الحدود القانونية المكتوبة الواردة على سلطة الادارة في حماية الاخلاق العامة

المؤلف : نجيب شكر محمود
الكتاب أو المصدر : سلطة الادارة في حماية الاخلاق العامة واثرها في الحريات العامة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

تتمثل الحدود القانونية المكتوبة في الدستور والتشريع الاعتيادي والاتفاقيات الدولية والتشريع الفرعي.

اولا / الدستور :

تعد القواعد الدستورية في قمة هرم البناء القانوني للدولة وتنشئ الدساتير المختلفة السلطات العامة في الدولة وتنظمها وتحدد اختصاصاتها وكيفية ممارسة هذه الاختصاصات فضلا عن انها تنظم الحريات العامة بمبادى عامة مجردة وتتكفل بارساء اصول الحريات ورسم اطارها وذلك باقامة الهيكل الخارجي الذي تحتمي به الحرية واخيرا فانها تبين الاسس الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم عليها الدولة. ولا تخلو الدساتير من النص على الحريات العامة وان تفاوتت طريقة الاخذ بها او مكان النص عليها فمنها من ينص على الحريات العامة في متونها ومنها من يخصص لها ديباجاتها. واذا كان من المتفق عليه فقها ان الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في متن وثيقة الدستور تتمتع بالقيمة القانونية نفسها المقررة لبقية النصوص الدستورية الموجودة فيها فان ذلك الاتفاق غير متحقق بشأن القيمة القانونية للحقوق والحريات العامة التي ينص عليها في مقدمات الدساتير واعلانات الحقوق فيثور التساؤل عن القيمة القانونية لمقدمات الدساتير واعلانات الحقوق؟ يرى الرأي الراجح في الفقه – بحق – ان لمقدمات الدساتير واعلانات الحقوق نفس القيمة القانونية للنصوص الدستورية كونها صادرة عن ارادة واحدة متمثلة بالسلطة التأسيسية وبالتالي فان على الادارة فضلا عن المشرع ان تلتزم بما ورد فيها من حقوق وحريات(1). ولذلك فان الادارة ملزمة بعدم تجاوز الحدود القانونية التي رسمها الدستور وكفلها للحريات العامة عموما.

ثانيا / التشريع الاعتيادي :

ان التشريع الاعتيادي هو ماتقرره السلطة التشريعية في البلد من تشريعات، ويحتل المرتبة الثانية في سلم تدرج القواعد القانونية في الدولة بعد الدستور. يصدر التشريع بصيغة عامة مجردة ليخاطب الاشخاص بصفاتهم لا بذواتهم محققا بذلك مبدأ المساواة في خضوع الجميع لحكمه من دون تمييز لشخص على اخر او لفئة على اخرى، وهو في ذلك يعمل في الوقت نفسه على حماية حقوق الافراد وحرياتهم العامة بمنع التمييز بينهم على اساس ذواتهم. تكاد الدساتير المقارنة تجمع على عقد مهمة تنظيم الحريات العامة بالتشريع ليكون له الاختصاص الحصري بذلك،وقد يكمل التشريع الدستور فيبين معالم الحرية وتفاصيلها ويعمل على تنظيمها وتحديدها ان الراجح في الفقه ان سلطة المشرع في ذلك تقديرية على ان لايؤدي التنظيم الى الغاء الحرية او الانتقاص منها(2). ان التشريع يعد الاداة الاساسية والرئيسة في تنظيم الحريات العامة التي يقابلها بلاشك تحديد سلطات الادارة ومنها سلطتها في حماية الاخلاق العامة. فلا شك ان التنظيم التشريعي للحرية يشكل قيداً يغل يد الادارة ، ويحد من سلطاتها فالنصوص التشريعية المدونة تمنع الادارة من تجاوزها لسلطتها في مواجهة حقوق الانسان وحرياته الاساسية بحجة حماية الاخلاق العامة مادام خضوعها لتلك الاحكام وعدم الحيد عنها يعد واجبا عليها يترتب على تخلفه وصم اجراءاتها ووسائلها المستخدمة لحماية الاخلاق العامة بالبطلان ويجعلها قابلةً للالغاء(3) .

فوظيفة الادارة التقليدية المتمثلة في وضع التشريعات موضع التنفيذ سواء اكان ذلك عن طريق انظمتها التنفيذية التي ليس لها ان تضيف جديدا الى التشريع او ان تحذف منه جزءا مما اقره ام عن طريق قراراتها الفردية تجعلها مقيدة في كلتا الحالتين بالحدود المذكورة في التشريع دون ان يكون لها الخروج عنها فهي ( — انما تستمد وجودها وقوتها من القانون الذي تصدر تنفيذاً لاحكامه — لانها انما تنبثق من القانون ويتوقف مصيرها عليه وجوداً وعدما(4)) . وعند قيام الادارة بالتدخل في ممارسة الافراد للحريات العامة في سبيل حماية الاخلاق العامة للمجتمع يجب عليها مراعاة ان يكون التدخل بالقدر الضروري اللازم بما يحقق التوازن بين واجب الادارة في حماية الاخلاق العامة وواجبها ايضا في احترام الحريات العامة ورعايتها .

ونلحظ في ثنايا العديد من التشريعات انها تتضمن قيودا واردة على الادارة عند ممارستها لاختصاصاتها في التدخل بممارسة الحريات العامة ومن ذلك في العراق مثلا: قانون المطبوعات رقم (206) لسنة 1968 وان اوجب الحصول على ترخيص لا صدار مطبوع معين من الوزير المختص الا انه اوجب كذلك على الاخير ايضا البت في الطلب المقدم اليه خلال شهر من تاريخ تسجيله ويعد المطبوع مجازا بانتهائها في حالة عدم رفضه له(5)،كما انه اجاز للوزير تعطيل المطبوع الدوري الا انه قيد صلاحيته في حالات محددة في القانون ذاته من بينها نشره مايشكل انتهاكا لحرمة الاداب والقيم الخلقية العامة(6)،وحتى في هذه الحالة نجد ان المشرع لم يطلق يد الوزير بل جعلها مقيدة باستخدام جزاء اداري واحد لاتتعداه وهو التعطيل في حالة نشر المطبوع لامور مخالفة للاخلاق العامة للمجتمع في حين اجاز للوزير في حالات اخرى الغاء اجازة المطبوع(7).

ثالثا /الاتفاقيات والمعاهدات الدولية:

تعد المعاهدات الدولية الوسيلة الرئيسة لتنظيم العلاقات في مختلف المجالات بين الدول وتشكل مصدرا مهما من مصادر المشروعية التي على الادارة كذلك ان تخضع لاحكامها اذ ان مصادقة الدولة عليها او انضمامها اليها او توقيعها عليها واتمام الاجراءات المحددة في دستور كل دولة تجعلها قانونا محددا لسلطة الادارة في ادائها لمهامها وواجباتها ومنها واجبها في حماية الاخلاق العامة حالها في ذلك حال الدستور والتشريع كونها اصبحت جزءاً من النظام القانوني للدولةً(8). ومايهمنا في هذا المجال من البحث هو المعاهدات الدولية التي تقرر ضمانات للحريات العامة وتضع اغلالا على سلطة الادارة في حماية الاخلاق العامة وتجعلها مكبلة بمضامينها ومقيدة بنصوصها. ولا يخفى ان المعاهدات الدولية قد تكون معاهدات ثنائية تعقد بين طرفين او معاهدات متعددة الاطراف وهذا ماثبت باستقراء المعاهدات المعقودة بين الدول عموما. كما يمكن تقسيمها باعتبار موضوعها الى معاهدات عامة – تتناول بالمعالجة والتنظيم حقوق الانسان وحرياته الاساسية بمختلف صورها وتعدد اشكالها ، والاقرار بها لكل انسان والتي تعد بمثابة الشريعة العامة للحقوق الانسانية ، ويدخل في صنفها ميثاق الامم المتحدة لعام 1945،والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 ، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966 ، والى معاهدات خاصة ، تخص بالعناية انساناً معيناً كالطفل او الشيخ او المرأة ،او تختص بمعالجة حقوق وحريات محددة ، كحق العمل وحرمة التعذيب . ولكن هل يمكن للمعاهدات الدولية ان تضع حدودا على سلطات الادارة بحيث ان تجاوزها في القرارات المتخذة من قبلها يؤدي الى جعلها قابلة للالغاء من القضاء ،وبعبارة اخرى هل للادارة ان تستند مباشرة الى النصوص المذكورة في المعاهدات الدولية لتستقي منها سلطاتها وملتزمة بالحدود التي تغل سلطة الادارة في حماية الاخلاق العامة او هل للقضاء ان يستند مباشرة الى النصوص المذكورة في المعاهدات الدولية ليراقب مدى التزام الادارة بالحدود المقررة في المعاهدات الدولية؟

ان الاجابة عن هذا التساؤل ليست واحدة في جميع الدول فنجد ان بعضها يسمح بذلك بحيث تكون المعاهدات الدولية بمجرد التصديق عليها او الانضمام اليها جزءا من النظام القانوني للدولة دون الحاجة الى السير باجراءات تشريعية معينة ومن ثم فان للادارة الاستناد الى احكامها عند ممارستها لسلطاتها كما عليها ان تلتزم بالحدود المقررة فيها(9)

في حين نجد قسما اخر يذهب الى ان المعاهدات الدولية لاتكون قابلة للتطبيق في النظام القانوني للدولة ولايمكن الاستناد اليها من الادارة او القضاء الا عن طريق اصدار تشريع يدمج ويدون احكام المعاهدة في القانون الوطني ويجعلها واجبة النفاذ فيه ومن امثلة الدول التي تاخذ بهذا النهج مصر(10). وجمهورية العراق. … لسلطة الادارة في حماية الاخلاق العامة المرتبة التي تشغلها المعاهدات الدولية في سلم التدرج القانوني في الدولة … . ولكن في جميع الاحوال نشير الى ان ضم المعاهدة الدولية الى النظام القانوني للدولة قد يوجد تعارضا بين الاحكام الواردة فيها وبين الاحكام الواردة في التشريعات النافذة في الدولة ومن ثم يثور التساؤل عن القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة اهو الحكم الوارد في المعاهدة الدولية ام الحكم الوارد في التشريع ؟ الراجح ان يكون الحكم الوارد لاحقا هو الواجب التطبيق سواء أكان واردا في التشريع الوطني ام في المعاهدة الدولية على وفق قاعدة (اللاحق ينسخ السابق(11)). وعموما نقول ان تنفيذ الادارة للاحكام الواردة في المعاهدة الدولية سواء تعلقت بسلطاتها او حدودها قد يكون تلقائيا او عن طريق تدخلها بالنسبة للاحكام التي تحتاج مثل ذلك التدخل ومن الممكن ان يكون تدخلها في ذلك عن طريق اصدار القرارات الادارية التنظيمية. وبعبارة اخرى ان المعاهدات الدولية تعد قانونا واجب التطبيق حالها حال القوانين الوطنية ومن ثم فان الاحكام الواردة في المعاهدات تعد حدودا على سلطات الادارة في حماية الاخلاق العامة،كونها ملزمة بتطبيقها والنزول عند مقتضيات احكامها

رابعا / التشريع الفرعي (القرارات الادارية التنظيمية):

لا يمكن للدستور او التشريع ان يقوم بتنظيم الحريات العامة تنظيما مفصلا يحوي مختلف حالات الاخلال بالنظام العام عموما والاخلاق العامة خصوصا فينهض دور القرارات الادارية التنظيمية للقيام بذلك وهو دور وان كان لايمكن له ان يصل الى مرحلة الكمال الا انه في الاقل يعد مؤثرا في تنظيم الحريات وقادرا على الاستجابة لمتطلبات التغيير بصورة اسرع واكثر مرونة.

وتعد القرارات الادارية التنظيمية تشريعا على وفق المعيار الموضوعي لكونها متضمنة لقواعد عامة مجردة الا انها تبقى محتفظة بصفة القرارات الادارية على وفق المعيار الشكلي ،وعند اصدار الادارة لتلك القرارات التنظيمية فانها تعد ملزمة بتطبيقها ولحين الغائها او تعديلها من قبلها ومن ثم فانها لاتخضع عند اصدارها لقراراتها الفردية للقواعد القانونية الصادرة عن غيرها فقط بل انها تخضع كذلك الى القواعد الصادرة عنها بشكل قواعد عامة مجردة وهو مايصطلح على تسميتها(القرارات الادارية التنظيمية) باعتبار انها عند اصدارها لها تتجه الى احداث اثار قانونية والزام غيرها بمضمونها فيكون من باب اولى ان تلتزم هي نفسها بها فتكون قراراتها الادارية الفردية قابلة للالغاء عند مخالفتها لقراراتها الادارية التنظيمية.

___________________

1- انظر في تفصيل ذلك والاراء التي قيلت فيه د. فاروق احمد خماس – الرقابة على اعمال الادارة – دار الكتب للطباعة والنشر – الموصل – 1988 – ص 16-19،د. محمد عبد الحميد ابو زيد – مبدأ المشروعية وضمان تطبيقه – دراسة مقارنة – النسر الذهبي للطباعة – القاهرة – 2002 – ص39-40،د. سعاد الشرقاوي – نسبية الحريات العامة وانعكاساتها على التنظيم القانوني- المصدر السابق- ص124-126 ، د.احسان المفرجي– د.رعد الجدة –د.كطران زغير نعمة– النظرية العامة للقانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق -تاليف مشترك – جامعة بغداد- كلية القانون- 1990- ص241-242،ازهار عبد الكريم عبد الوهاب- طبيعة مقدمات الدساتير والمواثيق الوطنية ( دراسة دستورية مقارنة)- اطروحة دكتوراه – كلية القانون – جامعة بغداد – 1998- ص62- 78.

2- انظر المبحث الرابع من الفصل الثالث.

3- د. بدران ابو العينين بدران – القضاء الاداري – الفكر العربي – القاهرة -1995 – ص20-21، د. رأفت فودة – مصادر المشروعية الادارية ومنحنياتها(دراسة مقارنة) – دار النهضة العربية – القاهرة – 1994- ص75.

4- انظر حكم محكمة الادارية العليا المصرية (القضية 1571 لسنة 7 ق في 17-12-1966) السنة 12 ، ص395.

5- انظر المادة ( السابعة / أ) من القانون – منشور في جريدة الوقائع العراقية العدد (1677)في 5/1/ 1969.

6- انظر المادتين (السادسة عشرة والثالثة والعشرين)من القانون .

7- انظر المادة(السابعة والعشرون ) من القانون.

8- د. صالح ابراهيم احمد المتيوتي – رقابة القضاء على مخالفة القانون في القرار الاداري – رسالة دكتوراه – كلية القانون – جامعة الموصل – 2000-ص44 ، انور عارف عبد الكريم سمارة -القرارات الادارية المنعدمة في القضاء الاردني – رسالة ماجستير – كلية الدراسات العليا – الجامعة الاردنية- 1993 – ص10.

9- مثل الولايات المتحدة الامريكية التي تنص المادة ( 6)من دستورها على ان (… هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي ستصدر فيما بعد طبقا له ، وجميع المعاهدات المبرمة او التي ستبرم تحت سلطة الولايات المتحدة ستكون القانون الاعلى في البلاد …) وفي الغالب ان ذلك يقتصر على المعاهدات التي تقرر حقوقا معينة للانسان مثل حقه في الحياة وغير ذلك من الحريات الاساسية التي يتمتع بها مباشرة دون الحاجة الى تدخل تشريعي.

10- د. ابراهيم العناني – القانون الدولي العام – دار النهضة العربية – القاهرة – 1994 – ص222-223 ،واذا لم يتضمن الدستور او القانون حكما بخصوص وقت نفاذها فانها ايضا تكون نافذة من تاريخ المصادقة عليها ونشرها كي يتحقق العلم بها وتضفي عليها طابع القانون الملزم للافراد والسلطات الداخلية ،انظر د. علي صادق ابو هيف – القانون الدولي العام – منشاة المعارف –الاسكندرية –سنة الطبع غير مذكورة – ص498-499.

11- ففي فرنسا مثلا ومنذ حكم ( NICOLO) عام 1989 فقد تبنى مجلس الدولة الفرنسي وجهة نظر مفوض الحكومة ( FRYDMAN) القائل بمبدأ سمو المعاهدة على القانون وبغض النظر عن كون القانون سابقا على المعاهدة او لاحقا عليها – انظر في تفصيل ذلك د. رأفت فودة – مصادر المشروعية الادارية ومنحنياتها(دراسة مقارنة) – دار النهضة العربية – القاهرة – 1994 ص93 .