ان الجريمة انما تقوم على فعل امر ينهى عنه القانون او ترك ما يأمر به. واوامر ونواهي الشارع هذه لا توجه الا لمن يدركها ويفهم ماهيتها وإلا كانت عبثا. ومن اجل ذلك كان الإنسان وحده هو الذي توجه إليه أحكام قانون العقوبات لانه وحده الذي يدركها ويستطيع ضبط أعماله على وفقها وبذلك يمكن مؤاخذته جنائيا عما يرتكب من الجرائم ولذلك هو وحده الذي يمكن ان يوصف بانه مجرما. هذا هو المبدأ الأساس الذي تقوم عليه التشريعات الجنائية الحديثة. اما قديما فقد كانت محاكمة الحيوانات والجمادات وجثث الموتى وتوقيع العقوبات فيها امرا تقره الشرائع في اوروبا وغيرها. هو ما كان يتمشى مع الفكرة التي كان يقوم عليها العقاب في تلك العهود من الزجر والارهاب حتى يكون في توقيعه بهذه الأشياء غير العاقلة عضة وارهابا للأفراد وأشعار لهم بعظم الجرم اذا ما وقع ممن يعقل افعاله. ولقد قضت الثورة الفرنسية على هذا النمط من المحاكمات في فرنسا وتبعتها بعد ذلك بقية الدول وبذلك اصبح الإنسان وحده هو الذي يسال عن افعاله وبالتالي يوصف بانه مجرم (1).

وليس صفة الإنسانية هي الشرط الوحيد لمن يمكن ان يوصف بانه مجرم بل يشترط فيه أيضاً ان يكون مسئولا او بعبارة أخرى اهلا للمسؤولية. ويكون الإنسان اهلا للمسؤولية اذ كان ذا قوة نفسية من شانها الخلق والسيطرة وهي ما تسمى بالارادة وان تكون هذه الارادة معتبرة قانونا وقد اتجهت اتجاها مخالفا للقانون وهي ما تسمى (بالإرادة الآثمة) VOLONTE COUPABLE. وتكون الارادة معتبرة قانونا اذا كانت مدركة ومختارة. والارادة الآثمة دليل على خطورة شخصية الجاني الأمر الذي جعلها اساسا للمسؤولية الجنائية وبالتالي مؤثرا لتوجيه العقوبة الى أغراضها الاجتماعية. مما تقدم نستطيع ان نعرف المجرم بانه كل إنسان اقترف جريمة وكان اهلا للمسؤولية حين ذاك بان اكنت له إرادة معتبرة اتجهت اتجاها مخالفا للقانون. على انه وان كان التشريع الحديث قد استبعد نهائيا المسؤولية الجنائية لما لا يعقل افعاله وحصرها في الإنسان وحده فان هناك مسألة لا زالت محمل خلاف كبير في الفقه ولم يستقر وضعها في التشريع بصفة حاسمة وهي المسؤولية الجنائية للاشخاص الاعتبارية (المعنوية أو الحكمية) كالجمعيات والمؤسسات والشركات وغيرها من الهيئات التي يسبغ عليها القانون شخصية مستقلة عن شخصية الافراد المكونين لها واصحاب المصالح فيها.

من المسلم به ان من يرتكب الجريمة من عمال الشخص الاعتباري وممثليه يسال عن فعله شخصيا ولو كان قد ارتكبه لمصلحة الشخص الاعتباري الذي يمثله وباسمه ولكن محل الخلاف هو ما اذا كان من الممكن مسألة الشخص الاعتباري ذاته عن الجريمة وتوقيع العقوبة فيه. فالرأي السائد في الفقه هو ان الاشخاص الاعتبارية لا تسأل جنائيا عما يقع من ممثليها من الجرائم أثناء قيامهم باعمالها ولو كان ذلك لحسابها بل ان الذي يسال هو من يرتكب الجريمة منهم شخصيا. ذلك لان المسؤولية الجنائية تستلزم الارادة لدى من يسال والشخص الاعتباري لا إرادة له وما يقع من الجرائم انما يرجع لارادة ممثليه والقائمين بالأمر فيه. على ان في الفقه الحديث اتجاها يرى ضرورة تقرير المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية لانتشار هذه الاشخاص واتساع اعمالها ونشاطاتها وبالتالي عظم خطرها الأمر الذي يتطلب ذلك.

وهناك من يرى ان الشخص الاعتباري يصح ان يكون جانبا في جريمة ولكنه ليس اهلا لتوقيع العقوبة عليه لأنها لن تحقق الغرض منها في شانه ومن اجل ذلك يتعين الاكتفاء باتخاذ التدابير الواقية ضده وهذا ما أقره المؤتمر الدولي لقانون العقوبات في اجتماعه ببوخارست عام 1929. وفي اعتقادنا ان مسألة مثل هذه يجب ان يتدخل المشرع لحسمها بنصوص صريحة في القانون وهذا ما فعله المشرع العراقي حيث اقر مبدأ المسؤولية الجنائية للاشخاص المعنوية في الفصل الثاني من الباب الرابع من الكتاب الأول في المادة (80) حيث قال : (الاشخاص المعنوية، فيما عدا مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية وشبه الرسمية، مسؤولة جزائيا عن الجرائم التي يرتكبها ممثلوها او مدي روها او وكلاؤها لحسابها او باسمها. ولا يجوز الحكم عليها بغير الغرامة والمصادر والتدابير الاحترازية المقررة للجريمة قانونا. فاذا كان القانون يقرر للجريمة عقوبة أصلية غير الغرامة ابذلت بالغرامة ولا يمنع ذلك معاقبة مرتكب الجريمة شخصيا بالعقوبات المقررة للجريمة في القانون).

____________________________

1-انظر بهذا المعنى أيضاً زاغورد دينكوف وسموليا رتشوك وبورد فيكوف، نبذة موجزة عن قانون العمل والقوانين المدني والجنائي في البلدان الاشتراكية ص99 و 209 حيث يعرف المذنب في ارتكاب الجريمة بانه الذي ارتكب الفعل ذا الخطر الاجتماعي المقرر في القانون الجنائي عن عمد او عن إهمال …. ولا يمكن ان يكون طرف الجريمة الا الإنسان، شخص طبيعي.

المؤلف : علي حسين خلف – سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .