تعريفه وأهميته :

تفرض مشكلة التكييف نفسها على القاضي، ليس فقط في مجال القانون الدولي الخاص، ولكن في جميع فروع القانون الأخرى. فمثلاً، في نطاق القانون المدني يواجه القاضي مشكلة التكييف، عندما يتصدى لتحديد وصف الرابطة العقدية المطروحة أمامه وصفاً قانونياً سليماً، لينتهي إلى ما إذا كان العقد محل النزاع عقد إيجار أو عقد بيع أو عقد هبة…إلخ. وفي نطاق القانون الجنائي يواجه القاضي مشكلة التكييف، عندما يتصدى لوصف الفعل الذي ارتكبه المتهم، لمعرفة ما إذا كان يعتبر من قبيل السرقة أو الاختلاس أو خيانة الأمانة…إلخ. وإذا كانت له أهميته في القانون الداخلي ، فإن تلك الأهمية تزداد في مجال القانون الدولي الخاص.

مرحلة التكييف :

مرحلة التكييف هي أول ما يعرض له القاضي عندما تقدم له مسألة تشتمل على عنصر أجنبي، إذ يجب عليه قبل كل شيء، أن يدخل العلاقة المعروضة عليه في نظام من النظم القانونية، حتى يعرف ما هو القانون الذي يسند إليه حكمها، أي أن مرحلة التكييف تسبق بالضرورة مرحلة الإسناد. ولقد عرف الفقهاء التكييف، بأنه “تحديد طبيعة المسألة التي تتنازعها القوانين، لوضعها في نطاق طائفة من النظم القانونية، لكي يسند حكمها إلى قانون معين. فإذا عرض على القاضي نزاع معين، فهو يبحث هل هذا النزاع شكلي، أي ينصب على شكل التصرف، وحينئذ يخضع لقانون الشكل، أو هو نزاع ينصب على الموضوع، فيخضعه لقانون الموضوع.

والذي يجعل التكييف عسيراً، هو ان قوانين الدول مختلفة في وضع الأحوال والتصرفات في النظم القانونية، فمثلاً بعض القوانين تدخل المشارطات المالية التي تصحب عقد الزواج في نظام الأحوال الشخصية، وحينئذ تخضعها لقانون الشخص. وبعضها الآخر يدخلها في نظام العقود، وحينئذ تخضع للقانون الذي يختاره المتعاقدان. وبعض الدول تدخل الشكل الخاص بالوصية في نظام الأهلية، فيخضع حينئذ للقانون الذي تخضع له الأحوال الشخصية، بينما بعض الدول الأخرى تدخل شكل الوصية في نظام الشكل الخارجي للتصرف، وحينئذ يخضع لقانون محل التصرف، وهناك دول تعتبر إشهار الزواج في الشكل المدني مسألة موضوعية، وتدخله في دائرة الأحوال الشخصية، بحيث يبطل كل زواج لا ينعقد في الشكل الديني، وحينئذ يخضع إشهار الزواج في هذا الشكل لقانون الشخص، بينما تنظر بعض الدول إلى إشهار الزواج في الشكل الديني كمسألة ثانوية وشكلية، بحيث لا يتأثر الزواج الذي تم في شكل مدني بعد إشهاره في شكل ديني فيما بعد. والأمثلة الآتية توضع أهمية البحث في مسألة التكييف :

أ- مات هولندي في فرنسا، وكان قد أجرى وصية بخط يده، وعرضت مسألة صحة هذه الوصية على القضاء الفرنسي، وتأسس الطعن في هذه الوصية على أن القانون الهولندي يحرم الوصية الخطية على الهولنديين ولو في الخارج. ويعتبر إجراء الوصية في شكل رسمي مسألة أهلية تتعلق بحماية الموصى. وتأسس دفاع الموصى له، على أن القانون المختص بشكل لوصية هو القانون الفرنسي، وفي حكمها الصادر في ٢٣/3/1944 قضى بأنه في حالة رفع دعوى أمام المحاكم الفرنسية يثار النزاع فيها حول صحة الوصية الخطية الهولندي، يتعين الرجوع إلى القانون الفرنسي لتكييف الشكل المطلوب، ولما كان القانون يعتبر شكل الوصية سواء خطياً أو رسمياً مسألة تدخل في نظام شكل التصرفات، فبالتالي يخضع للقانون الفرنسي وهو يقضي بصحة هذه الوصية.

ب- رفعت دعوى أمام المحاكم الفرنسية بطلب التفريق الجسماني لزوجين أسبانيين، فذهب الدفاع إلى أن المحاكم الفرنسية غير مختصة بالنظر في هذا الطلب، لتعلق التفريق الجسماني بحالة الشخص، وتخضع حالة الشخص لقانون جنسيته، سواء طبقاً للقانون الفرنسي أو الأسباني. ولما كان القانون الأسباني يجعل مثل هذا الطلب من اختصاص المحاكم الكنسية، ويعتبر التفريق الجسماني مسألة موضوعية مثلها كمثل الطلاق والزواج، فيجب رفع هذا الطلب إلى المحاكم الكنسية في أسبانيا، بيد أن محكمة استئناف باريس قضت في ٩ يناير ١٩٤٣ ، بأن القانون الفرنسي يكيف إجراءات التفريق الجسماني باعتبارها تدخل في نظام المرافعات، وتكون بالتالي مسألة مستقلة تماماً عن الموضوع، وتخضع للمحاكم الفرنسية.

ج- رفعت دعوى أمام المحاكم الفرنسية بطلب بطلان زواج أحد اليونانيين لأنه في شكل مدني، في حين أن القانون اليوناني وهو قانون جنسيته يعتبر إشهار الزواج في شكل ديني مسألة موضوعية، ويدخلها في نظام الأحوال الشخصية.

بيد أن محكمة النقض الفرنسية قضت في ٢٢/6/1955 بأن القانون الفرنسي وهو القانون المختص بالتكييف، يعتبر مسألة إشهار الزواج في شكل ديني مسألة شكلية لا موضوعية، وبالتالي تخضع لقانون المكان الذي تم فيه الزواج.

وقد كان الفقيه الفرنسي بارتان، هو أول من وضع نظرية متكاملة لمشكلة التكييف في فقه القانون الدولي الخاص، وإليه يرجع الفضل في بلورة المسألة وتأصيلها، ذلك أن القضاء الفرنسي قد واجه مشكلة التكييف منذ زمن بعيد وفي ظل القانون الفرنسي القديم، دون أن يعبر عن أنه كان يقوم بتحديد طبيعة المسألة المتنازع فيها ليصل إلى قاعدة الإسناد التي تحكمها، وكان ذلك لتحديد يتم وفقاً لقانون القاضي. وجاء بارتان وكشف عن مشكلة تحديد طبيعة المسألة، وأطلق عليها مشكلة التكييف، وأخذ بارتان بدراسة القضاء، وعكف على دراسة عدد من القضايا أعانته في الوصول إلى رأيه الذي انتهى إليه، وهو أن “التكييف يخضع لقانون القاضي”.

المؤلف : احمد عبد الحميد عشوش
الكتاب أو المصدر : القانون الدولي الخاص
الجزء والصفحة : ص262-265

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .