النتائج المترتبة على حجية الحكم بعدم الدستورية

المؤلف : مها بهجت يونس الصالحي
الكتاب أو المصدر : الحكم بعدم دستورية نص تشريعي ودورة في تعزيز دولة القانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

ان أهمية إسباغ الحجية المطلقة على الأحكام الصادرة بعدم الدستورية تظهر من خلال دراسة النتائج العديدة المترتبة على حجية تلك الأحكام ، والتي تتمثل بما يأتي :

المطلب الأول : اعتبار الحكم بعدم الدستورية ملزماً لجميع سلطات الدولة ولكافة الأشخاص الطبيعية الاعتبارية

ومعنى هذا المبدأ – الذي يمثل نتيجة منطقية لإسباغ الحجية المطلقة على الأحكام بعدم الدستورية ، ان هذه الأحكام يحتج بها في مواجهة الكافة ، أي لا تقتصر حجيتها على أطراف الدعوى أو من صدرت في مواجهتهم فقط ، وإنما تتعداهم إلى غيرهم ، من كانوا أطرافاً في الدعوى ومن لم يكونوا ، بل وفي مواجهة جميع سلطات الدولة(1). وهذا المبدأ يؤدي إلى تصفية النزاع حول دستورية النص التشريعي مرة واحدة وبصفة نهائية مما لا يسمح لأي احتمالات لاختلاف الاجتهاد في شأنه ، أو التناقض بين الآراء حوله . وبالتالي فلا يملك فرد ان يثير مستقبلاً نزاعاً أو شكاً حول نص قضي بعدم دستوريته .

كما أن المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها ملتزمة بالامتناع عن تطبيق النص الذي قضي بعدم دستوريته ، بمعنى أنه إذا ما دفع امام المحكمة بعدم دستورية نص معين ، واتخذ الدفع مساره حتى قضي بعدم دستوريته ، فإن الحكم بعدم دستورية النص ملزم للمحاكم كافة سواء تلك التي قد أبدي الدفع امامها أم غيرها من المحاكم على اختلاف درجاتها وأنواعها . بل لعله يصبح من واجب المشرع أن يعيد النظر في النص الذي قضي بعدم دستورية فيعدله أو يلغيه ، ليحقق اتفاقه مع الدستور . كما ان من واجب السلطة التنفيذية أن تمتنع عن تطبيق هذا النص على ما ينشأ مستقبلا من حالات فردية يمكن أن يحكمها هذا النص (2). وهذا المبدأ قررته المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا في مصر إذ نصت على ان ” أحكام المحكمة في الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة .. ” وهو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا فيما قضت به في العديد من أحكامها ، ومنها حكمها الصادر في 8 أبريل 1995 والذي تقول فيه أن : ” الخصومة الدستورية عينية بطبيعتها ، ذلك ان قوامها مقابلة النصوص التشريعية القانونية المدعى مخالفتها للدستور ، بالقواعد التي فرضها على السلطتين التشريعية والتنفيذية لإلزامهما بالتقيد بها في ممارستهما لاختصاصاتهما الدستورية ، ومن ثم تكون هذه النصوص ذاتها هي موضوع الخصومة الدستورية أو هي بالاحرى محلها ، وهي لا تبلغ غايتها الا بإهدار تلك النصوص بقدر تعارضها مع الدستور .

وقضاء المحكمة الدستورية العليا في شأنها يحوز تلك الحجية التي تطلق آثارها في مواجهة الدولة على امتداد تنظيماتها وتعدد مناحي نشاطها ، وكذلك بالنسبة إلى الأغيار جميعهم ، ومن ثم لا تنحصر آثار أحكامها فيمن يكون طرفاً في الخصومة الدستورية سواء باعتباره خصماً أصيلاً أو منضماً ، بل يكون سريانها على من عداهم التزاماً مترتباً في حقهم بحكم الدستور ” (3). وتحقيقا لالزامية الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا ، نص دستور 1971 المصري النافذ ، في المادة (178) منه على الكيفية التي يتم بها علم المؤسسات الحاكمة والافراد والمحاكم الاخرى بالحكم الصادر في الدعاوى الدستورية . فتطلب ضرورة نشر هذه الأحكام في الجريدة الرسمية (4) . كما نصت على هذا الحكم المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا (5) .

ولا شك أن نشر الحكم وأسبابه هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن عن طريقها افتراض علم الكافة بمضمون الحكم ، على نحو يكفل استقرار المعاملات والأحكام القضائية (6) .وفي النظام الدستوري العراقي نستطيع القول ان جميع الدساتير التي اخذت بالرقابة القضائية على دستورية القوانين قد أخذت بهذا المبدأ ونصت عليه صراحة في نصوصها . ففي القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 ذهبت المادة (87) إلى اعتبار قرارات المحكمة العليا ملزمة للكافة وغير قابلة للطعن فيها امام أي هيئة اخرى ويجب تطبيقها في جميع المحاكم ودوائر الدولة.

كما نصت المادة (87) من دستور 21 أيلول 1968 المؤقت على أن ” تشكل بقانون محكمة دستورية عليا .. ويكون قرارها ملزماً ” ، وقانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 نص في الفقرة د/من المادة 44 على جعل قرارات المحكمة الاتحادية العليا ملزمة . كما نصت المادة (94) من دستور جمهورية العراق النافذ لسنة 2005على أن ” قرارات المحكمة الاتحادية العليا باته وملزمة للسلطات كافة ” ، وكان الاجدر بالمشرع الدستوري أن يجعلها ملزمة للسلطات العامة والكافة (أي الاغيار من الاشخاص الطبيعية والاعتبارية ) . وفي النظام الدستوري الأمريكي تعد الأحكام التي تصدرها المحكمة الاتحادية العليا نهائية ، وتقيد المحاكم الاخرى على مستوى الدولة والولايات (7) ، حيث تلتزم جميع المحاكم في النظام القضائي بعدم تطبيق القانون الذي قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستوريته . كما ان التطبيق العملي لمبدأ الرقابة على دستورية القوانين من قبل المحكمة الاتحادية العليا أثبت أن الأحكام التي تصدرها تلك المحكمة والمبادئ الدستورية التي تقرها عن طريق تلك الأحكام لا تلزم المحاكم الاخرى فقط ، بل هي تلزم الرئيس ومسؤولي الهيئة التنفيذية الاخرى ، والكونكرس ايضاً (8).

المطلب الثاني : الحجية المطلقة للأحكام بعدم الدستورية تثبت للمنطوق والأسباب المرتبطة به.

يمكن أن يثار التساؤل عما إذا كانت الحجية المطلقة تثبت لمنطوق الحكم بعدم الدستورية، ام تمتد كذلك إلى أسبابه ؟ والقاعدة المقررة بهذا الخصوص هي أن العبرة في الأحكام بمنطوقها ، ولا تعد الأسباب التي حمل عليها هذا المنطوق جزءاً منه إلا بقدر ارتباطها به ارتباطاً وثيقاً لا تقوم له قائمة بدونها ، بحيث تكون معه وحدة لا تتجزأ ، أو يتكون منها عناصره الأساسية(9). وهذا ما استقرت عليه آراء الفقه والقضاء . ويشترط لقيام هذه القاعدة أن يكون هناك ترابط بين المنطوق والأسباب والا يكون هناك تعارض ، فإذا وجد هذا التعارض فقد يفضي إلى بطلان الحكم ذاته (10) . ويدلل الفقه على هذه القاعدة بما يأتي :

1-ان حجية الحكم تكون لمنطوقه ، وهذا هو الأصل ، غير انها قد تمتد إلى الأسباب ايضاً ، إذا ارتبط منطوق الحكم بها ارتباطاً وثيقاً بحيث تصبح هذه الأسباب مكملة ومفسرة للحكم(11).

2-لا يقتصر نطاق الحكم على ما ورد في المنطوق ، إذ يحدث كثيراً الا يتضمن منطوق الحكم ­سوى جزء مما قرره القاضي ويرد الجزء الآخر في الأسباب فيكون حينئذ جزءاً من قضاء الحكم (12).

3-ينتظم الحكم الدستوري – كغيره من الأحكام القضائية الاخرى – اياً كانت نوعية المحاكم التي أصدرتها ، قاعدة أصولية ، تقضي بوجوب أن تكون الأحكام مسببة ، وعدم شمول الأحكام على مسبباتها يقود إلى تقرير بطلانها ، كما ينبغي إلا يشوب الأسباب غموض أو إبهام ، والا يقع في الحكم تناقض أو تضارب بين الأسباب وبعضها الآخر ، أو بين الأسباب والمنطوق ، أي يجب أن يتقيد منطوق الحكم بالاسباب الواردة فيه ، وهذا ما جرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر (13) . إلا أن هذه المحكمة قد خرجت على هذا المنهج في حكم مهم ، إذ حدث تناقض بين منطوق هذا الحكم وأسبابه . فقد جاء في منطوق حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 19 مايو 1990 القضاء بعدم دستورية المادة الخامسة مكرر من القانون رقم 38 لسنة 1972 بشان مجلس الشعب المعدل بالقانون رقم 188 لسنة 1986 فيما تضمنه من النص على أن يكون لكل دائرة عضو واحد ، ينتخب عن طريق الانتخاب الفردي ويكون انتخاب باقي الأعضاء الممثلين للدائرة عن طريق الانتخاب بالقوائم الحزبية . بينما تضمنت أسباب هذا الحكم خلافاً لهذا المنطوق أمرين متعارضين :

أولهما : بطلان تشكيل مجلس الشعب منذ انتخابه .

وثانيهما : بقاء القوانين والقرارات والإجراءات التي اتخذها المجلس قبل صدور الحكم وقبل تاريخ نشره في الجريدة الرسمية صحيحة ونافذة (14). ولذلك يثار التساؤل عن الحل في هذه الحالة ، وهل تثبت الحجية لمنطوق الحكم ، ام تثبت لمنطوق الحكم وأسبابه معاً على الرغم من عدم تقيد منطوق الحكم بأسبابه ؟ انقسم الفقه الدستوري بخصوص هذه المسألة فيما يتعلق بالحكم الدستوري السابق إلى فريقين(15) :

ذهب الفريق الأول إلى إعمال أسباب الحكم – بما انتهت إليه – بالرغم من خروجها على المنطوق وعدم تقيد المنطوق بالأسباب ، أي أن هذا الفريق ينتهي إلى التقرير ببطلان تشكيل مجلس الشعب منذ انتخابه بناء على عدم دستورية المادة التي تنظم انتخابات مجلس الشعب ، بل إن جانباً متشدداً من هذا الفريق يقرر ضرورة إلغاء القوانين والإجراءات التي اتخذها المجلس منذ انتخابه وحتى تاريخ نشر الحكم في الجريدة الرسمية وانعدام ما ترتب عليها من آثار ، على الرغم من أن الحكم انتهى في أسبابه إلى نتيجة عكسية ، أي مشروعية وصحة نفاذ القوانين والقرارات والإجراءات الصادرة عن المجلس خلال تلك المدة . وعلى خلاف الفريق السابق ، ذهب فريق آخر إلى التقرير بأن أثر الحكم وحجيته يتحدد في منطوقه – عدم دستورية المادة الخامسة مكرر من القانون – (16) .

دون أن يمتد هذا الأثر إلى ما ورد في أسباب الحكم من بطلان تشكيل مجلس الشعب منذ انتخابه ، لأن حل مجلس الشعب لو حدث لا يكون إلا بقرار سياسي لا علاقة له بالمحكمة الدستورية العليا انما يملكه رئيس الجمهورية بعد استفتاء الشعب . ونعتقد رجحان رأي الفريق الثاني الذي يذهب إلى انه في حالة التناقض بين أسباب الحكم ومنطوقه ، فإن حجية الحكم تثبت لمنطوقه دون أسبابه ، وعليه فإن حجية حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 19 مايو 1990 ، المشار إليه سابقاً ، تثبت لمنطوقه دون أسبابه وذلك للتعارض الموجود بين منطوق الحكم وأسبابه ، حيث نجد أن المحكمة قد نصت في منطوق حكمها على عدم دستورية المادة التي تم انتخاب أعضاء مجلس الشعب على أساسها حين اتضح لها تعارض هذه المادة مع أحكام الدستور ، بينما قضت المحكمة في أسباب حكمها بأمرين متناقضين أولهما تقرير بطلان تشكيل مجلس الشعب منذ انتخابه تأسيساً على ثبوت عدم دستورية النص الذي انتخب المجلس على أساسه ، في حين قضت المحكمة في ذات الوقت في أسباب الحكم ذاتها ببقاء القوانين والقرارات والإجراءات التي اتخذها المجلس قبل صدور الحكم وقبل تاريخ نشره في الجريدة الرسمية صحيحة ونافذة وهو ما يتناقض مع انتهاء المحكمة في أسباب الحكم إلى بطلان تشكيل مجلس الشعب منذ انتخابه ، فضلا عن أن منطوق الحكم قد جاء مقتصراً على التقرير بعدم دستورية نص قانون الانتخاب من دون اشتماله على بطلان تشكيل المجلس منذ انتخابه وهو ما ورد في أسباب الحكم مما يبرز عدم التناسق بين منطوق الحكم وأسبابه .

4-إذا كان اشتراط التسبيب في الأحكام الدستورية يخضع للأصل العام الذي يسري على تسبيب الأحكام القضائية الأخرى ، الا انه يتميز بجواز أن يكون التسبيب عن طريق الإحالة إلى أحكام سبق صدورها عن ذات المحكمة في حالة تماثل موضوع الدعويين (17) ، ويكمن الهدف من وراء هذا الاستثناء هو التأكيد على الحجية المطلقة للأحكام الدستورية .

وقد أخذت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأسلوب التسبيب عن طريق الإحالة وذلك تاكيداً منها للحجية المطلقة لأحكامها . ولهذا قررت في أحد أحكامها عدم قبول الدعوى المتعلقة بعدم دستورية المادة (226) من القانون المدني بشأن الفوائد ، وأحالت فيه إلى أسباب حكمها الصادر بجلسة 4/5/1985 والذي رفضت فيه الدعوى بعدم دستورية النص(18). وايضاً حكمت بعدم قبول الدعوى بشأن دستورية المادة الثانية من القرار بقانون رقم 141 لسنة 1981 بشان تصفية الأوضاع الناشئة عن فرض الحراسة ، وقد أحالت فيما يتعلق بالأسباب إلى حكمها الصادر في الدعويين رقم 139 لسنة 4 قضائية ، ورقم 142 لسنة 5 قضائية (19). ويشترط لثبوت الحجية المطلقة للأسباب بالاضافة إلى منطوق الحكم الا تتجاوز المحكمة الدستورية في قضائها حدود النزاع المطروح عليها ، لأن ما يرد في أسباب الحكم زائداً عن حاجة الدعوى لا يحوز حجية الشيء المحكوم به ، فإذا عرضت المحكمة في بعض أسباب حكمها إلى مسألة خارجة عن حدود النزاع المطروح عليها ، أو لم يكن بها حاجة إليها للفصل في الدعوى ، ففي هذه الحالة لا تحوز الأسباب الزائدة الحجية . وبالتالي فإن ما يرد في أسباب الحكم بعدم الدستورية ، من تقريرات قانونية زائدة عن حاجة الدعوى ، لا يكون لها حجية مطلقة ، بل وليس لها حتى حجية نسبية في الدعوى الموضوعية التي أثيرت بشأنها الدعوى الدستورية (20).

المطلب الثالث : عدم جواز العدول عن الحجية المطلقة للأحكام بعدم الدستورية إلا في حالات محددة .

ان مقتضى الحجية المطلقة التي يحوزها الحكم بعدم الدستورية الا تثار المسألة الدستورية التي تضمنها هذا الحكم من جديد امام المحكمة الدستورية ، ومع ذلك فقد اتجهت بعض المحاكم الدستورية في اوروبا (21) . إلى العدول عن مبادئها القانونية السابقة والتي اعتنقتها بمناسبة الفصل في موضوع الدعاوى الدستورية – سواء بعدم الدستورية أو برفض الدعوى – مما يعني نقض الحجية المطلقة لأحكامها ، وذلك في حالة واحدة وهي إذا تغيرت الظروف والأوضاع للمجتمع باعتناقه أفكاراً جديدة وقيماً تؤدي إلى إمكانية تغيير الاتجاه في الحكم في المسألة الدستورية (22). الا ان هذ الاتجاه لم يحظ بالقبول لدى غالبية الفقه ، وهو يفرق في هذا الصدد بين فرضين :

الفرض الاول : هو أن تعدل المحكمة الدستورية عن قضائها بعدم دستورية قانون معين فتعامله على أنه دستوري بعد ان حكمت بعدم دستوريته . وهذا الفرض غير وارد في الدول التي تأخذ برقابة الإلغاء . ذلك أنه إذا كان هذا العدول عن الحجية يصادف محله في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يؤخذ برقابة الامتناع ، فيبقى القانون الذي حكم بعدم دستوريته قائماً ، فإن هذا العدول لا يصادف محله في الدول التي تأخذ برقابة الإلغاء حيث يكون الجزاء المترتب على الحكم بعدم الدستورية هو إلغاء القانون المخالف للدستور ، فيصبح هذا القانون منعدم القيمة منذ صدوره او منذ صدور الحكم بعدم دستوريته . ومن ثم فليس هنالك من سبيل إلى إعادة العمل بأحكام ذلك القانون إلا عن طريق سن قانون جديد يحل محله من قبل السلطة التشريعية .

الفرض الثاني : هو أن تعدل المحكمة الدستورية عن حكمها بدستورية قانون معين فتقضي بعدم دستوريته ويمكن أن يحدث ذلك عند تغيير أعضاء المحكمة باعضاء جدد وما يترتب على ذلك من احتمال اختلاف أراء هؤلاء عن أراء القضاة السابقين حول دستورية قانون أو عدم دستوريته . أو أن الظروف قد تطورت وتغيرت على نحو يحمل المحكمة على العدول عن حجية أحكامها .

وحقيقة الأمر أن مثل هذه المسألة يحكمها حينئذ مبدأ توازن الأضرار الناتجة من هذا العدول بالاضرار الناتجة عن استمرار تطبيق القانون ، ثم اختيار أخفهما ضرراً ، مع الوضع في الاعتبار إمكانية التخلص من ذلك بوسيلة أخرى أيسر وأهدأ من طريق العدول ، وذلك عن طريق سن تشريع جديد يعالج المشكلة القانونية (23). ونعتقد رجحان ما ذهب اليه غالبية الفقه من أن ثبات المحكمة على حكمها السابق بدستورية القانون أوفق من العدول عنه بحكم يقرر عدم دستوريته ، وينقض ما كان له من حجية تعد عنصراً مهماً من عناصر إستمرار القانون واستقراره وتستمد قيمتها من الحاجة النفسية إلى الاطمئنان على المستقبل .

ذلك أنه مما لا ريب فيه أن ذلك العدول سوف يحدث صدمة خطيرة تنذر بتهديد الإستقرار في المعاملات وتجعل ذوي الشان في حيرة من حقيقة مراكزهم القانونية وتسقط هيبة المحكمة وإحترامها عند الجمهور ، عندما يعلم أن شيئاً مما قالته بالأمس لا يلزمها اليوم . وفضلاً عن ذلك كله فإن العدول عن الحكم السابق بدستورية القانون ، على الرغم من خطورة نتائجه – ليس هو الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه المسألة – ، إذ أن هنالك وسيلة اخرى متوفرة وميسرة ، ولا يترتب عليها ما يترتب على العدول من نتائج خطيرة ، الا وهي قيام السلطة التشريعية بسن تشريع جديد يعالج المشكلة القانونية على نحو سليم (24). ولمعرفة موقف القضاء الدستوري المقارن من مسألة العدول عن حجية الأحكام بعدم الدستورية، سنفصل ذلك على النحو الآتي :

أولاً : المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية ومدى جواز العدول عن حجية أحكامها.
ان المحكمة الاتحادية العليا تعمل في ظل مبدأ حجية السوابق القضائية Principle of stare Decisis ومؤداه أنه عند عرض النزاع على القضاء تبحث المحكمة في الأحكام السابقة لترى إن كانت المشكلة نفسها قد عرضت عليها من قبل ، وحينئذ تتبع المبدأ نفسه وتؤكد نفس القاعدة التي قررها الحكم القديم ، وكلما تتابعت أحكام القضاء في الاتجاه نفسه كلما اكتسب المبدأ المقرر فيها حجية وقيمة بالغتين فيما يعرض على المحاكم في شأنه . ويبرر الفقه والقضاء الانكلوسكسوني هذه القاعدة بانها وحدها الكفيلة بثبات القواعد القانونية واستقرار المعاملات في ظلها (25).

وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ إلا أن المحكمة الاتحادية العليا لم تلتزم به على اطلاقه في المجال الدستوري بصفة خاصة ، وانها عبرت – في وقت مبكر للغاية – عن القيمة النسبية لهذا المبدأ، وذلك عام 1849 في القضية المعروفة باسم The Passenger Cases مقررة ان ” القاعدة التي تجري عليها هذه المحكمة هي ان آراءها في تفسير الدستور تظل دائماً مفتوحة للبحث ، لإعادة النظر فيها إذا تبين أنها أقيمت على أساس خاطئ ، وحجية هذه الآراء يجب الا تعتمد إلا على قوة ما تستند اليه من منطق وتدليل ” (26). كما عاد القاضي الشهير Brandies فشرح موقف المحكمة الاتحادية العليا من مبدأ حجية السوابق القضائية حين يتصل الأمر بتفسير الدستور ، وذلك في رأي مخالف له Dissenting Opinion عام 1932 في قضية Burnet v. Coronado Oil and Gas Co. ، ذهب فيه إلى أنه ” حين يتصل الأمر بتفسير الدستور الاتحادي ، ويتعذر تصحيح الاخطاء القضائية بإصدار تشريعات جديدة ، فقد جرت هذه المحكمة على تصحيح أخطائها بنفسها عن طريق نقض أحكامها السابقة ، نازلة بذلك عند حكم التجربة وما يتضح أنه الأصح والأسلم من المبادئ القانونية ” (27).

وأعقب Brandies هذا التدليل قائمة طويلة بعدد من الأحكام التي نقضت فيها المحكمة قضاءها السابق مؤثرة تصحيح خطئها على الاستمرار فيه بدعوى المحافظة على استقرار الأوضاع القانونية . وعادت المحكمة عام 1944 فأكدت القاعدة نفسها بمزيد من الوضوح في قضية Smith v. Allwright ، وفي هذا الحكم نقضت المحكمة قضاءها السابق في قضية Grorey v. Townsend . ومع كثرة المناسبات التي عدلت فيها المحكمة العليا عن أحكامها السابقة (28) ، فإن المدة بين عامي 1937 و 1946 – وهي المدة التي أعقبت أزمة المحكمة مع الرئيس روزفلت – قد شهدت أكبر وأسرع تحول في اتجاهات المحكمة ، وسجل عليها الشراح في تلك المدة عدولها عن أكثر من ثلاثين سابقة يرجع بعضها إلى أكثر من مائة عام ولم تمض على بعضها الاخر غير أشهر معدودة .

وقد اختلفت آراء الشراح الأمريكيين (29) . في تقدير هذه الظاهرة :

1- رأى بعضهم في عدول المحكمة الصريح عن بعض السوابق أمراً يبعث على الثقة بها ويكشف عن مدى حرصها على تصحيح أخطائها بنفسها مؤثرة التعرض للصدمة الناتجة عن هذا العدول ، من الالتجاء إلى تصويرات وتفريعات مصطنعة لتبرير الخروج على السوابق القديمة التي تكتشف فسادها .

2- ورأى فريق آخر في هذه الظاهرة امراً شديد الخطورة ، يهدد الاستقرار في المعاملات ويجعل ذوي الشأن في حيرة من حقيقة مراكزهم القانونية ، فلا يكاد أحد منهم يتنبأ بموقف المحكمة منه حتى في ضوء أحدث السوابق القضائية وأكثرها انطباقاً على مركزه القانوني. ويعلق الدكتور أحمد كمال ابو المجد على هذه المشكلة قائلا :

” على أن التعميم في هذه المشكلة لابد أن يؤدي إلى الخطأ ، إذ يجب في تقديرنا قبل الحكم على مسلك المحكمة في ذلك أن تبحث الأسباب الحقيقية للعدول عن السوابق القديمة في كل حالة على حدة ، وأن نوزن الاضرار الناتجة من هذا العدول بالاضرار الناتجة عن استمرار المحكمة في تطبيقها لسابقة فاسدة . ومن ناحية أخرى فلا يجوز أن يتوهم أن المحكمة – حتى في المراحل التي بلغ فيها عدولها عن السوابق درجته القصوى – قد أسقطت من حسابها ما تقوم عليه قاعدة إلزام السوابق من إعتبارات عملية جديرة بالاعتبار أو أنها قد عدلت عن هذا المبدأ كلية في قضائها . فهذا فرانكفورتر يقرر عام 1940 في قضية Helvering v. Hallock (30) ” إن المحكمة ترى في حجية السوابق القضائية قاعدة هامة من قواعد السياسة الاجتماعية ، إذ لا شك أن هذه الحجية عنصر هام من عناصر إستمرار القانون واستقراره وهي تستمد قيمتها من الحاجة النفسية إلى الاطمئنان على المستقبل استناداً إلى تكهنات أو تقديرات معقولة .. .

… وكل ما هنالك ان السرعة النسبية الكبيرة التي تتم بها التطورات الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة – وضرورة تطور القانون ونموه لموائمة هذه التغييرات المتجددة ، كل ذلك كان لابد أن يحمل المحكمة على إعادة النظر في موقفها من حين لاخر ” .(31)

ثانياً : المحكمة الدستورية العليا في مصر ومدى جواز العدول عن حجية أحكامها .
يكاد يجمع الفقه المصري على انه إذا كان مقتضى الحجية المطلقة التي يحوزها الحكم سواء أكان بعدم الدستورية ام برفض الدعوى ، الا تثار المسألة الدستورية التي تضمنها هذا الحكم من جديد امام المحكمة الدستورية العليا ، فان ثمة حالة وحيدة يمكن ان تتم فيها إعادة عرض هذه المسألة على المحكمة التي تتولى عندئذ الفصل فيها من دون أن يكون في ذلك خروج على الحجية المطلقة للحكم الذي سبق صدوره في شأنها ، وتتحقق هذه الحالة عندما يصدر دستور جديد ، أو يعدل الدستور القائم ، ويصبح النص التشريعي الذي سبق للمحكمة أن قررت دستوريته مخالفاً للدستور الجديد ، أو التعديلات المستحدثة . فالأصل العام أن المرجع في دستورية تشريع معين يكون إلى أحكام الدستور الذي صدر هذا التشريع في ظلها وذلك طوال مدة سريانها ، فإذا أستبدلت بها أحكام دستورية جديدة ، فان الأحكام الدستورية المستحدثة تكون هي المرجع في دستورية هذا التشريع ، وهذا هو ما يقتضيه علو أحكام الدستور القائم على ما عداها . وفيما عدا الحالة السابقة فان النزاع الدستوري الذي سبق القضاء بعدم دستوريته ، أو برفض الدعوى الدستورية بشأنه لا يجوز أن يتجدد أمام المحكمة الدستورية العليا مرة اخرى ، لأن الحكم الذي صدر بشأنه له حجية مطلقة ، تحسم الخصومة بشأن دستورية النصوص المطعون عليها حسماً مانعاً من نظر أي طعن يثور من جديد بشأنها (32). وعلى الرغم من هذا الاجماع الفقهي حول عدم جواز عدول المحكمة الدستورية العليا عن حجية أحكامها، عدا الحالة الوحيدة التي ذكرت آنفاً ، إلا أن هناك رأي للدكتور أحمد كمال ابو المجد يذهب فيه إلى ان الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتبدل وتتطور ، وقد يكون ما قضت به المحكمة الدستورية العليا بالأمس لا يتناسب مع ظروف اليوم ، مما يصح معه القول بامكانية عدول المحكمة عن بعض أحكامها القديمة التي أصبحت لا تواكب تطورات المجتمع ، ومما يشجع على المضي في هذا الرأي أمران :

أولهما : أن مصر ليست من الدول التي يقرر نظامها القانوني مبدأ حجية السوابق القضائية المقرر والمعروف في النظام القانوني الانكلوسكسوني . ومن ثم فليس هنالك ما يحول دون مراجعة بعض المبادئ التي قررتها الأحكام السابقة للمحكمة والتي تظهر الحاجة واضحة إلى مراجعتها في ظل ما طرأ بعد صدورها من تطورات سياسية ، واجتماعية، واقتصادية تستوجب تلك المراجعة .

وثانيهما : أن للمسالة خصوصية متميزة حين تتصل بالقضاء الدستوري ، وحين تتصل – بصفة خاصة – بالمبادئ التي قررتها الأحكام السابقة حماية للحريات وإعمالا للحقوق، والضمانات التي قررتها نصوص الدستور .

اذ يتجنب كثيرون تشجيع المحكمة على العدول عن أحكامها القديمة ، اعتقاداً بأن الراجح ، أن يكون ذلك العدول تراجعاً عن بعض المبادئ التي قررتها الأحكام القديمة ، وانتقاصاً من الحقوق والحريات التي استقرت الأحكام على امتناع المساس بها .

وحقيقة الأمر أن قضية ” التراجع ” الذي يخشى منه بعضهم ، تظل امراً متعلقاً بالسياسة القضائية للمحكمة ، مرجعه في النهاية إلى تصورها لعلاقاتها بسائر السلطات ، ووعيها بأهمية الدور الكبير الذي تؤديه في تثبيت دعائم الشرعية الدستورية . ويظل الامر في النهاية مرتبطاً بسياسة المحكمة ومدى قدرتها على التوفيق بين اعتبارات الاستقرار والاستمرار ، واعتبارات الرجوع إلى الحق حين يتكشف وجه الخطأ أو يتبين مقدار الضرر الذي سببه حكم قديم لها (33). ويدل استقراء أحكام المحكمة الدستورية العليا على أن المحكمة وإن لم تعرض على نحو مباشر لمناقشة حق المحكمة في العدول عن بعض أحكامها القديمة ، إلا ان هناك احكاما غير قليلة عدلت فيها المحكمة فعلا عن مبادئ قررتها في أحكام سابقة من دون أن تصرح عن هذا العدول ، ومن ذلك على سبيل المثال أن المحكمة الدستورية قد رفضت بحكم شهير لها صادر في القضية رقم (20) للسنة الاولى القضائية ” دستورية ” (34) . الطعن بعدم دستورية ما تقرره المادة 226 من القانون المدني من فوائد يدفعها المدين بمبلغ من النقود معلوم المقدار نظير تأخره عن السداد . وهي فوائد مقدارها (4%) في المسائل المدنية و (5%) في المسائل التجارية ، وكان من أسباب هذا الطعن مخالفة هذا الحكم لأحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها التي أصبحت منذ عام 1980 المصدر الرئيسي للتشريع بمقتضى التعديل الذي تقرر في تلك السنة للمادة الثانية من الدستور .

وأستندت المحكمة في رفض هذا الطعن إلى أن المادة (226) المطعون بعدم دستوريتها قد صدرت عام (1948) ، أي قبل نفاذ المادة الثانية من الدستور ، حتى قبل تعديل نصها الأصلي الذي تضمنه دستور عام 1971 ، وأن القيد الذي فرضه المشرع الدستوري على المشرع العادي بمقتضى المادة الثانية من الدستور لا ينصرف إلا إلى التشريعات التي تصدر بعد نفاذ المادة الثانية من الدستور . وهذا الذي انتهت اليه المحكمة مخالف تماماً لما سبق للمحكمة الدستورية العليا أن قررته في عدة أحكام لها قضت فيها بعدم دستورية عدد من النصوص التشريعية الصادرة قبل تاريخ العمل بدستور 1971 لمخالفتها لنص المادة (34) من الدستور . ومعنى هذا كله أن الباب كان ولا يزال مفتوحاً امام المحكمة الدستورية العليا لمراجعة بعض ما قررته من قبل في أحكامها القديمة (35). ونعتقد انه على الرغم من رجاحة التبريرات التي ساقها الرأي السابق الا انه لا يمكن الاخذ به وذلك :

1-لكونه يخالف أحكام الحجية المطلقة التي تتمتع بها الأحكام الصادرة بعدم الدستورية ، أو برفض الطعن والتي استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا على اعتبارها من النظام العام، كما انه يخالف نص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا والتي نصت على ان احكام هذه المحكمة ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة ، لذا فان حجيتها مطلقة وعامة ، ولا يمكن العدول عنها .

2-كما ان عدول المحكمة الدستورية العليا عن أحكامها السابقة يمس استقرار المعاملات والمراكز القانونية . إذ كيف يمكن ان يرتب الافراد حقوقهم على أساس دستورية نص ثم تنهار هذه الاوضاع بصدور حكم بعدم دستورية ذلك النص .

3-اما عن مسلك المحكمة الدستورية العليا الذي عدلت فيه عن بعض أحكامها ، فهو استثناء على القاعدة ، وهو في حقيقته لا يمثل عدولا عن حجية أحكامها بقدر ما يعد نوعاً من الملاءمة ، هدفت المحكمة من خلاله إلى منع انهيار الأنظمة المختلفة في المجتمع .

ثالثاً : المحكمة العليا في العراق – وفقاً للقانون الأساسي العراقي لسنة 1925 – ومدى جواز العدول عن حجية أحكامها .

ان موضوع مدى جواز عدول المحكمة عن حجية أحكامها بعدم الدستورية لم يثار في العراق او يتطرق إليه الا بالنسبة للمحكمة العليا التي أنشئت في ظل القانون الأساسي العراقي لعام 1925(36) . فهذه المحكمة هي التي شهدت تطبيقاً لمهامها الموكولة إليها بموجب الدستور وان كانت هذه التطبيقات نادرة ، إلا أنها أثارت نقاشا فقهياً – في وقتها – يدور حول التساؤل عما إذا كانت المحكمة العليا تعد ملزمة بقراراتها السابقة ، وعما إذا كان في الإمكان أن يعرض عليها البت في موضوع سبق أن فصلت فيه في قضية مشابهة ؟ ولقد انقسم الفقه في العراق – في حينه – بصدد إجابته على هذا التساؤل إلى اتجاهين :

الاتجاه الأول : ذهب إلى انه لا يجوز للمحكمة العليا في العراق أن تعيد النظر في موضوع سبق ان فصلت فيه ، ويجب عليها التقيد بسوابقها وذلك مراعاة لأحكام القانون الأساسي والتي جعلت أحكامها قطعية ولا يمكن أن يطعن فيها بأية طريقة من طرق الطعن العادية لان المعارضة فيها غير متصورة ، وليس هناك هيئة اعلى تستأنف امامها قرارتها ، اما طلب اعادة النظر في الحكم فلا يفترض بل يجب ان ينص عليه صراحة ، وليست في النصوص اشارة اليه، فلا مناص من القول انه غير جائز . وكذلك لا يصح أن يطلب من المحكمة العليا بحث دستورية نص سبق وان عرض عليها ، لان هذا طلب إعادة نظر وهو لا يجوز ، فضلا عن ان أحكامها ملزمة لجميع المحاكم ودوائر الحكومة ، وهي (أي المحكمة العليا) من بين هذه المحاكم فيجب ان تلتزم بما سبق وان فصلت فيه (37).

اما الاتجاه الثاني : فانه يرى ان هناك شيئا من الالتباس بين ” طلب إعادة النظر ” وبين ” الالتزام بالسوابق ” وهو يتفق مع الاتجاه الاول في ان قرار المحكمة العليا في القضية المعينة بالذات نهائية ولا يجوز طلب إعادة النظر فيها ، وان طلب إعادة النظر في الحكم لا يفترض بل يجب ان ينص عليه صراحة ، ولكن هذا الاتجاه يرى أن المحكمة العليا تستطيع أن تحيد عن قراراتها السابقة في قضايا اخرى مماثلة أو بعبارة اخرى تستطيع ان تغير المبدأ الذي قررته في قضية سابقة عند البت في قضية اخرى لاحقة إذا ظهرت لها أسباب جديدة تدعو لذلك مهما كانت ، فالمحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد نفسها قط ملزمة بالتقيد بقراراتها السابقة ، وقد حدث فعلا ان قررت عكس ما قررته سابقاً تماماً ، ومع وجود مخالفين لتلك القرارات من بين اعضائها فان أي واحد منهم لم يقل ان الموضوع غير قابل للمراجعة ، ولذلك يرى اصحاب هذا الاتجاه ان المحكمة العليا غير ملزمة بالتقيد بقراراتها السابقة وانه من الممكن ان يعرض عليها الموضوع نفسه في قضايا متعاقبة فتبت فيه بأشكال مختلفة وبحسب ما يتراءى لها آنذاك (38). ونعتقد ان أحكام المحكمة في القضية المعينة بالذات نهائية ولا يجوز الطعن فيها ، او طلب اعادة النظر فيها ، إذ ان إعادة النظر في الحكم لا يفترض ، بل لابد من النص عليه صراحة . كما ان أحكام المحكمة العليا التي تتعلق بدستورية قانون ما ، تكون باتة وملزمة لها ولغيرها من السلطات والمحاكم في الدولة (م 87) ، فإذا صدر حكم باعتبار قانون ما مخالفاً لأحكام القانون الأساسي ، فان هذا القانون يكون ملغياً من تاريخ صدور حكم المحكمة (م 86/1) ، وبذلك لا يمكن الاستدلال بمضمون التجربة الأمريكية ، إذ أن الرقابة التي تمارسها المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية هي رقابة امتناع ، وليس رقابة إلغاء كما هو الحال بالنسبة للمحكمة العليا في العراق

. ومن ثم فان هذا العدول عن حجية الأحكام بعدم الدستورية لا يمكن اقراره بالنسبة لأحكام المحكمة العليا في العراق لاسيما وان نص (م 86/1) تقضي بإلغاء القانون أو الجزء المخالف منه لأحكام القانون الأساسي اعتبارا من تاريخ صدور حكم المحكمة ، وبالتالي فلا يوجد ثمة قانون حتى يمكن ان تنظر فيه المحكمة العليا من جديد .

_______________________

1- انظر د.جورجي شفيق ساري ، أصول وأحكام القانون الدستوري ، مرجع سابق ، ص ص 531 – 532

2-انظر د. محمد عبد الواحد الجميلي ، آثار الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا ، مرجع سابق ، ص31 ، و د. طعيمة الجرف ، القضاء الدستوري ، مرجع سابق ، ص 287 ، و د. أحمد عبد الوهاب السيد، الحماية الدستورية لحق الانسان في قضاء طبيعي ، مرجع سابق ، ص 249

3- القضية رقم 19 لسنة 15 قضائية ” دستورية ” ، جلسة 8 أبريل 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السادس ، ص 609 وما بعدها .

4- تنص المادة 178 من الدستور على ان ” تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية “

5- تنص المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا على ان ” .. وتنشر الأحكام والقرارات المشار اليها في الفقرة السابقة في الجريدة الرسمية وبغير مصروفات خلال خمسة عشر يوماً على الاكثر من تاريخ صدورها” .

6- انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص 195

7- اذ انها المخولة بتفسير الدستور والقوانين الاتحادية ، وبذلك تتوحد جهة التفسير ولا تتعدد .

انظر روبرت بوي وكارل فريدريك ، دراسات في الدولة الاتحادية ، ترجمة وليد الخالدي وبرهان رجائي، ج3 ، الدار الشرقية للطباعة والتوزيع والنشر ، بيروت ، 1966 ، ص 201

8- جيروم أ. بارون و س . توماس دينيس ، الوجيز في القانون الدستوري – المبادئ الأساسية في الدستور الأمريكي – ، ترجمة محمد مصطفى غنيم ، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية ، القاهرة ، 1998، ص 52

9- وفي ذلك تقول المحكمة الدستورية العليا في مصر ” إذ قضى الحكم الصادر في الدعوى رقم 34 لسنة 1991 بتعديل المادة الاولى من القانون رقم 107 لسنة 1987 بتعديل بعض أحكام قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 ، فإن حجية هذا الحكم تمتد إلى الأسباب التي ارتبط بها ارتباطاً لا يقبل التجزئة “. راجع القضية رقم (1) لسنة 16 قضائية ” دستورية ” ، جلسة 15 أبريل 1995 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء السادس ، ص 763 وما بعدها

10- انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص 198

11- انظر د. صبري محمد السنوسي محمد ، آثار الحكم بعدم الدستورية ، مرجع سابق ، ص 68

12- انظر د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص 424

13- راجع حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 4 مايو 1985 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الثالث ،ص 209

14- راجع القضية رقم (37) لسنة 9 قضائية ” دستورية ” ، جلسة 19 مايو 1990 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الرابع ، ص 256 وما بعدها .

15- انظر في عرض آراء هذين الفريقين د. محمد صلاح عبد البديع السيد ، قضاء الدستورية في مصر ، مرجع سابق ، ص ص 364 – 365

16- منطوق الحكم – وفقاً لما قالته المحكمة الدستورية العليا – يتمثل بعدم دستورية المادة الخامسة مكرر من القانون المشار إليه سابقاً فيما نصت عليه من أن يكون لكل دائرة عضو واحد ينتخب عن طريق الانتخاب الفردي ويكون انتخاب باقي الأعضاء الممثلين للدائرة عن طريق الانتخاب بالقوائم الحزبية ، إذ تعد هذه المادة قاطعة في الدلالة على ما قصد اليه المشرع من تحديده مقعداً واحداً لنظام الانتخاب الفردي في كل دائرة انتخابية– يجري التنافس عليه بين المرشحين من أعضاء الأحزاب السياسية والمرشحين من غير المنتمين لهذه الاحزاب، وتخصيصه عدة مقاعد في الدائرة خالصة لمرشحي القوائم الحزبية ، ومن ثم فإن هذه المادة تكون بذاتها قد تضمنت في صريح نصها إخلالاً بحق المواطنين غير المنتمين لأحزاب سياسية في الترشيح على قدم المساواة وعلى أساس من تكافؤ الفرص مع باقي المرشحين من اعضاء الاحزاب السياسية، إخلالاً أدى إلى التمييز بين الفئتين من المرشحين في المعاملة القانونية وفي الفرص المتاحة للفوز بالعضوية تمييزاً قائماً على أساس اختلاف الآراء السياسية مما يشكل مخالفة للمواد 8 ، 40 ، 62 من الدستور . راجع ص ص 268 – 269 من حكم المحكمة الدستورية العليا المشار إليه آنفاً ، ص 66 هامش (3) من الأطروحة .

17- وهذا في الواقع مخالف للأصل العام في تسبيب الأحكام إذ لا يجوز أن يقوم القاضي بتسبيب الحكم عن طريق الإحالة إلى حكم آخر صدر عنه ، ولو في الجلسة نفسها . انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص199

18- راجع حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في 21/12/1985 ، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الثالث ، ص 368

19- راجع حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم (99). لسنة 4 قضائية ” دستورية ” ، جلسة 4 يونيو 1988، مجموعة أحكام م.د.ع ، الجزء الرابع ، ص 119 وما بعدها ، وبالاخص ص124

20- انظر د. محمد عبد الواحد الجميلي ، اثار الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا ، مرجع سابق ، ص 36 ، و د. رمزي الشاعر ، القضاء الدستوري في مملكة البحرين ، مرجع سابق ، ص ص 424 – 425

21- ذهبت إلى ذلك المحكمة الدستورية الألمانية – بحذر شديد – إذا ما طرأت ظروف تتطلب تقديراً جديداً من المحكمة الدستورية . وفي ذات الاتجاه سارت المحكمة الدستورية النمساوية معللة اتجاهها في ان اعطاء إجابة مختلفة عن المسألة الدستورية تخالف ما ارتأته من قبل ياتي استنادا إلى أن من سلطتها اعتناق أفكار جديدة وقيم جديدة للمجتمع عبر عنها الدستور ضمناً ، ومن قبيل ذلك شرط المساواة وما يمكن أن يعكس تفسيره من تأويلات مختلفة في ضوء تطور الظروف . كما قضت المحكمة الدستورية الإيطالية أنه يمكن لها أن تغير اتجاهها في المسألة الدستورية في ضوء التطورات اللاحقة في المبادئ الأساسية للنظام القانوني لما يمكن ان تؤدي اليه هذه التطورات من حلول مختلفة .

انظر د. احمد فتحي سرور ، الحماية الدستورية للحقوق والحريات ، مرجع سابق ، ص 315

22- انظر د. صبري محمد السنوسي محمد ، آثار الحكم بعدم الدستورية ، مرجع سابق ، ص ص 32-33

23- انظر د. عثمان عبد الملك الصالح ، الرقابة القضائية امام المحكمة الدستورية في الكويت ، مرجع سابق ، ص ص 98-99

24- انظر المرجع السابق نفسه ، ص 100

25- انظر د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق ، ص 212

26- انظر د. أحمد كمال أبو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري ، مرجع سابق ، ص 232

27- انظر د. أحمد كمال ابو المجد ، دور المحكمة الدستورية العليا في النظامين السياسي والقانوني في مصر ، الجزء الثاني ، مجلة الدستورية ، العدد الثاني ، السنة الاولى ، أبريل 2003 ، ص ص 10-16

28- وكانت وسائل المحكمة للتخلص من السوابق القضائية القديمة ، اما عن طريق تجاهل الحكم القديم وتقرير مبدأ جديد مخالف ، او بالتمييز بين القضيتين وتبيان أن السابقة القديمة لا تنطبق على القضية الجديدة ، أو بالعدول صراحة عن المبدأ المقرر في السابقة القديمة . انظر د. أحمد كمال ابو المجد ، دور المحكمة الدستورية العليا في النظامين السياسي والقانوني في مصر ، مرجع سابق ، ص 15

29- انظر في اختلاف هذه الاراء : د. عزيزة الشريف ، دراسة في الرقابة على دستورية التشريع ، مرجع سابق، ص ص 218-219

30-Helvering v. Hallock ، 309 U.S. (1940)

نقلا عن د. أحمد كمال ابو المجد ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية والاقليم المصري ، مرجع سابق ، ص ص 238

[1]3- المرجع السابق نفسه ، ص ص 237-238

32-راجع في هذا الرأي د. عادل عمر شريف ، قضاء الدستورية ، مرجع سابق ، ص ص 468 – 469 ، د. محمد جمال عثمان جبريل ، اثر الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا ، مرجع سابق ، ص ص 18 – 19 ، د. صبري محمد السنوسي محمد ، آثار الحكم بعدم الدستورية ، مرجع سابق ، ص ص 70 – 71

33-راجع هذا الرأي للدكتور أحمد كمال ابو المجد ، دور المحكمة الدستورية العليا في النظامين السياسي والقانوني في مصر ، الجزء الثاني ، مرجع سابق ، ص 14

34-راجع حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 20 لسنة 1 قضائية ” دستورية ” ، جلسة 4/5/1985 ، مجموعة أحكام م.د.ع، الجزء الثالث ، ص 209

35- انظر د. احمد كمال ابو المجد ، دور المحكمة الدستورية العليا في النظامين السياسي والقانوني في مصر ، الجزء الثاني ، مرجع سابق ، ص 16

36- اما بخصوص المحكمة الدستورية العليا التي أنشئت بموجب دستور 1968 المؤقت ، والمحكمة الاتحادية العليا التي أنشئت بموجب قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 ، والمحكمة الاتحادية العليا التي انشئت بموجب دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، فان جميع هذه المحاكم لم تشهد ممارسة فعلية لمهامها في الرقابة على دستورية القوانين ، وبالتالي فان بحث مدى جواز العدول عن حجية أحكامها هو امر نظري بحت ، وان كان يمكن القول انه ينطبق عليه ما أثير بصدد أحكام المحكمة العليا التي أنشئت بموجب القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 ، بخصوص مدى جواز العدول عن حجية أحكام المحكمة بعدم الدستورية.

37- انظر د. حسن محمد ابو السعود ، مذكرات في أصول القانون ، مطبعة الفيض الاهلية ، بغداد ، 1940 – 1941 ، ص 385

38- انظر د. عبد المجيد عباس ، أصول القانون ، ط1 ، مطبعة المعارف، بغداد، 1947 ، ص ص 272 – 278