إذا كانت الدساتير والتشريعات قد كفلت الحق في سرية المراسلات وجعلت له حرمه، فإن هذه الحرمة ليست مطلقة في حالة الظروف الاستثنائية ، إذ يجوز التضحية بذلك في سبيل الصالح المشترك للجماعة لاسيما إذا استدعى الظرف الاستثنائي إعلان حالة الطوارئ. وتجيز بعض التشريعات مراقبة وفتح المراسلات للاطلاع على مضمونها لدواعي الأمن. ففي مصر يجوز التعدي على سرية المراسلات إذا هدد هذا الحق في السرية كيان الدولة أو نظامها الاجتماعي. ويلاحظ أن إهدار سرية المراسلات في سبيل مصلحة الدولة لا يكون إلا في الظروف الاستثنائية التي تستدعي إعلان حالة الطوارئ. فقد نصت المادة الأولى من القانون رقم (162) لسنة 1958م بشأن حالة الطوارئ على أنه ” يجوز إعلان حالة الطوارئ كلما تعرض الأمن أو النظام العام في أراضي الجمهورية أو منطقة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامه أو انتشار وباء“، ومتى أعلنت حالة الطوارئ فإن رئيس الجمهورية يملك اتخاذ كثير من التدابير ومن هذه التدابير الأمر بمراقبة الرسائل أيا كأن نوعها.

وقد أصدر رئيس الجمهورية الحاكم العسكري العام في مصر القرار رقم 329 لسنة 1956م الأمر العسكري رقم (1) الذي نصت المادة الأولى منه على أنه “تفرض من الآن والى حين صدور أوامر أخرى من أجل سلامة الوطن رقابة عامة على الكتابات والمطبوعات والصور والطرود التي ترد إلى مصر أو ترسل إلى الخارج أو تمر منها أو تتداول داخل البلاد، وكذلك الرسائل التلغرافية أو التليفونية السلكية واللاسلكية، على أنه لا تخضع لهذه الرقابة جميع المواد والرسائل الخاصة بالحكومة المصرية. والملاحظ هنا أن سلطات الرقيب العام غير مقصورة على مجرد الاطلاع على الرسائل أياً كان نوعها أو تعطيل تسليمها إلى المرسلة إليهم، وإنما تشمل أيضاً محو بعض عباراتها أو مصادرتها أو إعدامها(1).وبالرجوع إلى نص المادة (145) من الدستور المصري الحالي لعام 1971م نجد أنها أعطت لرئيس الجمهورية بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية صلاحيات إصدار لوائح الضبط التي تخوله اتخاذ الإجراءات الخاصة بمراقبة الرسائل، وكذلك ما جاءت به المادة الثالثة من قانون الطوارئ المصري التي تضمنت ألفاظ عامة يفهم منها أن لرئيس الجمهورية سلطة إصدار أنظمة ضبط وقرارات أو إجراءات فردية بقصد المحافظة على الأمن والنظام العام حيث نصت هذه المادة على أنه (لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ الأمر بمراقبة الرسائل أياً كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكافة وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن طبعها(2).

أما في العراق فقد أجاز المشرع العراقي المساس سرية المراسلات لضرورات العدالة والأمن في الظروف الاستثنائية التي تستدعي إعلان حالة الطوارئ حيث أجازت الفقرة (12) من المادة الرابعة من قانون السلامة الوطنية العراقي رقم 4 لسنة 1965م لرئيس الوزراء أن يمارس في المنطقة أو المناطق التي شملها إعلان حالة الطوارئ مراقبة الرسائل البريدية والبرقية وكافة وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية وتفتيشها وضبطها، وذلك دون التقيد بأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971م الذي لم يرد فيه نص يعالج الموضوع لا سلباً ولا إيجاباً(3). وفي الأردن أجاز قانون الدفاع الأردني ونظام مراقبة المطبوعات لمراقب المطبوعات (وهو كل شخص يعينه رئيس الوزراء أن يراقب المراسلات البريدية والرسائل اللاسلكية )، وأجاز له أيضا أن يفتح هذه المراسلات ويفحصها ويمسك عن توزيعها إذا تبين أن نشر مثل هذه المراسلات ،يحتمل أن يضر بالطمأنينة العامة أو بالدفاع عن الأردن(4).

أما التشريعات الأجنبية، فقد أجازت أيضا الرقابة على المراسلات في الظروف الاستثنائية . ففي فرنسا ترى السلطات الإدارية والعسكرية في أوقات الاضطرابات الخطيرة وخاصة في فترات الحرب ،أن لها الحق في الرقابة على المراسلات ، كما تمتد يد البوليس القضائي المخولة لمديري الأقاليم الى حق حجز المراسلات . ويمكن أيضا للسلطات الإدارية التمتع بهذا الحق في هذه الظروف . وقد أنشأت رقابه بريدية في فرنسا خلال الحربين العالميتين وخلال حرب الجزائر(5). وفي ألمانيا الاتحادية أجاز قانون فحص الرسائل البر يديه ومراقبة المكالمات الهاتفية لسنة 1968م لجهات مرخص لها مراقبة وفحص المراسلات لأغراض . الأمن أو الدفاع أو عند تعرض المؤسسات الدستورية للخطر أو في حالة الخيانة، وفي بلجيكا خول قانون الطوارئ الصادر في 11/ 10 عام 1916 م والقانون العسكري السلطات المختصة إعاقة وحجز المراسلات لأغراض الدفاع الوطني وأمن الجيش . وفي بريطانيا يتم الاستيلاء على المراسلات بترخيص من وزير الداخلية وبناءا على الامتيازات الملكية، ويجوز الاطلاع على المراسلات الخاصة بزعماء المعارضة وفتح الرسائل لأغراض الأمن الوطني ومكافحة تهريب العملة(6). وفي الولايات المتحدة أجاز قانون مكافحة جرائم السيارات العمومية وأمن الشوارع في حالة الطوارئ وحالة الجرائم الماسة بالأمن القومي للسلطة التنفيذية مراقبة المكالمات الهاتفية من دون حاجة للحصول على أمر بذلك من السلطات القضائية(7).

ويذهب بعض الفقه الى أن الإعلان عن حالة الظروف الاستثنائية يؤدي الى وقف العمل ببعض أحكام الدستور ومنها الأحكام المتعلقة بسرية المراسلات ،ويطلق أصحاب هذا الرأي على هذا الوقف لفظ الوقف الفعلي لأحكام الدستور . ففي فرنسا يرى بعض الفقه مثل (ليروا) أن المادة 16 من الدستور الفرنسي تخول رئيس الجمهورية في المجال الدستوري حق وقف بعض النصوص الدستورية، ويشترط الفقيه (فواسيه) لإمكانية الوقف المؤقت لبعض نصوص الدستور أن يتم بقرار من رئيس الجمهورية، لأن الوقف لا يجوز أن يتم تلقائيا أو ضمنيا بمجرد اللجوء للمادة 16 . كما أن الوقف يجب أن يكون ذا صله بموقف الأزمة وطبيعة الخطر وأن يستهدف هذا الأجراء الغاية التي أوردتها المادة 16 ،وهي الرغبة في إعادة مؤسسات الدولة الى مهامها العادية في أقرب وقت ممكن ، وسلطة الوقف يجب أن تكون مقيدة بالظروف الاستثنائية طيلة بقائها(8). وما ينطبق على المادة 16 من الدستور الفرنسي ينطبق على المادة 74 من الدستور المصري ، فقد ذهب بعض الفقه المصري الى اعتبار هذه المادة بالغة الأهمية والخطورة ، لأنها تمنح رئيس الجمهورية في حاله معينه سلطات مطلقه لا تخضع لأي قيد ، كما أن العمل بهذه المادة يكاد أن ينقل الاختصاصين التشريعي والتنفيذي الى يد رئيس الجمهورية نقلا كاملا، بحيث يمكن القول بوجود دستورين: دستور للظروف العادية ودستور آخر للظروف الاستثنائية يتمثل في نص المادة 74 من الدستور المصري والمواد الأخرى التي تنظم حالة الظروف الاستثنائية(9).

وأنتقد بعض الفقه المصري اعتبار أن المادة 74 من الدستور المصري و المادة 16 من الدستور الفرنسي تخول رئيس الجمهورية وقف بعض النصوص الدستورية معللا ذلك بالقول: ( أن السماح لرئيس الجمهورية يوقف بعض نصوص الدستور في إطار سلطات الضرورة ، إنما يتعارض مع المبادئ الأساسية الذي يقوم عليها النظام الدستوري في مصر وفرنسا، فنظرية الظروف الاستثنائية كما قررها القضاء في حدود معينه ليس من بين صلاحياتها المساس بالدستور على أي وجه. لذا فسلطة وقف الدستور أو بعض نصوصه لا تعدو أن تكون مجرد اجتهاد فقهي يستند على فكرة تركيز السلطات)(10).وتذهب بعض الدساتير الى النص صراحة على حق رئيس الجمهورية في تعطيل بعض نصوص الدستور عند إعلان حالة الظروف الاستثنائية ، وهذا ما يطلق عليه بالتعطيل الرسمي لنصوص الدستور . ومن أمثلة هذه الدساتير ما نص عليه مشروع دستور العراق لعام 1990 م ، إذ نصت الفقرة الثانية من المادة التاسعة والتسعين منه على أنه (خلال مدة إعلان حالة الطوارئ وفي حدود المنطقة المشمولة بها . يجوز بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية وقف العمل مؤقتا بأحكام المواد 43 ،47،48،52،53،56،57،67 من الدستور ). وتكفل المادة 48 من مشروع دستور العراق لعام 1990 م الحق في سرية المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية، وهذه المادة هي إحدى المواد التي يجوز لرئيس الجمهورية وقف العمل بها عند إعلان حالة الطوارئ ، مما يفهم معه أنه يجوز لرئيس الجمهورية وقف العمل بالأحكام الدستورية المتعلقة بسرية المراسلات في حالة الظروف الاستثنائية

______________________

1- د. مبدر الويس، أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة، مرجع سابق، ص309،310.

2- أحمد إبراهيم الكفاوين ، صلاحيات الضبط الإداري في حالة الطوارئ في التشريع الأردني (دراسة مقارنة)، رسالة ماجستير، كلية الحقوق، الجامعة الأردنية، 1995م، ص65،66.

3-محمد فالح حسن ، مشروعية استخدام الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي، رسالة ماجستير كلية القانون والسياسة، جامعة بغداد ،1978 ص251.

4-أحمد إبراهيم الكفاوين، صلاحية الضبط الإداري في حالة الطوارئ في التشريع الأردني ( دراسة مقارنة )، مرجع سابق، ص 78.

5-د.مبدر الويس، أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة، مرجع سابق، ص 334.

6- د. مبدر الويس، المرجع السابق، ص 311، 312

7- أنظر المواد من 2515 إلى 2518 من قانون مكافحة جرائم السيارات العمومية وأمن الشوارع الأمريكي لعام 1968 .

8- د.وجدي ثابت غبريال، القانون الدستوري والنظام الدستوري المصري طبقاً لدستور 1971، مرجع سابق، ص100، 1001.

9- د.سامي جمال الدين، لوائح الضرورة وضمانة الرقابة القضائية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1977، ص170، 171.

10- د. وجدي ثابت غبريال، القانون الدستوري والنظام الدستوري المصري طبقاً لدستور 1971، مرجع سابق، ص103 .

المؤلف : محمد قاسم الناصر
الكتاب أو المصدر : الحق في سرية المرسلات في بعض النظم الدستورية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .