ينقسم الادعاء بحق او بأية رابطة قانونية أمام القضاء الى عنصرين هما : عنصر الواقع وعنصر القانون، فالخصوم يقومون بأثبات الواقع، وهو محل الاثبات، اما القاضي فيتولى تطبيق القانون على الواقع باعتبار انه يفترض فيه العلم بالقانون، وهو مكلف بهذه المهمة.

المطلب الأول : اثبات الواقع :

يعد عنصر الواقع، مصدر الحق المدعى به، اي التصرف القانوني او الواقعة القانونية التي انشأت هذا الحق، واثبات هذا العنصر هو وحده الذي يقع عبئه على المدعي، ولا يخضع القاضي في تقريره لرقابة محكمة التمييز، اما القانون الذي يطبقه القاضي، فهو يخضع في تطبيقه لرقابة هذه المحكمة ولا يتقيد القاضي بالوصف القانوني او التكييف القانوني للوقائع، فمحل الاثبات هو سبب الدعوى، وهو مجموع الوقائع التي ينبني على توفرها وجود مصدر قانوني للحق المدعى بوجوده او زواله او الحاق وصفه به، وللقاضي ان يراقب الخصوم فيما يقومون به من اثبات، سواء فيما يتعلق بشروط الاثبات او الطرق الجائز قبولها او الوصف القانوني الصحيح للوقائع التي اثبتها الخصوم واستدلوا بها على الحق موضوع النزاع، ورقابة القاضي ليس فيها اخلال بحق الخصوم في الاثبات (1).

المطلب الثاني : اثبات القانون :

يقضي القاضي بعلمه ، اذ يفترض فيه العلم بالقانون، فهو بحكم وظيفته يطبق القانون على القضية المنظورة أمامه، ولا يستطيع الامتناع عن ذلك بحجة عدم وجود نص قانوني يحكم القضية، والا عد مرتكبا لجريمة انكار العدالة (2). فوجود القاعدة القانونية حقيقة علمية موضوعية ثابتة بذاتها يفرض علم القاضي بها، لانه اذا كان يفترض علم الكافة بالقانون، فهذا العلم يفرض من باب أولى في القاضي الذي هو أداة الدولة واضعة القانون لتطبيق القانون (3). واذا كانت النصوص القانونية غامضة وبحاجة الى تفسير، فيقع عبء القيام بالتفسير على القاضي وليس الخصوم، واذا حاول الخصوم ارشاد القاضي الى النصوص القانونية التي تحكم النزاع، فهذا لا يعدو اثباتاً للقانون، وانما هي محاولة يبذلها كل خصم لحمل القاضي على فهم القانون على النحو الذي يتفق مع مصلحته، في حين ان القاضي يتولى تفسير القانون بعلمه الشخصي دون الحاجة الى ارشاد او اثبات، وتفسيره يخضع لرقابة محكمة التمييز وقد ثار خلاف حول اثبات القانون الاجنبي في قضايا فيها عنصر اجنبي، فالقاضي الوطني يطبق القانون الاجنبي على القضية المعروضة عليه اذا اشارات قاعدة الاسناد الوطنية بتطبيق هذا القانون، ويمكن استعراض وجهات النظر حول اثبات القانون الاجنبي على النحو الآتي :

الفريق الأول : يرى ان القانون الاجنبي لا يطبق باعتباره قانونا، بل باعتباره مسألة واقع، فيقع عبء اثباته على عاتق الخصم، ومن ثم فان قاعدة الجهل بالقانون ليس بعذر، لا تطبق بصدد القانون الاجنبي، فالقاضي غير ملزم بتطبيق هذا القانون تلقائيا وإنما الخصم هو الذي يطلب تطبيقه بعد اثباته (4). وقد أخذ جانب من افقه والقضاء الفرنسي ومصر بهذا الاتجاه (5). لاعتبارات عملية، فالخصم المتمسك بتطبيق القانون الاجنبي هو صاحب المصلحة الحقيقية في الكشف عنة مضمون هذا القانون، لذا فقد كان طبيعيا ان يلقى عليه عبء اثبات القانون الذي يتمسك به (6).

الفرق الثاني : يرى ان تطبيق القانون يعد مسألة قانون، فالقاضي ملزم بتطبيقه دون حاجة الى تمسك الخصم المستفيد منه، ويقع عبء اثباته على القاضي الذي يخضع في تفسيره وتطبيقه لمحكمة التمييز، ويبرر هذا الفريق رأيه، بان القانون الاجنبي، وان كان يفقد صفة الالزام خارج حدود دولته، فانه يستعيدها بقاعدة الاسناد الوطنية، وتتوفر له صفة الاجبار التي تكفل له وجوب التطبيق امام القضاء الوطني (7)، ويؤيد جانب من الفقه الفرنسي والقسم الاكبر من الفقه المصري هذا الاتجاه، فالقاضي اذا أمره قانونه الوطني بتطبيق أحكام قانون أجنبي، وجب ان يعد احكام هذا القانون الاجنبي بالنسبة الى القضية التي يطبق فيها هذه الأحكام، جزءا من قانونه الوطني، وعليه ان يبحث، من تلقاء نفسه، عن أحكام القانون الاجنبي الواجبة التطبيق في هذه القضية، وله ان يصدر في هذه الاحكام عن علمه الشخصي، ولا يجوز له ان يمتنع عن تطبيق أحكام القانون الاجنبي بدعوى عدم امكان الاهتداء إليها والا عد امتناعه نكولا عن اداء العدالة (8). اما في العراق، فان الرأي الساند يرى ان تطبيق القانون الاجنبي وتفسيره يعد مسألة القانون، ويفترض علم القاضي بها، ويخضع القاضي في ذلك لرقابة محكمة التمييز، وان صياغة نصوص قواعد الاسناد في القانون العراقي تؤكد بان تطبيق القانون الاجنبي يعد مسألة قانون لا مسألة واقع (9). فالمحكمة ملزمة بالبحث عن القانون والتحقق منه وقد يتعاون، في الاغلب، الخصوم معها في تذليل مهمة التعرف على القانون الاجنبي واثبات مضمونه مستعملين في ذلك طرق الاثبات كافة (عدا اليمين والإقرار اذ هما لا يصلحان بطبيعتهما لاثبات حكم قانوني) ويمكن الاستناد الى الوثائق الرسمية الصادرة عن الممثليات الدبلوماسية او القنصلية ودراسات القانون المقارن او الطلب الى وزارة الخارجية لتزويد المحكمة بالمعلومات المطلوبة (10)، ويلاحظ ان ازدياد عقد اتفاقيات التعاون القانوني والقضائي يساهم في حل كثير من هذه المعضلات، ذلك انه يكاد لا تخلو اتفاقية من هذه الاتفاقيات من نص يتعلق بتبادل المعلومات عن القوانين النافذة ونصوص القوانين والكتب (11).

المطلب الثالث : اثبات العرف والعادة :

العرف، اعتياد الناس على سلوك معين، في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية، بحيث تنشأ عن هذا السلوك قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة لتصرفات الافراد ويجب الخضوع لأحكامها (12).

ويقوم العرف على ركنين هما : الركن المادي، وهو الاعتياد المستمر طويلا لاجل، فهو الكيان المادي للعرف الذي ينطوي على تكرار مستمر لا ينقطع ولا يختلف بما يؤكد قوته واستقراره (13). والركن الثاني، هو الركن المعنوي، ويقصد به احساس الاشخاص الذين يتبعون السلوك المعتاد، بان هذا السلوك ملزم لهم قانونا، وهذا الركن هو الذي يحول واقعة السلوك المعتاد الى قاعدة قانونية مؤداها ضرورة اتباع هذا السلوك (14). اما العادة فهي قاعدة عرفية ناقصة النمو اذا اكتمل فيها العنصر المادي ولكن ينقصها العنصر المعنوي، او انها تفتقر الى عنصر الإلزام (15)، ونظرا لطبيعة العرف القانونية، فان القاضي يفترض فيه العلم بالعرف، وهو يقضي فيه بعلمه، ولا يطلب من الخصوم اثباته، ويخضع في قضائه به لرقابة محكمة التمييز (16)، ولصعوبة معرفة العرف من الناحية العملية، فان الخصوم يعاونون القاضي في التحقيق من وجود العرف وتحديد مضمونه، وبالإمكان اللجوء الى اهل الاختصاص في مهنة معينة او الى الغرفة التجارية لمعرفة وجود العرف وتحديد مضمونه، ومع ذلك يبقى القاضي في النهاية هو المرجع في تقدير وجود العرف وفي تفسيره، ولمحكمة التمييز ان تعقب عليه اذا طبق عرفا غير موجود او اغفل عرفا قائما (17). اما العادة فهي مجرد واقعة مادية، وان على من يتمسك بها ان يثبت وجودها ومضمونها ويخضع هذا الاثبات لسلطة القاضي التقديرية، ويجوز اثبات وجود العادة ومضمونها بطرق الاثبات كافة (18).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-تناغو. نظرية الالتزام فقرة 453 ص 623 – 627.

2-انظر المادة 30 من قانون المرافعات المدنية.

3-الدكتور عبد الباسط جميعي. نظام الاثبات. القاهرة 1953، ص10 وما بعدها. مرقس. اصول الاثبات ص 61 هامش 2.

4-نقض مصري 18/11/1972 الطعن رقم 373 س 36 ونقض 19/ 11 / 1977 الطعن رقم 7 س 42ق. وقرارات عديدة بهذا الاتجاه امور طلبه ص 253 – 254 و ص256 و ص529 والطعنان 25 و28 لسنة 32 ق. أحوال شخصية جلسة 29 / 12 / 1971 القاعدة الذهبية رقم 76 ص 32. وانظر شنب فقرة 11 ص 20 وتوفيق حسن فرج ص 34.

5-انظر في اتجاهات القضاء المصري والفرنسي. السنهوري ص54 هامش 1 / 2 . تناغو. نظرية الالتزام. هامش ص630. جميعي ص55 – 57.

6-هشام علي صادق. تنازع القوانين فقرة. 7 ص230 – 231.

7- هشام علي صادق. دراسات في القانون الدولي الخاص 1981 ص 251.

8-السنهوري. فقرة 38 ص55. مرقس. اصول الاثبات ص79 – 80 ابو الوفا. الاثبات ص12. الصدة ص29 – 30 تناغو. نظرية الالتزام فقرة 455 ص630.

9-الدكتور مصطفى كامل ياسين. كيف يطبق القانون الأجنبي. مجلة القضاء. العدد الثاني 1957 ص166. فريد فتيان. تنازع القوانين من حيث المكان. مجلة القضاء. العددان الثاني والثالث 1953 ص24. الدكتور ممدوح عبدالكريم حافظ. القانون الدولي الخاص. بغداد 1977 ص 348. وانظر المواد 17 – 33 من القانون المدني العراقي.

10-الدكتور حسن الهداوي. تنازع القوانين وأحكامه في القانون الدولي الخاص العراقي. بغداد مطبعة الارشاد 1967 ص133- 137.

11-انظر في اتفاقيات التعاون القانوني والقضائي المعقودة بين العراق والعديد من الاقطار العربية والدول الاجنبية من إعداد الدكتور رشدي خالد. من منشورات مركز البحوث القانونية بغداد 1982. والاتفاقية العربية للتعاون القضائي المصادق عليها بالقانون رقم 110 لسنة 1982.

12-عبد الباقي البكري. الدكتور علي محمد بدير. زهير البشير. المدخل لدراسة القانون. دار الكتب للطباعة بجامعة الموصل ص129. تناغو. النظرية العامة للقانون فقرة 129 ص 424.

13-مرقس. المدخل. فقرة 142 ص292. توفيق حسن فرج. فقرة 156 ص243.

14-مرقس. المدخل. فقرة 142 ص 295. توفيق حسن فرج. المدخل. فقرة 156 ص243. تناغو. النظرية العامة للقانون، فقرة 130 ص430.

15-البكري وآخرون ص135.

16-الدكتور حسن كيرة. المدخل الى القانون. القاهرة 1969 ص267 وما بعدها.

17-السنهوري. ص52 هامش رقم 2 . جميعي. فقرة 59 ص62.

18-السنهوري ص 51- 52.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .