العقد:

العقد هو المصدر الأساسي لنشأة الالتزام، بل الحقوق المالية كلها عامة، وهو يتمثل، في العمل، أهم المصادر على الإطلاق، بل إنه ينشئ وحده، في واقع حياة الناس، الأغلبية الكبرى من الالتزامات، بحيث أن مصادر الالتزام الأخرى، كلها مجتمعة، لا تتناسب معه في الأهمية.

والعقد، إذا كان من شأنه أن يولد الالتزام، بل وغيره من الحقوق والواجبات، فليس هذا الأمر وحده، على جليل خطره، أثره الوحيد. فمن شأن العقد أن يرتب أيضًا آثارًا قانونية أخرى بعيدة المدى. فهو ينقل الحق أو الالتزام. وهو يعدل فيه على نحو أو على آخر، ويمكن له أن ينهيه. وهو بهذه المثابة يتمثل اصطلاحًا قانونيًا متفقًا تمامًا في مدلوله مع اصطلاح الاتفاق.

فالعقد والاتفاق أصبحا، في لغة القانون المعاصر السائدة، اصطلاحين مترادفين، يعني أحدهما ما يعنيه الآخر. وقد دعم هذا النهج سير فقهاء المسلمين في نفس الطريق، حيث استعملوا اصطلاح ” العقد “ في نفس المعنى الذي يمكن لاصطلاح ” الاتفاق “ أن يفيده، فضلاً عن شيوع الأول على ألسنتهم وندرة الثاني، لما لاصطلاح ” العقد ” من دلالة أقوى على ارتباط المتعاقد بما تعاقد عليه.

وقد جاءت في القرآن الكريم كلمة ” العقدة “ بمعنى العقد، في قوله عز شأنه: ” ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله “ وكان لهذا القول الإلهي أثره في بعض البلاد العربية كالمغرب، حيث يجري على الألسنة أحيانًا استعمال لفظ ” العقدة ” بدلاً من العقد. بيد أن الغالب، عند فقهاء المسلمين، هو استعمال اصطلاح ” العقد ” لعموم قوله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود “.

وإذا كان المشروع يتناول أحكام العقد في الباب المخصص لمصادر الالتزام، فليس معنى ذلك، بطبيعة الحال، أن هذه الأحكام لا تسري عليه إلا حيثما ينتج هذا الأثر. فهي تلزمه في شتى مجالات أعماله، دون تفريق.

وغني عن البيان أن المشروع هنا لا يتناول أحكام عقد بعينه، فهو يستهدف وضع القواعد الأساسية العامة المشتركة في العقود. وبعبارة أخرى هو يتناول أحكام العقود بوجه عام، وهو ما درج الفقه على أن يطلق عليها ” نظرية العقد “.

والأحكام التي يتضمنها المشروع في هذا الفصـل، اعتبارًا بأنها ترسي الأسس العامة المشتركة، تسري على العقود المالية كلها، مدنية كانت أم تجارية أم غيرها، وسواء أكانت هذه العقود مسماة أم غير مسماة، وذلك ما لم يقضِ القانون، في شأن عقد معين، بحكم خاص به، أو اقتضته طبيعة هذا العقد.

تعريف العقد (م 31):

تباين أمر التقنينات، في الدول المختلفة، في شأن تضمن النصوص تعريفًا للعقد. فبعضها سار عليه، وسلك نفس النهج قانون التجارة الكويتي الحالي (المادة 103). والبعض الآخر تجنب إيراد تعريف له.

وإذا كان الأصل هو أن تعريف الأنظمة القانونية أخلق أن يترك للفقه، على أن المصلحة قد تدعو التشريع أحيانًا إلى أن يتناوله. ويظهر ذلك، على وجه الخصوص، إذا كان من شأن إيراد التعريف في النص أن يبرز فلسفة النظام ويرسي أسسه، سيما إذا تعلق الأمر بنظام فذ وعملاق كالعقد.

وقد عرفت المادة (31) من المشروع العقد بقولها: ” العقد هو ارتباط الإيجاب بالقبول على إحداث أثر يرتبه القانون “. ومقتضى هذا التعريف أن يبرز في شأن الرضاء بالعقد – وهو الركن الأساسي فيه – أمرين أساسين: الأول: ارتباط الإيجاب بالقبول، وهو ما يكون الإرادة المشتركة، الثاني: اتجاه الإرادة المشتركة إلى إحداث أثر قانوني.

ولم يشأ المشروع أن يساير الكثرة الغالبة من التقنينات في تعريفها العقد تارة بأنه اتفاق وتارة بأنه توافق إرادتين أو أكثر. فالاتفاق أو التوافق لا يكفي في ذاته لقيام العقد، ما بقيت الإرادة كامنة في نفس صاحبها، لم تتجاوزها إلى العالم الخارجي عن طريق التعبير عنها، وهو ما يُطلق عليه في الفقه الإسلامي، (الصيغة)، ثم إنه ينبغي أن يجيء القبول حالة كون الإيجاب باقيًا لم يسقط لسبب أو لآخر. وعبارة ارتباط الإيجاب بالقبول أخلق بأن تبرز هذه الأمرين كليهما.

وارتباط الإيجاب بالقبول، كأساس للعقد، قول مستمد من الفقه الإسلامي، وهو شائع على ألسنة رجاله وأوردته المجلة (المادة 103) ومرشد الحيران (المادة 262)، كما أورده أخيرًا مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام أبي حنيفة، الذي أصدره مجلس البحوث الإسلامية بالقاهرة (المادة 3). وقد أقام القانون العراقي تعريف العقد على ذلك القول، فنقل عن مرشد الحيران، في المادة (73) منه النص على أن: ” العقد هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه “، وجاء قانون التجارة الكويتي الحالي وتبنى نفس التعريف. في المادة (103) منه. وأخذ القانون الأردني في المادة (87) منه، بالتعريف ذاته مع شيء من الإضافة إليه.

ولم يشأ المشروع أن يأخذ بنفس التعريف الذي أورده قانون التجارة الكويتي الحالي، نقلاً عن القانون العراقي ومرشد الحيران، فهو من ناحية يعمم ارتباط الإيجاب بالقبول، دون أن يخصه بحصوله بين متعاقد وآخر، لإمكان أن يقوم العقد بين أكثر من طرفين، كما هو الشأن في الشركة والقسمة.

ومن ناحية أخرى، حرص المشروع على أن يذكر أن ارتباط الإيجاب بالقبول يرد في شأن إحداث أثر قانوني، بدلاً من القول بأن يرد ” على وجه يثبت أثره في المعقود عليه “ لإبراز ما يمكن للأثر المترتب على العقد من عمومية وشمول، وهو في إبراز هذه الفكرة، لم يشأ أن يجاري القانون الأردني الذي أضاف إلى القول بأن ارتباط الإيجاب بالقبول يكون على وجه يثبت أثره في المعقود عليه، عبارة ” ويترتب عليه التزام كل منهما (المتعاقدين) بما وجب عليه للآخر، فأثر العقد أعم من أن ينشئ الالتزام، فيمكن له أن يعدل في التزام قائم، أو ينقله أو ينهيه.

فجوهر العقد أن يستهدف إنشاء أثر قانوني، أيًا ما كان هذا الأثر، وقد حرص المشروع على أن يبرز هذه الفكرة، حتى يبدد كل مظنة، وعلى الأخص ما ثار منها في خصوص النقل بالمجان، حيث التبس الأمر في شأن قيام عقد، سواء أكان عقد النقل أو غيره، وما يترتب عليه من الالتزام بضمان السلامة، وهو اتجاه رفضه القضاء بحق، اعتدادًا بانتفاء القصد في ترتيب أثر قانوني. ولا يهم بعد ذلك طبيعة الأثر القانوني المبتغى. فسواء أن يتعلق بالمعقود عليه مباشرة، كما إذا كان من شأنه أن ينقل ملكيته، أو يتعلق بأمر آخر من أمور إنشاء الالتزام أو تعديله أو نقله أو انتهائه، وهذا ما يتفق تمامًا مع ما سار عليه فقهاء المسلمين من التمييز بين حكم العقد، بمعنى ما يترتب عليه من أثر مباشر في المعقود عليه، كنقل ملكية المبيع إلى المشتري، وبين حقوق العقد، بمعنى آثاره المترتبة في ذمة المتعاقد. كالتزام البائع بالتسليم والتزامه بالضمان والتزام المشتري بدفع الثمن.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .