دراسة وبحث كبير عن الأطفال المهمشون قضاياهم وحقوقهم

= د. رجاء ناجي

تولي المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة عناية خاصة للطفل، باعتبار أن حسن إعداد الطفل، وتربيته التربية الصالحة، هما خير وسيلة لتحقيق التقدم والرقي والنماء والازدهار في الحاضر والمستقبل. وانطلاقاً من الاقتناع بهذه الحقيقة التي تؤكدها عبرةُ التاريخ وتجربةُ الواقع، فقد أفردت المنظمة الإسلامية للأطفال في خطط عملها المتتابعة، برامج عديدة تهدف إلى تطوير معارفهم، وإلى تنمية مواهبهم في رحاب الثقافة الإسلامية. كما أنها اعتنت بإعداد الدراسات والبحوث المتعلقة بالطفل، من حيث التعريف بحاجاته ومشكلاته في البيئات المختلفة التي يعيش فيها، ومن حيث توجيه المجتمع إلى حسن تربيته والعناية به.

ويتناول هذا الكتاب الأطفال المهمشون: قضاياهم وحقوقهم]، بالبحث والدراسة، الحقوقَ الشرعية والقانونية لهؤلاء الأطفال، ويقدم الحلول العملية الكفيلة بتخفيف المعاناة عنهم في حياتهم التي يشقون بها، والتي فرض عليهم فيها أن يعيشوا على هامش الحياة العامة في مجتمعاتهم.

ويسعد المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، أن تقدم هذا الكتاب ضمن سلسلة الكتب التي تصدرها عن شؤون الطفل، هادفةً من وراء إصدار هذا الكتاب، إلى إبراز تعاليم الدين الإسلامي الحنيف التي تحثّ على رعاية الطفل وتحضّ على العناية به، وتحفظ له حقوقه الكاملة، والتي تتضمّن الدعوة إلى التراحم والتعاون، وتوجّه نحو تنشئة الطفل في مناخ يسوده العطف الاجتماعي، وفي جوٍّ عائلي تكتنفه الرأفة وتسوده الرحمة، حمايةً للأطفال من التشرد والجنوح، وانقاذاً لهم من السقوط والضياع.

وتقدم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الشكر للمؤلفة الأستاذة رجاء ناجي التي قامت بإعداد هذا الكتاب القيم، وتسأل الله تعالى أن يوفقنا في خدمة أجيال أمتنا.

الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري

المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة

مقدمة

من هو الطفل: يقال الطِّفْل ويقصد به الناعم الرخص من كل شيء. من ثم فالطفل في الإنسان هو صغيره الذي لم يشتد عوده. والطفولة هي مرحلة من عمر الإنسان ما بين ولادته إلى أن يصير بالغا مكتملا قادرا…

وفي العلوم القانونية عادة ما يستعمل لفظ الحَدَث كبديل عن الطفل. ومع أن الحدث يرادف لغويا الشاب، فإنه في لغة القانون أخذ معنى اصطلاحيا آخر له علاقة وطيدة بالجنوح. لذلك بمجرد أن نتلفظ بعبارة الحدث، يتبادر للذهن الطفل أو اليافع المهمل اجتماعياً، أي المهمش.

متى تنتهي الطفولة: تلزم الإشارة إلى أن هذه النقطة بالذات ظلت على مدى الأزمان غير محددة بدقة. بحيث أعطي لتعريف الطفولة معنى واسعٌ وغير محدد، بشكل لم تُعرَف معه نهايتها الدقيقة، إلى أن أصدرت هيئة الأمم المتحدة اتفاقية حقوق الطفل المؤرخة في 20 نوفمبر 1989م، حيث عرفت الطفل بأنه >كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ الرشد بموجب القانون المطبق عليه<.

من ثم يبدو أن لفظ الطفولة يستوعب كل المراحل التي يقطعها الإنسان منذ ولادته إلى أن يصل سن الرشد. أي وهو صبي، يافع، شاب…

ونحن في هذا البحث، عندما سنستعمل عبارة الطفل والطفولة سنحملهما المعنى ذاته، لكن بنوع من التحفظ. على اعتبار أن بعض الأطفال يخرجون من مرحلة الطفولة قبل الأوان، بمقتضى الترشيد، كما أنهم قد لا يخرجون منها لأسباب مختلفة منها تأخر النمو الفكري والجسدي.

الطفل رجل المستقبل: عندما نقول >طفل< نقول تلقائيا >رجل الغد<. من هنا يأتي المثل السائد: >داخل كل طفل يوجد رجل مستقبل<. ومعنى هذا أن الطفولة تقتضي عناية خاصة وحماية قانونية زائدة، إن أردنا فعلا أن نكوِّن نساءً ورجالا صالحين. فحسن تكوين وتربية الطفل ليست قضية الطفل المعني فحسب وإنما قضية المجتمع الذي سينصهر فيه و قضية الأمة بكاملها.

لذلك فكل الطاقات الفاعلة ملزمة بأن تسهم في توفير الجو الملائم لحسن تربية وتكوين النشء وتهييئه لمواجهة الحياة. ويأتي التشريع في المقام الأول، لأنه بدون إجبار قانوني لا يلتزم الكبار باحترام الواجبات الملقاة على عاتقهم تجاه الصغار.

على رأس الحقوق التي يجب الاعتراف بها للطفل وحمايتها الحق في أن يعيش طفولة طبيعية، في حضن أسرة توفر له الرعاية و الدفء. فالبالغ يمكنه الاستغناء عن باقي أفراد الأسرة، أما الصغير إن أُبْعِدَ عنها تعرض لكل المخاطر المتصورة، المادية والمعنوية والنفسية.

وحتى عهد قريب لم يكن الطفل يشكل موضوعا مؤرِّقا، ولا الناس كانوا يهتمون بحقوقه وواجبات المجتمع تجاهه. لكن مع تعقد الحياة الاجتماعية، تبعا لتحولات نمط الحياة، تفاقمت قضايا الطفل وبات يشكل خطرا على نفسه وعلى المجتمع، كما أضحى محل اعتداءات حتى من أقربائه. ومع الأيام تعقدت الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية التي يؤدي إليها تهميش الأطفال. وزاد الأمر خطورة بالمجتمعات التي لم تمنحِ الموضوع ما يستحقه من عناية.

فكان أن ظهرت في المجتمعات المتقدمة بالخصوص، مدارس علم الإجرام مرتكزة على قواعد علم حديث يعتمد التجربة والإحصاء ورصد الظواهر. فتأكد أن عدم الاعتناء بالطفل في ظل المتغيرات الحديثة، يحوله إلى مصدر للخطر على نفسه وعلى غيره. وتأكد أيضا أن الطفل غير السوي يحتاج للعلاج، للرعاية، لإعادة التأهيل….

ثم توالت الاجتهادات في الموضوع، واتسعت ـ موازاة مع ذلك ـ، لوائح حقوق الطفل.

فصدر عن هيئة الأمم المتحدة، التصريح العالمي لحقوق الطفل في20 نوفمبر 1959م، الذي ما فتئ أن أبان عن عدم كفايته، مما استعجل صياغة اتفاقية حقوق الطفل في 20 نوفمبر1989م. ثم تخللتهما وتلتهما اتفاقات جزئية تهم جوانب خاصة من حقوقه منها إعلان حقوق الطفل المعاق 1969م، تصريح نيويرك 20 ديسمبر1971م بشأن حقوق المعاق ذهنيا، ثم تُوِّج كل ذلك بجعل سنة 1981م سنة للمعاق… كما صدرت اتفاقية لاهاي في 29 ماي 1993م بشأن حقوق الطفل المُتَبنَّى….

أما الإسلام فكان أسبق من غيره للعناية بالطفل و تسخير كل الطاقات لتوفير حياة متوازنة، قادرة على إعداد رجل مستقبل سوي صالح. كما سنعرف ببعضها لاحقا.

فكيف إذن في ظل شريعة تدعو للعناية بالطفل وتهيِّئ له كل الظروف العاطفية والمادية ليعيش حياة كريمة، و في ظل قانون وضعي يدعو بإلحاح للاهتمام بالطفل طاقة المستقبل، تتحول جيوش من صغار السن في العالم الإسلامي بأسره إلى فئات مهمشة لا تستفيد من الحقوق التي أقرها الشرع، ولا تلك التي استلهمها مُعدُّو القوانين الوضعية من عدالة السماء؟

ما هي أسباب انتشار ظاهرة الأطفال المهمشين وعوامل ارتفاع أعدادهم؟ وما هي الحقوق التي تضمنها المجتمعات الإسلامية عمليا، لفتيانها وفتياتها؟ وما مدى فعالية هذه الحقوق؟ هل يحتاج الوضع لحلول إضافية غير تلك التي اقتُرحت وطبقت حتى الآن، أم أن الطفولة المحرومة قَدَرٌ لا يمكن التهرب منه؟

منْ هُم الأطفال المهمشون

من خلال التسميات الكثيرة التي أدرجناها حتى الآن: أطفال محرومون، مهمشون، مهملون اجتماعيا، غير مندمجين… يبدو جليا أننا نقصد بدراستنا كل الأطفال من أي سن كانوا ـ قبل الرشد ـ يعانون من الحرمان أو عدم الاستقرار النفسي أو العائلي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي….

فعلامات التكَيُّف أو الاندماج تختلف حسب المرحلة التي يجتازها الصغير: إذ تأخذ شكل إقبال على الحياة بما يناسبها عادة، كالإقبال على اللعب والتعلم، عدم رفض الالتزام اليومي بالتمدرس، الاستمرار فيه، نمو التفكير والذكاء، التجاوب، تقبل نواميس الحياة الاجتماعية….

بالمقابل فالتهميش يأخذ شكل حرمان من الطفولة ومن مباهجها، حرمان من التربية والتمدرس أو حرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة… ثم يأخذ عدم التكيف عدة أبعاد تختلف بحسب السن والجنس… إذ قد يترجم إلى عزوف عن الدراسة أو رسوب، أو هروب من المدرسة لينتهي الأمر في جل الحالات إلى انقطاع تام عنها، وقد يأخذ شكل عصيان لأوامر الأسرة أو الأشخاص المسؤولين عن الطفل… ويصل التمرد مداه عندما يوجه نحو النفس أو نحو المجتمع بكامله، في صورة تعاط للمخدرات، أو عنف ضد الأطفال الآخرين، أو سطو وانضمام لعصابات إجرامية، أو ممارسة الدعارة… ومع التقدم في السن يتقن الطفل عديدا من وسائل الإجرام فيرشَّح لأن يصبح جانحا محترفا، إذا لم يجد منقذا في أي مرحلة من المراحل الصعبة التي يجتازها.

من ثم فإننا سنقوم بحصر فئات الأطفال المهمشين في المجتمع نتيجة أسباب مختلفة، ليقيننا بأنها الطريقة المثلى للتعريف بالطفل المهمش. ونحدد هذه الفئات فيما يلي: الأطفال الأيتام، الفقراء، المعوقون، غير المتمدرسين، المشردون، النازحون، اللاجئون، الممزقون عائليا، الأطفال غير الشرعيين، المتكفل بهم، الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني…(أطفال الأنابيب).

أولا: الأطفال الأيتام

نقصد بالطفل اليتيم كل طفل فَقَدَ أحد والديه أو كليهما. والمجتمعات الإسلامية تعُج بالأيتام وأعدادهم في تزايد مستمر بسبب ارتفاع أسباب الوفاة التي تمس البالغين بالخصوص، بعد أن انضافت عوامل حديثة للعوامل التقليدية لوفيات الكبار، كما سنبينه.

ومن المؤكد أن الطفل اليتيم كان، في ظل المجتمعات الإسلامية التقليدية، يجد السند عادة في أفراد عائلته. أما مع تحولات الحياة الاجتماعية، فحصل تضييق للأسرة وتباعد بين الأقارب، حتى أضحى مستحيلا تخيل وجود متكفل بالأيتام من بين أولئك.

ومع أن الملاجئ تحاول التخفيف من حجم الأزمة إلا أنها لا تستوعب جميع الأيتام ولا تشبع كل حاجاتهم، كما أنها لا تغطي كافة المناطق. بهذه الطريقة أضحى مصير اليتيم مهددا، بحيث لا يجد في حالات كثيرة عائلا، أو لا يجد مأوى سوى الشارع، بكل ما يرافقه من مخاطر. من ثم أضحى اليُتم أحد عوامل التهميش والإهمال وربما التشرد.

ثانيا: الأطفال الفقراء

الفقرآفة بغيضة ومنتشرة بجل الأقطار الإسلامية. وهي ظاهرة تستوي فيها الدول التي انتهجت الرأسمالية وتلك التي اختارت الاشتراكية. مما يدل على أن العيب لا يكمن في نظام أو آخر بقدر ما يكمن في سياسات التنمية المنتهجة حتى الآن بجل الأقطار. وأن التفاوت المهول بين الفئات الاجتماعية قد أفرز شرائح، ما تزال في تزايد مستمر، من الفقراء والذين يعيشون تحت عتبة الفقر.

وغني عن البيان أن أكثر المتضررين من الفقر هم الأطفال، الذين يحرمون بسببه من أبسط الحقوق والحماية. فيضطرون عادة إما لمغادرة المدارس مبكرا أو لعدم ولوجها من الأساس. كما يضطرون لبدء العمل وهم في سن اللعب وعودهم ما يزال غضًّا طرياً، أو يضطرون للتسول والتشرد والجنوح… ولعل هذا يكفي لبيان الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية للفقر.

ومن الثابت أن معظم الأطفال المحالين على العدالة ينتمون للفئات الاجتماعية الأقل حظا، وأن الأفعال المرتكبة من قبلهم هي في الغالب أعمال سطو أو سرقات، الغاية منها الحصول على مصدر للعيش، بدافع الفاقة.

ثالثا: الأطفال المعاقون

>إن لفظ معاق يدل على كل شخص لا يملك القدرة على أن يضطلع بمفرده بكامل أو بعض متطلبات حياة شخصية أو اجتماعية طبيعية. وذلك بسبب نقص خلقي أو غيره، في قدرته الجسمية أو الذهنية<. هذا التعريف تبنته هيئة الأمم المتحدة في إعلان 1969م لحقوق الطفل المعاق (م1).

فالإعاقة قد تكون عقلية أو جسدية أو حسية كما تكون ولادية أو مكتسبة، ولكل منها أسبابها. والنتيجة أن الإعاقة تحد كثيرا من طاقات الطفل وتحُول دون اكتمال خِلقته أو اكتمال تكوينه الجسدي أو العقلي أو النفسي. فينتهي به المطاف للتهميش والحرمان من حظوظ الطفل السوي المتمتع بالظروف الطبيعية للنمو والرفاه و الاندماج والإنتاج….

رابعا: الأطفال غير المتمدرسين

مما يؤسف له أن العالم الإسلامي، كما سنؤكد بالأرقام، يعاني من أعلى نسب الأمية، مقارنة مع باقي دول العالم الثالث. وما زال حتى الآن عديد من أطفاله البالغين سن التمدرس لا يلجون المدارس من الأساس أو يغادرونها بعد وقت وجيز جدا، خاصة بالبوادي والمناطق النائية، ولاسيما الإناث.

وإذا كان الكل يتفق على أن المجتمعات الحالية هي بصدد الانتقال من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة العلم والتكنولوجيا، فالنتيجة الحتمية أن كل شخص لم يتسلح بالعلم مآله أن يعيش على هامش الحياة طوال عمره. ومعلوم كذلك أن الطفل المتمدرس يقضي جل أوقاته محروسا داخل المدرسة، مما يحصنه ضد الارتماء في أحضان الشوارع بكل ما يكتنفها من مخاطر.

ومن المؤكد أيضا أن المدرسة تُؤَمِّن للطفل نصيبا من التربية و التعليم يمكنانه من الفهم والإدراك والاندماج ومواجهة المستقبل، ويحميانه من الانحراف نسبيا. كما أن برامج التعليم عادة ما تُرفَق بأنشطة موازية يُفرِغ فيها الطفل طاقاته المشحونة، فيتخلص بهذه الوسيلة من شرور الكبت والضغط النفسي الناتج عن رفض عديد من النواميس أو عن صراع الأجيال.

خامسا: الأطفال المشردون

التشرد ظاهرة حديثة أفرزها التقدم الصناعي و ما رافقه من تحولات اجتماعية وتمركز في المدن الكبرى ونشوء أحياء عشوائية وبيئات غير سليمة، ومن أزمات اقتصادية، كالبطالة وانخفاض الدخل….

وإذا كانت الدول المتقدمة قد استيقظت مبكرا على ظاهرة التشرد وحاولت معالجتها بكافة الوسائل، فمشكلة المجتمعات الإسلامية تبدو أكثر خطورة، لكونها ما زالت تنظر للمشرَّد بلامسؤولية ولا وعي أو إدراك لخطورته على نفسه وعلى المجتمع، وبدون تفهم لأوضاعه.

والطفل المشرد لا تكفي في حقه عبارات >مهمل أو مهمش أو غير سوي أو غير متكيف<، لأن وضعه في الواقع أخطر من ذلك بكثير. فهو يشكل في البداية خطرا على نفسه ومستقبله، وعندما يزداد إتقانه للجنوح والإجرام يتحول إلى خطر على المجتمع ككل. ومعلوم أن التشرد يرافقه عادة التمرد على الضوابط الاجتماعية والقانونية. وهو يقترن في الأذهان بالتسول وتعاطي المخدرات والانحراف وتعلُّم وسائل الإجرام المحترَف….

سادسا: الأطفال النازحون

إن التشرد قد يكون من نتائج النزوح أيضا، إنما هذا الأخير له آثار أخرى بنفس الخطورة، لذلك يجب إفراد حيز له. والنزوح أو الهجرة قد يكون داخليا، انطلاقا من نقطة معينة، في اتجاه نقطة أخرى بحثا عن الاستقرار و الطمأنينة و مصدر الرزق، وقد يكون من دولة لأخرى. وأسبابه مختلفة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية:….

فالمثال التقليدي للأسباب الاقتصادية ـ الاجتماعية، الهجرة من القرى في اتجاه المدن. وهي الظاهرة التي لا تسلم منها نقطة في العالم، إنما خطرها يزداد حدة في الدول النامية عنه في الدول المتقدمة. ومن المعلوم أن الطفل يعاني أكثر من غيره عند تغيير محيطه الاجتماعي.

وتأخذ مظاهر عدم التكيف شكل عدم الاندماج في الوسط الحضري، أو صورة انبهار أو رفض لنمط الحياة الجديد أو صعوبة تقبل ثقافة المنطقة المضيفة. ويقترن النزوح عادة بالعجز المادي، بسوء المسكن وببؤس العيش. لذلك يبدو أن مختلف أسباب ومظاهر اللاتكيف تتضافر هنا.

مثال آخر للنزوح ويتمثل في الهجرة نحو الدول المصنعة، بحثا عن العمل. وغني عن البيان أن الاختلاف العقائدي والثقافي والاختلاف في نمط الحياة كثيرا ما يخلق لدى الطفل تمزقا في تكوينه. فهو عادة لا يحتفظ بهويته الثقافية الأصلية، ولا هو يستسلم بالكامل للثقافة الأجنبية، مما يمزق هويته الثقافية والعقائدية، ويعرضه للتهميش(1).

أما العوامل السياسية فتتلخص عادة في الحروب و التطاحنات الداخلية أو المتعددة الأطراف. ولن نحتاج لتمحيص كبير كي نستخلص أن الحروب والنعرات العرقية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة كان معظمها بالجنوب، وجزء كبير منها بالدول الإسلامية أو بها أطراف مسلمة. ويكفي التمثيل بقضية فلسطين، جنوب لبنان، أزمة الجزائر، الصومال، أفغانستان، البوسنة والهرسك، أزمة ألبانيا، أزمة إقليم كشمير الهندي، إقليم كاراباخ… إلى جانب حرب الخليج التي ما زالت آثارها باديةً للعيان. وقد نقلت لنا وسائل الإعلام صورا مفجعة عن نزوح ملايين الأبرياء من الأطفال والعاجزين، بحثا عن الأمن أو وسيلة للعيش. ناهيك عما خلفته وتخلفه من الأيتام والمشردين والمعاقين….

وفي جميع الحالات وأيا كان سبب الهجرة أو النزوح الجماعي، فالذي يؤدي أكبر الثمن هو الطفل. يؤديه على شكل اقتلاع له من وسطه المألوف وحرمان من الاستقرار وحَمْله نحو اللا تكيف مع الثقافة الجديدة. ويؤديه أيضا في صورة حرمان من القوت والاستقرار، ومن الدراسة….

سابعا: الأطفال اللاجئون

هناك معاناة مشتركة بين هذه الفئة والسابقة، وهي الحرمان من الاستقرار. إنما الذي يميز هذه هو الحرمان حتى من حق المواطنة. بحيث في ظل ظروف سياسية بالمقام الأول، واجتماعية، تضطر فئات كبيرة من سكان دول الجنوب للنزوح عن موطنهم الأصلي ومغادرة أوطانهم بحثا عن مكان آمن، وفرارا من حروب عرقية أو أهلية أو نزاعات داخلية، أو إجلاء لهم لطوارىء محتملة… وغير ذلك من الأسباب والعوامل التي تجبر المواطنين على اللجوء إلى الدول المجاورة أو الدول الأخرى.

ومعلوم أن العالم يعج بملايين اللاجئين، جلهم من الجنوب. ومعلوم هنا أيضا أن أكبر المتضررين من اللجوء السياسي أو غيره هم الأطفال، الذين ـ بحكم تغيير الإقامة ـ يجدون أنفسهم فجأة في حضن ثقافة غريبة عنهم يصعب عليهم التعايش معها. كما أن ظروف اللجوء عادة ما تكون مزرية، غير موفرة لأبسط شروط الحياة الكريمة. فكيف يمكن لطفولة مثل هذه ألا تكون محرومة اقتصاديا، لامتكيفة اجتماعيا، غير مؤهلة للمواطنة الصالحة مستقبلا؟.

ثامنا: الأطفال الممزقون عائليا

تمزق العلاقات الأسرية قد يكون نتيجة وفاة أحد الأبوين أو كليهما، أو نتيجة انفصام الزوجية بسبب طلاق أو بسبب الهجر والإيلاء أو استحكام الخلاف بين الزوجين. وفي جميع الحالات فالظروف المعيشية تتحول غالبا إلى جحيم تذوب فيه علاقات المودة والتعاطف والتكامل والاستقرار التي من أجلها شُرِّع الزواج. وبالتالي فحياة الطفل التي ميزتها الطبيعية بالبراءة والصفاء تتحول إلى عذاب، إلى حرمان من أبسط الحقوق، لتنتهي رحلة العذاب هذه عادة إلى أزمات نفسية واجتماعية….

فمعلوم أن نسب الطلاق والانفصال والخلافات آخذة في التفاقم في المجتمعات الإسلامية، نظرا للتحولات الاجتماعية ـ الاقتصادية، وما يرافقها من صراع بين الثقافات، صراع يزداد حدة في الزيجات المختلطة.

والطفل في الماضي كان يجد السند والدعم لدى أفراد أسرته ولدى المحسنين في المجتمع، أما مع تعقد الحياة الاجتماعية وضَنك العيش، وتغلب الحياة المادية على الحياة الروحية، فأضحى الطفل الممزق عائليا لا يجد له من ملاذ سوى الشارع، يحتضنه، يتكفل به ليتعلم في ثناياه كل السلوكات الخطيرة والمهدِّدة لطفولته البريئة ولمستقبله، والمهدِّدة للمجتمع، عندما ينتقل الطفل من براءة الطفولة إلى الجنوح والتشرد….

تاسعا: الأطفال غير الشرعيين (1)

هذه الظاهرة ليست جديدة، إنما الجديد فيها تفاحشها المهول ببعض المجتمعات الإسلامية. فأسبابها التقليدية ما زالت قائمة، وانضافت لها أسباب أخرى حديثة، مردُّها الانفتـاح اللامحدود الذي يصل أحيانا حد الانحلال، وتزايد جرائم العرض والاغتصاب… وزاد الأمر حدة مع الأزمات الاقتصادية وتفاحش المادية، عندما اضطرت عديد من الفتيات لبيع أعراضهن إما لكسب لقمة العيش أو للبحث عن الثراء والرفاهية….

وبديهي أن الإسلام يعتبر الزواج المجال الشرعي للتناسل. ويلحق بالزواج الإقرار بالبنوة، كوسيلة لإلحاق النسب، إذا توفرت شروطه و لم يكذِّبه عقلٌ أو عادة، كما سنبين لاحقا. لذلك فكل طفل وُلد خارج هذا الإطار يُعدُّ غير شرعي. وإذا كان أول حق للطفل هو الحق في الانتساب لأسرة، فالطفل غير الشرعي يأتي للدنيا محروما حتى من هذا الحق، محروما من أبٍ شرعي يمنحه نسبه، ومن العائل وربما أيضا من الحاضن. فعادة ترك هؤلاء الأطفال بالأماكن العمومية، أو المستشفيات معروف لدى الجميع بما يغنينا عن الإثبات.

إنما النتيجة الحتمية، مهما اختلفت الظروف، أن الطفل غير الشرعي ينمو عادة عاجزا عن التكيف مع المجتمع، بسبب ما يعانيه من أزمات نفسية ـ اجتماعية ومادية، أزمات تنعكس على حقه في التعليم والاستقرار… وفي النهاية قد لا يجد له من مأوى سوى الشارع، يتعلم فيه كيف يتمرد على المجتمع. فيترجَم كل ذلك إلى سلوك منافٍ للقيم المتعارَف عليها. ويلتحق بآلاف الأطفال الذين تجمعهم ظروف واحدة، هي الإهمال من طرف مجتمعهم.

عاشرا: الأطفال المتكفل بهم (المتبنون)

إن لائحة الأطفال المعددة أعلاه قد يجمعها أحيانا قاسم مشترك وهو الإبعاد عن الأسرة الحقيقية. والمحظوظون منهم قد يجدون أسرة أخرى تتكفل بهم. إنما السؤال هو هل فعلا يندمجون في أسرهم المستعارة، وهل يتحقق لهم بالفعل كل ما يتحقق للطفل في الظروف الطبيعية؟.

الجواب السطحي سيكون هو الإيجاب. أما التحليل المعمق فيبين أن عديدا من الأطفال المتبَنّين أو المُنزَّلين أو المتَكَفَّل بهم يتعرضون بدورهم لأصناف من المعاناة. ذلك أن الطفل >المتبنَّى< عادة لا يحمل اسم الأسرة التي تكفلت به. وعندما يبدأ في إدراك بعض الأمور لا يلبث أن يطلع على واقعه المُرّ، فيعرف أنه ليس ابنا حقيقيا للأسرة التي >ينتسب< لها. ولا يخفى مقدار ما يثيره ذلك من صدمات، تهدد مستقبل الطفل المتبنَّى… ناهيك عن معاناته من نظرة الاحتقار التي ينظر بها المجتمع للطفل المتبنَّى عموما، معتبرا إياه دائما ابن زنى، مع أنه قد لا يكون كذلك….

حادي عشر: الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني (أطفال الأنابيب)

وكأن العالم لم تَكفِه الأفواج الضخمة للأطفال غير الشرعيين والمتخلى عنهم، فاستحدث وسائل أخرى للاستيلاد، تساهم في تكثير أعدادهم.

ومعلوم أن الدعم الطبي للإنجاب ليس محرما شرعا، لكن بشرط ألا يؤدي إلى حشر طفل غريب في أسرة ليست له، وبالتالي خلط الأنساب.

فكثيرا ما يكون أحد الزوجين عاجزاً عن إفراز النطف اللازمة للإنجاب فيُستنجَد بنطف مانح أجنبي. وإذا كانت الدول الغربية عرفت وباتساع عادة التبرع بالنطف، فلا يجب الاعتقاد بأن المجتمعات الإسلامية في منأىً عنها، بل إن الظاهرة بدأت تشغل حيزا آخذا في الاتساع، مما يرشح أعداد الأطفال المتأتين من مني رجل غريب أو بويضة امرأة أجنبية أو رحم مستعار، للارتفاع. وعندها ستصبح الظاهرة غير مقدور عليها. ومن ثم فأنسب حل هو التصدي لها قبل أن تستفحل فيستعصى الداء ويعز الدواء.

والطفل المستولد من نطف مانح أجنبي يُلحَق بالطفل غير الشرعي. وسواء أنكرته الأسرة التي تحتضنه أم لا، فإنه معرض لمعرفة نسبه الحقيقي. وهو أمر لا يخلو من أزمات لا تختلف في شيء عن أزمات الطفل غير الشرعي. حيث يصعب التنبؤ بنوعية ردات فعله عند معرفته الحقيقة، ولا طبيعة تمرده المحتمل.

طبيعي جدا، بعد الذي أوردناه، أن نستخلص أن كل حرمان يتعرض له الطفل يعرضه للتهميش، سواء كان حرمانا من الحقوق المادية أو المعنوية: فالحرمان من الحاضن يهدده، والحرمان من الطاقات الجسدية والعقلية و الحسية أيضا يهمشه، وكذلك الشأن بالنسبة للحرمان من الهوية أو النسب أو الأسرة أو الاستقرار أوالموطن….

أما وقد حددنا من يكون الطفل المهمش، فيحق لنا أن نتساءل عن الحماية التي يضمنها له الشرع الإسلامي والقوانين الوضعية، وهو ما سنحاول الإجابة عنه في الفصل الموالي:

الهوامش:

(1) إن عديدا من الأبحاث والدراسات قد أجريت حول الجاليات الإسلامية في المهجر، وأنشئت من أجلها هيآت تحاول إحداث تقارب فكري بينها وبين المجتمعات الأصلية أو المضيفة، وفهمها ومساعدتها على حل مشاكلها. يراجع مثلا: وفاء بنفضول: الإشكالية القانونية لعودة وإعادة اندماج العمال المهاجرين المغاربة: رسالة ماجستير، كلية الحقوق، الرباط، 1996-95.

(2) للتوسع يمكن الرجوع إلى: أحمد أجوييد: جريمة الزنى في الشريعة الإسلامية والقانون المغربي، أطروحة، كلية الحقوق، الرباط، 1986-85.

******

الحماية الشرعية والقانونية للأطفال المهمشين

إن المقارنة بين الشرع والقانون الوضعي لها ما يبررها، فالإسلام دين الفطرة السليمة والمنطق والسمو الفكري، والشعوب المتقدمة لم تقرَّ الحقوق إلا بعد أن أضحى لها حِس حضاري جعلها تنبذ كل ما تستقبحه الفطرة والمنطق. لذلك يبدو منذ الوهلة الأولى، أن المقارنة ستكون مثمرة.

وسوف نُعَدِّدُ في البداية حقوق الطفل عامة (المبحث الأول)، لنستطيع بعدها التعرف على أي منها يفتقده الطفل المهمش، وما إذا كانت وضعية هذا الأخير تقتضي أن تفرد له حماية إضافية (المبحث الثاني):

المبحث الأول: حقوق الطفل عامة

لعل الذي أعاد طرح الجدال حول حقوق الطفل هو بالأساس تغير النظرة إليها. فبينما كان ينظر لها ـ في ظل القانون الروماني ـ كحقوق للكبار على الصغار وكسلطة أبوية، إذا بالآية تنعكس ـ في القرن الماضي ـ فينظر للصغار على أنهم محلٌّ للتربية لا للسلطة، وعلى أنهم المستحقون أكثر للحقوق على الكبار، على أن الحضانة واجبات والتزامات لا مجرد حقوق.

ويبدوأن هذه النظرة في طريقها إلى التعميم بعد أن صاغت هيئة الأمم المتحدة مجموعة من المواثيق، بشأن حقوق الطفل التي أشرنا لبعضها… فصادقت دول عديدة عليها، متبنية بذلك الصيغة الحديثة لحقوق الإنسان.

وبديهي أن انضمام الدول الإسلامية إلى المجتمع الدولي فرض عليها احترام الحقوق التي كرستها جل القوانين المقارنة والمواثيق الدولية. وإن الشراكة التي تسعى إليها غالبية دول الجنوب، والتعاون المشترك، ومساعدات الشمال، كلها أمور أضحت مرهونة بإثبات مدى احترام دول الجنوب للحقوق المعترف بها للمواطن، وفقاً لمفاهيمها وأبعادها الدولية.

لكن نظرا لتعدد الدول الإسلامية، فالتعريف بقانون كل دولة على حدة أمرٌ دقيق(1). من جهة أخرى فحقوق الطفل أضحت كثيرة، ولائحتها لم تتوقف عن الطول، ودراستها المستفيضة تتطلب عدة مئات من الصفحات، لذلك نكتفي بالتركيز على أهمها. وسندرس فيما يلي حقوق الطفل من منظور الشرع والقانون الوضعي.

أولا: الحق في الحياة والمجيئ إليها

تعمدنا استعمال عبارة >الحق في المجيئ للحياة< لأن الشرع والقانون يحميان الطفل حتى وهو جنين، فنقول إن الجنين يتمتع بحق المجيئ للحياة. وهذه الحماية تتمثل في تجريم جل الدول للإجهاض، بتفاوت طبعا، والموضوع يأخذ أحيانا طابعا سياسيا. إنما المهم في الأمر أن حق الجنين في المجيئ للحياة موجود، معترف به، ويتقوى كلما زاد عمره….

والحق في المجيئ للحياة الذي ابتدعته القوانين مؤخرا، هو في الواقع مجرد إحياءٍ لما ناله الموضوع من فيض في المناقشة في عهود الإسلام الزاهرة. وقد تولى الشرع الإسلامي حماية حياة الجنين بشتى الوسائل، واعترف له بالذمة المالية، الموقوفة طبعا، وجازى الاعتداء عليه بالعقاب والدية والكفارة….

فالمصدر الشرعي لحماية الجنين آيات وأحاديث حرمت القتل بغير حق، وتحدثت عن الخلق والتخليق(2). وعلى ضوئها بذل العلماء جهودا للتعرف على بدء حياة الجنين وتطورها، مستعينين بما استقر عليه الطب آنذاك(3). فحرَّم البعض الإجهاضَ مطلقا أيا كان عمر الجنين، فيما تدرج البعض الآخر في التعامل معه… وأساس الاختلاف تعدد مراحل التخليق، وتعدد الآيات والأحاديث في الموضوع…أما بعد نفخ الروح فالكل يجمع على التحريم، ما لم يكن الإجهاض ضروريا لإنقاذ الأم. ونجمل مواقف الفقه فيما يلي:

( فجل المالكية والحنابلة يحرمون الإجهاض منذ التخصيب، أي والجنين في مرحلة النطفة الأمشاج، معتبرين التخليق يتم منذئذ. ثم تزداد شدة التحريم بعد اليوم الأربعين من التلقيح. وسندهم آية: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج}(1).

( أما الشافعية فيحددون اليوم42 من التلقيح كبداية للتخليق، وبالتالي الحد الفاصل بين الحِّل والحرمة. فيباح الإجهاض قبل ذلك ويحرم بعده. استنادا لآية: { خلق الإنسان من علق }(2).

وحديث: >إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها وخلق سمعها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم يقول أيْ ربي أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك<(رواه البخاري في كتاب بدء الخلق).

( ويُعد الحنفية الأكثر تسامحا، إذ جعلوا الحد الفاصل بين الحِّل والحرمة، اليوم 120،أي أربعة أشهر بعد التلقيح، وهي فترة نفخ الروح. فقبلها يجوز الإجهاض لأي سبب، وإن كان هنالك من اعتبره مكروها بعد اليوم الأربعين. أما بعده فالإجهاض محرَّم. وسندهم حديث: >إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً…ثم ينفخ فيه الروح…< (3).

( ويبدو الرأي الأكثر اعتمادا هو رأي الإمام الغزالي من الشافعية الذي أقام أحكاما متدرجة بحسب تطور الجنين. إذ يرى أنه عندما تستعد اللقيحة لاستقبال الحياة فإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة كانت الجناية أفحش، وإن نفخت فيها الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيا.(4).

ومما يستحق التقدير المجهود الذي قام به الفقهاء والعلماء قديما لتبيان مراحل التخليق. بحيث انتهوا للتمييز بين الحياة النباتية والإنسانية في الجنين. فقبل نفخ الروح ليس له برأيهم حِسٌّ ولا إرادة، وإنما له حركة النمو والاغتذاء كالنبات، فلما تنفخ الروح تنضم حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه(1).

على أن الحماية تصل ذروتها إذا ولد الطفل حياً، فيكتسب لتوه الحق في الحياة. ويتساوى بمجرد الوضع تمام المساواة مع أية نفس بشرية. وهنا أيضا تتعدد الآيات والأحاديث الناهية عن المساس بحياة الطفل خشية الإملاق أو لأي سبب آخر(2). وقد فصَّل السلف القول في جزئيات حياة الصغير سواء فيما يتعلق ببدء الحياة أو الحماية أو الجزاء أو الدية أو الكفارة (3).

ثانيا: حق الطفل في الحرية

إن عهد الرق ولَّى فأضحى مجرد الحديث عنه ذكرى مؤلمة. وحصل إجماع من القانون المقارن والأوفاق الدولية (اتفاقية 1989م)، على تجريم كل اعتقال للأطفال أو حَدٍّ من حرياتهم لأي سبب كان ولو في زمن الحرب.

والإسلام لما جاء كانت العبودية نظاما سائدا، فسلك سياسة متدرجة حكيمة للقضاء عليها. فيما كان بُعدُه المستقبلي هو استئصال الظاهرة من أساسها. ومن أجل ذلك وُظِّفت وسائل عديدة لتحرير الرقاب في زمن السلم والحرب معا.

فمعلوم أن الإسلام وظَّف تحرير الرقاب ككفارة عن عدة ذنوب، منها:

1. القتل الخطأ {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة. وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله…}(سورة النساء: الآيتان 92 و 93).

2. الحنث في الأيمان:{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} (سورة المائدة: الآية 89).

3. الظهار: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } (سورة المجادلة: الآية 3 ).

4. الإفطار المتعمد في رمضان: إذ ورد في حديث رواه يحيى عن مالك عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا…(أخرجه: البخاري: كتاب الصوم، مسلم: كتاب الصيام).

5. كما جعل عتق الرقاب أحدَ أهم أبواب إنفاق أموال الزكاة: {… و آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب…} (سورة البقرة: الآية 177)، {إنما الصدقاتُ للفقراء والمساكين والعاملين عليها و المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب…}(سورة التوبة: الآية 60).

وذلك إلى جانب الحث على العتق من باب التصدق والإحسان: { فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكُّ رقبة…} (سورة البلد: الآيات11 و12و13)، والأحاديث في الباب كثيرة (1).

وبالمقابل وضع الشرع سياسة متناسقة لنزع فكرة الاسترقاق من الأذهان إطلاقا، واستبدالها بنظام الحرية والتساوي فيها بين جميع البشر، وفي نفس الوقت إعادة الاعتبار للعبيد المحرَّرين. وسوف نعود للموضوع فنثبت المكانة التي احتلها الموالي في الإسلام.

وفعلا أفلح النظام الشرعي في تحرير الرقاب وإحلال مبادئ الحرية محل العبودية. فتلاشت مع توالي السنين، عادات أسواق العبيد والسَّبْي والغلمان و الإماء… وبنيت أواصر الحق في الحرية، فأضحى حقا مكرَّسا ومحميا، لا يجوز الاعتداء عليه. وأقيمت قواعد التنشئة والتربية على أساس التساوي بين بني البشر، عربا وعجما، (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)، كما ورد في الحديث الصحيح. وبالتدريج اعتُرِف للطفل بحقه التام في حريةٍ تولد كاملة مع ولادته. فتوِّج ذلك بقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشهيرة: >متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً<.

ثالثا: حقوق تهم الوضعية القانونية للطفل

يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات في أنه ليعيش طبيعيا، يحتاج لهوية قانونية. ومكوناتها الأساسية هي الاسم والنسب والجنسية. وقد ألزمت جل القوانين الأبوين بتسجيل هوية الطفل في سجل رسمي، معتبرة كل تحريف في الهوية فِعلا مُجَرَّماً.

ينضاف لذلك الحق في أن تكون له أهلية للاغتناء، والحق في ذمة مالية مستقلة ومع أن الأهلية تبدأ ناقصة، فهي تتقوى مع نمو الطفل، لتكتمل مع الرشد. وخلال فترة القصور هذه يتمتع الطفل تلقائيا بالحق في أن يكون له نائب شرعي سواء كان وليا (أي الأب و الأم) أو وصيا (إذا أوصى أحد الوالدين بالولاية لشخص آخر) أو المقدم (أي القاضي أو الشخص الذي ينيبه). وفي جميع الحالات فالنائب الشرعي يتولى رعاية الصغير وصونه، والتصرف في أمواله، واتخاذ القرارات نيابة عنه، والتعبير عن إرادته، إلى أن يَرشُد.

والإسلام هنا أيضا كان أسبق من غيره لحماية و حفظ هوية الطفل. إذ حث على منحه اسما محبَّبا للنفس، ومَنَع الاسم الفسوق والتنابز بالألقاب: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (سورة الحجرات: الآية 11 ). ثم أقر للطفل حق الانتساب لأسرته، وجعل ذلك واجبا دينيا ودنيويا على عاتق الآباء {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } (سورة الأحزاب: الآية 5).

لكن نظرا لصعوبة معاقبة نكران النسب، أقام الشرع عقوبات أخروية تلحق جاحِد ولده. فلخص ذلك حديث: >أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ـ أي يعلم أنه من صلبه ـ احتجب الله تعالى منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة<(أخرجه النسائي: كتاب الأيمان والنذور: باب التغليظ في الانتفاء من الولد). وعزز ذلك بأوامر موجهة للأبناء بالنهي عن نكران الأبوة: >لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر<، ويقابله حديث: >من ادَّعَى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام< (رواهما البخاري في كتاب الفرائض، ومسلم في كتاب الإيمان).

وذلك إلى جانب أوامر أخرى موجهة لعامة الناس بالنهي عن الطعن في الأنساب: >اثنان في الناس هما بهم كُفرٌ: الطعن في النسب…<(رواه مسلم: كتاب الايمان)، مصداقا لقوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} (سورة الأحزاب: الآية 58).

رابعا: الحق في الهوية الثقافية العقائدية

إن اتفاقية 1989م (بشأن حقوق الطفل) تعتبر عهدا جديدا، لحرصها على حماية حقوق الطفل عندما تختلف هويته العقائدية والثقافية عن ثقافة الدولة المُضيفة أو عن عقيدة الوالدين أو أحدهما، خصوصا عند انفصالهما… هنا بالذات حاولت إيجاد حلول توفيقية، كي لا تضيع حقوق الطفل بسبب الخلافات.

كما حثت على تكييف برامج التعليم مع هوية المتمدرِس ومعتقده، وإغنائها بمواد تزرع فيه روح التعاون والتسامح مع الجنس الآخر ومع الشعوب والأمم الأخرى… واستلزمت كذلك احترام الأقليات المقيمة بالوطن، ونبذت كل تمييز بين الأطفال على أي أساس كان.

والإسلام كان الأسبق لإقامة مبادئه على أساس احترام باقي الديانات والتعايش معها: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله} (سورة الأنفال: الآية 61)، وعدم إرغام الناس على اعتناق الإسلام كرها: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيِّ} (سورة البقرة: الآية 256). وقد ورد في الأحاديث والآثار حِكم بليغة بينت بوضوح طرق التعامل مع غير المسلمين، وكيف أن السلم كان واجبَ وخُلقَ الفاتحين وأن الخروج عنه كان منافيا لتعاليم الدين.

بل إن حسن معاشرة غير المسلم كان أحد أعمدة نشر الدعوة وتحبيب الإسلام للناس وتعريفهم بخصاله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (سورة النحل: الآية 125)، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (سورة العنكبوت: الآية 46){ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (سورة آل عمران:الآية 159)…كما أقام الإسلام قواعد للتعامل مع باقي الأمم، ساعيا لتحقيق الأمن والاستقرار. فاعتمد مبدأ المعاهدة، بحيث حالما تعطي دولة الإسلام الأمان والعهد لقوم، إلا واكتسب هؤلاء حرمة وذمة، ومُنِعَ الاعتداء عليهم أو المساس بحقوقهم أو أموالهم. وفي الباب أحاديث كثيرة، منها:>من قتل نفسا مُعَاهدا، لم يُرَح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما<(أخرجه البخاري في كتاب الديات وكتاب الجزية)، وفيه أيضا: >من قتل نفسا مُعَاهدا في غير كُنْهِه حرم الله عليه الجنة< (أخرجه أبو داود في باب المعاهدة)….

على أن الاعتداء على المعاهَد لا يرتب الجزاء الأخروي فحسب، وإنما أيضا جزاءات دنيوية. وقد أجملت ذلك آيات من سورة النساء: {…فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم… إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصِرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم… فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا… ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله… فإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة…ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة} (سورة النساء: الآيات 94-89).

وانسجاما مع نفس المبدأ قال الرسول صلى الله عليه و سلم: >ديـة المعاهد نصف دية الحر<(رواه أبو داود: كتاب الديات، باب دية الذمي). وكما أن لنفس المعاهَد حرمة، فكذلك أمواله، لا يصح المساس بها لكونها متقوَّمة لا مستباحة.

خامسا: حقوق الطفل على الأسرة

الحق في الانتساب لأسرة لا يتوقف مداه عند حمل اسمها، وإنما يتعداه إلى مجموعة حقوق يكتسبها الطفل بمجرد ولادته ويتحملها الأبوان. وعلى رأسها حقه في الأبوة والأمومة. وحسب جل التشريعات الوضعية تثبت بنوة الطفل متى كان ثمرة زواج شرعي صحيح. إنما إنصافا للطفل يثبت النسب أيضا بالإقرار أو الاعتراف، مع تفاوت وتباين بين القوانين في طرق الاعتراف وحدوده.

ونذكِّر بأن حق الأسرة في حضانة الطفل واجب ومسؤولية أكثر منه حقا. ذلك أن اتجاه القانون المقارن والأوفاق الدولية سائر نحو تحميل الأسرة بواجبات الرعاية والحضانة والتربية والإنفاق والتدريس والتحسيس بالأمان والدفء، بهدف تحقيق نفسية سوية للطفل.

نفس القواعد أقرها الإسلام مبكرا. والأحاديث في الباب كثيرة:

( فمنها ما يلزم الآباء بحسن التربية وإعطاء المثال في سمو الأخلاق: >كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه،أوينصرانه، أويمجسانه…< (رواه البخاري) ومنها ما يلزمهما بالعناية والرعاية والصحبة والمراقبة: >رَبِّ ابنك سبعا وأدبه سبعا ورافقه سبعا، ثم اترك له الحبل على الغارب<(1)… كما بينت أحاديث أخرى طرق التنشئة السليمة وأصولها، جاعلة من السهر على التربية عملا يفوق في أجره وثوابه كل أعمال البر والإحسان.

( وتُوِّج ذلك بتحميل الأبوين كليهما المسؤولية عن التقصير في واجباتهما تجاه أبنائهما أو من تحت كفالتهما من الأطفال: >كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها…< (رواه البخاري ومسلم).

( والأمر بالإنفاق على الأبناء وارد في القرآن والسنة، كما أشرنا. فاعتبر الشرع من أعظم الآثام إضاعة الإنسان حقوق من تحت كفالته: >كفى بالمرء إثما أن يضيِّع من يقوت (وفي رواية: أن يحبس عمن يملك قوته، رواه أبو داود: كتاب الزكاة، مسلم: كتاب الزكاة: باب فضل النفقة على العيال)….

( كما حض على طلب العلم:>طلب العلم فريضة على كل مسلم< (رواه البيهقي في شعب الإيمان)، >اطلبوا العلم ولو بالصين<(رواه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب.)، والأحاديث والآثار في الباب كثيرة، وحسبنا التأكيد على أن الشرع يأمر بطلب العلم من المهد إلى اللحد(2). وبما أن الخطاب لا يمكن توجيهه للوليد في المهد، فالمعنى الوحيد هو أن الأمر موجه للآباء والأولياء لتعليم من تحت كفالتهم.

( وبما أن المرأة هي المدرسة الأولى التي يتعلم في أحضانها الطفل مبادئ التربية، فقد حرص الرسول#على تخصيص يوم من الأسبوع للنساء من أجل تعليمهن، ثم أمرهن بتنشئة أبنائهن على المبادىء الإسلامية التي حفظنها عنه. بحيث روي أن النساء اجتمعن فعلمهن الرسول مما علمه الله ثم قال: >ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كان لها حجابا من النار< فقالت امرأة منهن: يارسول الله؟ اثنين؟…قال: >واثنين واثنين واثنين<(1)…

سادسا: حقوق الطفل على الدولة

أضحى دور الحكومات أكثر فعالية من السابق. فبدأت تترسخ في الأذهان وسياسات عديد من الدول فكرة أنه: قبل أن تكون للدولة حقوق على مواطنيها وقبل أن تأْملَ في أن يكون لها مواطنون صالحون، تُلزَم بتوفير الظروف الكفيلة بتكوين أطفال أسوياء ورجال غدٍ مقتدرين. من ثم أقرت غالبية الدول حق الطفل في التربية والتعليم، في الصحة، في إغنائه عن العمل، وإذا ما اقتضى الحال أن يشتغل، فيلزم تحقيق ظروف عمل تلائم نعومته….

والمسؤولية عن الرعية في الإسلام، لا تقتصر على تحقيق الأمن، وإنما تتعداه لدقائق الأمور. فبمجرد الشروع في بناء أولى أواصر الدولة الإسلامية، أقيمت بنيات تحتية كانت مثالية، بحيث جُعِل من التعليم غاية سامية وُظِّفت من أجلها جميع الوسائل(2). حتى أبيح أن يكون تعليم القراءة والكتابة وتعليم القرآن أجرا، ومهرا، وفدية من الأسر(3). من جهة أخرى اعتبر تعلُّم المهن والتطبيب وممارستهما فرض كفاية، إذا تعلمه البعض سقط عن الباقين. بهذه الوسائل وأخرى، انتشر العلم بديار الإسلام ولقي العلماء كثيرا من التكريم والحظوة. وأحدِثت وسائل لتمويل الأعمال الاجتماعية، منها الزكاة والوقف والصدقات والفيء….

ذلك إذن مجمل مركز عن حقوق الطفل. يحق لنا بعده أن نتساءل عن أي منها يفتقده الطفل المهمش، وما إذا كان يحتاج لعناية خاصة من المشرع:

الهوامش

(1) لذلك نحيل من يريد التوسع فيها على المراجع الوطنية لكل بلد، وعلى أخرى في القانون المقارن، مثل:

Travaux de lصAssociation H. CAPITANT: LaProtection de lصEnfant: Journées Egyptiennes: T. XXX, 1979, (702 p.);Françoise DEKHEUWER-DEFOSSEZ: Les Droits de lصEnfant: Que sais-je:1996 (126.p.)….

(2) انظر في هذا المعنى آيات كثيرة: آل عمران 59؛ الأنعام 2، الروم 20، فاطر 11، غافر67، الحِجْر26، المؤمنون 12-14، الإنسان 2 ؛ يَس 77؛ السجدة 32؛ عبس 18….

(3) للتوسع تراجع رسالتنا لنيل شهادة الماجستير حول قتل الرأفة أو الخلاصEuthanasie دراسة قانونية مقارنة. كلية الحقوق، الرباط،1987م، ص 192وما بعدها، محمد علي البار: خلق الجنين بين العلم والقرآن: القاهرة، 1980م، د. محمد حسن ربيع: الإجهاض في نظر المشرع الجنائي: القاهرة: دار النهضة، 1995م….

(4) سورة الإنسان: الآية 2.

(5) سورة العلق: الآية 2.

(6) رواه البخاري ومسلم في كتاب القدر….

(7) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين ، ج 2 ، ص: 65.

(8) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن: ص255 ، وفي مثل قوله يراجع: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: كتاب القدر، ج 11، ص 481.

(9) {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم} (الأنعام 151)، {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خِطءاً كبيرا} (الإسراء 31)،{ وكذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم (الأنعام 137)}.

(10) للتوسع يراجع: محمد أبو زهرة: العقوبة في الفقه الإسلامي، نظام الدين عبد الحميد: جناية القتل العمد، أحمد فتحي بهنسي في مؤلفاته عن الفقه الجنائي الإسلامي….

(11) يراجع في ذلك: ، صحيح البخاري: باب الكفارات، صحيح مسلم: باب فضل العتق، الموطأ: كتاب العتق….

(12) رواه البيهقي والطبراني. ويحمل هذا الحديث معان علمية دقيقة أثبتها العلم الحديث بحيث قابل كل مرحلة من مراحل الطفولة بما يلائمها من أصول التنشئة. فمعلوم أن الطفل في سنواته السبع الأولى يكون بحاجة للمداعبة والتسلية، ثم بعدها يحتاج للتنشئة والتعليم والتربية السليمة، وعندما يتمها يكون قد دخل حتما طور المراهقة، بما تحمله من مخاطر، فيحتاج للمصاحبة والمرافقة إلى أن يجتازها….

(13) رواه البيهقي.

(14) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب تعليم النبي أمته من الرجال والنساء.

(15) يضيق المجال عن ذكر الآيات ولأحاديث والآثار الكثيرة التي وردت في مجال العلم، لذلك نكتفي بالإحالة عليها في كتب الفقه والحديث، التي أفردت في غالبها بابا أو كتابا خاصا بفضل العلم والتعلُّم والتعليم.

(16) إن كتب الفقه مليئة بالأمثلة عن ذلك، حيث كان يطلب من الأسرى أن يفتدوا أنفسهم بتعليم أهل دار الإسلام، كما أجاز الرسول و حبذ أن يكون المهر بضع آيات من القرآن يعلمها الزوج لزوجته….

*********

المبحث الثاني : حقوق الطفل في الظروف غير العادية أو حقوق الطفل المهمش في المساواة مع الطفل العادي

إن القاسم المشترك بين جميع الأطفال المهمشين هو عدم التكيف مع الواقع. ومعنى هذا أن لوائح الحقوق المعددة أعلاه غير كافية للإجابة على احتياجاتهم وقضاياهم. من ثم افترضنا سلفا أن اندماجهم يقتضي دراسة خاصة لوضعية كل فئة، إن أردنا فعلا التعرف على مصادر الحرمان، وترجمتها إلى حق يَلزَم التكفل به.

فما من شك في أن الاستثمار في ميدان الطفولة ذو مردودية عالية على المدى المتوسط والبعيد، لذلك يجب على الدول تبني برامج جريئة في الميدان. إنما ولكون الخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تحتاج في نهاية المطاف للدعم والتطبيق. فالعماد الأساسي هو الآلة التشريعية، أي تكريس حقوق الطفل من قبل المشرع. بمعنى أن أول خطوة هي ضرورة تكييف لوائح الحقوق مع وضعية الطفل في الظروف غير العادية، من أجل تقريبه من الطفل العادي، وتحقيق تكيفه مع ضوابط المجتمع.

وسبق أن حددنا أهم أسباب عدم التكيف، وخلصنا إلى أن كل فئة تفتقد جزءا من مقومات الطفولة العادية. من ثم فلتحقيق احتياجها يجب الاعتراف لكل منها بحقها فيما ينقصها. على أن عوامل التهميش مهما اختلفت فهي تؤدي في الغالب إلى نفس النتائج: الحرمان من النسب أو الهوية أو الأسرة أو العائل، من التمدرس، من الاستقرار، من حق المواطنة… لذلك سنحاول تركيز على ما يحتاجه الطفل المهمش من حقوق إضافية فيما يلي:

أولا : حق الطفل غير الشرعي في النسب

الاعتراف بالنسب الشرعي وحده، ليس المقصود منه أن يعيش الطفل غير الشرعي بدون اسم ولاهوية. فالذي سعى إليه الإسلام ليس محاربة الأطفال غير الشرعيين أو نبذهم، بل سعى لمحاربة اختلاط الأنساب وزواج المحارم وشيوع الفاحشة واستشراء الزنى(1)، أي استئصال الشر من جذوره.

ومن خلال مطالعة اجتهادات الفقهاء يلاحظ مدى حِرصهم على إلحاق الابن بنسب الزوج متى وجدت قرينة على الإلحاق(2). ومن أجل ذلك توسعوا في وسائل إثبات النسب، وتضييق فرص إنكاره.

( فكل طفل ولد على فراش الزوجية يعدُّ ابنا شرعيا ما لم يثبت العكس. ” الولد للفراش ” كما اجتهد الفقهاء في تضييق حالات ووسائل إثبات رفع النسب عن الطفل المولود على فراش الزوجية.

( وإنكار النسب له شروط محكمة في الشرع، ومِسطَرته دقيقة، بحيث قد تنقلب ضد الزوج المنكر لنسب ابنه إذا لم يُثبِت زنى زوجته أو إذا رفض الملاعنة(3)، فيقام عليه حد القذف (يجلد ثمانين جلدة). وفـي جمـيع الحـالات تحـرم عليـه

حرمة مؤبدة ـ يفرق بينه وبينها مؤبدا ـ وتتلخص أهم طرق إنكار النسب في: اللعان، أو إثبات أن الطفل ولد خارج أجل الوضع المحدد شرعا(1) .

( والاستلحاق أو الإقرار بالبنوة ممكن، ولا يتطلب شروطا أو شكليات معقدة، ويكفي ألا يكذب المستلحِق عقلٌ أو عادة، أي أن يكون فارق السن بينه وبين المستلحَق معقولا، وأن تكون فرصة الجماع ممكنة بين المستلحِق وأم المستلحَق. وهنالك أحاديث وآثار كثيرة عن إلحاق الأبناء بآبائهم. فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قولها: كان عُتبة بن أبي وقاص عَهِد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص: أن ابن وليدة (جارية) زمعة مني فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي، قد عَهِد إليّ فيه، فقام عبدُ بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي، وُلد على فراشه، فتساوقا إلى النبي#، فقال سعد: يارسول الله، ابن أخي، قد كان عهد إليّ فيه. فقال عبدُ بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله#: >هوَ لك ياعبدَ بنَ زمعة< ثم قال النبي#: >الولد للفراش وللعاهر الحجر<. ثم قال لسودة بنت زمعة (أم المؤمنين) >احتجبي منه< لما رأى من شبهه بعُتبة بن أبي وقاص(2)، فما رآها حتى لقي الله عز وجل (رواه البخاري في كتاب البيوع: باب تفسير المشبهات وفي كتاب الفرائض: باب: الولد للفراش…ومسلم في كتاب الرضاع).

كما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يُليطُ (يُلحق) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، مستعينا بالقيافة (جمع قائف وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، والقيافة علم أو معرفة الشَّبَه وتمييز الأثر). ونُقِل عنه قوله: >ما بال رجال يطؤون ولائدهم (جواريهم)، ثم يعزلوهن؟ لاتأتيني وليدة يعترف سيِّدها أن قد أَلَمَّ بها، إلا ألحقت به ولدها. فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا< (1).

( كما اعتُمِد إقرار الزوج كوسيلة للإلحاق ولو بعد إنكاره نسب الولد المولود على فراشه، أو ملاعنته لزوجته. بحيث إذا لاعن زوجته أو أنكر نسب ابنها، ثم تراجع عن موقفه، طبق عليه حد القذف وأُلحق به الولد شرعا.

( من جهة أخرى يكتفي الشرع ببينة السماع أوشهادة الشهود لإلحاق الولد بنسب شخص آخر سواء في حياته أو بعد مماته(2)… .

( الزواج الفاسد بسبب انعدام إحدى شرائط انعقاده، كانعدام الرضى أو عدم الإشهاد عليه… يعتبر باطلا، إلا أن الولد يلحق. وذلك خروجا عن الأصل وهو أن العقد الباطل لا يرتب أية آثار.

( الزواج بين المحارم أيضا يعتبر فاسدا، أي باطلا لا يرتب أية آثار، ويفسخ بدون طلاق. إلا أنه إذا تم بحسن نية، أي إذا كان الزوجان جاهلين بوجود المانع الشرعي، فالولد يلحق بأبيه شرعا، رغم أن الزواج باطل، أي كالعدم. بحيث لم يرتَّب عليه هذا الأثر إلا استثناء، إنقاذا لنسب الطفل.

لكن تفاديا للمغالاة، وتوفيقا بين حق الابن في النسب وحق الزوج في التخلص ممن علِق بنسبه عدوانا، قوبلت الأحكام الواردة أعلاه بأحكام أخرى لخصها الحديث المذكور سابقا: >من ادَّعَى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام<، (رواه البخاري في كتاب الفرائض، ومسلم في كتاب الإيمان). وفي هذا الباب أحاديث أخرى مماثلة.

والأطفال غير الشرعيين الذين يولدون رغم كل الذي أقامه الإسلام من تدابير تحرزية، لا يجب أن يؤدوا وحدهم ثمن تفشي الرذيلة أو اللامسؤولية. ولإنصافهم، أقام الإسلام مجموعة مبادئ تصون كرامتهم وتحدد لهم هوية. وهذه المبادئ قابلة لأن يقاس عليها في ما ينسجم مع روح العصر:

فالإسلام أوجب منح الأطفال غير الشرعيين أسماءً وهوية. ومن أجل ذلك، وإلى جانب الأخوة في الدين، استحسن الشرع لفائدتهم حق الموالاة، كما تلخصه آية {…فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} (سورة الأحزاب : الآية 5). ويكفي الرجوع لكتب التراث للتعرف على مدى نجاح فكرة الموالاة في إدماج عديمي النسب في المجتمعات الإسلامية، لظروف مختلفة…ونشير إلى ذلك بالإحالة على العدد الهائل للموالي الذين اشتهروا في مجال خدمة العلم والدعوةوتولوا مناصب عالية في الدولة… .

كما أقام الإسلام مبدأ الرضاعة وما يترتب عليه من أواصر متينة بين الطفل الراضع والأسرة المرضعة (الحاضنة أو البديلة). فمعلوم أن الرضاعة ليست مجرد علاقة عارضة بين الطفل والأسرة، وإنما تترتب عليها علاقة تنسحب على مستقبل الطفل بكامله. إذ يندمج في الأسرة، فيصبح ابنا من الرضاع للأم المرضعة وزوجها، وأخا لأبنائهما، لا يحل التزاوج بينه وبينهما. وهو مبدأ غاية في الحكمة. لأنه بدون تثبيت العلاقة بتلك الطريقة، لن يشعر الطفل المرضَع بالأمان والاستقرار والحنو… وكلها أحاسيس ضرورية ليعيش الطفل حياة طبيعية، فإن لم تكن صادقة لم يتحقق اندماج الطفل في الأسرة.

وبديهي أن أول خطوة لتحقيق اندماج الطفل، هي منحه اسما ونسبا ينسجمان مع المتعارف عليه. وسنكتفي بإعطاء اسم عائلي مفترض تدَوِّنه السلطات المعنية بسجل معد خصيصا لذلك، شريطة ألا يكون الاسم المفترض مما يخل بالآداب أو يخدش مشاعر الطفل.

ولضمان عدم اختلاط الأنساب من المستحسن أن يقيَّد إلى جانب الاسم العائلي المفترض، الاسم الشخصي الحقيقي لأحد والدي الطفل إن عُرِفا. ولحمايته من اكتشاف حقيقته مبكرا، يمكن تسجيل اسماء مفترضة لوالديه. ولنفس الغاية وحفظا لكرامته، نحبذ إحداث سجل خاص، بشرط أن يكون غاية في السرية، تدَوَّن فيه حقيقة الطفل، وكل الوقائع والمعلومات المتعلقة بالظروف التي عثر عليه فيها (كتحديد مكان اللقطة، وما كان يحمله من ملابس…). فمثل هذه المعلومات، من جهة أخرى، تسهل عليه مستقبلا، العثور على أسرته الحقيقية، وتسهل على الوالدين الحقيقيين العثور عليه في أية لحظة استيقظ فيها ضميرهما وعواطفهما.

ومعلوم أن عديدا من القوانين المقارنة تسمح بمنح الطفل المتبنَّى نفس اسم العائلة التي تتبناه، إلا أن الاتجاه الحالي يميل نحو التحرز حيال التبني والتضييق من منح الأطفال أسماء المتبنين، لحفظ هوية الطفل الحقيقية، وحماية له من أن يُسحَب منه هذا الاسم مستقبلا. من ذلك مثلا قانون فرنسي حديث أدخل مجموعة متراصة من القواعد الكفيلة بحماية الطفل في مختلف الأوضاع، خصوصا بعد أن تدخَّل سلطان المال وحاد بالتبني عن أهدافه النبيلة (1).

ثانيا : حق الطفل المحروم من الأسرة في أسرة بديلة

مَنْع الشرع للتبني لا يقصد به حرمان الطفل من الانتساب لأسرة ما حقيقية أو بديلة، وإنما فقط منعا لاختلاط الأنساب. وتوفيقا بين الأمرين ابتدع الشرع الرضاع والتنزيل والموالاة … .

* فالرضاع يمكِّن الطفل من الغذاء والحنان والتنشئة والأسرة…إذ من آثاره خلق وشائج عائلية بينه وبين أسرته من الرضاع… .

* والتنزيل يعني تنزيل ابن ليس من الصلب منزلة الولد، وبالتالي تمتيعه بكل الحقوق التي يتمتع بها الطفل العادي، مع تمييز طفيف، وهو عدم منحه النسب الحقيقي للمتبني، وأيضا جعل نصيبه من الميراث في حدود الثلث… .

* والموالاة أخوة بين شخصين يتفقان على أن يتكفل أحدهما بالآخر وأن يتوارثا… .

فهذه الطريقة طالما حققت التكافل بين الناس عبر تاريخ الإسلام وتحقق اندماج الأطفال المتخلى عنهم وتبوأوا مكانات كباقي الناس… بدليل أن التشرد أو هجر الأطفال ظواهر حديثة بالمجتعات الإسلامية.

والملاحظ أن قوانين جل الدول الإسلامية، سكتت عن حقوق الأطفال غير الشرعيين، خصوصا ما يتعلق بحضانتهم أو التكفل بهم، أو إلزام الدولة بالتكفل بهم، أو تشجيع الأسر على احتضانهم… وذلك ربما لتحرجها من ظاهرة الأطفال غير الشرعيين. فكانت النتيجة أن تزايدت أعداد الأطفال المحرومين من الأسرة، في صمت.

هذا في حين تعامل معهم الشرع برحمة وتفهم. ويمكن إجمال موقفه في كون الرسول#قبْل إقامة حد الرجم علي الغامدية، دفع بابنها لرجل صالح من المسلمين ليتولى تربيته ورعايته. وذلك إلى جانب عدد هائل من الآيات والأحاديث التي تحض على إكرام اليتيم ورعايته والتكفل به وتربيته وصونه(1)، أيا كان سبب اليتم، وسواء كان اليتيم معلوم أو مجهول الوالدين .

وفي الآثار ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رجل بطفل وجده منبوذا، فقال عمر: >ما حملك على أخذ هذه النَّسْمة؟ قال وجدتها ضائعة فأخذتها. فقال له عَريفُهُ: ياأمير المؤمنين، إنه رجل صالحٌ. فقال عمر: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: اذهب فهو حرٌّ ولك ولاؤه، وعلينا نفقته< (الموطأ: باب القضاء في المنبوذ).

وروى سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله#: >أنا وكافل اليتيم في الجنة، هكذا< وقال بإصبعيه السبابة والوسطى. (رواه البخاري في كتاب الأدب: باب فضل من يعول يتيما).

وإن هيئة الأمم المتحدة (اتفاقية 1989م) وهي بصدد تعداد لائحة الحقوق حاولت تكييفها مع الظروف الثقافية والعقائدية لكل دولة. فبعد أن أقرت حق الطفل في التبني، تحدثت عن حقه في التكفل به ـ أوتنزيله منزلة الولد ـ كما هو في الشريعة الإسلامية ـ(1)… حاضة الحكومات على الاحتفاظ بحق التدخل والمراقبة للتأكد مما إذا كان الطفل يحظى بالرعاية والتربية… ثم تولَّت اتفاقية لاهاي (29 ماي 1993) تنظيم التبني خارج الوطن. وحماية لهويته الثقافية وعقيدته حثت على أن يحصل التبني من قبل مواطني الدولة التي ينتمي إليها الطفل… ولا يُلجَأ للتبني خارج الوطن إلا في الظروف القاهرة. وفي هذه الحالة حثت على إنشاء لجنة اجتماعية تمر عبرها كل طلبات التبني خارج الحدود، معتبرة كل تبنٍ مباشر وبدون استشارتها غير مشروع.

ثالثا : حق الطفل المحروم من النفقة في مورد للعيش

لما جاء الإسلام وواجهه التباين الطبقي لم يسع إلى اجتثاث الغنى بل لمحاربة الفقر. فحث الناس على العمل والسعي والمواظبة، ونبذ الاتكال والخنوع جاعلا من الخدمة على العيال واجبا وصدقة وحسنة تتقدُم كل أعمال الخير، معتبرا اليد العليا خيراً من اليد السفلى. كما حارب البخل وكنز الأموال، وأقام قواعد متراصة تكفل تداول الثروات بين الناس، وعدم تكديسها في يد الأغنياء.

وفي المقابل، إذا عجز الإنسان عن الكسب وضمان قوت عياله، أو وُجِد طفل بدون عائل، فالحكم الشرعي أن العشيرة تتكفل به… وإلا تولى ذلك بيت المال. فأقام الشرع نظما لتمويل أعمال التكافل (الضمان الاجتماعي) وعلى رأسها الزكاة (2)، أحد أركان الإسلام: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} (سورة الذاريات: الآية19 ). ثم حدد طرق إنفاقها بشكل يشمل المحرومين: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله} (سورة التوبة: الآية 60)،{وآتَى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل…} (سورة البقرة : الآية 177)….

لذلك فنُظُمُ الضمان الاجتماعي الحديثة ليست غريبة عن الإسلام، وإن بدت في الواقع غريبة عن بعض المجتمعات المسلمة التي ابتعدت عن تعاليمه. فلا عجب إذن أن ينسجم ما استقرت عليه الأوفاق الدولية مع روح الإسلام.

فاتفاقية 1989م بشأن حقوق الطفل كرست حق الطفل في النفقة والإسكان… مستهلة قولها:>تعترف الدول الأطراف بحق كل طفل في مستوى معيشي ملائم لنموه البدني والعقلي والروحي… يتحمل الوالدان أو أحدهما أو الأشخاص الآخرون المسؤولون عن الطفل… بتأمين ظروف عيش ملائمة لنموه… وتتخذ الدول الأطراف التدابير الملائمة لمساعدة الوالدين…(م27).

رابعا : حق الطفل المهمَّش في التربية والتعليم

عوامل التهميش السالف سردها تجتمع في نهاية المطاف لتحرم الطفل من التمدرس. والحرمان من التعليم لوحده يعتبر كافيا للتهميش. لأن مستقبل الشعوب هو العلم، والموارد البشرية هي الثروة الأساسية في عصر المعرفة. من ثم تبقى الأمية من أكبر عوائق الاندماج والتقدم.

ففي الدول المتقدمة أُرفِق حق الطفل في التمدرس بفرض نظام التعليم الإجباري مع تفاوت في مستوى ومدة الإجبارية. و تعزَّز الإجبار بالبنيات التحتية الضرورية والدعم المالي للأسر. ثم أرفق بعقوبات قد يكون من ضمنها مصادرة حق الأسرة في حضانة الطفل… نفس الشيء يقال عن الأنشطة الموازية والتكوين المهني… بحيث تلتزم الدولة فوق ضمان الهياكل الضرورية، بالمراقبة والتفتيش الفعلي للمؤسسات وسلوكات الأسر.

من ثم ـ لإصلاح الطفل غير المتكيف وإعادة تأهيله وإدماجه ـ يجب ضمان حقه في التعليم وتوفيره له بوسائل عملية ملموسة وإيجابية. كما يلزم الاستعجال في فرض تعليمه وإعادة تأهيله، إنقاذاً له ولذريته. وإذا كان لنا أن نعود لروح الإسلام، فلن نفاجأ بوجود تعاليم حرصت على أن ينال كل طفل نصيبه من التربية السليمة والتعليم والاندماج في الأسرة والمجتمع.

ولضيق المجال نحيل على ما أوردناه من آيات وأحاديث وآثار، تجعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، لا فرق بين محظوظ ومحروم، ذكر وأنثى، ودون وضع حد لسن التعلُّم، وأحاديث أخرى تثبت إلى أي حد استُغِلَّت كل الوسائل لنشر العلم. وحسبنا أن نذكِّر بأن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يفرج عن الأسير لقاء تعليمه عشرة من أبناء وبنات المسلمين، وأن الشرع جعل تربية الولد والإحسان إليه أفضل من الصدقة ومن كل أبواب البِر والإحسان. وفي الباب أحاديث كثيرة منها: >أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم< (رواه ابن ماجة: كتاب الأدب )، و>…أن يؤتِيَ أدبه، وإن أدب الله القرآن< (رواه الدارمي: كتاب فضائل القرآن1) ومنها: >ما نحَل والدٌ ولَدَه أفضل من أدبٍ حسن<، و>لأن يؤدب الرجل ولدَه خير له من أن يتصدق بصاع< (رواهما الترمذي: كتاب البر).

وهيئة الأمم المتحدة، في إطار اتفاقية 1989م، حضت الدول على تفعيل الوسائل لضمان حق المواطنين في التعليم، وتكييف برامجه مع الأوساط الاجتماعية ومع المعتقَدات الدينية. حاضة على استعمال كل السبل لمحاربة ترك الدراسة؛ وعلى التعاون الجهوي المشترك لتبادل الخِبرات ومحاربة الأمية…(م28-30).

خامسا : حماية إضافية للطفل المحروم من الاستقرار

كثير من حالات عدم التكيف ترجع لانعدام الاستقرار بسبب النزوح واللجوء والتشرد والافتقار لأسرة حاضنة والافتقاد للجنسية، سواء في ظروف السلم أو الحرب.

والإسلام هنا أيضا كان السباق لحماية هذه الفئات، بأن حثَّ على التكفل بالأطفال المتخلى عنهم ومنحِهم كل ما يحتاجونه من عطف وحنان وتربية وتعليم. واعتبر كل طفل مولود في دار الإسلام حرا، منتميا لها، له حقوق على بيت مالها كما أسلفنا. أما عن اللجوء فليس ثمة أبلغ من مثال المهاجرين والأنصار، وما جاء من رموز لإدماج المهاجرين في المجتمع الجديد بشكل مثالي يلزم الاعتبار به.

كما أقام الإسلام أخلاقيات للحرب والفتح منها عدم المساس بالطفل والمرأة (أي حاضنة الطفل). فقد روي أن الرسول صلى الله عليه و سلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والولدان (البخاري: كتاب الجهاد والسير: باب قتل النساء، ومسلم: كتاب الجهاد والسير،باب النهي عن قتل النساء والصبيان…). كما روي عنه أنه نهى من قتلوا ابن أبي الحُقيْق عن قتل النساء والولدان. فكان رجل منهم يقول: برَّحَتْ (أظهرت أمرنا) امرأة ابن أبي الحقيْق بالصياح. فأرفع السيف عليها، ثم أذكر نهي رسول الله#، فأكُف، ولولا ذلك استرحنا منها(الموطأ:كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء الولدان…).

وروى عن الإمام مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل من عماله أنه:>بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية يقول لهم:>اغزوا باسم الله. في سبيل الله…تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا، ولا تَمْثُلوا، ولا تقتلوا وليدا، وقل ذلك لجيوشك وسراياك< (الموطأ: كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو). وروي أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ـ وكان أمير ربع من تلك الأرباع ـ فأوصاه قائلا : >…وإني موصيك بعَشرٍ: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا…< (الموطأ: كتاب الجهاد،باب النهي عن قتل النساء والولدان…).

وهيئة الأمم المتحدة في اتفاقية 1989م توقفت عند هذه الحالات بالذات، حاضة الدول الأطراف على احترام الأقليات(م30)، ومنح الطفل اللاجئ كل ما يحتاجه من مساعدات وتمتيعه بكافة الحقوق كباقي الأطفال(م22)… .

سادسا : حق الطفل المعاق في التغلب على الإعاقة

هنا أيضا حمل الإسلام عبرا كثيرة يُستدَل بها على ضرورة دمج المعاق في المجتمع. ونختزل ذلك في مثال ابن أم مكتوم الضرير، الذي من أجله تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم أول وآخر عتاب إلهي: >عبس وتولى<. حيث كان الرسول#منشغلا مع سادة قريش يدعوهم للإيمان، وإذا بابن أم مكتوم يقاطعه قائلا: يارسول الله أقرئني مما علمك الله؛ فيُعرض عنه، فنزلت الآية { عبس وتولى أن جاءه الأعمى..} .

ابن أم مكتوم هذا سيكون له شأن وسيصبح والي المدينة مرتين، كرمز مثالي على قدرة المعاق على التغلب على عاهته، والاندماج في المجتمع متى حظي بالرعاية التي يحتاجها. فالعتاب الموجه للرسول#لم يكن الهدف منه سوى تنبيه جميع المسلمين وحثهم على الاعتناء بالشخص المعاق واستثمار طاقاته.

وقد نال المعاق كثيرا من اهتمام هيئة الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة. فبجانب إعلان 1959م واتفاقية 1989م، حيث احتل الطفل المعاق حيزا هاما، صدرت مجموعة أوفاق خاصة به، كإعلان 1969م بشأن الطفل المعاق؛ تصريح 1971م الخاص بالمعاق ذهنيا، إعلان 1975م بشأن الأشخاص المعاقين….

سابعا : حماية خاصة للأطفال المعرضين للاستغلال والاعتداء

إن أسباب استغلال الطفل لا حدود لها، بسبب كونه أضعف مخلوق. والاستغلال قد يأتي من أقرب الأقرباء، كما قد يأتي من المشغِّل، أو من أي شخص أو عصابات إجرامية أو… وبذلك أضحى من واجب الدولة التدخل لرفع الحيف عن الطفل ليس من الغرباء فحسب، بل حتى من ذويه:

1 . حق الطفل في التخلص من الأسرة متى كان وجوده معها مضرا به

أشكال الضرر تختلف، فقد يكون الأب أو الأم غير صالحين فينعكس سلوكهما على تربية الطفل، وقد يمارسان عليه أشكالا من التعذيب الجسدي أو النفسي، وقد يحرَم من النفقة؛ أو ينفصل الزوجان ويقيم الطفل مع أحد أبويه المتزوج بالغير… وفي جميع الحالات فضرر الطفل بيِّن ومستقبله مهدد.

ويتوجه القانون المقارن والأوفاق الدولية (1) نحو تمكين الدولة من حق التدخل لرفع الحيف عن الطفل الضحية. إذ حاولت التشريعات تصور الأوضاع غير السليمة وإيجاد حلول لها. وبذلك فرضت النفقة على العائل وأوجدت طرقا لإلزامه بصرفها، وحددت الحاضن فيمن يُفْتَرَض أنه يحرص على الطفل أكثر، ثم منحت الطفل، ـ متى وصل سنا معينة ـ، حق اختيار مع من يريد أن يقيم من أبويه أو من ذويه وأجازت سحب الحضانة من الأسرة، متى كان الأب عنيفا مثلا، أو اقترف اعتداءات جسدية أو جنسية ضد الأطفال… .

نفس الأحكام السابقة تستخلص من الشرع. وذلك بكل بساطة لأن الإسلام يعوِّل كثيرا على الطفل، رجل المستقبل. والأحكام في الباب كثيرة وتتكامل فيما بينها. فعديدة هي الآيات والأحاديث التي أقرت حقوق الطفل في الحضانة والنفقة، وحفظ أمواله وحسن تسييرها، كما أسلفنا. وأخرى نهت عن العنف ضد الأطفال وأوصت بحسن المعاملة والليونة والإحسان إليهم، وحسن التربية والتعليم والتكفل بالأيتام والمعوزين (2)… .

ففي بـــــاب الإيصـــــــاء بالإحسـان للأطفال وحسن تربيتهم وتعليمهم قواعد الدين، ـ بالإضافة للأحاديث السابقة ـ، هنالك أحاديث كثيرة تبين ثقل المسؤولية الملقاة على عاتق الآباء والأولياء :

>إنما سماهم الله أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء. كما أن لوالديك عليك حقا، كذلك لولدك عليك حق< (رواه البخاري في “أدب المفرد” من حديث ابن عمر).

>رحم الله والدا أعان ولده على بِـره< (رواه الطبراني من حديث ابن عمر)(1).

>… فإذا بلغ ست سنين أُدِّب، فإذا بلغ تسع سنين عُزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضُرب على الصلاة…< (أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الضحايا والعقيقة).

وبالمقابل أمر الشرع الأبناء ببر الوالدين وحرم العقوق وجعله درجة من درجات الشرك. قال الله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانــا} (سورة الإسراء: الآية 23). {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} (سورة العنكبوت: الآية8). {واعبدوا الله والاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً…} (سورة النساء: الآية 36). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت النبي#أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: >الصلاة على وقتها< قلت: ثم أيّ؟ قال: >بر الوالدين<…(رواه البخاري ومسلم).

2. الحماية من الاستغلال في الشغل

بقراءة التاريخ يتبين أن الإسلام لما جاء واجهته ظواهر متفشية، منها ظاهرة الغلمان والرقيق كصور لتشغيل الأطفال. فلم يكن يملك سوى التعامل مع الواقع بتحرز في أفق احتواء الظواهر والقضاء عليها بالتدريج. ويمكن اختزال موقف الشرع في حديث: >لاعب ابنك سبعا وأدبه سبعا وصادقه سبعا…< حيث لامكان في هذه المدة بكاملها للتشغيل… لكن إن اقتضت الظروف أن يشتغل الطفل، فيجب أن يتم ذلك برحمة وإشفاق على نعومته وليونة عوده، فالدين المعاملة، والإحسان يجب أن يكون في كل شيء… .

أما تشغيل أبناء الغير فكان يتم في القديم تحت نظام الاسترقاق، لذلك جاءت الآيات والأحاديث حاثة على حسن معاملة العبيد وعدم استغلالهم: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا… وما ملكت أيمانكم} (سورة النساء: الآية 36). والأحاديث كثيرة، نكتفي ببعضها:

عن أبي ذر أنه سابَّ رجلا (بلال) على عهد الرسول، فعيره بأمه، فقال النبي:#>إنك امرؤ فيك جاهلية. هم(أي الأرقاء)إخوانكم وخَوَلُكم (خدمكم)، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان له أخ فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم< (رواه البخاري: باب العتق). وفي كتب الصحاح أحاديث من رواة عدة، تبين أن من آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضره الموت، الإحسان للخدم. من ذلك قوله:#>الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم< (رواه أبو داود من حديث علي: باب العتق). >اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم… ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون…< (مفرق في عدة أحاديث) >أطعموهم مما تأكلون… ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم< (حديث أبي ذر، رواه أبو داود: كتاب العتق)(1) .

والواقع أن تشغيل الأطفال في سن اللعب والتسلية والتمدرس، ظلم اجتماعي رهيب وخرق لأبسط الحقوق. إنما ونظرا لانتشار الظاهرة وفشل السياسات المنتهجة حتى الآن في القضاء عليها، لم يبقَ من مجال أمام القوانين المقارنة سوى محاولة احتوائها لخفض المخاطر التي تعترض الطفل(2). لذلك نجد جلها يقلص ساعات العمل إلى الحد الذي لا يضره، ويمنَعُ تشغيله في أماكن وأعمال معينة تهدد صحته أو نفسيته وأخلاقه. ووعيا من اتفاقية 1989م بعدم فعالية القوانين الداخلية في الحد من ظاهرة تشغيل الأطفال، حضت على حمايتهم مما يتعرضون له من استغلال وإهانات، بالبلدان النامية بالخصوص.

3. الحماية من الاعتداءات(3).

الأطفال أكبر ضحايا العنف. وإذا كانت الاعتداءات الجسدية تبدو عادية ببعض المجتمعات، فإنها غالبا ما تكون خطيرة، لما لها من عواقب على نفسية الطفل. والعنف الجسدي يمارس على الطفل بالعالم الثالث من قبل الأسرة، المدرسة، المشغل، عامة الناس… نظرا لانتشار العنف به.

والأخطر منه العنف الجنسي، لما له من عواقب نفسية واجتماعية تعصف عادة بمستقبل الطفل كلية. هذا العنف بالذات في تزايد مستمر بالنظر للتحولات التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، وما صاحبها من تفسخ خلقي وتشرد الأطفال، واستغلالهم للدعارة وإقبال الكبار على ممارسة الجنس على الصغار، بسبب عقد وحشية وطغيان المال، وبسبب ما تمارسه وسائل الإعلام وغيرها من انتهاك للآداب العامة وتحريض على الدعارة… .

والأحاديث في الباب كثيرة، وإضافة لما أسلفناه عن الحماية التي أولاها الشرع للطفل، نذكر الأحاديث التالية: >اللهم إني أُحَرِّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة< (رواه ابن ماجة في كتاب الأدب: باب حق اليتيم). ومعنى أحرِّج: ألحق الحرج والإثم، وأحذِّر من ذلك، وأزجر زجرا أكيدا. ومعنى الحديث أنه يحذر من كل اعتداء على الضعفاء، أيا كان نوع ضعفهم، وأيا كان نوع الاعتداء.

كما أقام الشرع قواعد متكاملة تحقق حماية أكيدة للطفل ضد الاعتداءات الجنسية. من ذلك أمره بعزل فراش الأطفال، وأمره بغض البصر ونهيه عن النظر لمحاسن الأطفال سواء منهم الإناث أو الذكور. كيف لا وظاهرة إتيان الغلمان كانت مستثرية قبل مجئ الإسلام. لذلك تكرر نهي الشرع عن النظر للصبيان متى كان الهدف من النظر الاستمتاع، واعتبر النظر إليهم أسوأ من النظر للنساء، لأن الثاني ينصلح بالزواج، والأول لا سبيل لإصلاحه سوى بالامتناع عن النظر. واعتُبِر مجرد النظر لوجه الصبي بالشهوة حراما مطلقا، فأحرى الاعتداء عليه جنسيا.

وإن هيئة الأمم المتحدة من جهتها، حضت، في اتفاقية 1989م على اتخاذ تدابير تشريعية وإدارية فعالة لمحاربة خطف الأطفال والاتجار بهم، وحمايتهم من العنف والاستغلال الجسدي أو الجنسي …(م 32 ـ 36).

ثامنا : حقوق الطفل الجانح في إعادة تأهيله

حتى عهد قريب كان مصير الطفل الجانح العقاب. ومع البحث ثبت أنه من الظلم مساءلة شخص لا يتمتع بالإرادة. آنذاك فقط بدأ الحديث عن وسائل أخرى لتقويمه. وفي الغَرب كلَّفت ظاهرة الجنوح طوال القرن الثامن والتاسع عشر، أبحاثا وموارد ضخمة لفهمها وإنشاء عدة مدارس. وانتهى المطاف إلى اعتبار الظروف الاجتماعية المسؤول الأول عن الجنوح واعتبار الانحراف مجرد مظهر لعدم القدرة على التكيف وتمردٍ من الحَدَث على الظلم الذي تجرعه. فحصل استقرار على أن الجانح مريض يحتاج للعلاج، وليس مجرما يستحق العقاب.

وإن ظاهرة الجنوح التي عانت منها الدول الغربية في القرن الماضي ولاتزال تعاني منها، انتقلت للبلدان النامية، بصحبة التحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية. مع فرق كبير بينهما في مقدار الوعي بخطورة المشكل، وطرق التصدي له.

واتفاقية 1989م نبهت لعدم فعالية التدابير التي تبنتها الدول، ولا سيما الدول النامية، في الحد من ظاهرة الجنوح. فبادرت للحث على الاهتمام بها أكثر:>تتخذ الدول كل التدابير لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل… ويجري هذا التأهيل عادة في بيئة تعزز صحته<.

أما الإسلام فاعتمد الوقاية أكثر من العلاج. إذ حضَّ على تربية الطفل أفضل تربية وتهذيب نفسه، وتنشئته على احترام الذات و حفظ كرامته… إضافة لتدابير وقائية تهدف لاتقاء التهميش وتتفادى منح الحياة لأطفال يكون مصيرهم الحرمان المفضي للجنوح: فتحريم الزنى وحده يقلص أعداد الأطفال غير الشرعيين والذين لا عائل لهم… إلى جانب الدعوة لإقامة الزواج على أسس متينة، واختيار الزوج المناسب، وحث من لم يستطع الباءة على عدم التزوج، وبغض الطلاق وحفظ صحة الأم، والانضباط حتى في زمن الحرب، وتوفير بيئة اجتماعية ملائمة والتقليص من التباين الطبقي… فهذه كلها أمور، إلى جانب أخرى، إذا أخذت بشمولية وطبقت كما يجب، أثبتت مدى فعالية النظام الإسلامي في الحد من عوامل التهميش.

لكن تركيزنا على الوقاية يجب ألا يعني أن الوسائل الوقائية تؤدي لاستئصال ظواهر اللااندماج أو التهميش بالكامل، بدليل أنها وجدت حتى في العهود الزاهرة للإسلام، تحت عدة صور. لذلك فالعلاج يبقى ضروريا أيضا. ومن أفضل العلاجات التي أقامها الشرع: نظام التكفل والتنزيل والرضاع و إيجاد أسرة بديلة صالحة ومستقرة للطفل المحروم، وتربيته و تعليمه… بهذه الوسائل المتكاملة، يمكن اتقاء ردات الفعل التي تدمر عادة الحدث قبل أن تدمر من وُجِّه التمرد ضده. وفي جميع الحالات فدور الدولة لا غنى عنه للمراقبة وإيجاد البنيات التحتية الكفيلة بتعويض الطفل عن الحرمان. وقد أعطينا أدلة بليغة عن البعد الاجتماعي للإسلام.

لكن إذا كانت قوانين الدول الإسلامية تكرس جزءً كبيرا من هذه الحماية، وكانت ظاهرة التهميش لا تزيد إلا تفاقما، فمعناه أن فشل الحماية يعود لأسباب أخرى ربما غير تشريعية، يجب أن نتعرف عليها.

الهوامش

(1) فالإسلام عوَّل على الوقاية أكثر من العلاج، بإقامته نظاما يحكم العلاقة بين الجنسين ويشجع على الإحصان والتزاوج. وبالمقابل عاقب الزنى والخيانة الزوجية والاغتصاب… .

((2 راجع بعض النوازل مثلا في الموطأ للإمام مالك: كتاب الأقضية، باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه.

(3) فلإثبات زنى الزوجة يلزم الإتيان بأربعة شهداء، فإن لم يكونوا أربعة شهداء لزم الزوج الملاعِن أن يقسم أربع مرات أنه من الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم تقسم الزوجة بمثل ذلك والخامسة غضب الله عليها، استنادا لقوله تعالى: { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسُهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسه أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرؤا عنها العذابَ أن تشهد أربعَ شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين }(سورة النور: الآيات : 6 ـ9). فإن رفض الزوج الإدلاء بالقسم، أو إذا تراجع عنه اعتبر ذلك منه قذفا في حق زوجته، فيقام عليه الحد (ثمانين جلدة).

(4) اختلف الفقهاء في تحديد أدنى وأقصى أجل الوضع لاعتبار الطفل شرعيا. وقد ذهب بعض الفقهاء بعيدا فحدد المدة القصوى في خمس سنوات بعد انفصام الزوجية (المالكية)، وحددها البعض الآخر في سنة، وهو الراجح. أما أدنى الأجل فلم يثر خلافا كبيرا، ويكاد الفقه يجمع على أنه ستة أشهر من تاريخ إبرام العقد، استنادا لآيات الحمل والرضاع: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (الأحقاف 15)، { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين }(البقرة 233). إذ بخصم مدة الحولين ( 24شهرا) من الثلاثين شهرا يكون الفرق هو ستة أشهر. وبناء على ذلك اعتبرت هذه المدة أدنى أمد الحمل، ليولد الطفل قابلا للحياة.

(5) لكونه من غير محارمها، فلا يحق لها رؤيته، بسبب ما لاحظه من شبه بينه و بين عتبة بن العاص، ومع ذلك اعتبره ابنا لزمعة لأنه ولد على فراشه، وفي الشرع الإسلامي الولادة على فراش الزوجية قرينة على أن الولد من الزوج ما لم يثبت العكس، بالأدلة المحددة شرعا.

(6) يراجع الموطأ للإمام مالك: إسعاف المبطأ برجال الموطأ للسيوطي: باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه. وباب القضاء في أمهات الأولاد.

(7) يراجع الموطأ في باب القضاء في ميراث الولد المستلحَق.

(8) F. DEKHEUWER-DEFOSSEZ : LesDroits de lصEnfant, op. cit, p . 52… .

(9) فالإنفاق على اليتيم يعد أهم أبواب الإنفاق من الخيرات، وذلك في إطار :

( الزكاة أو الصدقات، والآيات في الباب كثيرة: { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} (البقرة 177)، { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} (الإنسان 8)، { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين }(البقرة 215).

أو قسمة التركة: { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه }(النساء8).

أو الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} (الأنفال41)، {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى والمساكين وابن السبيل} (الحشر7).

( كما أوصى بالإحسان للأيتام: {ويسألونك عن اليتامى، قل إصلاح لهم خير} (البقرة 2200)؛ { لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى } (البقرة 83) {فأما اليتيم فلا تقهر} (الضحى9).

( واعتُبر عدم إكرام اليتيم معصية كالشرك، وأحد أسباب غضب الله على الأمم: { أرايت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم } (الماعون2-1 )، { كلا، بل لا تكرمون اليتيم }(الفجر 17).

( وحرص الشرع على حماية أموال اليتامى ونظم كيفية تسييرها وتسليمها لهم إذا بلغوا الرشد: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}(الأنعام 152؛ الإسراء 34)؛ { وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} (النساء 2)، {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، و لا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا، ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم،} (النساء6)، كما بين شروط التزوج من يتامى النساء: { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن، والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط} (النساء127):

(10) وإن كانت اتفاقية لاهاي في 29 ماي 1993مثلا لا تخفي تحفظها من التبني، كلما تعلق الأمر بالدول الإسلامية معتقدة أنها تحرم التبني مطلقا. لذلك فنحن مطالبون بتنوير الرأي العام الدولي بشأن موقف الإسلام الصحيح، من التبني وإحلاله محل التصور الذي كونته عنه الثقافات الأجنبية.

(11) تكرر فرض الزكاة في أزيد من 30 موضعا في القرآن الكريم، واقترنت في جلها بالصلاة… .

(12) C. NEIRINC : La Protection de laPersonne de lصEnfant contre ses Parents,1984.

(13) للتوسع يراجع مثلا الموطأ في كتاب: العقيقة، الطلاق، الرضاع، الأقضية؛ الإحياء: كتاب آداب النكاح.

(14) رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب، من حديث علي بن أبي طالب. ورواه النوقاني من رواية الشعبي مرسلا. يراجع الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 2 ، ص 237.

(15) يراجع أيضا البخاري: كتاب العتق، مسلم: كتاب العتق، الموطأ كتاب العتق والولاء، الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين، ج 2، ص 239 .

(16) انظر مثلا: الشويرجي: رعاية الأحداث في الإسلام والقانون المصري: منشأة المعارف،الاسكندرية، 1985 آمال جلال: بعض الجوانب القانونية لرعاية الطفولة: المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد.

(17)Voir ex: D. DUVAL-ARNOULD: Le Corsde lصEnfant: Paris 1994; H. MANSEAU: Lصabus Sexuel et lصinstitutionnalisation dela protection de la Jeunesse: ISBN 1990 …