جريمة الزنا بين الشريعة والقانون

ثمة فارق ضخم بين الفلسفة الإسلامية التي تقوم عليها الشريعة وبين فلسفة القانون الوضعي في النظر إلى الجرائم المختلفة يتجلى ذلك بصورة شديدة الوضوح حين ننظر إلى جريمة مثل جريمة الزنا نظرة نقدية مقارنة .

القانون الوضعي المصري المتأثر بالقانون الفرنسي لم يجرم جريمة الزنا على الإطلاق، بل جرمها فقط حين تكون في إطار الزوجية وباعتبارها شأنًا خاصًا بين الزوجين، حيث لا يستطيع أي شخص تحريك قضية ورفع دعوة قضائية إلا الزوج فقط أو الزوجة في حالة واحدة ألا وهي وقوع هذه الجريمة على فراش الزوجية، وهي نظرة مزدوجة ولا نكون بعيدين عن الصواب إذا قلنا عنها إنها نظرة عوراء، فالمشرع القانوني اعتبر الزنا حرية شخصية، طالما أن الفرد حر أي غير متزوج فلا توجد أي عقوبة على جريمة الزنا طالما أن كلاً من الرجل والمرأة غير متزوج.

وهي نظرة تابعة للثقافة الغربية التي اعتمد عليها المشرع كمرجعية أساسية لهذه القضية الحساسة، في حين أن النظرة الإسلامية اعتبرت جريمة الزنا مهددة لبنية المجتمع المسلم نفسه، وقرنت تفشي ظاهرة الزنا بعلامات يوم القيامة ..فظهور نوعيات من البشر لا ترتكب الجرائم فحسب (حيث إن أي مجتمع مهما بلغت درجة طهارته لا يخلو من الجرائم ) بل تستحل أي تجعلها حلالاً ..وحقًا من حقوق الإنسان ..وحرية شخصية ..هذه النوعية تعلن بداية النهاية للبشرية يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الذي رواه البخاري: ( ليكونن في أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ..) والحر هو الزنا ..وهي جريمة قرينة بانهيار المجتمعات والعمران ولها آثار مدمرة على الحضارات.

وبنظرة بسيطة على التاريخ الإنساني نجد أن الحضارات الكبرى ارتبط سقوطها وانهيارها بتفشي هذا الوباء فيها أي الزنا ..حدث ذلك لحضارة اليونان الذين عبدوا “أفروديت” رمز الانحلال، ورفعوا من شأن المومسات واتخذوهن رموزًا في المجتمع حتى انهارت حضارتهم وهو ما تكرر مع الحضارة الرومانية لدرجة أن علماء الأخلاق لديهم اعتبروا الزنا شيئًا عاديًا.

” فكاتو” الذي أسندت إليه الحسبة الخلقية سنة84 قبل الميلاد يجهر بجواز اقتراف الفحشاء في عصر الشباب، أما المتشددين في قضايا الأخلاق من فلاسفة الرومان فأقصى ما لديهم هو عدم استحباب الزنا مع عدم اللوم على من يقع فيه .. “فايبكتيتس” الرواقي يقول لتلاميذه معلمًا: ( تجنبوا معاشرة النساء قبل الزواج إن استطعتم ولكن لا ينبغي أن تلوموا أحدًا أو تؤنبوه إذا لم يتمكن من كبح جماح شهوته) فكان أن انتهت حضارة الرومان وتمزقت شر ممزق .

تكررت هذه المأساة الأخلاقية في الهند وفي إيران حيث الديانة المزدكية وفي كل حضارة أعلت الجانب الغريزي فوق كل الجوانب والاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية ومنحته الحرية ليعلن عن نفسه بلا استحياء، بل وربما أوجدت له المبررات ونمقت له الفلسفات حتى توجد له القبول العقلي وتريح البقية الباقية من الضمير الذي به بقايا الفطرة وهو ما رفضته الفلسفة الإسلامية جملة وتفصيلاً ووضعت من الأحكام الشرعية الدقيقة والتفصيلية ما يجعل هذه الجريمة الشنيعة في أبعد مكان في الخلفية الشعورية للمسلم، فلباس المؤمنات المحتشم لا يقوم بإلهاب الأحاسيس البشرية الغريزية ولباس التقوى والحياء يضفي هالة نورانية على التعاملات بين الجنسين، وحث المشرع الإسلامي علي تبكير الزواج وتيسير أمره ولو عن طريق سن القوانين المقننة لذلك أمر مقرر، وهناك سابقة تشريعية في ذلك حين قام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتحديد حد أقصى للمهر، صحيح أنه تراجع عن سن هذا القانون بهذه الآلية، ولكن هذا لا يمنع من البحث عن صيغة تنفيذية أخرى لإعفاف شباب المسلمين بدلاً من انفجار القنبلة الغريزية في وجوههم، ولكن ما يحدث في القوانين الوضعية الآن هو العكس تمامًا، فالأمر تجاوز إطلاق حرية الزنا إلى الحث عليه من خلال قانون الطفل الجديد، الذي يجرم الزواج قبل الثامنة عشر بالنسبة للفتى والفتاة، في الوقت الذي يحمي الحرية الجنسية للمراهقين من خلال الاتفاقيات الدولية الملزمة.

نستطيع إذن القول بأن المشرع الإسلامي كان شديد الحساسية لهذه النوعية من الجرائم التي تدمر المجتمع على المدى البعيد وفي الحديث الذي رواه مالك مرفوعًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: ( ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا) وهي الأوجاع الجسدية والنفسية والحضارية، وبالتالي جاء الحكم مشددًا من أجل حماية المجموع فليس المقصود عقاب شخص أجرم، قدر أن يكون المقصود ردع النفوس المريضة من الاقتراب لهذه الخطوط الحمراء، يقول تعالى 🙁 والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) [النور:2 ].

وهي جريمة في حق الله عز وجل وجريمة في حق الإنسانية تتردى بها إلى مستوى حقير من البهيمية الحيوانية وهي جريمة في حق النفس التي كرمها المولى ـ عز وجل ـ وأسجد لها الملائكة ثم هي جريمة في حق الشريك الذي يتقاسم الحياة مع هذا الخائن. أما القانون الذي لا يستبطن فداحة هذه الجريمة فهو لا يراها ممارسة ضارة إلا من حيث التعدي على حقوق الشريك – الزوج..وهو يعطي الرجل الحق في ممارسة جريمته بحرية تامة بعيدًا عن مسكن الزوجية، يحدث ذلك بينما لم يتوقف الحديث الممل السخيف عن مساواة الرجل بالمرأة ..حتى العقوبة مختلفة بين الزوجين الذين يرتكبون هذه الجريمة، فبينما لا يعاقب الرجل وشريكته إلا بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر، يعاقب القانون المرأة الخائنة وشريكها بالحبس مدة لا تزيد عن السنتين – انظر قانون العقوبات من المادة 273 وحتى المادة 276- وإذا كانت العقوبة في كلتا الحالتين هزيلة وغير كافية للردع، فإنها كذلك تقوم على فلسفة مهينة للمرأة بتشديد العقوبة عليها دون الرجل الذي في نفس وضعها القانوني، بينما ساوت الشريعة الإسلامية في العقوبة حين يتماثل الوضع القانوني لكليهما الجلد للبكر الذي لم يسبق له الزواج والرجم للثيب الذي سبق له الزواج.

فارق أخير بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية في النظر لجريمة الزنا، ولكنه شديد الأهمية في تقييم الفلسفة الخلقية المقارنة بين التشريعين وهو محرك دعوى الزنا، فبينما يمكن للشهود الأربعة العدل تحريك الدعوى في الشريعة الإسلامية، إن شهدوا هذه الجريمة وهو أمر قد يكون نادر، ولكنه غير مستحيل خاصة مع نوعية صفيقة من البشر يستمتعون بتحدي القواعد المجتمعية المقبولة، بينما لا يمكن لأحد تحريك الدعوى في القانون الوضعي عدا الزوج أو الزوجة التي تضبط زوجها متلبسًا بالجريمة في منزل الزوجية، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يحق للزوج الذي ارتكبت زوجته هذه الجريمة التنازل عن الدعوى في أي حالة تكون عليها الدعوى، وله أيضًا أن يوقف تنفيذ العقوبة في أي وقت شاء حتى لو كان الحكم نهائيًا، وذلك بشرط أن يرضى معاشرتها له كما كان، وللزوجة مثل هذا الحق إذا كان زوجها هو من ارتكب الجريمة، فالجريمة في فلسفة القانون الوضعي لا تعدو كونها أمرًا شخصيًا ومجرد اعتداء على الشريك الذي يملك رفع الدعوى ويملك إيقافها ويملك إيقاف العقوبة الهزيلة كذلك، بينما تنظر الشريعة الإسلامية لهذه الجريمة على أنها جريمة مجتمعية من الطراز الأول وعقوبتها المشددة صمام أمان للمجتمع الإسلامي كله؛ لذلك حق لأفراد المجتمع العدول تحريك الدعوى صيانة لمجتمعهم من نخر سوس الرذيلة .