ان طبيعة القصد الجنائي تتحدد بين نظريتين هما نظرية العلم ونظرية الارادة وسنبحث هاتين النظريتين في نقطتين ثم نتبع ذلك ببيان موقف المشرع العراقي منهما .

اولا : نظرية العلم

يرى انصار هذه النظرة ان القصد الجنائي يتمثل في العلم بالفعل وارادته ثم في توقع النتيجة دون ارادتها ، فارادة النتيجة امر غير لازم من الناحية القانونية وهو امر غير صحيح من الناحية المنطقية ، ويبرر انصار هذه النظرية عدم لزوم ارادة النتيجة من الناحية القانونية في استقرار الفقه والقضاء على تحريك المسؤولية العمدية للجاني عن النتائج المترتبة على فعله ولو كان راغبا عنها ، فمن يطلق الرصاص على عدوه الذي يقود سيارته وبصحبته عائلته قاصدا قتله دون الباقين الا ان الرصاص يصيبهم جميعا ويؤدي إلى وفاتهم يسأل عن قتلهم ولو ثبت انه كان يتمنى حياتهم ، وبالنسبة لعدم صحة ارادة النتيجة من الناحية المنطقية فذلك لان النتيجة امر مستقبل لا يمكن انصراف الارادة اليه لانه غير موجود حالا ويتحدد وجوده على المستقبل ، بينما يقف دور الارادة عند اثارة الاعصاب أو العضلات لكن تأتي حركة عضوية تفضي اليها دون ان تدخل النتيجة الا في تصور الجاني ، فمكان وجودها لا يكون الا في دائرة العلم والتوقع (1) .

ثانيا : نظرية الارادة

يرى انصار هذه النظرية ان من اهم خصائص السلوك الانساني هو ان يتجه نحو غاية معينة يبتغي تحقيقها وهذه الغاية وان كانت خارجة عن نطاق ارادة الجاني الا انها مترتبة على سلوكه لذلك لا يكفي القول ان الجاني مسؤول عنها بمجرد توقعه لها بل يجب ان تتجه ارادته اليها ، فالقصد يتوافر عندما يريد الجاني الفعل ويريد النتيجة (2) . وقد قيل في نقد نظرية العلم انه لا ينبغي الوقوف عند حد الفعل وحده وانما يجب ان نرى النتيجة التي ترتبت عليه ، وان الارادة ليست حركة عضوية من الياف وعضلات فحسب ، بل يتصل بها جانب نفسي يتحدد بالباعث والغاية والاتجاه نحو هدف معين . وان العلم وحده لا يكفي لبناء القصد لانه مجرد حالة ذهنية ساكنة لا يكون له أي اثر في العالم الخارجي الا اذا اقترن بفعل ارادي يكشف عن وجود ارادة محددة بمضمونها واتجاهها (3) . والذي نراه ان القصد الجرمي يتحدد بعنصرين هما :

الاول : اتجاه ارادة الجاني نحو ارتكاب الجريمة .

الثاني : العلم بتوافر عناصر الجريمة وتصورها (4) .

ثالثا : موقف المشرع العراقي

عرف المشرع العراقي القصد الجرمي بإنه (توجيه الفاعل ارادته إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة هادفا إلى نتيجة الجريمة التي وقعت أو أية نتيجة جرمية أخرى) (5) . ويرى كثير من الشراح ان المشرع العراقي قد أقام القصد الجرمي في التعريف المذكور اعلاه على عنصر الارادة فقط في حين ان القصد الجرمي يقوم على عنصري الارادة والعلم على الرأي السائد في الفقه (6) . الا ان هناك من الشراح من يعتقد بان الصيغة التي طرح فيها المشرع العراقي النص تفيد تحقق القصد الجنائي بعنصرين هما العلم والارادة ، علم بعناصر الجريمة ، وارادة متجهة إلى تحقيق هذه العناصر . ورود كلمة الارادة في النص لا يعني الاخذ بنظرية الارادة فقط ، ذلك ان الارادة تفترض العلم اذ هو مقدمة ضرورية لوجود ارادة واعية تحيط بما تريد لذلك فان المشرع العراقي قد اقام القصد الجنائي على عنصري الارادة والعلم (7) . ونرى ان هذا الرأي يقرر الحقيقة فيما نص عليه المشرع العراقي ، فعلى الرغم من ورود كلمة (الارادة) في النص ، الا ان الارادة تتضمن العلم ، وتحقيـق ذلـك: ان الارادة في اوضح معانيها هي قوة نفسية يخصص بها الانسان وجود افعاله التي يميل اليها ويرغب بها ولا يحول بينه وبين القيام بها أي حائل (8) .

ولا يصل الانسان إلى الارادة بوصفها قوة نفسية الا بعد المرور بمراحل تسبقها (9) . وهي الخاطر ثم الميل ثم الرغبة ثم الارادة ، وان عنصر العلم يلحق بالسلوك قبل ان يصير ارادة ، فالسلوك بمرحلة الميل يقتضي العلم فلا يمكن لانسان ان يتوجه إلى شيء يتصوره ويدرك الغرض منه والغاية المترتبة عليه دون ان يكون عالما بما يفعله قبل اتصال هذا الميل بقوة الارادة ، وهكذا يتضح ان الارادة اذا ما توجهت بسلوكها إلى النتيجة بسلوكها فلا بد من حصول العلم بذلك ، لان الارادة قبل اتخاذها سلوكا ما لتصل إلى النتيجة لا بد ان تكون على علم تام بهذه النتيجة ، فالجاني يعلم يقينا بما سيحقق في سلوكه من نتيجة ، فيوجه ارادته إلى هذا الفعل فتكون الارادة متجهة إلى النتيجة (10) . وبناء على ما سبق فان المشرع العراقي قد أقام القصد الجرمي على عنصري العلم والارادة ، علم بعناصر الجريمة وارادة متجهة إلى تحقيق هذه العناصر ، والملاحظ ان كلا العنصرين لايدر كان بالحس الظاهر لذلك صار القصد الجرمي امراً خفيا لا تدركه الحواس بالظاهر لانه ظاهرة نفسية مجردة من الكيان المادي الملموس (11) . وزاد من صعوبة اداركه وكشفه ، ان المشرع العراقي لم يضع وصفا لادراكه ، وضوابط لتحديده ، وشروطا لتقييده ، وهو شأن جميع القوانين الجنائية ، وسبب ذلك استحالة وضع ما يحدد الحالة النفسية غير الظاهرة للفاعل، والتي تختلف في كل شخص عن الاخر بل ربما اختلفت في الشخص نفسه من وقت لاخر . فالقصد الجرمي امر باطن متصل بنفس الجاني ولا يستدل عليه الا مما يثيره فعل الجاني المادي من نتائج وغايات في عالم الظاهر (12) .

______________________

[1]- انظر : حسنين ابراهيم صالح عبيد ، القصد الجنائي الخاص ، ط1 ، دار النهضة العربية ، القاهرة 1981 ، ص11 . وبتفصيل انظر : محمود نجيب حسني ، النظرية العامة للقصد الجنائي ، دار النهضة العربية ، القاهرة 1978 ، ص33 . ورؤوف عبيد ، المصدر السابق ، ص ص55-56 . وجلال ثروت ، قانون العقوبات ، القسم العام ، الدار الجامعية ، بيروت 1984 ، ص ص145-149 . وله ايضا : نظرية الجريمة المتعدية القصد ، المصدر السابق ، ص225 .

2- انظر : رؤوف عبيد ، المصدر السابق ، ص53. وجلال ثروت ، نظرية الجريمة المتعدية القصد ، المصدر السابق ، ص ص 226-228 . وممدوح خليل بحر ، المصدر السابق ، ص360 . وحسنين ابراهيم صالح عبيد ، المصدر السابق ، ص14 .

3- انظر : محمود نجيب حسني ، المصدر السابق ، ص ص51-53 . وجلال ثروت ، قانون العقوبات ، القسم العام ، المصدر السابق ، ص ص145-146 . وكذلك له : نظرية الجريمة المتعدية القصد ، المصدر السابق ، ص ص 226 – 227 . ونظام توفيق المجالي ، المصدر السابق ، ص411 . وحسنين ابراهيم صالح عبيد ، المصدر السابق ،ص ص13-14 . ورؤوف عبيد ، المصدر السابق ، ص ص58-61 .

4- انظر : رؤوف عبيد ، المصدر السابق ، ص53 . وجلال ثروت ، نظرية الجريمة المتعدية القصد ، المصدر السابق ، ص ص228 – 229 وكذلك له: قانون العقوبات ، القسم العام ، المصدر السابق ، ص 146. وفخري عبد الرزاق صلبي الحديثي ، المصدر السابق ، ص ص275-276 . وحسنين ابراهيم صالح عبيد ، المصدر السابق ، ص14 .

5- المادة (33/1) من قانون العقوبات العراقي .

6- انظر : عباس الحسني ، المصدر السابق ، ص88 . وعلي حسين الخلف وسلطان عبد القادر الشاوي ، المصدر السابق ، ص ص150-151 . وماهر عبد شويش الدرة ، المصدر السابق ، ص311 .

7- انظر : فخري عبد الرزاق صلبي الحديثي ، المصدر السابق ، ص275 . وحميد السعدي ، المصدر السابق ، ص ص248-249 . واكرم نشأت ابراهيم ، المصدر السابق ، ص235 . وعبد الحكيم ذنون الغزال ، القرائن القضائية ، مصدر سابق ، ص79 .

8- انظر منصور علي رجب ، مصدر سابق ، ص88 . وقد وردت تعاريف كثيرة للارادة منها ما ذكره د.عباس الحسني ، المصدر السابق ، ص87 حيث قال (الارادة في مفهومنا القانوني تعرف بانها النشاط النفسي الذي تتمثل فيه القدرة على التمييز وحرية الاختيار) ، وعرفها د. علي حسين الخلف ، المصدر السابق ، ص148 بانها : (قوة نفسية من شأنها الخلق والسيطرة) ، وعرفها د. فخري الحديثي ، المصدر السابق ، ص287 بانها : (صفة تخصص الممكن وهي نشاط نفسي يعول عليها الانسان في التأثير على ما يحبط به من اشخاص واشياء) ، وعرفها د. ماهر عبد شويش الدرة ، ، المصدر السابق ، ص303 بانها (نشاط نفسي اتجه إلى تحقيق غرض عن طريق وسيلة معينة فالادارة ظاهرة نفسية وهي قوة يستعين بها الانسان للتأثير على ما يحيط به من اشياء واشخاص) ، وعرفها د.اكرم نشأت ، المصدر السابق ، ص238 بانها : (نشاط نفسي يتجسد في قدرة الانسان على توجيه نفسه إلى فعل معين أو إلى الامتناع عنه وبعبارة اخرى تتمثل في حرية اختياره في توجيه نفسه إلى ما يريد ان يفعله أو امتناعه عما لا يريد ان يفعله) . وعرفها محمد فوزان محمد رضا الحساني بانها : (القوة النفسية الواعية التي تتجه إلى تحقيق غرض معين باتخاذ وسيلة معينة) . انظر رسالته الموسومة ” القصد الجنائي في جريمة الضرب المفضي إلى الموت ” ، رسالة ماجستير ، كلية القانون والسياسة، جامعة بغداد 1982، ص 251 . وعرفها د. ضاري خليل محمود ، المصدر السابق ، ص66 ، بانها : (قوة كاملة في النفس مضمونها الادراك وحرية الاختيار ) .وعرفها د.محمود نجيب حسني بانها : (نشاط نفسي اتجه إلى= =تحقيق غرض معين عن طريق وسيلة معينة فالارادة ظاهرة نفسية) انظر : النظرية العامة للقصد الجنائي ، المصدر السابق ، ص200 . وكذلك شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، مصدر سابق ، ص588 . وعرفها د. عبد الرزاق احمد السنهوري بانها (عمل نفسي ينعقد به العزم على شيء معين) انظر : نظرية العقد ، مصدر سابق ، ص149 . وعرفها د. حسنين ابراهيم صالح عبيد ، المصدر السابق ، ص16 بانها : (نشاط نفسي واع اتجه إلى تحقيق غرض معين ويترتب على ذلك انها ذا صفة غائية ، لانه من غير المستساغ ان نفترض سلوكا اراديا واعيا دون غاية تحدده) .وعرفها د. جلال ثروت بها : (ظاهرة نفسية تتصل بالقوى الواعية النشطة في الانسان اعني القوى التي تصور في النفس واقع الاشياء )، انظر : نظرية الجريمة المتعدية القصد ، المصدر السابق ، ص211. وفي التعاريف المختلفة للارادة في القانون الانكليزي والسوداني واختلاف الفقهاء في عدها جزءاً من الركن المادي أو جزءاً من القصد الجنائي ، انظر : صفية محمد صفوت ، القصد الجنائي والمسؤولية المطلقة ، دار ابن زيدون ، بيروت 1986 ، ص ص121-127.

9- سبق بيان هذه المراحل وتعريفاتها ، انظر : ص 24 من هذه الرسالة .

0[1]- انظر : صفية محمد صفوت ، المصدر السابق ،ص ص91-93 . ومحمد فوزان محمد رضا الحساني ، المصدر السابق ، ص ص51-52 ، وحول تفصيل مراحل التكوين الخلقي للانسان . انظر : منصور علي رجب ، مصدر سابق ، ص ص88-90 . وفي التفرقة بين الرغبة والارادة انظر : محمود نجيب حسني ، النظرية العامة للقصد الجنائي ، المصدر السابق ، ص208 . ويلاحظ ان الاستاذ السنهوري قد ذكر ان (الارادة يسبقها عملان تحضيريان ويليها عمل تنفيذي ، فأول مرحلة هي : اتجاه الفكر إلى امر معين أي الادراك Conception ، ثم يلي ذلك مرحلة التدبر Deliberation فيرى الشخص هذا الامر ويتدبره ، ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي امضاء العزيمة في هذا الامر والبت فيه وهذه هي الارادة Volition فاذا انعقدت لم يبق بعد ذلك الا مرحلة التنفيذ execution وهذه المرحلة الاخيرة هي عمل خارجي اما المراحل الثلاث الاولى فهي مراحل داخلية نفسية اثنان منها يرجعان إلى التفكير والثالثة هي الارادة المقصودة) انظر في ذلك نظرية العقد ، المصدر السابق ، ص149 .

1[1]- انظر : محمود نجيب حسني ، النظرية العامة للقصد الجنائي ، المصدر السابق ، ص50 .
وعباس الحسني ، المصدر السابق ، ص ص88-90 . وفخري عبد الرزاق صلبي الحيدثي ، القسم العام ، المصدر السابق ، ص ص 304-305 .وماهر عبد شويش الدرة ، المصدر السابق ، ص ص301 و 304 . وصفية محمد صفوت ، المصدر السابق ، ص ص57-59 .

2[1]- انظر : علي حسين الخلف وسلطان عبد القادر الشاوي ، المصدر السابق ، ص168 . وقد استعرضت د. صفية محمد صفوت اقوال الفقهاء حول صعوبة تحديد القصد الجنائي وضبطه ، انظر في ذلك : صفية محمد صفوت ، المصدر السابق ، ص ص61-63 . ومحمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، المصدر السابق ، ص ص 558-562 .

المؤلف : عبد الحكيم ذنون يونس الغزال
الكتاب أو المصدر : الحماية الجنائية للحريات الفردية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .