الاثبات الجنائي

لايمكن ان يسأل شخص عن جريمة اتهم بارتكابها وإدانته عنها ما لم يقم الدليل امام القضاء على وقوع الجريمة حقيقة واقترافها من المتهم وتحمله مسؤولية ارتكابها ومن هذا المنطلق فان نظرية الاثبات هي المحور الذي تدور عليه قواعد الاجراءات الجنائية منذ لحظة وقوع الجريمة الى حين اصدار الحكم النهائي بشأنها .

ويعرف فقهاء القانون الاثبات على انه اقامة الدليل بالطرق القانونية التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت اثارها ، اما في نطاق الدعوى الجزائية فهو الوسيلة لاقرار الوقائع التي لاعلاقة لها بالدعوى وذلك وفقا للطرق التي حددها القانون وهو اقامة الدليل على وقوع الجريمة ونسبتها الى المتهم فهو اي الاثبات ينصب على توافر عناصر الجريمة وظروفها المختلفة ونسبتها الى فاعلها .

و طالما كان الاصل ان ذمة كل شخص تعد بريئة وغير مشغولة بحق لاخر مهما كانت طبيعة هذا الحق فان القاعدة العامة التي تحكم الاثبات هي ان عبئه يقع على المدعي فكل من يدعي خلاف الاصل الثابت يجب عليه ان يثبت عكسها فعلى المدعي اذن تقديم ما لديه من دليل على الواقعة المراد اثباتها والمحكمة ليست ملزمة وهي في صدد نظر الدعوى بتوجيه المدعي وتكليفه اثبات دعواه او تقديم المستندات الدالة عليه فالامر في ذلك كله موكول الى المدعي الذي يطالب بالتعويض بالكيفية التي يراها وهذه القاعدة اذا كانت تحكم الدعوى المدنية فهي من باب اولى تنطبق في الدعوى الجزائية ايضا فالمتهم بريء حتى يقدم ضده دليل على وقوع الجريمة واسنادها اليه وتحمله مسؤولية ارتكابها .

واذا دفع المتهم بوجود مانع من موانع المسؤولية او سبب من اسباب الاباحة او عذر من الاعذار القانونية فان اثبات صحة هذا الدفع يقع على عاتقه لانه يصبح مدعيا واذا عجز عن ذلك عد دفعه غير صحيح ويتعين رفضه من دون الزام الاتهام باقامة الدليل على بطلانه ، لذلك اذا دفع الموظف او المكلف بخدمة عامة بوقوع غلط في الاباحة فينبغي عليه اثبات ان اعتقاده بمشروعية فعله كان مبنيا على اسباب معقولة وانه لم يرتكبه الا بعد اتخاذ الحيطة المناسبة .

واذ ان الفصل في الدعوى الجزائية يحمل طابعا اجتماعيا يعم المجتمع باسره ما يجعل القاعدة التي ذكرناها لاتسري على اطلاقها في الاثبات في المسائل الجنائية فدور القاضي الجنائي في الاثبات يختلف عن دور القاضي المدني فالاخير يكون دوره سلبيا يقتصر على الموازنة بين الادلة التي يقدمها الخصوم وترجيح بعضها على الاخر في حين ان دور القاضي الجنائي يكون ايجابيا يتعدى الى البحث والتحري عن الحقيقة بكل الطرق المشروعة ويتعين ان يقوم بذلك من تلقاء نفسه وان يأخذ باوجه الدفع التي يراها في مصلحة المتهم وان لم يتمسك بها وفي هذا تقول محكمة التمييز في قرارها المرقم 1176 / ج / 57 الصادر في 21 / 12 / 1957 ( لما كانت المحكمة مقتنعة بوجود حالة الدفاع الشرعي فلم تبق والحالة هذه اية قيمة لانكار المتهم للحادثة او عدم تمسكه بالدفاع الشرعي ) .

وتتبع التشريعات القديمة مبدأ حرية القاضي في تكوين قناعته ) وهذا يعني ان المحكمة تبني قناعتها على ماتطمئن اليه من ادلة وعناصر في الدعوى مادامت مطروحة امامها وقد اتبع المشرع العراقي هذا المبدأ ايضا فنص في الفقرة أ من المادة 213 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 على انه (تحكم المحكمة في الدعوى بناء على اقتناعها الذي تكون لديها من الادلة المقدمة في اي دور من ادوار التحقيق او المحاكمة وهي الاقرار وشهادة الشهود ومحاضر التحقيق والمحاضر والكشوف الرسمية الاخرى وتقارير الخبراء والفنيين والقرائن والادلة الاخرى المقررة قانونا .

ان مبدأ حرية المحكمة في تكوين قناعتها معناه انها لا تتقيد في حكمها بنوع معين او انواع معينة من الادلة اذ يكون لها مطلق الحرية في تقدير قوة الدليل المقدم في الدعوى فهي غير مقيدة بادلة معينة بل انها تبني عقيدتها من جميع ظروف الدعوى وبامكانها ان تعتمد اي دليل في الدعوى يستخلص منه ما هو مؤدٍ اليه .

وهنا لابد من التمييز بين صلاحية الدليل للاثبات وبين قبول الدليل وطرحه في عملية الاثبات فالاولى هي مسألة قانونية لامجال لاعمال سلطة القاضي التقديرية بصددها ذلك ان المشرع حسمها بتحديده للنموذج القانوني للدليل القابل للاثبات فمتى توافرت فيه شروط هذا النموذج وجب على القاضي اخضاعه لعملية تقديره والا فيجب عليه استبعاده ان لم تتوفر فيه شروط هذا النموذج كاعتراف صادر نتيجة اكراه او دليل تحصل من تفتيش باطل .

ومن ناحية اخرى فان للمحكمة مطلق الحرية في تقدير قيمة كل دليل مطروح امامها طبقا لقناعتها فلها ان تستقي هذه القناعة من اي دليل تطمئن اليه ولها طرح الادلة التي لا تطمئن لها او التنسيق بين الادلة المعروضة عليها لاستخلاص نتيجة منطقية عن طريق تلك الادلة مجتمعة فلها ان تعتمد سببا للحكم على القرائن من دون الشهادات كما لها ان تطرح اعتراف المتهم الذي يبديه امامها اذا لم يكن مدعوما بادلة وفي حال تعارض تقريران عن حالة المتهم فان للمحكمة ان ترجح احداهما اذا وجدت سببا لذلك واذا تبين لها وجود اختلاف بين اقوال الشهود وتقارير الطبية فان لها الأخذ بشهادة الشهود مادامت المحكمة قد اطمأنت الى صحتها .

ويترتب على الاخذ بمبدأ حرية المحكمة في تكوين قناعتها هو ان تقدير الادلة بالنسبة لكل متهم هو من اختصاص محكمة الموضوع وحدها فهي حرة في تكوين قناعتها وفقا لتقديرها للادلة المطروحة امامها واطمئنانها اليها فلها ان تأخذ بادلة في حق متهم ولا تأخذ بها في حق متهم اخر وان كانت متماثلة كما ان من سلطة المحكمة في تقدير الادلة تجزئة الدليل اذ ان لها ان تأخذ من شهادة الشاهد ما تطمئن اليه وتطرح ما يخالف قناعتها مادام مرجع الامر في ذلك الى مبلغ اطمئنانها الى صحة الدليل الذي تبني عليه عقيدتها .

ان الدليل في الامور الجنائية قد لا يكون صريحا ومباشرا ودالا بنفسه على الواقعة المراد اثباتها بل يكفي ان تستخلص المحكمة ثبوت تلك الواقعة بالاستنتاج و ما تكشفه الظروف والقرائن وبالتالي ترتيب النتائج على المقدمات بشرط ان يكون ذلك الاستنتاج هو الرأي الوحيد الذي يمكن استخلاصه من الادلة المطروحة امام المحكمة بعد تقديرها والتأكد من صحتها .

و محكمة الموضوع من حقها ان تستخلص من اقوال الشهود وسائر العناصر المطروحة امامها على بساط البحث الصورة الدقيقة لواقعة الدعوى حسبما يؤدي اليه اقتناعها وان تطرح ما يخالفه من صور مادام استخلاصها مستندا الى ادلة معقولة في العقل والمنطق ولها اصلها في الاوراق.

المحامية: ورود فخري