مفهوم و تعريف مبدأ قرينة البراءة و الاستثناءات الواردة عليه

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

التعريف بقرينة البراءة
الأصل في المتهم البراءة تلك هي القاعدة التي تقوم عليها نظرية الإثبات في المسائل الجنائية، فمن المسلم به أن الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته بمحاكمة قانونية عادلة، وهذه قرينة قانونية غير قاطعة وقابلة لإثبات العكس، لكنها على كل حال تحمي الحرية الشخصية للأفراد، فمن يدعي خلاف هذا الأصل عليه أن يقيم الدليل على دعواه، لذا يتعين على سلطة الاتهام أو المدعي المدني إثبات توافر جميع أركان الجريمة وإثبات عناصر هذه الأركان بكافة طرق الإثبات لكونها واقعة مادية(1)، فالمتهم يجب معاملته على أساس أنه بريء في كافة مراحل الدعوى حتى يصدر حكم بإدانته وأن يكون هذا الحكم مبنياً على الجزم واليقين لا على الشك والاحتمال وبالتالي فإن الشك يجب أن يفسر لمصلحته(2).

وقد ردد الفقه والقضاء بشأن هذا المبدأ على أن المجتمع يؤُثر أن يفلت الجاني من العقاب على أن يحكم ظلماً على بريء(3)، فكثيراً ما يوضع أشخاص رهن التوقيف فترة قد تطول أو تقصر ثم يقضى بعد ذلك ببراءتهم بعد إجراء محاكمتهم، فيكون من الأفضل معاملتهم على أساس أصل البراءة منذ بدء الاتهام حتى صدور الحكم البات في الدعوى وذلك درءاً للضرر الذي قد يتسبب عن أخطاء القضاء، وهنا يبرز دور القواعد الجنائية الإجرائية في كفالة التوازن بين مصلحة المجتمع في توقيع الجزاء على الجاني وبين مصلحة المتهم في عدم المساس بحقوقه الشخصية التي كفلها الدستور بنصه على هذا المبدأ الذي أصبح مبدءاً مسلماً به في كثير من الدساتير فنصت عليه في صلبها ومنها الدستور العراقي الصادر عام 2005 في المادة (19/خامساً) حيث نصت على أن: “المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة”(4)، وهذا هو ذات نص المادة (20) من الدستور العراقي الملغى لعام 1970.

ومبدأ أصل البراءة ليس بحديث العهد فقد قررته الشريعة الإسلامية من قبل، وهذا ما يوضحه قول رسولنا الكريم (صلى الله عليه والة وسلم) في الحديث الشريف: “ادرءوا الحدود بالشبهات”(5) وقوله (ص): “ادرءو الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فخير للإمام أن يخطئ في العفو خير، من أن يخطئ في العقوبة”(6)، فهذا المبدأ يمتد إلى جميع الجرائم في الشريعة الإسلامية من حدود وقصاص وتعازير استناداً لقول الرسول الكريم (صلى الله عليه والة وسلم): “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام”(7)، فهذا الحديث يلقي واجباً دينياً معيناً، ولا يجوز اسقاط هذا الواجب إلا بعد الثبوت بما يفيد القطع.

وباختصار إن ما تعنيه قرينة البراءة هو أن الإدانة لا تبنى إلا على الجزم واليقين، أما البراءة فيجوز أن تبنى على الشك، فالقاضي لا يتطلب للحكم بالبراءة دليلاً قاطعاً على ذلك، ولكنه يكتفي بعدم وجود دليل قطعي على الإدانة، ويعني ذلك هو أن تستوي براءة تستند إلى اليقين مع براءة تعتمد على الشك في الإدانة(8).
_____________
1- ينظر: د. محمد شتا أبو سعد، البراءة في الأحكام الجنائية وأثرها في رفض الدعوى المدنية، ط3، منشأة المعارف، الإسكندرية 1997، ص416 وما بعدها، د. جلال ثروت، الإجراءات الجنائية (الخصومة الجنائية)، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2002، ص169.
2- ينظر قرار محكمة التمييز رقم 898/جنايات/1965 في 17/7/1965، الفقه الجنائي في قرارات محاكم التمييز، ج4، ص29، ينظر قرار محكمة التمييز رقم 1073/جنايات/1968 في 22/7/1968، الفقه الجنائي في قرارات محاكم التمييز، ج4، ص34.
3- ينظر: محمد فالح حسن، مشروعية استخدام الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي، رسالة ماجستير، كلية القانون/جامعة بغداد 1978، ص22 وما بعدها.
4- ويقابل هذه المادة في الدستور المصري الصادر عام 1971 المادة (67).
5- السنن الكبرى للبيهقي: 8 / 31، والجامع الصغير للسيوطي: 1 / 52.
6- سنن الترمذي: 2 / 439، برقم 1747، والمستدرك للحاكم: 4/ 384، والسنن الكبرى للبيهقي: 8/238.
7- صحيح البخاري: 8/91.
8- ينظر: د. محمود نجيب حسني، الاختصاص والإثبات في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة 1992، ص70-71.

الاستثناءات من قرينة البراءة

أن ما يميز الإثبات في القانون الجنائي هو ما يكفله القانون من قرينة البراءة حتى في مرحلتي الاتهام والمحاكمة حتى صدور الحكم في الدعوى الجنائية، إلا أنه يوجد بعض الحالات الاستثنائية التي خرج فيها المشرع على هذا الأصل، فأوجب القانون الجنائي على المتهم إثبات ما يدعيه كشرط لإعفاءه من العقاب، ومن هذه الاستثناءات هو ما نصت عليه م(40) عقوبات بأن: “لا جريمة إذا وقع الفعل من موظف أو شخص مكلف بخدمة عامة في الحالات التالية:

أولاً/إذا قام بسلامة نية بفعل تنفيذاً لما أمرت به القوانين أو اعتقد أن إجراءه من اختصاصه.

ثانياً/إذا وقع الفعل منه تنفيذاً لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه طاعته أو اعتقد أن طاعته واجبة عليه، ويجب في الحالتين أن يثبت أن اعتقاد الفاعل بمشروعة الفعل كان مبنياً على أسباب معقولة وأنه لم يرتكبه إلا بعد اتخاذ الحيطة المناسبة، ومع ذلك فلا عقاب في الحالة الثانية إذا كان القانون لا يسمح للموظف بمناقشة الأمر الصادر إليه”(1).

وكذلك ما نصت عليه م(81) عقوبات عراقي من أنه: “مع عدم الإخلال بالمسؤولية الجزائية بالنسبة إلى مؤلف الكتاب أو واضع الرسم إلى غير ذلك من طرق التعبير، يعاقب رئيس تحرير الصحيفة بصفته فاعلاً للجرائم التي ارتكبت بواسطة صحيفته وإذا لم يكن ثمة رئيس تحرير يعاقب المحرر المسؤول عن القسم الذي حصل فيه النشر، ومع ذلك يعفى من العقاب أي من هما إذا ثبت في أثناء التحقيق أن النشر حصل بدون علمه وقدم كل ما لديه من معلومات أو الأوراق المساعدة على معرفة الناشر الفعلي”(2).

كما نصت المادة (433) عقوبات عراقي بأنه: ” 3- لا يقبل من القاذف إقامة الدليل على ما أسنده إلا إذا كان القذف موجهاً إلى موظف أو مكلف بخدمة عامة أو إلى شخص ذي صفة نيابية عامة أو كان يتولى عملاً يتعلق بمصالح الجمهور وكان ما أسنده القاذف متصلاً بوظيفة المقذوف أو عمله فإذا أقام الدليل على كل ما أسنده انتفت الجريمة”(3).
__________________
1- ويقابلها نص المادة (63) من قانون العقوبات المصري رقم 58 لعام 1937.
2- ويقابلها نص المادة (195) عقوبات مصري.
3- ويقابلها نص المادة (302) عقوبات مصري.