ما المراد بتنازع القوانين، الذي يدخل في نطاق القانون الدولي الخاص :

هناك عدة أنواع من التنازع بين القوانين :

النوع الأول :

تنازع بين القوانين من حيث الزمان، وتنازع بين القوانين من حيث المكان، فالأول يعرض حين تتعاقب القوانين الداخلية في إقليم دولة ما على واقعة قانونية مستمرة، فيجب البحث عن أي القوانين يحكم هذه الوقائع أو يحكم آثارها. بينما تنازع القوانين من يحث المكان، يعرض حين يتعاقب على العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي قانونان أو أكثر، صادران من دولتين فأكثر، وهذا التنازع هو الذي يدرس في القانون الدولي الخاص.

النوع الثاني :

ويقتصر التنازع المكاني المذكور، على التنازع بين القوانين المدنية أو التجارية أو المتعلقة بالأحوال الشخصية. ذلك أن فقهاء القانون الدولي الخاص، قد قصروا بحثهم على هذا التنازع، واستبعدوا من نطاق التنازع في القانون الدولي الخاص، ما يحدث بين القوانين الجنائية أو الإدارية أو المالية من تنازع.

النوع الثالث :

قد يحدث تنازع بين القوانين الداخلية في الدولة البسيطة أو في الدولة المركبة، وهو غير التنازع بين القوانين الدولية ،ومثاله ما حدث من تنازع بين القوانين الفرنسية الداخلية والقوانين المعمول بها في الإلزاس واللورين، بعد أن استردتهما فرنسا من ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ومثاله في الدولة المركبة، ما يحدث من تنازع بين قوانين مختلف الولايات التي تتكون منها الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا النوع من التنازع، تحكمه قواعد خاصة ينظمها التشريع الداخلي في الدولة البسيطة أو المركبة، ولا يعني به القانون الدولي الخاص، إلا عند إسناد حكم العلاقة القانونية إلى قانون بلد تتعدد فيه الشرائع.

النوع الرابع :

وقد كان يحدث حتى عهد قريب، تنازع بين القوانين للبلاد المستعمرة وقوانين المستعمرات، ترتب على أثرها ما كان يسمى بالامتيازات الأجنبية التي زالت الآن، غير أنه ما زال يوجد تنازع بين قوانين الدولة المحتلة وقوانين الأراضي التي تحتلها، وليس للقانون الدولي الخاص شأن بهذا التنازع

تطور مسألة تنازع القوانين :

كانت الجماعات القديمة لا تقبل دخول أجنبي إقليمها ولا تتعامل مع غيرها، و أن روما لم تعرف تنازع القوانين ، بل كان للرومان قانونهم المدني، ولغير الرومان قانون الشعوب، ولم يكن من الممكن أن يحدث تنازع بين الاثنين بالمعنى الذي نعرفه، إذ كان لكل من القانونين مجال لتطبيق أحكامه.

وقد رأينا أن البربر حين غزوا الامبراطورية الرومانية، حملوا معهم قوانينهم الشخصية وساروا عليها، بينما ظل الرومان الأصليون يسيرون على قوانينهم المستمدة من القانون المدني، فساد يومئذ مبدأ شخصية القوانين، ولكن لم تنشأ مشكلة التنازع بين القوانين. وقد رأينا أن مبدأ إقليمية القوانين ساد مرة أخرى إبان العهد الإقطاعي، ولم تظهر مشكلة التنازع إلا في نطاق ضيق بين المدن الإيطالية، التي لم تستفحل فيها الإقطاعية، والتي عرفت التبادل التجاري بينها، وكانت قوانينها الداخلية قريبة الشبه في أحكامها، لأنها مستمدة من أصل واحد وهو القانون الروماني.

في أواخر وفي هذه البيئة الإيطالية، نشأت نظرية الأحوال Les statuts في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وأخذ الفقهاء المحشون على القانون الروماني، يتسائلون عن القانون الواجب التطبيق على وصية بولوني مقيم في مودين، دون أن يخضع لأحوالها. ثم جاء من بعدهم في أواخر القرن الثالث عشر، المحشون اللاحقون les post-gloss ateurs وقدامتازوا على المحشين السابقين، بأنهم لم يقنعوا بوضع حاشية على نصوص القانون الروماني، بل أخذوا يشرحون النصوص، فأنتجوا فقهاً واسعاً في تنازع الأحوال بين المدن الإيطالية، وكان من أظهر فقهائهم الفقيه العظيم بارتول Bartole الذي كان له فضل التوسع في دراسة تنازع الأحوال، وتقسيم أحوال ، التنازع ووضع حل لكل مسألة على حده. وقد كان من خصائص فقه مدرسة الحشين اللاحقين، التي سميت بالمدرسة الإيطالية القديمة أو بمدرسة بولونيا، إن كانت هذه المدرسة أهم مراكز البحث العلمي.

١- أنه لم يضع مبادئ عامة صالحة للتطبيق على كل الأحوال، ولم يعتنق لا مبدأ إقليمية القوانين ولا مبدأ شخصية القوانين. فقد ميز فقه هذه المدرسة بين الأحوال العينية والأحوال الشخصية، وأخضع الأولى لقانون الموقع، والثانية لقانون جنسية الشخص أو قانون موطنه. ولكنه لم يعتنق مبدأ الإقليمية أو مبدأ شخصية القوانين كما عرف من بعد.

٢- أنه طبق على كل نوع من الأحوال، القانون الذي يلائم طبيعته، ولكنه رجع في تحديد طبيعة الأحوال، إما إلى القانون الروماني، وإما إلى قواعد القانون الطبيعي والعدالة.

٣- وقد استطاع فقهاء هذه المدرسة، أن يقسموا القواعد القانونية – لأول مرة – إلى قواعد موضوعية وقواعد مرافعات، أي خاصة بالإجراءات.

وأخضعوا الأولى إلى قانون المحل، والثانية إلى قانون القاضي، ثم كانوا هم الذين وضعوا القاعدة الشهيرة ocus regit actum وإن كانوا قد طبقوها في نطاق أوسع من نطاق تطبيقها الآن، فبينما تطبق هذه القاعدة الآن على شكل التصرف وحده، كان فقهاء هذه المدرسة يطبقونها على شكل التصرف وعلى موضوعه.

٤- وقد لاحظ فقهاء هذه المدرسة – من بعيد – وجود مبدأ سلطان الإرادة، وقالوا أن العقد يخضع لقانون محل إبرامه، وقرروا أن إرادتي المتعاقدين لابد قد اتجهتا إلى تطبيق هذا القانون حين اختارتا محل إبرامه. ثم ميز بارتول بين آثار العقد المباشر وآثاره التنفيذية، فأخضع الأخيرة لقانون محل تنفيذ العقد لا لقانون محل إبرامه.

٥- وهم الذين أخضعوا الجرائم لقانون محل وقوعها، وهو المعمول به حتى الآن.

٦- وكانوا أول من فرق بين نوعين من الأحوال: أحوال مستحسنة، وأحوال مستهجنة Favorablis ou odieur وقالوا أن للقاضي أن يرفض ، تطبيق الأخيرة، فكانت هذه الفكرة هي أول بذرة لما يسمى اليوم بالنظام العام، الذي ترفض المحاكم باسمه تطبيق القوانين الأجنبية. غير أن فقهاء هذه المدرسة، لم يتعرضوا لمسألة التكييف، التي يرجع الفضل في تأصيلها إلى الفقيه الفرنسي بارتان كما أنهم لم يقسموا الأحوال بحسب ما تسند إليه القوانين، لذلك كان تأثير فقههم على من تلاهم ضئيلاً.

المدرسة الفرنسية القديمة :

وفي القرن السادس عشر، برز في فقه القانون الدولي الخاص فرنسيان عظيمان، تأثرا بعض التأثر بفقه المدرسة الإيطالية القديمة وهما ديمولان Dumoulin دار جنتريه D’rgentre فأما ديمولان (1500-1566) فقد كان محامياً ببرلمان باريس وأستاذاً للقانون، وكان أول من ابتدع فكرة التكييف، وأول من أصل في فرنسا تقسيم الأحوال إلى عينية وشخصية، وإن كان هذا التقسيم لم يتبلور بلورة تامة إلا عند دار جنتريه. وقد عرض ديمولان لفكرة التكييف، بمناسبة بحثه في المشارطات المالية التي تصحب عقد الزواج. وقد عرض عليه زوجان هذه المسألة. فرأى أن النظام المالي المذكور يعتبر كعقد ضمني، ويفترض أن الزوجين قد أرادا إخضاعه لقانون محل إنعقاد الزواج. وهذا الرأي هو الذي سار عليه التشريع الفرنسي حتى الآن.

وأخذ ديمولان برأي المدرسة الإيطالية في تطبيق قاعدة Locues أي وجوب تطبيقها على شكل التصرفات فقط، كما أخذ برأي هذه المدرسة في التفرقة بين الأحوال المستحسنة والأحوال المستهجنة. وفتح الباب لقاعدة إسناد العقود، فبينما كان فقهاء هذه المدرسة يسندون القواعد الموضوعية في العقود إلى قانون محل انعقادها، وإن كانوا لم يعترفوا بإمكان استخلاص ذلك ضمناً من إرادتي المتعاقدين. فقد انتهى ديمولان إلى هذا القول، وقرر أن إرادتي المتعاقدين قد تكونا انصرفتا إلى اختيار هذا القانون، أو إلى اختيار قانون آخر غير قانون محل انعقاد العقد، فكان له الفضل في مبدأ سلطان الإرادة الذي ازدهر من بعده.

وأما دار جنتريه (1519-1590) فقد كان مؤرخاً ومشرعاً وفقيهاً وقاضياً بموطنه بمقاطعة بريتانيا، التي كانت مستقلة ثم ضمت إلى المملكة الفرنسية في عصر فرانسوا الأول على مضض من سكانها، الذين كانوا منطوين على أنفسهم ولا يستطيعون أن يسنجموا مع باقي السكان الفرنسيين للملكة، وظلوا محتفظين بمقوماتهم.

ونظراً إلى أن دار جنتريه كان من المتحمسين لاستقلال موطنه، فقد قام مذهبه على مبدأ إقليمية القوانين والتعصب لعرف مقاطعته، فنادى بوجوب تطبيقه وحدة في إقليم مقاطعته، غير أن مبدأ إقليمية القوانين قد أخذ معنى أوسع في رأي دار جنتري، عما كان يأخذه في العهد الإقطاعي، فقد كان مبدأ إقليمية القوانين في هذا العهد، يعني استبعاد تطبيق كل عرف أو قانون أجنبي داخل الإقليم. أما في رأي دار جنتريه، فمبدأ إقليمية القوانين كان هو الأصل ويمكن قبول تطبيق القانون الأجنبي على سبيل الاستثناء.

وقد أبرز دار جنتريه تقسيم الأحوال إلى عينية وشخصية، ووضعه في قالب منطقي، ولكنه كان يعتبر الأحوال العينية هي الأصل، بينما الأحوال الشخصية هي الاستثناء، ولذلك فقد ضيق كثيراً من نطاق الأحوال الأخيرة لحساب الأحوال الأولى، وقصر الأحوال الشخصية على الحالة أو على الأهلية العامة دون الأهليات الخاصة، مثل عدم أهلية الإيصاء بين الزوجين الذي أدخلها في الأحوال العينية. ثم لاحظ أن هناك أحوالاً لا يمكن إعتبارها شخصية بحتة ولا عينية بحتة، فوضعها في طائفة ثالثة وسماها الأحوال المختلطة statutes mixtes وضرب مثلاً لذلك حالة منع الزوجة من الإيصاء بالعقار لزوجها،وقال أن هذه الحالة تتعلق بأشخاص وبالعقار في ذات الوقت فهي حالة مختلطة، ثم الحق هذه الأحوال المختلطة بالأحوال العينية، وأخضعها لقانون موقع العقار المال.

ورأى دار جنتريه، أن القوانين المتعلقة بالأحوال العينية إقليمية territoriules وأن القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية ممتدة ، Extraterritoriales وبما أنه كان متعصباً لمبدأ الإقليمية، فقد أناط الأحوال الشخصية بقانون الموطن دون قانون الجنسية، باعتبار أن قانون الموطن إقليمي وقانون الجنسية شخصي.

وقد ساد فقه دار جنتريه في فرنسا حتى قيام الثورة الفرنسية، وأتبعه القضاء الفرنسي حتى هذا التاريخ، ثم جاء فقهاء القرن التاسع عشر فتناولوه بمعاول الهدم. ومن أهم ما عابوه، أنه اقتصر على إسناد الأحوال الشخصية والأحوال العينية، ولم يسند الجرائم ولا العقد ولا إجراءات المرافعات إلى قانون معين، ولكن على الرغم من أن فقه دار جنتريه لم يحظ في فرنسا بما يستحقه من نجاح، فقد نجح في هولندا.

المدرسة الهولندية:

ففي هولندا التي كانت النمسا تحتلها في القرن السابع عشر، والتي كانت تسعى إلى استقلالها وقتذاك، كما كانت مقاطعته بريتانيا تسعى إلى استقلالها عن المملكة الفرنسية، وجد مذهب دار جنتريه مرتعاً خصباً، وتناوله الهولنديون بالشرح والتوسع، واعتنقوا تقسيمه للأحوال العينية والشخصية ومذهبه في إقليمية القوانين. واشتهر من بين هؤلاء الفقهاء بول فويت Poul Voet(1916-1677) وابنه جان فويت Jean Voet (1647-1694) و”أولريك هوبر Ulrice Huber (1636-1694) وإلى هذا الأخير، يرجع الفضل في وضع اصطلاح “تنازع القوانين” لأول مرة، كما أ،ه أبرز لأول مرة فكرة أن القاضي له أن يستبعد تطبيق القانون الأجنبي، إذا رأى أنه مخالف للنظام العام المحلي، فكانت هذه الفكرة هي نواة الدفع بالنظام العام المعروف اليوم في هذا القانون. وقد كان للمدرسة الهولندية فضل التعرض – لأول مرة – لمسألة تنازع القوانين على الصعيد الدولي، وكان أظهر رأي ابتدعه هؤلاء الفقهاء هو “إمكان تطبيق القانون الأجنبي على سبيل المجاملة الدولية internationale la courtoisie ومعنى هذه الفكرة، أن القاضي ليس ملزماً بتطبيق القانون الأجنبي، وإذا هو قبل تطبيقه، فإنما يكون ذلك على أساس المجاملة الدولي، وقد أخذت هذه الفكرة على ظاهرها، وعيب عليها أنها تفسح المجال لأهواء القضاء، فإن شاء طبق القانون الأجنبي، وإن شاء استبعده، بيد أن تفسير المجاملة على هذا النحو تفسير خاطئ، فقد كانت المدرسة الهولندية ترغب في أن تقرر أن الدولة ليست بحاجة إلى أن تكون ملزمة بمعاهدة دولية لكي تطبق قانون دولة أخرى، بل هي يجب أن تطبق القانون الأجنبي ولو لم تكن ملزمة، ويكون ذلك منها على سبيل المجاملة، ولكنها متى رأت تطبيق القانون الأجنبي على سبيل المجاملة التزم قضائها بتطبيقه. ولقد كانت لفكرة المجاملة الدولية أثر كبير في فقه الفقهاء الانجلوساكسونيين، لشدة حرصهم على استقلال بلادهم.

المدرسة الأمريكية :

ولم يحظ فقه القانون الدولي الخاص في فرنسا النصف الأول من القرن التاسع عشر بفقه مبدع، سار الفقهاء إبان هذه الفترة على مذهب من سبقوهم، وخصوصاً على مذهب دار جنتريه، كما ظل القضاء الفرنسي يسير على المذاهب التقليدية.

بيد انه ظهر في أمريكا خلال هذه الحقبة فقيه كبير هو Story الذي شغل منصب أستاذ بجامعة هارفارد، ومنصب قاض بالمحكمة الاتحادية العليا، ووضع في ١٨٣٤ كتاباً قيماً في القانون الدولي الخاص، وقد سبق أن قلنا أنه أول من استعمل مصطلح القانون الدولي الخاص عنواناً لهذا الفرع م القانون، وقد تأثر ستوري بالفقيه الهولندي هويبر وسار على هدي فقهه، واعتنق مذهبه في قبول تطبيق القانون الأجنبي على سبيل المجاملة الدولية.

وكان لكتاب ستوري تأثير كبير على القضاء في أمريكا، كما كان مذهبه في الواقع حلقة الوصل بين الفقه التقليدي والفقه الحديث، حتى أن أول مؤلف فرنسي في القانون الدولي الخاص، الذي صدر في ١٩٣٤ ، أعلن فيه مؤلفه فوليكس Foelix في أول فصل فيه أنه يعتنق آراء ستوري. ولم يضف ستوري في الواقع جديد إلى القانون الدولي الخاص، بل ظل الفقه متأثراً بآراء دار جنتريه وبالفقه الهولندي، إلى أن جاء سافيني ومانشيني، فجددوا في هذا القانون كما سوف نرى. وقد تعاصر مذهب هذين الفقيهين، ولكن سافيني لم يعتنق لا مبدأ إقليمية القوانين ولا مبدأ شخصية القوانين، بينما كان مانشيني مغالياً في مبدأ شخصية القوانين.

المدرسة الألمانية:

نشر الفقيه العظيم سافيني) Savigny 1779-1861) آراءه في تنازع ، القوانين، في الجزء الثامن من شرحه للقانون الروماني بتاريخ يوليو ١٨٤٩ وكان القانون الروماني، يومئذ هو القانون العام في ألمانيا. ويقوم مذهبه على أن الدول الأوروبية تعتبر مجموعة واحدة متناسقة المدنية يربط بينهما رابطان قويان، وهما رباط المسيحية ورباط القانون الروماني، فيجعلان منها وحدة متفقة في حضارتها وثقافتها وفكرها القانوني. ولذلك فيمكن أن تطبق في أي دولة منها قوانين أية دولة أخرى أوربية. ثم استنبط سافيني من القانون الروماني، تقسيمه للأشخاص والأموال والعقود والوقائع، وأخذ بهذا التقسيم لإسناد الحكم إلى القانون، واهتم قبل كل شيء بإقرار كل قسم من هذه الأقسام في المقر الملائم لطبيعته، وقال أن قانون المقر هو أنسب القوانين لحكم الشخص أو العلاقة القانونية أو المال. ولكي يحدد هذا المقر رأى أن يستند في ذلك إلى عاملين :

الأول : هو الاختصاص القضائي العادي، فمتى ثبت الاختصاص لمحكمة معينة، كان قانون هذه المحكمة هو القانون الأنسب لحكم العلاقة القانونية المرفوعة أمامها.

الثاني : رغبة ذوي الشأن، فيعتبر مقراً للشخص أو للعلاقة القانونية، المكان الذي أراده الشخص مقراً له أو للعلاقة القانونية، وهذا هو ما سماه مبدأ الخضوع الاختياري

La soumission volontaie وعلى هدي هذين العاملين، أسند الحكم إلى قانون المقر على النحو التالي:

بالنسبة إلى الشخص، يعتبر موطنه مقراً له، لأنه أراد الاستقرار فيه، فهو إذن يخضع لقانون موطنة حتى فيما يتعلق بحالته وأهليته العامة والخاصة، وهكذا خالف سافيني من قبله. ومن بعده من الفقهاء اللاتينيين، الذين أسندوا حالة الشخص وأهليته العامة لقانون جنسيته لا لقانون موطنه. وبالنسبة إلى الأموال والأشياء، سواء كانت منقولة أو عقارية، يعتبر موقعها هو مقرها، إذ هو أنسب مقر لها، وعلى ذلك فهي تخضع لقانون موقعها.

وبالنسبة إلى الالتزامات التعاقدية، يطبق قانون محل تنفيذها، إذ يفترض أن المتعاقدين قد أرادوا أن يكون مقر عقدهما هو محل تنفيذه. وبالنسبة إلى الأفعال الضارة أو النافعة، يطبق قانون المكان الذي وقعت فيه لأنه مقرها. ويرى سافيني أن قانون المقر الواجب التطبيق، هو الذي يحدد أيضاً اختصاص المحكمة بنظر النزاع، في حالة التلازم بين هذا القانون وبين الاختصاص القضائي، أي في حالة رفع الدعوى أمام محكمة مقر العلاقة.

ما تقدم، مجمل مذهب سافيني زعيم المدرسة التاريخية في القانون، وقد عيب عليه أن مسألة تركيز العلاقات القانونية في مقرها مسألة صعبة التطبيق عملاً، كما عيب عليه أن افتراض انصراف إرادة المتعاقدين إلى قانون محل تنفيذ العقد فيه قدر من التجاوز، إذ من الجائز أن تكون إرادتهما قد انصرفت إلى قانون آخر. وأخيراً انتقد مذهبه في قوله بالخضوع الإرادي، الذي يوهم بأن الإرادة هي كل شيء في إسناد العلاقة القانونية. في حين أننا لو تأملنا، لوجدنا أن الخضوع مفروض في الحقيقة وليس إرادياً، فلو أننا قلنا لشخص أنك إذا اشتريت عقاراً في محل ما، فكأنك أردت أن تخضع العقد لقانون موقع العقار، نكون قد فرضنا عليه قانوناً لعله لم يرده. وعلى الرغم مما وجه إلى مذهب سافيني من نقد فقد ترك أثر كبيراً على من خلفه من الفقهاء، خصوصاً في ألمانيا، وكان له الفضل في إثارة البحث في مشكلة تنازع القوانين، كما أن الفقهاء الإنجليز قد تأثروا به إلى حد كبير، وكان له كذلك تأثير على بعض الفقه الفرنسيين مثل دي سبانيه Despagnet وفاليري .Valery

المدرسة الإيطالية الحديثة :

أما مانشيني Mancini زعيم المدرسة الإيطالية الجديدة، فقد كان أستاذاً بجامعة تورين، وقد استهل محاضراته فهيا ٢٢/1/١٨٥١ بقوله أن الجنسية هي أساس القانون الدولي عاماً أو خاصاً، وقد اعتنق مبدأ “شخصية القوانين” إلى حد المغالاة، ورأى أن القوانين توضع للأشخاص لا للأقاليم، وهي لا تصلح لغير الأشخاص الذين وضعت لهم. وقال أن كل أمة يجب أن تكون لها دولة وليست الدولة إلا الأمة. وقد كان مذهبه وليد الظروف السياسية التي كانت إيطاليا تمر بها وقتذاك، إذا كانت تسعى إلى وحدتها وإلى استقلالها عن الإمبراطورية النمساوية، فأخذ مانشيني ينادي بالدولة الإيطالية التي تتكون من الأمة الإيطالية وحدها.

ورأى مانشيني أن مبدأ شخصية القوانين، يجب أن يكون هو الأصل في القانون الدولي الخاص، ولكنه قبل إقليمية القوانين على سبيل الاستثناء من هذا الأصل، وهذه هي الاستثناءات التي أدخلها على الأصل :

أولاً: قواعد القانون العام، فكل هذه القواعد يجب أن تكون إقليمية.

ثانياً: القواعد المتعلقة بالنظام العام، وتدخل في نطاق هذه القواعد، قواعد القانون الجنائي، والقواعد المنظمة للملكية، وقوانين البوليس، وقوانين الشهر العقاري.

ثالثاً: القواعد المتعلقة بشكل التصرفات الخارجية، يجب أن تطبق على هذا الشكل قوانين المكان الذي يتم فيه التصرف.

رابعاً: طبقاً لمبدأ سلطان الإرادة، يجب أن يترك للمتعاقدين حرية القانون الواجب التطبيق على عقودهم.

وهكذا، أكثر مانشيني من الاستثناءات التي أدخلها على مبدأ شخصية القوانين، حتى قيل أن هذه الاستثناءات فاقت الأصل وأصبحت أكثر منه، ولم يبق في نطاق الأصل إلا القواعد الخاصة بالأحوال الشخصية، بيد أن الأحوال الشخصية في مذهب مانشيني اتسعت، فشملت المواريث والنظم المالية المقترنة بعقود الزواج، وكذلك نظام المنقولات.

وقد وجهت إلى مذهب مانشيني عدة انتقادات مريرة، فمن الناحية السياسية عيب عليه أ،ه جعل الأمة هي الدولة، وقال أن الرعايا هم الذين يكونون الدول، ولم يعط أية أهمية للإقليم، مع أنه من المسلم به اليوم في القانون الدولي العام، أن العنصر الأساسي للدولة هو الإقليم، وأن الأمة غير الدولة، فالأمة مجموعة من الأفراد تتفق في الآمال والمشاعر واللغة والدين والعادات، بينما الدولة تقوم على إقليم ورعايا ولها سيادة على إقليمها ورعاياها، وقد يكون هؤلاء الرعايا من أجناس مختلفة، وقد يختلفون في اللغة أو في الدين. وعيب عليه قوله بأن الأصل هو شخصية القوانين، وأنه يجب إسناد كل العلاقات القانونية إلى قانون جنسية الشخص – ما عدا ما استثنى – بأن هذا سوف يؤدي إلى أوضاع عسيرة، بعد أن كثرت المهاجرة إلى البلاد التي فقدت كثيراً من سكانها على أثر الحروب، أو إلى البلاد المستوردة للأيدي العاملة وللعنصر الأجنبي الفني، فهؤلاء المهاجرون سيظلون طبقاً لمذهب مانشيني في شخصية القوانين خاضعين لقوانينهم الشخصية، دون أن يخضعوا لقوانين الدولة التي يعيشون في إقليمها، ويطلب إلى محاكم هذه الدولة أن تطبق على كلا منهم قانون جنسيته، وناهيك بما في ذلك من عسر شديد.

وعيب عليه أخيراً، كثرة ما أدخله من استثناءات على الأصل، حتى أصبح الاستثناء أكثر من القاعدة، وهو ما لا يتفق مع المنطق. وعلى الرغم م كل هذه الانتقادات، فقد كان لمذهب مانشيني صدى كبير في العالم وخصوصاً في البلاد اللاتينية، فأسندت هذه البلاد الأحوال الشخصية إلى قانون الجنسية، وقد كان قانون الموطن هو السائد من قبل، وأخذ القانون المدني الفرنسي والقانون المدني الإيطالي بقانون الجنسية، وحذت أغلب التشريعات حذوهما، كما ان اتفاقيات لاهاي المنعقدة في السنوات ١٨٩٦ – 1902- 1905، أخذت بمذهب مانشيني، وأخذت مجموعة بستامنت في ١٩٢٨ بقانون الجنسية.

ولكن أخذ مذهب مانشيني يتداعى شيئاً فشيئاً، فلم يكن له أي تأثير في البلاد الانجلوسكسونية، التي ظلت تأخذ بقانون الموطن، واتفاقيات لاهاي التي عقدت على أساسه قد أصبحت اليوم غير مطبقة. وحتى القانون المدني الإيطالي الجديد هجر رأي مانشيني فيما يتعلق بتطبيق قانون الجنسية على المنقول، وهكذا أصبح مذهب مانشيني اليوم مجرد حلقة في سلسلة تاريخ القانون الدولي الخاص، لم يبق من يتبعه من الفقهاء المحدثين إلا الفقيه الفرنسي بييه.

المدرسة الفرنسية الحديثة :

من أشهر الفقهاء الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أربعة فقهاء ساهموا بقسط وافر في تطوير قواعد التنازع، وهم :

أولاً: بييه Pillet الذي أخذ بمذهب مانشيني في إعطاء أهمية كبرى لقانون الجنسية، ولكن كان تلميذاً مخلصاً لسافيني على الأخص، وهو يرى أن تنازع القوانين أن هو في حقيقة الأمر تنازع بين سيادات دولية، وتطبيق القانون على جميع إقليم الدولة مظهر من مظاهر سيادة الدولة، ويتحدد مدى هذه السيادة بالنسبة إلى القانون بدوامه وعموميته. ومعنى دوام القانون La Permanence أن يطبق على كل الأشخاص والأموال بالإقليم دون أية تفرقة. وتقتضي هاتان الخاصيتان للقانون – من جهة – أن يخضع وطنيو الدولة لقانونها أينما وجدوا،وأينما وجدت أموالهم، ووقعت تصرفاتهم – ومن جهة أخرى – أن يخضع كل الأشخاص الموجودين على إقليم الدولة لقانونها، سواء كانوا وطنيين أو أجانب. ومعنى ذلك، ان يكون القانون ممتداً وإقليمياً في آن واحد، ولو أن كل قانون أريد تطبيقه في نطاق القانون الدولي الخاص، يجب أن تتوافر فيه هاتان الخصيصتان، لتعذر حل مشكلة تنازع القوانين. وبما أن حاجة المعاملات الدولية تقتضي حل هذه المشكلة، بما أن قبول تطبيق القانون الأجنبي ليس مجاملة دولية، بل هو التزام واجب، فيجب أن يضحي بإحدى خاصيتي القانون، أي الدوام أو العموم. لذلك يجب أن نقسم القوانين إلى مجموعتين، مجموعة تتوافر فيها خاصة الدوام دون خاصة العموم، وهي القوانين التي تمتد وتطبق على وطني الدولة،ولو كانوا خارج إقليمها، ولكن لا تطبق على الأجانب الموجودين في إقليمها لفقدانها خاصية العموم. ومجموعة أخرى تتوافر فيها العموم، وتضحي فيها بخاصية الدوام، فتكون قوانين إقليمية تطبق على جميع سكان الإقليم من وطنيين وأجانب، ولكن لا تمتد إلى وطني الدولة في الخارج. يرمي إلى تحقيقه، وهو وبما أن لكل قانون هدفاً اجتماعياً But social المصلحة العامة لكل دولة، فإن تنازع القوانين هو في حقيقته تنازع بين مصالح الدول، ويمكن حل هذا التنازع بجعل حكم العلاقة القانونية لقانون الدولة التي يكون لها أكبر مصلحة في حكم هذه العلاقة، حتى يتحقق الغرض الاجتماعي للقانون. ولذلك يجب أن نحدد الغرض الاجتماعي لكل قانون، ولكي نصل إلى هذا التحديد، نبحث عما إذا اكن الغرض من القانون هو حامية الفرد أو هو حماية المجتمع، فإذا كان الغرض نمه هو حماية الأفراد فيجب أن يكون ممتداً إلى خارج الإقليم، أي أن تتوافر فيه صفة الدوام ونضحي بخاصية العموم، ومثال ذلك القوانين المتعلقة بالحالة الشخصية والأهلية. وإذا كان الغرض من القانون هو حماية المجتمع، فيجب أن تتوافر فيه خاصية العموم دون خاصة الدوام، فيكون إقليمياً ويطبق على جميع السكان دون تفرقة، ومثال ذلك القوانين الخاصة بالعقارات، وبملكية الأموال. وأضاف بييه إلى ما تقدم، نظريته في الاحترام الدولي للحق المكتسب، فعنده أن الحق متى اكتسب في دولة، وجب الاعتراف بوجوده واحترامه في الدول الأخرى. والحق المكتسب إما أ، ينشأ ابتداء خالياً من العنصر الأجنبي، ويراد الاحتجاج به في دولة أخرى، وحينئذ يكفي أن يكون هذا الحق قد تم تكوينه صحيحاً طبقاً لقانون الدولة التي نشأ فيها. بصرف النظر عن قانون الدولة التي يراد الاحتجاج به على إقليمها. وإما أن يكون الحق المكتسب قد نشأ مشتملاً على عنصر أجنبي منذ بدائته، ويراد الاحتجاج به في دولة أخرى، وحينئذ يجب أن تسري عليه قواعد تنازع القوانين في هذه الدولة الأخرى، بصرف النظر عن قواعد التنازع في الدولة التي نشأ فيها، ثم يضع بيليه قيدين على قاعدة احترام الحق المكتسب.

الأول : هو أنه لا يمكن الاحتجاج بحق مكتسب في إقليم دولة، لا وجود لمثل هذا الحق فيه، مثال ذلك احتجاج المؤلف بحقه في بلد يجهل قانونه حق المؤلف.

الثاني : هو أنه لا يمكن الاحتجاج بحق مكتسب في دولة، يعتبر هذا الحق فيها مخالفاً للنظام العام. مثال ذلك الاحتجاج بزواج مسلمة من غير مسلم في بلد إسلامي.

وقد انتقدت نظريات بييه، بأنها أرادت أن تخلع على القانون صفتين من صفات القانون الدولي العام، وهما دوام القانون وعموميته. وليست هاتان الصفتان في الواقع – إلا امتداد للقانون extraterritoorialite واقليميته Territorialite في حين أن القانون الداخلي لا يمكن أن يتصف لا بالامتداد ولا ، بالإقليمية، بل أن القانون الداخلي يظل يسري حتى يلغي قانون آخر، ويطبق على الجميع على السواء دون تفرقة، ولا يمكن أن ينظر إلى القانون باعتباره ممتداً أو إقليمياً، إلا في المجال الدولي.

وقوله، بأن هدف القانون الاجتماعي قد يكون حماية الأفراد فيكون القانون ممتداً، وقد يكون حماية المجتمع فيكون القانون إقليمياً، قد انتقد بأن كل القوانين تهدف في النهاية إلى حماية المجتمع، ولو كان هدفها المباشر هو حماية الفرد. وفضلاً عن ذلك، فلو أخذنا بنظريته في أن القانون يجب أن يكون ممتداً كلما كان يهدف إلى حماية الفرد، لأمكن أن نوجه إليه هذا الاعتراض، وهو أن هناك قوانين كثيرة تهدف مباشرة إلى حماية الفرد، ومع ذلك لا يمكن أن تكون ممتدة.مثال ذلك القوانين التي تحرم على الزوج التصرف في أموال زوجته التي تزوجت طبقاً لنظام )الدوطة)، فهذه القوانين لا تسري إلا على الأموال الكائنة في البلد الذي صدرت فيه هذه القوانين، فهي إذن إقليمية لا ممتدة، أما نظريته في الحق المكتسب، فسنفصل تحليلها عند دراستنا للقانون الأجنبي الواجب التطبيق لاحترام الحق المكتسب.

ثانياً: بارتان Barttin : وكان متأثراً بفقه سافيني، وقد اشتهر بنظرية التكييف التي بلورها ووضع قواعدها في القانون الدولي الخاص في ١٨٩٩ . … ، أن معناه هو وضع العلاقة القانونية في نظام معين، حتى يعرف القانون الواجب التطبيق عليها، مثال ذلك وضع الحالة أو الأهلية في نظام لأحوال الشخصية، حتى تخضع لقانون الجنسية أو الموطن، ووضع التصرف في المنقول في نظام الأموال، حتى يخضع لقانون موقع المال. فالتكييف إذا لازم وسابق لمعرفة القانون الواجب التطبيق، وقد رأى بارتان أن التكييف يخضع لقانون القاضي، فالقاضي حين يعرض عليه نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، يكيف العلاقة التي يشتمل عليها هذا النزع طبقاً لقانونه الوطني، ومتى كيفها بحث عن القانون الواجب التطبيق عليها، أهو القانون الوطني أم هو القانون الأجنبي؟ وقد يوجد التنازع في التكييف نفسه، فتكون العلاقة القانونية في بلد تدخل في نظام الأحوال الشخصية، بينما في بلد آخر تدخل في الأحوال المالية. لذلك فإن خضوع التكييف لقانون القاضي، يكون حاسماً في بيان القانون الواجب التطبيق. وإذا كان تنازع القوانين في رأي برتان – كما في رأي بييه – هو تنازعاً بين سيادات دولية، فإن قواعد إسناد العلاقات القانونية قواعد وطنية، لأن التكييف الذي سبق الإسناد يخضع لقانون القاضي.

ثالثاً: نبواييه Niboyet: هو تلميذ بييه، ولكن خالفه في ربط الأحوال الشخصية بقانون الموطن، بينما كان أستاذه يربطها بقانون الجنسية، كما أن بييه متأثراً بالقانون الدولي العام في بحثه في مشكلة تنازع القوانين، بينما تأثر نبواييه بفكرة وطنية داخلية محضة، وهي حالة فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، وكونها أصبحت دولة مستوردة لسكان لا مصدرة لهم، فكثرت هجرة الأجانب إليها. ولذلك اعتنق نبواييه مبدأ إقليمية القانون لأنه أًلح لفرنسا، إذ يترتب عليه أ تطبق القوانين الفرنسية على كل الجانب الذين هاجروا إلى فرنسا، في حين أن شخصية القوانين فيها خطر على فرنسا، لأنها لا تصدر فرنسيين إلى الخارج. وسوف يترتب عليها أن يتمتع الأجانب في فرنسا بتطبيق قوانينهم الأجنبية عليهم، فلا يكاد يكون هناك مجال لتطبيق القوانين الفرنسية، وبالتالي يصبح من العسير

أن يندمج هؤلاء في السكان الفرنسيين. ولكن مع أن نبواييه اعتنق مبدأ الإقليمية كقاعدة أصلية، فإنه قد قبل امتداد القوانين على سبيلا لاستثناء، خصوصاً ما يتعلق منها بالحالة والأهلية، وهو يرى أن تقسيم القوانين لا يكون بحسب الهدف الاجتماعي منها كما كان يقول أستاذه، وإنما بحسب الوسيلة الفنية المستعملة Le Moyen Technique فاذا كان المشرع يريد أ يكون القانون ممتداً أو إقليمياً، فعليه أن يستعمل الوسيلة الفنية التي يترتب عليها اعتبار القانون ممتداً أو إقليمياً بصرف النظر عن الهدف الاجتماعي منه. فإذا كان يريد امتداد القانون مثلاً، فعليه أن يصوغه في عبارة تنصب بالحالة أو الأهلية مباشرة، إذ لو صاغ القانون بوسيلة فنية تجعله ينصب على التصرف في الأموال مثلاً، فإنه لا يمكن أن يكون القانون في هذه الحالة ممتداً، لأن الأموال تخضع لقانون الموقع.

رابعاً: دي فاري سوميير De Vareilles sommieres: وضع مؤلفاً قيماً للقانون الدولي الخاص في ١٨٩٧ ، ووضع في ١٩٠١ كتاباً هاجم فيه الفقهاء الذين كانوا يقولون بإخضاع الميراث لقانون جنسية المورث وخصوصاً الفقهاء الألمان، ورأى وجوب إخضاعه لقانون موقع المال الموروث بالنسبة إلى العقار، ولقانون موطن المتوفى بالنسبة إلى المنقول، وكان دي فاري سوميير من أشد المعارضين لمبدأ امتداد القوانين، واعتنق مبدأ إقليمية القوانين بحماس شديد. وكان يقول أن القوانين تعمل للإقليم الذي تصدر فيه، وكل مشرع يشرع لبلده وحده لا لبلد آخر. ومعنى الإقليمية عنده، أن كل واقعة تقع في بلد، يجب أن تخضع لقانون هذا البلد، ويجب أن يطبق عليها قانون هذا البلد، ولو أمام محكمة بلد آخر.فلو أن حادث سيارة وقع في فرنسا، فإنه يخضع للقانون الفرنسي، ولو رفعت عنه دعوى أمام المحاكم البلجيكية، فيجب على هذه المحاكم أن تطبق عليه القانون الإقليمي، أي القانون الفرنسي الذي يخضع له، وليس في ذلك امتداد للقانون الفرنسي، والحقوق التي اكتسبت تحت سلطات قانون إقليمي في بلد، لا يجوز أن تجحد في بلد آخر.

وإذا كان الأصل عنده هو إقليمية القوانين، فإنه لا مانع لديه من قبول الاستثناءات الآتية على هذا الأصل:

أولاً: فيما يتعلق بالحالة والأهلية، يطبق قانون دولة الشخص.

ثانياً: المنقولات التي يتركها المورث، تخضع لقانون موطنه الأخير.

ثالثاً: احتراماً لمبدأ سلطان الإرادة للمتعاقدين، اختيار القانون الواجب التطبيق على العقد.

رابعاً: الشكل الخارجي للتصرفات، يخضع لا لقانون المحل الذي سيتم فيه التصرف، بل يمكن أن يخضع لقانون موطن الشخص.

ولقد تأثر الفقه الفرنسي الحديث بآراء دي فاري سوميير، بل وتأثر به الرأي الرسمي الفرنسي، فنقضت فرنسا اتفاقيات لاهاي المتعلقة بالأحوال الشخصية. ورفضت الانضمام إلى اتفاقية لاهاي الخاصة بالميراث، سواد في فرنسا مبدأ إقليمية القوانين، خصوصاً بعد الحربين العالميتين، وكثرة هجرة الأجانب إلى فرنسا، وندرة هجرة الفرنسيين على الخارج

المؤلف : احمد عبد الحميد عشوش
الكتاب أو المصدر : القانون الدولي الخاص
الجزء والصفحة : ص244-262

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .