إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأموال على نجاح المرشحين للمناصب المختلفة لاسيما النيابية منها ؟

هل يمكن انتخاب مرشح فقير ؟! سؤال طالما يطرح في أوقات أو أماكن كثيرة ولكن إجابته معروفة سلفاً- وهي غالبا- النفي.

ويمكن أن نسأل بصيغة أخرى: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأموال على نجاح المرشحين للمناصب المختلفة لاسيما النيابية منها ؟!

وما هي الآثار السلبية على النظام الديمقراطي التي يمكن أن تنجم عن تعاظم دور المال في العملية الانتخابية ؟ وما هي آلية إصلاح هذه الآثار والحد منها وبالتحديد ما هو دور القضاء في الرقابة على تمويل الحملات الانتخابية ؟

الذي دفعنا للتساؤلات السابقة ذلك الجدل المثار دائماً حول العلاقة بين السياسة والمال بل إن هذا الجدل قد تزايد في العصر الحديث تبعاً لتزايد المال في اللعبة السياسية نظراً لظهور وسائل جديدة ومستحدثة للدعاية الانتخابية تتطلب نفقات باهظة، فالمرشح يلجأ الآن لوسائل إعلامية جديدة للترويج لأفكاره ومبادئه، مثل استطلاعات الرأي والإعلانات عبر شاشات التلفزيون وشبكة الانترنت، والرسائل الهاتفية القصيرة(sms ) والبرامج الدعائية التي تشبه إلى حد كبير إعلانات التسويق التجاري علاوة على الوسائل التقليدية المعروفة.

علما بان موضوع ارتباط المال بالسياسة قديم جدا، وقد كان للمال الأثر الأكبر في الديمقراطيات الأولى في العالم ، لاسيما الانجليزية ،وقد كان للمال تأثيره على العديد من المناصب العامة ، وقد كانت الوظائف العام – حتى في الدولة العثمانية – تباع و تشترى.

والمشكلة الأساسية تكمن في مصدر تلك الأموال، حيث يحصل المرشح على الأموال اللازمة لتمويل حملته الانتخابية من مصادر عدة ولكنها ليست مصادر مشروعة أو نظيفة دائماً، بل نجد تدخل سافر لجماعات المصالح في تمويل الحملات الانتخابية لصالح مرشح أو آخر بغرض استغلاله بعد نجاحه في تحقيق مصالحها. بل إن الساحة السياسية شهدت في بعض الدول مشاركة أموال تجارة المخدرات والسلاح في تمويل مرشحين هناك.

وهناك مسألة لا تقل أهمية عن ضرورة تحديد مصادر تمويل الحملات الانتخابية وهي أوجه إنفاق الأموال ؟ ومدى حصرها في تمويل الحملات الانتخابية فقط دون استخدامها للتأثير على إدارة الناخبين؟ وكذلك من المهم تحديد حد أقصى أو سقف للإنفاق وعدم إطلاق حرية المرشحين في الإنفاق مما يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بينهم.

إن الإنفاق المتزايد للأموال في الحملات الانتخابية قد جاء وليد العديد من العوامل، لعل أهمها ذلك التقدم الهائل في مجال الإعلام، والذي أصبح يعد- وبحق الوسيلة- الأكثر خطورة التي يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في نجاح المرشحين، علاوة على النمو الكبير لرؤوس الأموال الخاصة، وتزايد جماعات المصالح، وتنوع الطرق التي تستخدمها في التأثير على المرشحين من أجل تحقيق مصالحها.

كل ذلك حدا بالدول المختلفة لوضع ضوابط على تمويل الحملات الانتخابية وبسط رقابة- غالبا قضائية- على هذا التمويل لضمان تحقيق مبادئ الشفافية السياسية والمساواة وتكافؤ الفرص بين المرشحين، وإن كانت هذه الرقابة القضائية لا تحقق – غالباً- الهدف كاملاً إلا أنها تعتبر ضمانة جوهرية لضبط الإنفاق على الحملات الانتخابية، وتتفاوت الدول في الأخذ بهذه الرقابة ومداها.

و يقوم القضاء في العديد من الدول – مثل فرنسا- بدور مهم في الرقابة على تمويل الحملات الانتخابية بدءاً من التأكد من احترام المرشحين للميعاد الذي تبدأ فيه الحملة الانتخابية وضرورة فتح حساب بنكي للحملة الانتخابية، وكذلك وجوب اعتماد حساب الحملة من أحد الخبراء في مجال المحاسبة.

ويعد التنظيم القانوني لتمويل للحملات الانتخابية على قدر كبير من الأهمية، ويعتبر مرحلة مهمة وخطيرة من مراحل العملية الانتخابية، بل لا نبالغ إذا صلحت هذه المرحلة صلحت سائر مراحل العملية الانتخابية، وإذا فسدت كان هذا مؤشراً على فساد العملية الانتخابية برمتها.

ولا ينظر للمخالفات المرتكبة في تمويل حملة انتخابية على أنها مخالفات مالية فحسب، بل كونها مخالفات تؤثر سلباً على الإرادة الحرة للناخبين، فسلاح المال يشكل – إبان الحملة الانتخابية – عنصراً ضاغطاً على إرادة الناخب، قد يصل إلى حد انتشار ظاهرة شراء الأصوات، الأمر الذي يفرغ عملية الانتخاب من مضمونها كوسيلة ديمقراطية لإسناد السلطة وتولي المناصب العامة .

وترجع أهمية الرقابة القضائية إلى الدور المهم والمحايد الذي يمكن أن يقوم به القضاء في هذا الصدد وذلك على خلاف أنواع الرقابة الأخرى على تمويل الحملات الانتخابية والتي يمكن أن تمارسها هيئة سياسية أو إدارية … الخ مما قد يؤدي إلى تسييس المنازعات الانتخابية وإخضاعها للهوى الحزبي أو التعصب السياسي.

ولقد أثبتت الممارسات العملية للقواعد الديمقراطية أن وجود ثقافة سياسية واعية لدى جمهور الناخبين بعد أفضل ضمانة لنجاح العملية الانتخابية ولإجهاض أية محاولات لجعل المال هو سيد الموقف، فإدراك الناخب لأهمية صوته الانتخابي وحرصه على وصول هذا الصوت للمرشح الذي يختاره بحرية دون أي تدخل من أي نوع يجعل هذا الناخب رقيباً على العملية الانتخابية في مجموعها مما يخلق مناخاً من الرقابة الذاتية ونظاماً ديمقراطياً لا يحتاج إلى نظام رقابي صارم وشديد على مراحل العملية الانتخابية.

ولضمان تحقيق مبدأ المساواة بين المواطنين وتنظيم عملية الدعاية الانتخابية يضع المشرع القواعد التي تحكم المعركة الانتخابية عموماً، كما أنه يقرر القواعد التي تضمن المساواة بين كافة المرشحين وبصفة خاصة ما يتعلق بما تقدمه الدولة من تسهيلات خاصة بالحملات الانتخابية.

و تتنوع مصادر تمويل الحملات الانتخابية . ولكن يمكن تحديد أهم هذه المصادر في الآتي:

أموال المرشح نفسه.

أموال الحزب الذي ينتمي إليه المرشح .

مساعدات وتسهيلات من الدولة ينظمها القانون.

إعانات وتبرعات من الأفراد الموالين والمؤيدين.

إعانات وتبرعات من جماعات وهيئات ومؤسسات سياسية أو اقتصادية… إلخ.

وتتفاوت الدول في تنظيم مصادر تمويل الحملات الانتخابية وإن اتفقت من حيث المبدأ- ولو شكليا- على تحديد هذه المصادر، مع العلم بان وغالبية الدول تحظر قبول تبرعات أو مساعدات من جهات أجنبية أو من أفراد أجانب ، وبعض الدول تحرم الحصول على تمويل من جهات معينة كالشركات أو المؤسسات التجارية…إلخ.

والذي نريد أن نؤكد عليه هو عدم كفاية التشريعات – ومنها قانون الانتخاب- في إشاعة مناخ من المساواة والشفافية والعدالة بين مختلف المرشحين، بل إن الأمر يتعلق- بالإضافة للتشريعات- بالنظام السياسي المطبق على ارض الواقع، ومدى وجود مؤسسات سياسية وقضائية تحمي وتراقب العملية الانتخابية برمتها .

كما يلزم أيضا توافر درجة عالية من النضج السياسي لدى الجماهير حتى لا يسهل شراء أصوات الناخبين مما يخرج عن العملية الانتخابية.

ويمكننا القول أن توافر رقابة قوية على عملية تحويل الحملات الانتخابية يعتبر عاملاً أساسياً إن لم يكن هو العامل الأساسي في ترسيخ مبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين المرشحين مما يؤدي – بالتبعية- إلى إجراء انتخابات سليمة وصحيحة يسودها مناخ من الشفافية، وإلى شعور المواطن بأن صوته لا يباع ولا يشتري، وإنما هو صوت يتم منحه لمن يستحقه بغض النظر عما أنفقه هذا المرشح أو ذلك أبان حملته الانتخابية.

وتتنوع أساليب الرقابة على تمويل الحملات الانتخابية فبعض الدول تتبع نظام الرقابة القضائية وهذا هو الوضع السائد في الدول المتقدمة، وإن كان هناك بعض وسائل الرقابة الأخرى منها ما هو سياسي وشعبي وإداري.

وأما فيما يتعلق بالرقابة القضائية فإن الدول التي تأخذ بها ولا تتبع نظاماً واحداً بشأنها، فمنها من يعهد بهذه الرقابة إلى جهة قضائية تنشأ خصيصاً لهذا الغرض ومن الدول من يعهد بهذه الرقابة غلى جهة قضائية محددة أو يجعل هذه الرقابة موزعة بين أكثر من جهة قضائية حسب نوعية الانتخابات.

وعلى الصعيد النظام القانوني الأردني يمكن القول في البداية بعدم وجود رؤية شاملة لنظام التمويل للحملات الانتخابية، وإنما نجد مجموعة من النصوص المتناثرة هنا وهناك لا تشكل تشريعاً عاماً يعالج كافة أوجه الموضوع.

كما أننا سنلاحظ أيضاً عدم مجاراة التشريعات الأردنية في هذا الصدد للتطورات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الأردني. وأخيراً نجد ضعفا شديداً في الرقابة على عملية التمويل للحملات الانتخابية، والهوة الواسعة بين النصوص التشريعية والواقع العملي.

وإذا ألقينا نظرة على التشريعات الأردنية – لاسيما قانون الانتخاب الحالي لسنة 2010- نجد أنها لا تتحدث عن تنظيم لعملية تمويل الحملات الانتخابية ، وقد نص القانون في مادة واحدة على تجريم بعض الجوانب المتعلقة بالمال السياسي وهي حظر تقديم (هدايا أو تبرعات أو مساعدات نقدية أو عينية أو غير ذلك من المنافع أو يعد بتقديمها لشخص طبيعي أو معنوي سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو بواسطة غيره بما في ذلك شراء الأصوات ..)) ، وعلى الرغم من خطورة هذه الأفعال ، فان المشرع الأردني وضع مدة تقادم قصيرة لسقوط هذه الجرائم وهي مدة ستة أشهر من تاريخ إعلان نتائج الانتخابات؟؟

لذا فإننا نقترح معالجة كافة الجوانب المتعلقة بهذا الأمر من خلال ما يلي :

وضع ضوابط قانونية للإنفاق على الحملات الانتخابية، بحيث يتم وضع سقوف للإنفاق وعدم إطلاق حرية المرشحين في الإنفاق مما يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بينهم، ويجب أن يتم ربط هذه السقوف بعدد سكان الدائرة الانتخابية ، فكلما زاد عدد السكان ، كلمات زاد الإنفاق . مثلا (دينار لكل نسمة )

إلزام كل مرشح بتقديم كشف أو إقرار بخصوص ذمته المالية.

إلزام كل مرشح بفتح حساب بنكي خاص لتمويل العملية الانتخابية.

تشكيل هيئة (قضائية ) خاصة كل أربع سنوات تتول مهمة الرقابة على تمويل الحملات الانتخابية،ووضع صلاحيات واسعة لها ، بما في ذلك فحص حسابات المرشحين ،وتبسط اللجنة رقابتها على مصادر الأموال الخاصة بالحملة الانتخابية، وتتأكد من مدى التزام المرشح بالحصول على أموال حملته الانتخابية من مصادرها التي حددها القانون، ويخضع القضاء لرقابته أيضاً أوجه إنفاق هذه الأموال وفقاً لما نص عليه القانون، وأخيراً يتأكد القاضي من احترام المرشح لسقف النفقات المحدد قانوناً، هذا علاوة على العديد من الالتزامات والواجبات المفروضة على المرشح في هذا الصدد والتي يراقبها القضاء حتى تخرج العملية الانتخابية وقد توافرت فيها النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص والمساواة بين المرشحين.

وضع عقوبات ذات طابع جنائي وسياسي على كل مرشح يخالف قواعد الإنفاق أو السقوف المحدد للإنفاق بموجب القانون.

المحامي الدكتور نوفان العجارمة