد الأهمية التي تستحق لخلق بيئة مناسبة للعمل الإداري يسمح للموظف الحكومي بالإبداع ويمنعه من الوقوع في الفساد.
7. العنابة بالتثقيف وعبر وسائلها التي أتاحها لها القانون وأن تكون صاحبه حضور في خلق بيئة طاردة للفساد مشجعة للنزاهة.
8. أن تؤكد علاقته الفاعلة مع الإعلام ومنظمات المجتمع المدني المعنية بمكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين بوسائل غير تقليدية لا تتوافرلدى هيئة النزاهة.