اذا صحت الوصية ، بان استوفت كل اركانها وشروطها ، وزالت الموانع ، فانها تلزم بموت الموصي ، وتنفذ من ثلث ما يتركه عند الوفاة ، وهذا الثلث انما يكون من الباقي بعد تجهيز الموصي ، وسداد ديونه ، لا من ثلث جميع المال . وآنذاك يثبت ملك الموصى له ، في الموصى به ، وله ان يتصرف فيه بما يشاء من التصرفات وليس في كل ذلك مشكلة ، اذ الوصية تخرج مادامت التركة تسع لها ، سواء كانت في حدود الثلث او اكثر من الثلث ،واجاز الورثة الزيادة .

لكن المشكلة تبرز فيما لو كثرت الوصايا ولم تفِ التركة بتنفيذها جميعا ،سواء كان المال الذي خصص لتنفيذها هو الثلث او الاكثر منه بعد اجازة الورثة . فهنا يحصل ما يسمى بـ”تزاحم الوصايا” .وبصدد هذا التزاحم فاننا نميز بين امرين :

 الامر لأول: ان تكون هنالك وصية واجبة (1). كما نص عليها القانون، من بين الوصايا بمعنى ان تكون هنالك وصايا اختبارية ووصية واجبة ، وفي هذه الحالة تقدم الوصية الواجبة على غيرها من الوصايا في الاستيفاء من ثلث التركة ، فان لم يبق شيء بعد تنفيذ الوصية الواجبة، بطلت الوصايا الاختبارية الاخرى ، وان بقي شيء يصرف الباقي لبقية الوصايا. وهذا ما قضت به الفقره الثانية من المادة (74) من قانون الاحوال الشخصية العراقي المعدل التي جاء فيها : ” تقدم الوصية الواجبة ، بموجب الفقرة (1) من هذه الماد على غيرها من الوصايا الاخرى وفي الاستيفاء من ثلث التركة ” . وهذا هو ايضا موقف القانون المصري، والقانون السوري ،والقانون الاردني، والقانون اليمني ،والقانون الكويتي . فلقد نصت كل هذه القوانين على تقديم الوصية الواجبة على سائر الوصايا الاخرى . اذ نصت المادة (78) من قانون الوصية المصري رقم 71 لسنة 1946 على ما يأتي : “الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا فاذا لم يوصِ الميت لمن وجبت لهم الوصية واوصى لغيرهم استحق كل من وجبت له الوصية قدر نصيبه من باقي ثلث التركة ان وفي والا فمنه ومما اوصى به لغيرهم ” . وقضت الفقرة (2) من المادة (257) من قانون الاحوال الشخصية السوري رقم 59 لسنة 1953، بالاتي : “وهذه الوصية الواجبة مقدمة على الوصايا الاختبارية في الاستيفاء من ثلث التركة ” .

وجاء في البند (د) من المادة (182) من قانون الاحوال الشخصية الاردني رقم 91 لسنة 1976، ما يأتي : “هذه الوصية الواجبة مقدمة على الوصايا الاختبارية في الاستيفاء من ثلث التركة ” . ونصت المادة (259) من قانون الاحوال الشخصية اليمني رقم 20 لسنة 1992 بعد أن بينت معنى الوصية الواجبة وشروطها ، على الآتي :

“..وتقدم الوصية الواجبة على غيرها من الوصايا التبرعية” .

وجاء في المادة (3) من قانون رقم 5 لسنة 1971 الكويتي بشأن الوصية الواجبة ،ما يأتي:

” الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا ،فإذا لم يوصِ الميت لمن وجبت لهم الوصية ،وأوصى لغيرهم ،أستحق كل من وجبت لهم الوصية قدر نصيبه من ثلث التركة إن وفى ،وإلا فمنه ومما أوصى به لغيرهم ” .

الامر الثاني : ان لا تكون هنالك وصية واجبة ، بل وصايا اختبارية متزاحمة لا تخرج عن ان تكون وصايا للقربات “لله تعالى” او وصايا للعباد “للناس” او مختلطة ، بعضها للعباد وبعضها الاخر للقربات ، وهو ما يعني اننا نكون هنا بازاء فروض ٍ ثلاثة للمزاحمة :

1-الفرض الاول : ان تكون جمع الوصايا للقربات(2)، أي لله تعالى :

والمزاحمة بين هذه الوصايا لها حالتان :

أ -الحالة الاولى : ان تكون جميع الوصايا في مرتبةٍ واحدة .

ب-الحالة الثانية : ان تكون مختلطة ، أي مختلفة الدرجة ، ولكل حالةٍ حكم خاص .

أ-الحالة الاولى : اذا تزاحمت الوصايا لله تعالى وكانت كلها في مرتبة واحدة ، كان تكون كلها فرائض ،كالحج والزكاة ، او كلها واجبات، كالكفارات والنذر ، او كلها نوافل كالصدقة للفقراء والمساكين وجهات البر ، او ان تكون خليطا من الانواع السابقة او بعضها . فاذا تزاحمت هذه الوصايا وكانت متحدة الجنس بان كانت فرائض فقط او نوافل فقط ، فانه يبدأ بالتنفيذ بما بدأ به الموصي في النطق ، ثم الذي يليه . ووجه هذا الرأي ، ان جميع الوصايا متساوية في الدرجة ، فلا يمكن الترجيح بينهما لذاتها . فيرجح ما قدمه الموصي في الذكر ، اذ في تقديمه دليل على اهتمامه به ، اذ ان الانسان عادةً يبدأ بالاهم فالذي يليه . وقيل يقسم بينها بالتساوي ، لاستواء الجميع في الدرجة وسبب الاستحقاق . وان كانت مختلطة أي مختلفة الدرجة ، فانه يقدم الاقوى فالاقوى . اذ يُبدأ بالفرائض ثم الواجبات ثم النوافل ، فاذا اوصى بزكاة وكفارة وصدقه الفقير بدئ بالزكاة ، فان فضل شيء فللكفارة ، فان فضل شيء فللفقير . فاذا استنفدت الفرائض المال كله بطلت الوصايا الاخرى (3). وقال فقهاء الامامية ، يقدم الواجب المالي (4)على الواجب البدني ، والواجب البدني على التبرعي، وهذا كله في حالة المزاحمة ، أي عدم ايفاء الثلث بالكل ، والا فلا مشكلة ، فلو اوصى للخمس والزكاة مقدارا ، وللصلاة والصيام مقدارا، ولاطعام الفقراء مقدارا ولم يفِ الثلث للجميع ،فمع اجازة الورثة لا اشكال في نفوذ جميع ما اوصى ، والا بُدأ بالواجب المالي ” الخمس والزكاة ” ،ثم بالبدني ” الصلاة والصيام ” ،ثم بالتبرعي “اطعام الفقراء ” مع الوفاء ، والا فالنقص على التبرعي ، ومع عدم وفاء المالي والبدني ،فالنقص على البدني(5) . لقد اخذت بعض التشريعات العربية بما ذكر انفا في حالة كون الوصايا مختلفة الدرجة ، وبالرأي الثاني ” أي القسمة بالتساوي ” فيما يتعلق بالوصايا المتحدة في الدرجة ، اذ نصت المادة (81) من قانون الوصية المصري رقم 71 لسنة 1946 ، والمادة 259 من قانون الاحوال الشخصية السوري رقم 59 لسنة 1953 على ما يأتي : “اذا كانت الوصايا بالقربات ولم يقابلها ما تنفذ فيه الوصية ، فان كانت متحدة الدرجات كانت متساوية في الاستحقاق ، وان اختلفت درجاتها قدمت الفرائض على الواجبات ، والواجبات على النوافل ” .

وكذا نصت المادة (253) من قانون الاحوال الشخصية اليمني رقم 20 لسنة 1992 على الاتي:-

” الايصاء بالتشريك كما اذا اوصى لفلان وفلان ،واوصى لفلان والمسجد يحمل على التنصيف ” .

2- الفرض الثاني : ان تكون جميع الوصايا للعباد :

في هذه الحالة لا مجال لترجيح بعض الوصايا على بعض ، وذلك لاستوائها في سبب الاستحقاق ،والاستواء في السبب يوجب الاستواء في الحكم بحق ، وعلى هذا ياخذ كل من الموصى لهم بنسبة نصيبه في الموصى به له على أية حال ، أي سواء زادت كل وصية عن الثلث او لا .

وهذا هو رأي الصاحبين من الحنفية ، ورأي المالكية والشافعية والحنابلة ،وهذا الرأي يعني ان الموصى به يقسم بالمحاصة أي بحسب الحصص على طريقة التقسيم التناسبي ، وذلك حتى يشمل النقص الكل بنسب متساوية لنسب حصصهم . ويذهب ابو حنيفة الى موافقة رأي الجمهور اذا كانت كل وصية على انفراد لم تتجاوز الثلث .اما اذا كانت وصية منها بأكثر من الثلث او كل منها اكثر من الثلث ، ففي هذه الحالة يخالف جمهور الفقهاء ويقول : ان الزائد على الثلث في كل وصية باطل ، ويكون الثلث للموصى لهم بالتساوي . وقال الامامية : اذا اوصى بوصايا عديدة لا يسعها الثلث ، ولم يجز الورثة الزائد ، فان كان بينها تضاد ، كما لو قال ثلثي لزيد ، ثم قال ثلثي لعمرو ، عمل باللاحق دون السابق ، لان اللاحق ينسخ السابق ، وان كان بينهما واجب وغير واجب قدم الواجب على غيره، واذا تساوت الوصايا في الاهمية فان جمع الموصي بينهما كلام واحد فقال : – اعطوا محمدا واحمدا الفا ، وكان الثلث 500، قسم هذا المبلغ بين الاثنين ، لكل واحد 250، وان قدم واخر ، فقال : اعطوا محمدا 500 واحمدا 500 ،اعطي المبلغ للأول والغيت الوصية الثانية ، لان الاولى استغرقت الثلث بأكمله ،ولم يبق للثانية موضوع ، وبعبارة اخرى لان الوصية الاولى نافذة لوقوعها من اهلها في محلها ، وتبقى المتأخرة بلا موضوع تتعلق به فتختص به ” (6).اما اذا اوصى بعين لشخص ، ثم اوصى بها للأخر ، فهي بينهما مناصفة على رأي الجمهور ، فاذا قال اعطوا السيارة لزيد بعد موتي ، ثم قال أعطوها لعمرو ، كانت شراكة بين الاثنين .وقال الامامية : بل هي للثاني ، لان الوصية الثانية عدول عن الاولى (7). اما فيما يتعلق بالقانون فالملاحظ ان القانون المصري والقانون السوري أخذا براي الجمهور فيما يتعلق بالتزاحم بين وصايا العباد “الناس ” ، اذ نصت المادة (80) من قانون الوصية المصري ، والمادة (258) من قانون الاحوال الشخصية السوري على ما يأتي :

“اذا زادت الوصايا على ثلث التركة واجازها الورثة ، وكانت التركة لا تفي بالوصايا او لم يجيزوها وكان الثلث لا يفي بها قسمت التركة او الثلث حسب الاحوال بين الوصايا بالمحاصة، وذلك مع مراعاة الا يستوفي الموصى له بعين نصيبه الا من هذه العين ” .

وتناول القانون اليمني المسالة في المواد الاتية :

م254 : “اذا تواردت الوصايا على عين معينة فالعمل بالوصية الاخيرة ” .

م255: “اذا تزاحمت الوصايا التبرعية دون تعيين فتعتبر من الثلث ويقسم بينها ” .

م256: ” اذا اوصى بالثلث لشخص ثم اوصى بالثلث لشخص اخر اشتركا معا في الثلث ما لم ينص الموصي على ان ما اوصى به للأخر هو عين ما اوصى به للأول فانه يكون رجوعا ” .

وهذه المواد بمجموعها لا تخرج عما ذكر آنفاً من آراء الفقه الاسلامي .

اما فيما يتعلق بموقف القانون العراقي فالملاحظ عليه انه لم يشر الى موضوع تزاحم الوصايا، ما خلا موضوع الوصية الواجبة المذكورة في المادة (74) ولقد تمت الاشارة الى ذلك والقول بتقديمها على سائر الوصايا . ولعل من الصحيح القول ان عدم تطرق القانون العراقي لهذا الامر قد يشكل نقصاً يقتضي معالجته ، ولرب قائلٍ يقول بان القانون العراقي انما اراد احالة الامر الى مبادئ الشريعة الاسلامية عملا بأحكام الفقرة الثانية من المادة الاولى من قانون الاحوال الشخصية العراقي النافذ . بيد ان هذا الكلام وعلى الرغم من صحته ،لا يخلو من قدح ، ذلك ان امر التزاحم بين الوصايا من الامور الكثيرة الوقوع في الحياة العملية ،مما يعني ان له اهمية ، وان تلك الاهمية تستدعي بطبيعة الحال المعالجة التشريعية بنصوصٍ واضحة فذلك خيرٌ من الترك والاحالة .

3- الفرض الثالث : أن تكون الوصايا مختلطة :

ونعني بذلك ان تكون بعض الوصايا لله تعالى وبعضها الاخر للعباد “للناس” ،ويحصل التزاحم بينهما ، كما اذا اوصى بثلث ماله للحج والزكاة وكفارة من الكفارات ولزيد من الناس ، ففي هذه الحالة يذهب الأحناف الى تقسيم الثلث على اربعة اقسام متساوية لكل من هذه الجهات قسم منها ، لان كل جهة منها غير الاخرى .وبعد ذلك يجمع ما كان لله تعالى ويصرف على الترتيب المتقدم ، حيث يُبدأ منه بتنفيذ الفرض على الواجب ثم النوافل . ويذهب جمهور الفقهاء الى تقديم الوصايا الواجبة لله تعالى على وصايا العباد ، لانها ديون الله تعالى ، وديون الله مقدمة عندهم على تنفيذ الوصايا (8).

__________________

[1]-الوصية الواجبة في اصطلاح القانون ” وهي المعنية هنا ” هي افتراض وصية الجد او الجدة للاحفاد بقدر حصة والدهم او والدتهم اذا مات الوالد او الوالدة قبل وفاة الجد او الجدة او معا على ان لا تزيد هذه الحصة على ثلث التركة. والوصية بهذا المعنى يفترض القانون وجودها ويلزم القاضي بالحكم بها وتنفيذها سواء اوصى المتوفى او لم يوصِ . ينظر : استاذنا الدكتور مصطفى الزلمي ، احكام الميراث والوصية ، ص203.

2- القربات جمع قربة وهي العمل يتقرب به المرء الى الله تعالى .

3- ينظر : الكاساني ، مصدر سابق ، ج7 ، ص371-373 .

4-ان فقهاء الامامية وان قالوا بأولوية الواجب المالي على غيره ، لكنهم يقولون من ناحية اخرى ان الواجب المالي انما يخرج من الاصل وان لم يوصِ بها الموصي لا من الثلث ،بخلاف الواجب البدني والواجب التبرعي ،فانهما يخرجان من الثلث .

والمراد بالواجب المالي ، الاموال التي اشتغلت بها ذمتة مثل المال الذي اقترضه والمبيع الذي باعه سلفا وثمن ما اشتراه نسيئهً وعوض المضمونات وأروش الجنابات ونحوها ، ومنها الخم والزكاة والمظالم . واما الكفـارات والنذور ونحوها فالظاهر انها لا تخرج من الاصل مما يعني انها ليست واجبات مالية ، اما الواجب البدني فهو ما يكون بدنيا لا ماليا كالصلاة والصوم ، واما الواجبات او الوصايا التبرعية فالمراد منها ما لا يكون واجبا عليه في حياته سواء أكانت تمليكية او عهدية ، ففي حياة الموصي لا وجوب فيها ، انما الوجوب بعد مماته من باب تنفيذ الوصية . ينظر: الخوئي ، منهاج الصالحين ، ج2 ، ص216 .

5- ينظر: الكرباسي ، نخبة الأحاديث ،ج1 ،ص185.

6- محمد حسن النجفي ، جواهر الكلام .

7- ينظر بصدد ما تقدم : الكاساني ، مصدر سابق ، “فقه حنفي ” ، ج7، ص373-375 ، الدردير ، “فقه مالكي ” الشرح الكبير وحاشية الدسوقي ، ج4 ، ص454 . ابن قدامة ، “فقه حنبلي” ، المغني ، ج9 ، ص491 ، الشربيني الخطيب ،” فقه شافعي ” ، مغني المحتاج ، ج3 ، ص49 ، ابن رشد ، “فقه مالكي مقارن ” ، بداية المجتهد ، ج2 ، ص253 . المحقق الحلي ، “فقه امامي ” ، المختصر النافع ، ص192 . محمد حسن النجفي ، جواهر الكلام ، الخوئي ، “فقه امامي معاصر ” ، منهاج الصالحين ، ج2 ، ص215-216 . محمد ابراهيم الكرباسي ، “فقه امامي ” ، نخبة الاحاديث في الوصايا والمواريث ، ج1 ، ص186 . محمد جواد مغنيه ، “فقه امامي ” ، فقه الامام جعفر الصادق ، دار العلم للملايين ، ط1 ، ج6 ، ص165-168 ، بيروت ، 1966.

8- ينظر : المصادر المشار اليها انفا .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .