طبيعة مشكلة الاحتجاز السابق للمحاكمة

بالرغم من العمل الذي اضطلعت به الأمم المتحدة بشأن الاحتجاز السابق للمحاكمة، يتعرض المحتجزون قبل المحاكمة في الكثير من البلدان لأسوأ ظروف الحبس في نظمهم السجنية الوطنية. فمرافق السجن غالباً ما تكون مكتظة وقديمة وتنعدم فيها شروط الإصحاح ولا تلائم لإقامة البشر فيها. ويقضي الأشخاص المحتجزون أشهراً أو سنوات ريثما يتم التحري في حالاتهم ويجهزها النظام القضائي. وغالبا ما لا تكون هناك سلطة رسمية أو قضائية مسؤولة عن كفالة حماية حقوق المحتجز والمسارعة بالنظر في قضيته. ولا توفر للمحتجزين قبل المحاكمة في غالب الأحيان الفرص التعليمية والمهنية وفرصة الرياضة البدنية حتى تكون فترات الاحتجاز التي يقضونها أقل سآمة وأقل سوءاً. فالمحتجزون عادة ما يعانون من الإجهاد النفسي الحاد نتيجة انفصالهم عن أُسرهم وأصدقائهم وأعمالهم ومجتمعهم المحلي. ويخلق الاحتجاز السابق للمحاكمة ضغوطاً هائلة على الأشخاص الذين ينتظرهم مستقبل مجهول فيما هم ينتظرون المحاكمة. وأثناء احتجازهم رهن التحقيق يواجهون خطر سوء المعاملة الناجمة عن المحاولات الرامية إلى إكراههم على إدانة أنفسهم. وقد يكون الانضباط في مرافق الاحتجاز السابق للمحاكمة منعدماً فيواجه المحتجزون الأضعف خطر التعرض للتنكيل بهم أو استغلالهم جنسياً من قبل زملائهم النزلاء. وقد أضحى الحفاظ على الانضباط أمراً أصعب من جراء التغييرات المتكررة التي تمس السجناء والافتقار إلى هيكل ثابت يخص السجناء أو منظمة غير رسمية توفر قدراً من النظام والحماية من بطش الغير.

1- الاكتظاظ
21- يحدث الاكتظاظ في أماكن الاحتجاز في جميع أنحاء العالم، في البلدان المتقدمة والبلدان النامية على حد سواء. وأماكن الاحتجاز السابق للمحاكمة تحظى بأولوية منخفضة في ما يُرصد من الأموال لتحسين وتوسيع مرافق الاحتجاز؛ وحيث تكون هناك قيود على ما يتوفر من الأموال حتى الصيانة العادية وتنظيف المرافق قد لا يستمران. والاكتظاظ يرتبط برداءة الأوضاع المادية للمحتجزين: وأماكن الاحتجاز القديمة العهد والسيئة الصيانة لا تتوفر فيها، على الأرجح، السعة الكافية لإيواء السجناء.
22- ويكون الاكتظاظ أسوأه في البلدان النامية: فقد تبين خبير من خبراء القوانين الجنائية كان يقوم بتفتيش المرافق السجنية في أفريقيا أن عدد السجناء، في معظم البلدان، يبلغ ضعف الطاقة الإيوائية للسجن ومن المعتاد أن تؤوي الزنزانة من ثلاثة إلى أربعة أمثال السعة التي صُممت لها. وقد يصل الاكتظاظ في الزنزانات إلى حد أن النزلاء لا يملكون سوى المجال الذي يسع لوقوفهم. ومراكز الاحتجاز في البلدان المتقدمة ليست في أغلب الأحيان أفضل حالاً. فالزنزانات المصممة لإيواء شخص واحد في العديد من البلدان الأوروبية تأوي، فيما يرجح، نزيلين أو ثلاثة نزلاء.
23- والاكتظاظ يزيد في مقدار الوقت الذي يجب أن يكرسه الموظف في المراقبة الفعلية للمحتجزين ومن ثم يحد من قدرة هؤلاء الموظفين على إتاحة التمارين والاستخدام والزيارات من الخارج للمحتجزين. ويعني الاكتظاظ أيضاً أن المحتجزين عادة ما يكونون رهن زنزاناتهم لمدة 23 ساعة في اليوم ولا يسمح لهم يومياً إلا بمرة واحدة “للاستراحة خارج الزنزانة”.
24- والسبب الرئيسي في الاكتظاظ ليس هو العدد المطلق للمحتجزين، بل متوسط مدة الاحتجاز لكل محتجز بمفرده. وقد بينت دراسة مفصلة بشأن الاكتظاظ المتصل بالحبس السابق للمحاكمة أنه حتى التخفيف المعتدل في متوسط المدة المقضاة في الاحتجاز يكون لـه تأثير قوي في الحد من الاكتظاظ الذي يشهده المرفق.

2- ظروف الاحتجاز
25- إن ظروف الاحتجاز السابق للمحاكمة عادة ما تكون أسوأ من الظروف التي يُحتجز فيها الأشخاص المدانون، مع أن المحتجزين قبل المحاكمة يعتبرون قانوناً أبرياء على حين أن الأشخاص المدانين قد ثبتت ضدهم تهمة جنائية. وعدم محدودية مدة الحجز السابق للمحاكمة وما يكتنفه من غموض يفاقم من وطأة الحبس.
26- إن المرافق التي يُحتبس فيها المحتجزون قبل المحاكمة غالباً ما تكون قديمة العهد وبُنيت في حقبة كانت تحدث فيها عادة اعتقالات أقل وكان هناك عدد أدنى من المحبوسين. ففي بعض البلدان تتمثل السجون في حصون تعود إلى العهد الاستعماري أو محتشدات سابقة للرقيق تُستخدم كسجون مما يعني أنها تفتقر إلى الحيز الكافي كما تنعدم فيها المرافق اللازمة للتمارين والإصحاح. ورداءة المرافق المادية لا تقتصر، من ناحية أخرى، على البلدان النامية. إذ في بلد من البلدان المتقدمة لم يزل المحتجزون قبل المحاكمة يُحبسون في مرافق لا يوجد فيها كنيف في الزنزانات فيضطر المحتجزون إلى استخدام أواني لا تفرغ لمدة تصل إلى إحدى عشرة ساعة. وقد اعترفت الحكومة بأن هذه الأوضاع ليست مزعجة فحسب بل هي لا صحية وتعهدت بتحديث مرافق الاحتجاز التابعة لها.
27- إن الاكتظاظ يتسبب في تردي الأوضاع المادية للمحتجزين. فقد يعانون من الضيق لمدة ساعات داخل الزنزانات فيتعذر على أي منهم النوم الطبيعي. وموظفو مركز الاحتجاز أقل قدرة على السيطرة على العنف بين السجناء. ويكون وقت الزيارات الخارجية محدوداً لأن الأماكن المخصصة للزيارة محدودة هي الأخرى.
28- إن هذه الأوضاع المتميزة بالاكتظاظ والقذارة تفضي إلى تفشي الأمراض المعدية بين المحتجزين. وفي هذا الصدد من الأهمية بمكان الإشارة إلى انتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة بين المحتجزين في السجون: فقد أفادت منظمة غير حكومية أن 15 في المائة ممن أودعوا السجن في البلد في عام 1997 مصابون بعدوى فيروس نقص المناعة المكتسبة وبلغت نسبة السجناء المصابين بهذا الفيروس 30 في المائة عام 1989. والسجين المصاب بهذه العدوى يكون عرضة لتعديات السجناء الآخرين عليه.
29- وتقترن الظروف المادية للمحتجزين بحالة من عدم التيقن الكبير ويشعرون بعدم الاطمئنان على المستقبل. والأوضاع المادية والنفسية تتسبب في إجهاد هائل للمحتجزين. فهم مضطرون إلى التكيّف مع بيئة خطيرة في غالب الأحيان وجديدة ويساورهم القلق إزاء مركزهم القانوني ويواجهون أوضاعاً لا يملكون أية سيطرة عليها مثل الشواغل الاقتصادية والانفصال عن الأسرة. وهذا الإجهاد يترجم عن نفسه بالاكتئاب والانتحار: فقد انتهت دراسة وطنية إلى أن احتمال ارتكاب الأشخاص الذين هم رهن المحاكمة للانتحار يبلغ خمسة أضعاف احتمال الانتحار من جانب عامة الجمهور . على حين أن دراسة استقصائية أخرى للنظام السجني الوطني انتهت إلى أن 25 (أو 68 في المائة) من أصل 37 حالة انتحار من جانب السجناء في سنة واحدة كانت تتعلق بالمحتجزين قبل المحاكمة .

3- مدة الاحتجاز
30- قد يقضي المحتجزون قبل المحاكمة سنة أو أكثر رهن الاحتجاز قبل أن يُفرج عنهم أو يحاكموا. والنُظم القانونية في بعض البلدان تفتقر إلى الآلية التي تسمح بالإفراج عن المحتجز رهن المحاكمة ويسهم الوقت الطويل الذي تستغرقه عملية تجهيز الدعوى في تطاول مدة الاحتجاز. ولا تطالب السلطات التي تقوم بالاعتقال، في العديد من البلدان، بإحضار الشخص للمحاكمة بعد أيام أو حتى أشهر من اعتقاله وقد لا يطالب القاضي في تلك النقطة باتخاذ قرار فيما يخص الحبس السابق للمحاكمة. وفي العديد من الحالات لا بد
للسلطة القائمة بالتحري من التحقيق في المركز القانوني لكل محتجز قبل اتخاذ قرار بالإفراج عنه وتكاثر عدد المحتجزين يُفضي إلى تأخيرات طويلة وتطاول آجال الاحتجاز.
31- وهناك عدد لا بأس به من الأشخاص الذين هم رهن الاحتجاز قبل المحاكمة تثبت في نهاية المطاف براءتهم ولا يحاكمون أو يدانون وقد يصدر بحقهم حكم لا يشمل الاحتجاز. والبعض من المحتجزين يُحبسون لفترات أطول من الفترات الممكن أن تقضي بها الأحكام الصادرة بحقهم في الجرائم الجنائية التي تم اعتقالهم بسببها.
32- ومن أبعاد مشكلة تطاول الاحتجاز السابق للمحاكمة البعد المتمثل في عدد المحتجزين قبل المحاكمة بوصفهم نسبة مئوية من مجموع السجناء. فالمحتجزون رهن المحاكمة في العديد من البلدان الأوروبية يشكلون ما بين 25 في المائة و50 في المائة من مجموع السجناء. غير أن عدد هؤلاء في بعض بلدان أمريكا الجنوبية قد يتراوح ما بين 45 و90 في المائة من مجموع السجناء أي ما يصل إلى تسعة محتجزين قبل المحاكمة بالنسبة لكل سجين يصدر حكم بحقه. وفي بلد من البلدان الآسيوية تصل نسبة السجناء الذين لم يحاكموا إلى 83 في المائة .

4- المركز القانوني للمحتجزين قبل المحاكمة
33- من أهم الحقوق التي يتمتع بها الأشخاص المتهمون بارتكاب جريمة الحق في الحصول على مساعدة قانونية في إعداد دفاعهم. ومع ذلك فإن ظروف الاحتجاز السابق للمحاكمة تجعل الاتصال الفعلي بالمحامي أمراً صعباً. فالمحتجزون يعتمدون على محاميهم في الاتصال بهم نظراً لأنهم نادراً ما تتاح لهم فرصة استخدام الهاتف أو غير ذلك من وسائل الاتصال بمحاميهم. والاجتماع بالمحامين يُعقد في أماكن عامة أو في ظل رقابة موظفي السجن الذين ربما يمارسون تخويف المحتجز. وهناك بلدان عديدة قد لا يتاح فيها محام بكل بساطة أو تكون أتعاب هذا المحامي باهظة التكاليف ولا يقوى على تسديدها معظم المحتجزين. وحتى في الحالات التي تقوم فيها الحكومة بتوفير محامين للمحتجزين المعسرين غالباً ما يكون العبء الملقى على هؤلاء المحامين ثقيلاً إلى حد يجعل جميع الحالات لا تحظى بما تستحقه من الاهتمام.
34- وهناك نظام قانوني آخر يفتقر إلى الآلية التي يمكن بفضلها للشخص المحتجز أن يطالب بإعادة النظر في احتجازه من قبل سلطة قضائية محايدة. وقد لا يسمح للشخص بأن يقدم أدلة إلى السلطات القضائية. وحتى في الحالات التي تنظم فيها حلقة استماع قد لا تتوفر مساعدة المحامي من أجل تقديم الأدلة على النحو الأمثل. وهناك نُظم عديدة تسمح بالإفراج عن المعتقل شرط تقديم كفالة مالية وهذا يجعل الأشخاص الذين هم أهل لأن يفرج عنهم ولكنهم لا يملكون المال الكافي لتسديد تلك الكفالة باقين رهن الاحتجاز.
35- وهناك مجموعة من المشاكل التي لا يتسبب فيها النظام القانوني للبلد وإنما يتسبب فيها عدم احترام السلطات الحكومية لذلك النظام. فهناك بلدان عديدة في العالم يتم فيها اعتقال الأشخاص ولكنهم لا يعرضون على سلطة قضائية أبداً بل ربما يبقون رهن الحبس الانفرادي. ويمكن أن يقدم آخرون إلى المحاكمة ولكن لا يتم الإفراج عنهم عندما يصدر أمر بذلك الإفراج؛ وفي غير ذلك من الحالات قد يتم الإفراج عن الأفراد ثم يُعاد اعتقالهم في وقت لاحق. وهناك على الطرف الآخر بلدان يُحتجز فيها الأشخاص إلى أجل غير مسمى بأمر تنفيذي ولا يتوقعون تقديمهم للمحاكمة.