هل تثق الشركات بإداراتها القانونية ؟!
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
Alobid100 @
من الواضح أن واحدةً من أبرز مشكلات التقاضي لدى بيئة الأعمال هو ضيق الوقت عن الوصول إلى المحامي الذي يفهم أعمال الشركة وسياساتها وتاريخ تعاقداتها وطبيعة منتجاتها وخدماتها، لقد تنامت ظاهرة اللجوء السريع للمحامي المنقذ في الحالات الطارئة التي لا تحسب لها الشركة أي حساب بشكل يؤثر على التكاليف والخطط التشغيلية وسياسات التوزيع والتسويق التي قد تتعطل هي الأخرى لحين الانتهاء من التقاضي، في تلك الحالات قد لا تكون الشركة خالية من إدارات قانونية أو مستشارين قانونيين أو أخصائيي عقود، بل ربما كان بعض مستشاريها خلف المشكلة التي تسببت باندلاع النزاع القضائي.

إذاً؛ ما الذي يجعل الشركة ترمي بأوراقها ومستنداتها على مكاتب المحامين ضاربةً بين يديهم أخماسَها بأسداسِها متأملة في دهاقنتهم -مهما بهضت أجورُهم- بصيص ضوء للخروج من نفق المقاضاة؟! وهل نعتبر ذلك مؤشراً على عدم ثقة الشركات بإداراتها القانونية؟ بنظري (نعم إلى حد ما) فتفضيل المحامي أو القانوني الخارجي على قانونيي الشركة في المنعطفات المهمة يدل على نوع من عدم الطمأنينة بجدارة الإدارات القانونية بشكل أو بآخر.

لكن ما هي الأسباب التي تقف خلف هذه الظاهرة؟

اعتقد أن السبب الأبرز يعود إلى الشركة ذاتها سواء في استراتيجيات مجالس الإدارات أو سياسات الاستقطاب والتوظيف، أو ضعف الثقافة المؤسسية، ويتلخص ذلك في محورين:

الأول: الرغبة في توفير تكاليف الإدارات القانونية والمستشارين القانونيين الخبراء، فتلجأ بعض الشركات في أوضاعها المستقرة إلى تقليص الدور القانوني على صعيد الكفاءات النوعية أو العددية، وتعمد أحياناً إلى توظيف الخريجين الجدد ليس من أجل استثمار مواهبهم وتطوير قدراتهم بل لانخفاض رواتبهم ومزاياهم مقارنة بالخبراء، ولإمكانية الضغط عليهم لتقديم حلول غير قانونية تتلاءم مع أمزجة المدراء والرؤساء التنفيذيين، بخلاف الخبراء الذين عادةً ما تكون مهمة ترويضهم خطوة غير محسوبة النتائج، سيّما في البيئات التي لا تتمتع بثقافة عمل احترافية.

الثاني: انخفاض مستوى الوعي بأهمية الجدارة الفنية في المجال القانوني إذ ينظر كثير من مدراء الموارد البشرية ومسؤولي التوظيف إلى المجال القانوني كتخصص نظري بسيط وغير متفرع، فلا فرق عندهم بين المتخصص في القانون التجاري عن ممارس القانون الجنائي عن خبير القانون الإداري مثلاً، هذه النظرة التي يشوبها الكثير من التسطيح والتساهل أحدثت غموضاً لدى الشركات في تقدير مدى الاحتياج والاستقطاب ونوعِ التأهيل الذي تنصبّ عليه طبيعة عملها والمهارةِ التي يجب توافرها في المتقدم لشغل الاحتياج، ونقاط ضعف فريقها القانوني، ومدى الثقافة التي يجب أن يتمتع بها المتقدم عن طبيعة عمل الشركة والقطاع الذي تمارس أنشطتها من خلاله.

ستبقى المشكلة قائمة في ظل افتقار قنوات التوظيف للفهم النافذ إلى عمق المهارات القانونية ومسافة الفوارق الشاسعة بين كل فرع من فروع القانون وتطبيقاته، وبين كل شخصية وأخرى؛ فالترافع -مثلاً- يتطلب جانباً عالياً من المهارات الذاتية والقدرة على التعبير عن الأفكار وسرعة البديهة وأدوات الإقناع والتفاوض، فيما تتطلب كتابة الأبحاث والتقارير القانونية نوعاً مختلفاً من المهارات، وكذا صياغة العقود والمفاوضات حول البنود، وكذا صياغة اللوائح، وكذا تقديم الخدمات القانونية لموظفي الشركة في أنظمة ولوائح العمل والتأمينات الاجتماعية وحقوق العامل وواجباته، وكذا مهمة التحقيق مع منسوبي الشركة وتقرير الجزاءات والعقوبات، وخلافها، كل نوع من تلك العمليات القانونية يحتاج قدراً مختلفاً ونوعاً خاصاً من المؤهلات والمهارات والممارسات والخبرات.

إن ما تقوم به كثير من الشركات نظير جهلها أو تجاهلهالتلك الفروقات والتفاصيل هو تسكين عدد متواضع من الموظفين في فجوات الاحتياج الكبيرة لتسيير الأعمال القانونية كيفما اتفق بمرتبات لا تتناسب مع حجم الأعباء والمهام والعوائد التي ستجنيها من تلافي النزاعات القانونية التي قد لا تنقطع -إن بدأت- إلا بانقطاع الأنفاس!

وعند حصول ما لم يكن بالحسبان من مخالفات أو أخطاء قانونية أو نزاعات تعاقدية تسببت بها صياغاتٌ ركيكة أو بنود غامضة أو توصيات غير قانونية؛ فإن مكاتب المحاماة هي الحل الموثوق على الأقل مؤقتاً لحين الانتهاء من نفق التقاضي.

على كل حال: ربما عادت هذه الظاهرة بالفائدة –المشروعة- على كثير من المحامين الذين قد يحالفهم “القليل” من الحظ و”الكثير” من الخبرة والمهارة والمُكنة المتخصصة لإصلاح ما أفسده التساهل في شركاتٍ بخست ثمن حماية نفسها حتى ألجأتها الظروف غير المتوقعة لمكاتب المحاماة التي استهلكت أجورُها أضعافَ ما استكثرت أن تدفعه يوماً ما لتمكين وتطوير إداراتها القانونية واستقطاب الخبراء القانونيين الأكفاء، واستثمار العقول الموهوبة من الخريجين المتميزين.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت