عدم دستورية نص المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها

فى الثانى من أغسطس سنة 1995 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة 48 مكرراً من قرار رئيس الجمهورية رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها المعدل بالقانونين رقمى 40 لسنة 1966 و122 لسنة 1989•

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى•

وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها•

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم•

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة•

وحيث إن الوقائع -على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن النيابة العامة كانت أقامت الدعوى الجنائية فى القضية رقم 5154 لسنة 1993 جنح الجمرك ضد المدعى عملا بالمادة 48 مكرراً من القرار بقانون رقم 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989، وذلك لما ثبت بمحضر الشرطة من أنه مسجل شقى خطر سبق ضبطه فى إحدى عشرة قضية مخدرات آخرها القضية رقم 129 لسنة 1992 جنايات مخدرات الجمرك، وأن نشاطه قد اتسع فى تهريبها وتجارتها•

وبجلسة 9/2/1994 قضت محكمة جنح الجمرك غيابيا بإيداعه إحدى المؤسسات الاجتماعية لمدة سنة، فعارض فى هذا الحكم وقضى بجلسة 16/10/1994 باعتبار المعارضة كأن لم تكن •

ثم استأنف هذا الحكم، وحكمت محكمة الإسكندرية الابتدائية بجلسة 4/12/1994 غيابيا بسقوط حق المتهم فى الاستئناف، وإذ عارض فى هذا الحكم، ودفع بجلسة 26/3/1995 بعدم دستورية المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960، فقد صرحت له المحكمة بجلسة 25/6/1995 -بعد تقديرها لجدية دفعه- برفع الدعوى الدستورية، فأقامها •

وبجلسة 27/8/1995 قررت المحكمة وقف الدعوى لحين الفصل فى الطعن بعدم الدستورية •

من حيث إن المادة 48 من القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، تنص بعد تعديلها بالقانون رقم 40 لسنة 1966، على أن:

“تحكم المحكمة الجزئية المختصة باتخاذ أحد التدابير الآتية على كل من سبق الحكم عليه أكثر من مرة، أو اتهم لأسباب جدية أكثر من مرة فى إحدى الجنايات المنصوص عليها فى هذا القانون: (1) الإيداع فى إحدى مؤسسات العمل التى تحدد بقرار من وزير الداخلية (2) تحديد الإقامة فى جهة معينة (3) منع الإقامة فى جهة معينة (4) الإعادة إلى الموطن الأصلى (5) حظر التردد على أماكن أو محال معينة (6) الحرمان من ممارسة مهنة أو حرفة معينة•

ولايجوز أن تقل مدة التدبير المحكوم به على سنة، ولاتزيد عن عشر سنوات•

وفى حالة مخالفة المحكوم عليه التدبير المحكوم به، يحكم على المخالف بالحبس•

وحيث إن المدعى ينعى على النص السابق، مخالفته أحكام المواد 41، 66، 67 من الدستور، التى تنص أولاهما على أن الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة فلايجوز الإخلال بها، وتقضى ثانيتهما بأن العقوبة شخصية، وثالثتهما بأن كل متهم يعد بريئا إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه•

وقال شرحا لذلك، إن التطورات الحديثة فى مكافحة الجريمة تؤكد حقيقة أولية هى أن العقوبة لاتغنى فى مكافحتها، وأن لشخصية الإنسان قيمة عليا، فلا يجب أن يتعرض أحد لعقوبة لايستحقها، أو تفقد تناسبها مع الجريمة التى ارتكبها• ومجرد الردع ليس كافيا لإيقاع الجزاء، والتزمت فى العقوبة أو وحشيتها لايكفلان مكافحة ظاهرة الإجرام، بما مؤداه أن النص المطعون فيه، يقيد حقوق الإنسان وحرياته التى لايجوز التضحية بها فى غير ضرورة، ويفرض كذلك عقوبة بلاجريمة حدد المشرع أركانها، ولايرتبط توقيعها بالتالى بفعل أو امتناع صدر عن شخص يعد جانيا، ذلك أن تعدد الأحكام القضائية الصادرة ضد شخص معين فى جرائم المخدرات أو سبق اتهامه فيها، يعنى أننا بصدد جريمة بلاسلوك أتاه، وهو ما يناقض قضاء المحكمة الدستورية العليا، ويصم النص المطعون عليه بعدم الدستورية•

وحيث إن التدابير المنصوص عليها فى البنود من (1) إلى (6) من الفقرة الأولى من النص المطعون فيه، تعتبر جميعها من قبيل تدابير الدفاع الاجتماعى التى تنال من الحرية الشخصية، ويرتبط توقيعها بتقدير المشرع لقيام حالة خطرة بشخص معين، فلا يكون التدبير منفصلا عنها، بل لازما لمجابهتها•

وحيث إن البين من النص المطعون فيه، أن التدابير التى حددها لايجوز توقيعها ضد شخص معين إلا فى إحدى حالتين هما، سبق الحكم عليه أو اتهامه اتهاما جديا أكثر من مرة فى جناية نص عليها القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها•

وحيث إن الدستور بما نص عليه فى المادة 66من أنه لاجريمة ولاعقوبة إلا بناء على قانون، ولاعقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها، قد دل على أن لكل جريمة ركنا ماديا لاقوام لها بغيره، يتمثل أساسا فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى، مفصحا بذلك عن أن مايركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها •

بل إنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لاتعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التى قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء ارتكابها •

ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية• ولايتصور بالتالى وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، بما مؤداه أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا • فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا فى صورة مادية لاتخطئها العين، فليس ثمة جريمة•

وحيث إن من المقرر أن الأصل فى الجرائم، أنها تعكس تكوينا مركبا باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها []، وعقل واع خالطها ليهيمن عليها محددا خطاها، متوجها إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائى ركنا معنويا فى الجريمة [Mens Rea ] مُكملاً لركنها المادى [Actus Reus]، ومتلائما مع الشخصية الفردية فى ملامحها وتوجهاتها• وهذه الإرادة الواعية هى التى تتطلبها الأمم المتحضرة فى مناهجها فى مجال التجريم بوصفها ركنا فى الجريمة، وأصلا ثابتا كامنا فى طبيعتها، وليس أمراً فجاً أو دخيلاً مقحماً عليها أوغريباً عن خصائصها •

ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر • ولكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها، لتنحل الجريمة -فى معناها- إلى علاقة ما بين العقوبة التى تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التى تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التى يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلا عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها •

وغدا أمرا ثابتا -وكأصل عام- ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديا قائما على الاختيار الحر، ومن ثم مقصودا •

ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفا على ماهيتها، لازال أمرا عسراً، إلا أن معناها -وبوصفها ركنا معنويا فى الجريمة- يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحةfelonious intent أو النوازع الشريرة المدبرة أو تلك التي يكون الخداع قوامها أو التى تتمحض عن علم بالتأثيم، مقترناً بقصد اقتحام حدوده لتدل جميعها علي إرادة إتيان فعل بغياً•

وحيث إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة فى النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتى لايمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق فى تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية -بطريق مباشر أو غير مباشر- أخطر القيود وأبلغها أثرا• ويتعين بالتالى أن يكون إنفاذ القيود التى تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنا بمشروعيتها الدستورية• ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها• ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كى يدفعوا عن حقهم فى الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة • ومن ثم كان أمرا مقضيا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الأراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية فى غير مجالاتها عدوانا على الحرية الشخصية التى كفلها الدستور•

وحيث إن العدالة الجنائية فى جوهر ملامحها، هى التى يتعين ضمانها من خلال قواعد محددة تحديدا دقيقا، ومنصفا، يتقرر على ضوئها ما إذا كان المتهم مدانا أو بريئا، ويفترض ذلك توازنا بين مصلحة الجماعة فى استقرار أمنها، ومصلحة المتهم فى ألا تفرض عليه عقوبة ليس لها من صلة بفعل أتاه، أو تفتقر هذه الصلة إلى الدليل عليها • ولايجوز بالتالى أن تنفصل العدالة الجنائية عن مقوماتها التى تكفل لكل متهم حدا أدنى من الحقوق التى لايجوز النزول عنها أو التفريط فيها، ولا أن تخل بضرورة أن يظل التجريم مرتبطا بالأغراض النهائية للقوانين العقابية•

وحيث إن الأصل فى النصوص العقابية، أن تصاغ فى حدود ضيقةnarrowly tailored تعريفا بالأفعال التى جرمها المشرع، وتحديدا لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التى تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة، وكذلك بالحق فى تكامل الشخصية، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع •

ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل فى إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلاأن هذه السلطة حدها قواعد الدستور•

ولازمها ألا تكون النصوص العقابية شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها، أو بخفائها، من يقعون تحتها، أو لايبصرون مواقعها • كذلك فإن الأصل فى الجريمة، أن عقوبتها لايتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها •

وهى بعد عقوبة يجب أن تتوازن “وطأتها” مع طبيعة الجريمة موضوعها•

بما مؤداه أن الشخص لايزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لايؤخذ بها إلا جناتها، ولاينال عقابها إلا من قارفها، وأن “شخصية العقوبة”، “وتناسبها مع الجريمة محلها”، مرتبطتان بمن يعد قانونا “مسئولا عن ارتكابها”•

ومن ثم تفترض شخصية العقوبة -التى كفلها الدستور بنص المادة 66 – شخصية المسئولية الجنائية، و بما يؤكد تلازمهما•

ذلك أن الشخص لا يكون مسئولا عن الجريمة، ولاتفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلا لها أو شريكا فيها•

وحيث إن من المقرر -وعلى ماجرى به قضاء هذه المحكمة- أن حقوق الإنسان وحرياته لايجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، وأن الحرية فى أبعادها الكاملة لاتنفصل عن حرمة الحياة، وأن إساءة استخدام العقوبة تشويها لأهدافها، يناقض القيم التى تؤمن بها الجماعة فى اتصالها بالأمم المتحضرة وتفاعلها معها• ولايكفى بالتالى أن يقرر المشرع لكل متهم حقوقا قبل سلطة الاتهام توازنها وتردها إلى حدود منطقية، بل يتعين أن يكون ضمان هذه الحقوق مكفولا من خلال وسائل إجرائية إلزامية يملكها ويوجهها، من بينها – بل وفى مقدمتها – حق الدفاع بما يشتمل عليه من الحق فى الحصول على مشورة محام، والحق فى دحض الأدلة التى تقدمها النيابة العامة إثباتا للجريمة التى نسبتها إليه، بما فى ذلك مواجتهه لشهودها، واستدعاءه لشهوده، وألا يحمل على الإدلاء بأقوال تشهد عليه •

وحيث إن القانون الجنائى وإن اتفق مع غيره من القوانين فى تنظيمها لعلائق الأفراد سواء فيما بينهم أو من خلال روابطهم مع مجتعهم، إلا أن القانون الجنائى يفارقها فى اتخاذه العقوبة أداة لتقويم مالايجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، فلا يكون الجزاء على أفعالهم مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن جاوز تلك الحدود التى لايكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور •

وحيث إن الأصل فى كل اتهام أن يكون جادا، ولايتصور أن يكون الاتهام بالتالى عملا نزقا تنزلق إليه النيابة العامة بتسرعها أو تفريطها؛ وكان من البدهى أن الاتهام بالجريمة ليس قرين ثبوتها، ولايعدل التدليل عليها؛ وكان الاتهام ولو قام على أسباب ترجح معها إدانة المتهم عن الجريمة، لايزيد عن مجرد شبهة لم تفصل فيها محكمة الموضوع بقضاء جازم لارجعة فيه سواء بإثباتها أو نفيها؛ وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن القواعد المبدئية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة التى تطلبها الدستور بنص المادة 67 – سواء عند الفصل فى كل اتهام جنائى أو فى حقوق الشخص والتزاماته المدنية – وإن كانت إجرائية فى الأصل، إلا أن تطبيقها فى نطاق الدعوى الجنائية -وعلى امتداد حلقاتها- يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية؛ وكان من المقرر أن أصل البراءة يندرج تحت هذه القواعد باعتباره قاعدة أولية توجبها الفطرة التى جبل الإنسان عليها، وتقتضيها الشرعية الإجرائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية، وبوصفها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ليوفر بها لكل فرد الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛

وكان افتراض البراءة لايقتصر على الحالة التى يوجد الشخص فيها عند ميلاده، بل يمتد إلي مراحل حياته حتى نهايتها، ليقارن الأفعال التى يأتيها، فلا ينفصل عنها باتهام جنائى أيا كان وزن الأدلة التى يؤسس عليها؛ وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وكان هذا الأصل كامناً فى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم متهما باعتباره قاعدة جوهرية أقرتها الشرائع جميعها -لالتكفل بموجبها الحماية للمذنبين- ولكن لتحقق بموجبها أصلا شرعيا مؤداه أن الخطأ فى العفو خير من الخطأ فى العقوبة التى يتعين درؤها عن كل فرد تكون التهمة الموجهة إليه مشكوكا فيها “” أو مبناها أدلة لايجوز قبولها قانونا؛ وكان الاتهام الجنائى – وعلى ضوء ماتقدم – لايزحزح أصل البراءة ولاينقض محتواه، بل يظل هذا الأصل مهيمنا على الدعوى الجنائية،

بل قائما قبل تحريكها، ومنبسطا على امتداد مراحلها وأيا كان زمن الفصل فيها؛ وكانت التدابير التى حددها النص المطعون فيه، تنال جميعها من الحرية الشخصية لاتسامها بخصائص العقوبة وانطوائها على عبئها، وانصرافها إيلاما مقصودا،ولاتقابلها أفعال أثمها المشرع وحددها تحديدا دقيقا؛ وكان اتخاذ أحد هذه التدابير بناء على اتهام متلاحق فى شأن شخص معين – ولو كان اتهاما جديا – مؤداه أنه صار مشتبها فيه – لا بناء على أفعال يتوافر لها خاصية اليقين التى تميز القوانين الجزائية – بل ارتباطا بخطورة إجرامية افترضها المشرع ووصمه بها؛ وكانت خطورته هذه -التى استنبطها المشرع من تعدد وقائع الاتهام – وان لم تفض بعد إلي جريمة بالفعل، إلا أن المشرع أقام بها صلة مبتسرة بين ماضيه وحاضره، دامجاً بينهما، مستوجبا محاسبته عن تلك الحالة التى أنشأها،وقرنها بتتابع الاتهام، لتنحل إرهاصا بعودة الأشخاص الذين تعلق بهم مجال تطبيق النص المطعون فيه إلى الإجرام،

بافتراض أنهم لايعرفون لأقدامهم موقعها، ولايقدرون للأمور عواقبها، وأن نزوعهم إلى الإجرام راجحا، حال أن مصائر الناس لايجوز أن تعلق على غير أفعالهم التى يسألون عن حسنها أو قبحها؛ وكان اتهامهم ولو كان جديا ومتتابعا، لايعدو أن يكون شبهة قد لايكون لها من ساق، ولايجوز بالتالى أن يردهم النص المطعون فيه جميعا إلى دائرة الخطورة الاجتماعية، ويلصقها دوما بهم، أيا كان مصير الاتهام الموجه إليهم، بل ولو قضى ببراءتهم، ليكون لغوا وافتئاتا على الحرية الشخصية في جوهر خصائصها، وهى بعد حرية لايجوز تقييدها على خلاف أحكام الدستور التى لاتعتد إلا بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم، ولأنها دون غيرها هى التى يجوز إثباتها ونفيها، وهى التى يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها • ولا كذلك الخطورة الإجرامية التى لاتمثل سلوكا محددا أتاه الشخص، ولاتخالطها إرادة واعية يعبر بها عن قصد بلوغ نتيجة إجرامية بذاتها، بل تقوم فى مبناها على افتراض تشريعى منتحل، مؤداه أن المتهمين جديا أكثر من مرة، قد شقوا على جماعتهم عصا الطاعة، وأنهم بالغون من أمرهم ما يدنيهم من العدوان عليها، وهو افتراض يباعد بينهم وبينها، لتنغلق أمامهم فرص الاندماج فيها•

وحيث إن من المقرر أن مبدأ خضوع الدولة للقانون – محدد على ضوء مفهوم ديموقراطى – مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديموقراطية، مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية الشخصية بالنظر إلى مكوناتها وخصائصها، ومن بينها ألا تكون العقوبة مهينة فى ذاتها، أو كاشفة عن قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة على فعل واحد وهذه القاعدة الأخيرة – التى كفلتها النظم القانونية جميعها، وصاغتها المواثيق الدولية باعتبارها مبدأ مستقرا بين الدول A -مردها أن الجريمة الواحدة لاتزر وزرين، وأنه وإن كان الأصل أن يفرد المشرع لكل جريمة العقوبة التي تناسبها، إلا أن توقيعها فى شأن مرتكبها واستيفاءها، يعنى أن القصاص قد اكتمل باقتضائها • وليس لأحد بعدئذ على فاعلها من سبيل •

ولايجوز من ثم، أن يتعرض الشخص لخطر ملاحقته باتهام جنائى أكثر من مرة عن الجريمة عينها، ولا أن تعيد الدولة بكل سلطاتها ومواردها محاولتها إدانته عن جريمة تدعى ارتكابه لها – ولو من خلال خطورة إجرامية تعتبرها جريمة فى ذاتها، وتلحقها بها – لأنها إذ تفعل، فإنما تبقيه قلقا مضطربا، مهددا بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد، ليغدو محاطا بألوان من المعاناة لاقبل له بها، مبددا لموارده فى غير مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته -ولو كان بريئا – تظل أكثر احتمالا، كلما كان الاتهام الجنائى متتابعا عن الجريمة ذاتها •

وحيث إن ما قرره النص المطعون فيه من اتخاذ أحد التدابير التى حددها فى شأن الأشخاص الذين حكم عليهم أكثر من مرة فى جناية مما نص عليه القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها – ولو لم تتعلق هذه الجناية بالمواد المخدرة،بل كانت تعديا على رجال السلطة العامة القائمين على تنفيذ أحكام هذا القانون – مؤداه أن المشرع قدر بالنص المطعون فيه، أن ثمة خطورة تنجم عن سوابق المتهم التى تمثلها جرائم ارتكبها من قبل،

وأدين عنها، واكتمل القصاص فى شأنها، وأن هذه الخطورة – التى لاتزيد عن أن تكون احتمالا لأن ينزلق مستقبلا في جريمة غير معينة – ينبغى التحوط لها صونا لمصالح الجماعة باتخاذ تدابير بعينها تنال من حريته الشخصية؛ وكانت الجريمة المحتملة التى لم يرتكبها المتهم بعد، هى التى أراد المشرع توقيها من خلال التدابير التى نص عليها؛ وكان ذلك من المشرع إحداثا لحالة إجرامية افترضها؛ وكان لادليل على قيام علاقة حتمية بين انغماس الشخص في جرائم سابقة، وبين ترديه فى حمأتها والعودة إليها من جديد؛ وكان مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص – لا عن جريمة أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى جسامتها – بل بناء على محض افتراض بالإيغال فى الإجرام لايرتد المذنبون عنه أبدا، بل هم إليه منصرفون يبغونها عوجا؛ وكان لايجوز وفقا للدستور، أن يتعلق التجريم بخطورة أحدثها المشرع ولو فى نفس قابلة لها،

ولا يتسم باليقين تعلقها بشخص معين، بل تقوم فى بنيانها على أن الجرائم التى ارتكبها من قبل، هى التى تشهد بحاضره، وينبغى أن تكون محددة مستقبلا لخطاه؛ وكان القول بأن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن حكم عليه أكثر من مرة، لازمهااتخاذ تدابير تتوقاها وترد سوأتها الإجرامية، مردود بأن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التى ارتكبها، جزاءها الملائم آخذة فى اعتبارها سجله الإجرامى؛ وكان لاينبغى أن يقرر المشرع – بالنص المطعون فيه – عقابا أكثر من مرة عن فعل واحد،بعد أن اكتمل القصاص فى شأن الجرائم السابقة جميعها، ودونما جريمة جديدة يُدَّعىَ وقوعها •

وحيث إن النص المطعون فيه – وعلى ضوء ماتقدم – يقيد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية التي كفلها الدستور، ولايلتزم الضوابط التى رسمها في شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية عن الجدل، وليس مبناه فعل أو امتناع يمثل سلوكا مؤاخذا عليه قانونا؛ وكان إيقاع أحد هذه التدابير التى تتوافر لها خصائص الجزاء – وحتى بافتراض جواز تقريرها اتصالا بالخطورة الإجرامية التى افترضها المشرع – يمتد زمنا قد يصل إلي عشر سنين بما يؤكد قسوتها، لتعطل حق المشمولين بها في النفاذ إلى ألوان الحياة وأشكالها فى مجتمعهم مع تضييقها لفرصهم في العمل،

بما يعوق اندماجهم فى القيم التى يؤمن بها؛ وكان لايجوز بعد اتخاذ هذه التدابير -وبفرض جوازها- الرجوع عنها أو تعديلها بما يكفل تناسبها أو استمرار ملاءمتها للأوضاع المتطورة للحالة الإجرامية التى وسمهم المشرع بها؛ وكان المشمولون بتلك التدابير، مواجهين بها لايملكون دفعها، كلما قام الدليل على سبق الحكم عليهم واتهامهم جديا أكثر من مرة، ممايجردهم من وسائل الدفاع التى كفلها الدستور فى شأن كل جزاء جنائيا كان أم تأديبيا؛ وكان من المقرر فى شأن تدابير الدفاع الاجتماعى أن غايتها بلوغ أغراض بعينها تقتضى جهدا وصبرا ممتدا، فإن العدول عنها قبل أن تكتمل أهدافها، لايكون جائزاً، ولو لم يعد المشمولون بها من الخطري

وحيث إنه متى كان ذلك، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفا لأحكام المواد 13 و41 و 66 و 67 و 69 من الدستور•

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960 فى شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة