إن قوانين الدول قد تختلف فيما بينها في تحديد مكان انعقاد العقد أو زمانه، ومن ثم فاختلاف ذلك ينشئ تضارباً في النتائج تبعاً لتضارب الأحكام التشريعية بين دولة وأخرى فما يعتبر من عقود مبرمة في التشريع الأردني، قد لا يعتبر كذلك في التشريع العراقي، أو غيره من التشريعات العربية والأجنبية، وذلك كله تبعاً للنظرية التي اتبعتها كل دولة في تشريعها، ولأهمية تحديد زمان ومكان انعقاد العقد في مجلس العقد الحكمي سنورد موقف القانون المدني العراقي أولاً، ثم نعقبه بتوضيح موقف بعض القوانين المدنية، والتي بينا فيها موقف القوانين المقارنة مضيفين إليها بيان موقف قوانين مدنية عربية أخرى كالقانون المدني المغربي الذي اتخذ موقفاً مغايراً لموقف القوانين المقارنة، فوضع أحكاماً انفرد بها وكان لها التأثير الكبير في الحصول على أكبر فائدة ممكنة تمكننا من الوصول إلى ترجيح أحد الاتجاهات.

أولاً: موقف القانونين العراقي والمصري.

جاء في المادة (87) من القانون المدني العراقي ما يأتي: “1- يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان والزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد اتفاق صريح أو ضمني أو نص قانوني يقضي بغير ذلك. 2- ويكون مفروضاً أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما”. من خلال هذا النص يتضح لنا، إن المشرع العراقي قد اعتبر مكان انعقاد العقد يتحدد بزمان انعقاده. كما أنه قد أخذ بنظرية العلم بالقبول، فالعقد بالمراسلة يكون قد تم في الزمان الذي علم فيه الموجب بالقبول وفي مكان حصول هذا العلم(1). وكذلك قد اعتبر أن وصول القبول إلى الموجب قرينة على العلم به وذلك بموجب الفقرة الثانية من هذه المادة، إذ يفترض علم الموجب بالقبول في زمان ومكان وصوله إليه، وهذا هو العلم المفترض أو الحكمي وليس العلم الحقيقي، فوصول القبول إليه هو قرينة افتراض علمه بمضمونه وإن لم يعلم فعلاً. إلا أن ما يمكن ملاحظته على الفقرة الثانية من هذه المادة، أن المشرع قد استخدم كلمة (مفروضاً)، وهذه غير دقيقة وتتناقض مع مفهوم القرينة البسيطة التي يجوز إثبات عكسها، فهي من الفعل الثلاثي (فرض) والتي معناها أوجب وسّنَ(2). وما قيل بصدد موقف القانون المدني العراقي هو ما ينطبق على القانون المدني المصري. إذ وضع المشرع المصري قاعدة تقضي بأن التعبير عن الإرادة لا ينتج أثره إلا حين اتصاله بعلم من وجه إليه، وبعد أن أورد المشرع المصري هذه المادة أردفها بنص خاص عالج فيه بصورة مباشرة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد في التعاقد بين غائبين، إذ قضى بموجب المادة (97) من تشريعه المدني ما يأتي:

“1- يعتبر التعاقد بين الغائبين قد تم في المكان والزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك.

2- ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان وفي الزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول”.

ويبدو لنا أن السبب في هذا التطابق هو أن القانون المدني العراقي قد اشتق من أصله القانون المدني المصري.

ثانياً: موقف القانونين السوري واللبناني.

نصت المادة (98) من القانون المدني السوري على أنه “يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين (صدر فيهما القبول)، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك”. كما نصت المادة (184) من قانون الموجبات والعقود اللبناني على أنه “إذا كانت المساومة جارية بالمراسلة أو بواسطة رسول بين غائبين، فالعقد منشأ في الوقت والمكان اللذين (صدر فيهما القبول) ممن وجه إليه العرض”. بعد أن عرضنا هاتين المادتين سنبين الاختلاف الفقهي في مسألة تحديد النظرية التي تبناها هذان التشريعان. فقد ذهب بعض الفقهاء(3). إلى القول بأن القانون السوري قد سار على نهج قانون الموجبات والعقود اللبناني الذي أخذ بنظرية إعلان القبول. بمعنى أن أصحاب هذا الرأي يقولون أن المشرعين قد اعتنقا نظرية الإعلان وقد انتقد جانب من الفقه(4).هذا الرأي بقولهم بأنه “وقع كثير من الفقهاء بخطأ أضحى شائعاً فمعظمهم متفقون على أن القانون السوري أخذ بمذهب إعلان القبول دون تمحيص مفهوم المادة (98) من القانون المدني السوري وتوضيح دلالة اللفظ فيهما، ولعل مرد ذلك أنهم أخذوا بما ورد في المذكرة الإيضاحية(5). من تعبير واضح، بأن “القانون السوري أخذ بما أخذ به قانون الموجبات والعقود اللبناني في التعاقد بالمراسلة” ومن ثم فقد ذكر أصحاب هذا الرأي أن حقيقة نص المادة (98) من القانون السوري والمادة (184) من قانون الموجبات اللبناني أعلنتا أن النظرية المتبعة هي نظرية التصدير لا نظرية الإعلان(6).

126

واستدل أصحاب هذا الرأي بالأسباب الآتية:

1-إن عبارة (صدر فيهما) الواردة في متن المادتين المشار إليهما أعلاه، تفيد معنى الصدور، والصدور هو خروج القبول عن الموجه إليه الإيجاب ومن ثم فإن مفهوم هاتين المادتين لا يفيد مفهوم الإعلان المجرد إنما يقصد به التصدير.

2-يستدل على نظرية التصدير من مفهوم نص الفقرة الثانية من المادة (99) من القانون المدني السوري ونص الفقرة الثانية من المادة (180) من القانون اللبناني، فالتصدير يفيد معنى الرد على الإيجاب، إذ جاء في الفقرة الثانية من المادة (99) “ويعتبر السكوت عن الرد قبولاً …..” ومعنى ذلك أن الشارع لم يقصد مجرد الإعلان بل لابد من الرد في الإيجاب والرد لا يعني العمل السلبي وإبقاء القبول لدى القابل، بل لابد من التصدير، وكذا هذا المفهوم ظاهر من الفقرة الثانية من المادة (180) لبناني إذ جاء فيها “…. ويعد عدم الجواب قبولاً ….” فالجواب لا يعطي أثره إذا بقي محجوزاً عند صاحبه بل لابد له من أن يتخذ حركة الرد، وهذا الرد هو التصدير نفسه أي الإرسال.

3-يستدل على نظرية التصدير من نص المادة (92) من القانون السوري إذ نصت على أنه “يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ….” فتبادل التعبير بين غائبين لا يتم إلا بالرد والجواب.

ومن جهة ثانية فقد ذهب بعض الفقهاء(7). إلى القول بأن القانون اللبناني قد تبنى بكل صراحة نظرية التصدير، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى المادة (184) من قانون الموجبات والعقود ويقولون “أن القانون اللبناني قد أخذ بالرأي السائد في القوانين الأجنبية وهو رأي مدعوم بالمصلحة العملية أكثر منه بالأسباب النظرية …. إذ من السهل جداً معرفة تاريخ وضع كتاب القبول في البريد”. ونعتقد أنه لتحديد موقف المشرعين السوري واللبناني، يجب التفرقة فيما إذا كان القبول شفاهاً (لفظاً) أم كتابةً. فإذا صدر لفظاً فإن العقد سينعقد لحظة إعلانه (نظرية الإعلان) وذلك لأن المشرعين لم يشترطا أن يقوم الرسول أو حامل الرسالة بإيصال القبول إلى الموجب. بل لم يشترطا فضلاً عن ذلك أن يصدر القبول أمام الرسول أو حامل الرسالة، بل من الجائز إعلان القبول أمام أي شخص كان، ولم يتطلب أن يقوم هذا الشخص بنقل القبول إلى الموجب. ويعود السبب في ذلك إلى مفهوم مجلس العقد في الفقه المدني إذ لا يقتصر مفهوم مجلس العقد الحكمي على الفترة التي يكون فيها الشخص الموجه إليه الإيجاب والرسول أو حامل الرسالة في نفس الزمان والمكان، بل يبقى مجلس العقد الحكمي للفترة المعقولة والتي يتحدد خلالها، إما اقتران القبول بالإيجاب أو انفضاض المجلس دون قبول بعد نهاية تلك الفترة. أما إذا كان القبول كتابةً فإن انعقاد العقد لحظة الكتابة سيؤدي إلى صعوبة إثبات هذا الانعقاد، ويجعل من الموجب أن يقع تحت رحمة القابل، فهو الطرف الوحيد الذي يستطيع إثبات الانعقاد أو نفيه. ومن ثم فإن الانعقاد سيتم لحظة تصديره وليس إعلانه. لأن ذلك هو ما يحقق مصلحة الموجب ويؤدي إلى توازن العقد، وبالتالي فإن القول بنظرية التصدير فيما إذا كان القبول كتابةً لا يتعارض مع نص المادة (98) من القانون المدني السوري، ولا المادة (184) من القانون اللبناني، إذ ستعتبر لحظة تصدير القبول هي اللحظة التي (صدر فيها) القبول، كما ورد في متنيهما. وجدير بالذكر فإن موقف المشرع السوري في مسألة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد بين غائبين هو إحدى المسائل النادرة التي خالف فيها القانون المدني السوري القانون المدني المصري(8). وخلاصة الأمر فإن المشرعين السوري واللبناني قد أخذا بنظرية الإعلان إذا كان القبول شفاهاً، كما أخذا بنظرية التصدير إذا كان القبول كتابةً، وفي كلتا الحالتين فإن مكان انعقاد العقد هو مكان الطرف القابل لا مكان الموجب، لأن العقد قد تم حيث صدر القبول من القابل دون توقف وصوله إلى الموجب أو علمه به.

ثالثاً: موقف القانون المدني الأردني.

نصت المادة (101) منه على أنه “إذا كان المتعاقدان لايضمهما حين العقد مجلس واحد يعتبر التعاقد قد تم في المكان وفي الزمان اللذين (صدر فيهما) القبول ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك”. على الرغم من ذهاب جانب من الفقه(9). إلى القول بأن القانون المدني الأردني قد اعتنق نظرية الإعلان. وتبرير جانب من الفقه(10). بأن السبب في مسألة أن العقد يتم بإعلان القبول في القانون المدني الأردني، هو أن هذه النظرية تحقق شرط اتحاد المجلس المطلوب في العقود، إلا أننا نعتقد بأن موقف المشرع الأردني لا يختلف عما قلنا في تحديد موقف المشرعين السوري واللبناني، لذلك فإن المشرع الأردني يأخذ بنظرية الإعلان فيما إذا كان القبول لفظاً أو شفاهاً. كما يأخذ بنظرية التصدير إذا كان القبول كتابةً، وذلك لأن في هاتين الحالتين يتحقق صدور القبول وينعقد العقد.

رابعاً: موقف القانون المغربي.

حدد المشرع المغربي موقفه في شأن تحديد مكان وزمان انعقاد العقد بين غائبين (في مجلس العقد الحكمي) في المادة (24) من قانون الالتزامات والعقود المغربي التي تقرر بأنه “يكون العقد الحاصل بالمراسلة تاماً في الوقت والمكان اللذين (يرد فيهما) من تلقي الإيجاب لقبوله. والعقد الحاصل بواسطة رسول أو وسيط يتم في الوقت والمكان اللذين (يقع فيهما الرد) من تلقي الإيجاب للوسيط أنه يقبله”. وقد اختلف الفقهاء في تحديد موقف المشرع المغربي فقد ذهب جانب من الفقه(11). إلى القول بأن المشرع المغربي قد مال إلى الأخذ بنظرية إعلان القبول. بينما ذهب جانب أخر من الفقه(12). إلى القول بأن المشرع المغربي قد أخذ بنظرية التصدير. يبدو لنا أن الرأي الراجح هو الرأي الأخير (نظرية التصدير)، لأن كلمة (الرد) الواردة في المتن تفيد معنى الإرسال، إذ لو كتب الموجه إليه الإيجاب الرد ولم يرسله فلا يعتبر عملياً أنه قام بالرد. وهذا ما ينطبق في حالة قبول الإيجاب المرسل عن طريق الرسول التي عالجتها الفقرة الثانية من المادة المشار إليها، إذ الرد للرسول لا يعتبر إعلاناً دون إرساله إذ أن الإعلان وحده لا يحقق التصدير، ومفهوم التصدير في هذه الفقرة متحقق قياساً بالرد عن طريق البريد، إذ أن إعلام الرسول بالرد بالقبول هو تصدير للقبول، لم يعد يملك القابل الرجوع عنه وكذلك الأمر بالنسبة إلى القبول في الرد بواسطة البريد، فهو تصدير للقبول إذاً وليس بإعلان للقبول(13). ويؤكد ما تم ترجيحه بالنسبة إلى موقف المشرع المغربي ما ورد في المادة (29) منه، التي تلزم الموجب بالإيجاب المحدد “أن يبقى ملتزماً تجاه الطرف الآخر إلى انصرام هذا الأجل، ويتحلل من ايجابه إذا لم يصله (رد بالقبول) خلال الأجل المحدد”. فيفهم من هذه المادة أن القبول لا يتحقق ببقائه محجوزاً لدى القابل، بل يجب تصديره. كما تفهم أهمية وصول القبول إلى الموجب من خلال نصه على أنه ” …. ويتحلل من ايجابه إذا لم يصله رد بالقبول خلال الأجل المحدد”. وهذا ما يفهم كذلك مما ورد في المادة (30) منه، والتي جاء فيها “وإذا صدر التصريح بالقبول في الوقت المناسب ولكنه لم يصل إلى الموجب إلا بعد انصرام الأجل الذي يكفي عادة لوصوله إليه، فلا ينعقد العقد”. إذ يبدو ظاهرياً أن المشرع المغربي قد وقع في غلط واضح في معالجة لحظة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد بين غائبين. فمن جهة اعتنق نظرية تصدير القبول في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد بحسب مفهوم نص المادة (24) منه، ومن جهة أخرى أوجب وصول القبول إلى علم الموجب لإتمام التعاقد بحسب مفهوم نص المادة (30) منه؟ الواقع أنه ليس هنالك تضاربً في التشريع المغربي إذ أنه قد حدد موقفه من خلال نص المادة (24) منه بالأخذ بنظرية التصدير. أما التبرير في ورود المادة (30) منه، فإننا نتفق مع جانب من الفقه(14). في تبريرهم لذلك، بأن الصحيح هو اعتبار العقد تاماً في الوقت الذي يرد فيه من تلقى الإيجاب بقبوله (أي لحظة تصديره بحسب ما تم ترجيحه) ولكن هذا الانعقاد يبقى معلقاً على شرط واقف هو وصول الرد بالقبول إلى الموجب (علم الموجب بالقبول) قبل انتهاء الوقت المناسب الذي يكفي عادة لوصوله إليه، أو قبل انقضاء الأجل الذي يكون الموجب قد حدده للقبول. فلو تحقق الشرط ووصل الرد بالقبول في الوقت المناسب، أو داخل الأجل قام العقد بصورة نهائية وأنتج أثاره منذ صدور القبول عن الموجب (أي منذ تصديره) أما إذا تخلف الشرط ولم يصل الرد بالقبول إلا بعد فوات الوقت المناسب أو خارج الأجل المحدد فإن الموجب يتحلل من ايجابه، مع احتفاظ القابل بحقه في طلب التعويض من المسؤول عن التأخير، نتيجة لما أصاب القابل من ضرر من جراء حرمانه من الاستفادة من العقد.

خامساً: موقف القانون المدني الفرنسي:

لم يتضمن القانون المدني الفرنسي نصاً يحسم الخلاف الذي دار حول مسألة زمان ومكان انعقاد العقد، الأمر الذي أثار جدل الفقهاء الفرنسيين من حولها، كما أثار اختلاف المحاكم الفرنسية فيها(15). ولكنه يشتمل من ناحية أخرى على نصوص قليلة منطوية على معالجة لبعض تطبيقاته(16). وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في صلاحية هذه النصوص لتحديد موقف المشرع الفرنسي من هذا التعاقد. “فقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول أن المشرع الفرنسي يأخذ بنظرية (إعلان القبول) وقد استندوا فيما ذهبوا إليه إلى نص الفقرة الثانية من المادة (1985) منه والتي جاء فيها (الرضا بالوكالة من قبل الوكيل قد يحصل ضمناً، ويتحقق ذلك بقيام الوكيل بتنفيذ الوكالة) وهم يوضحون ذلك على أساس أن هذه المادة لم تشترط علم الموكل برضاء الوكيل، إنما يتحقق ذلك عن طريق قيام الوكيل بتنفيذ الوكالة(17). ويبدو بأنه من غير الصواب تطبيق هذا الحكم على غير عقد الوكالة، ففي هذا العقد ما يبرره وهو مصلحة الموكل الظاهرة في أن يسرع الوكيل في تنفيذ وكالته على افتراض أن هذه المصلحة هي الدافع إلى القول أن العقد ينعقد بمجرد قبول الوكيل للوكالة. “بينما ذهب جانب أخر من الفقه إلى أن المشرع الفرنسي قد اعتنق نظرية العلم بالقبول”(18). وقد استندوا فيما ذهبوا إليه إلى نص الفقرة الثانية من المادة (932) من القانون المدني الفرنسي والتي تنص على أن “الهبة لا تصلح إلا إذا وصل رضاء الموهوب له إلى علم الموجب”، وقد انتقد جانب من الفقه(19). هذا الرأي وأنكر أن يكون له قيمة، إذ بين أن عقد الهبة هو تمليك دون عوض، وهو لهذا تصرف متسم بخطورة دعت المشرع الفرنسي إلى إحاطته بنوع من الشكلية، وأن هذه الحقيقة بالذات تحول دون قياس العقود الأخرى عليه.

لذلك نتفق مع جانب من الفقه(20). في أن هذه النصوص لا تصلح أن تكون أساساً لحل عام لمشكلة التعاقد بين غائبين. أما بالنسبة للقضاء الفرنسي فقد ترددت المحاكم الفرنسية في الأخذ بأي من النظريات التي استعرضناها في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد وكذلك هو حال محكمة النقض الفرنسية، مع تأكيدها مراراً بأن الموضوع يتعلق بمسألة وقائع ناجمة عن سلطة مطلقة للقاضي (لقضاة الموضوع)(21). إلا أن موقفها هذا منتقد فقد ذكر جانب من الفقه(22). في انتقاد محكمة النقض في اعتبارها أن المسألة هي مسألة وقائع وليس قانون بقولهم “بما أن العقد مصدراً للالتزام، فإن مسلك محكمة النقض الفرنسية يكون محل نظر، لأن تحديد وقت تمام العقد يتعلق بمسألة قانونية جوهرية هي معرفة اللحظة التي يبدأ منها نشؤ الالتزام ولا يكون له وجود فيها”. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى صدور العديد من القرارات القضائية التي تبين لنا أن القضاء الفرنسي يتبنى مذهب تصدير القبول، ومنها محكمة لوش المدنية عام 1945م(23). وأخيراً فإننا نعتقد أن الفقه والقضاء الفرنسي قد مال إلى الأخذ بنظرية تصدير القبول ونستند في قولنا إلى الأدلة الآتية:

1-أعلنت محكمة النقض الفرنسية بصورة صريحة بتاريخ (7 كانون الثاني 1981م) مبدأً مفاده أنه عند عدم وجود اتفاق معاكس، ينشأ العقد من تاريخ إرسال القبول وليس من تاريخ استلامه(24).

2-إن “أكثرية الفقهاء الفرنسيين يقولون بضرورة إتباع نظرية التصدير(25).

3-تصريح جانب من الفقه(26). بأن محكمة النقض الفرنسية تأخذ في عقود المراسلة بنظرية تصدير القبول.

ومن الجدير بالذكر إن نظرية التصدير هي النظرية التي اعتمدتها اتفاقية فينا الخاصة بالبيع الدولي للبضائع (1980م) والتي وقعت عليها (45) دولة ومن ضمنها فرنسا(27). والتي ينطبق حكمها على عقود البيع ذات الصفة الدولية للأموال المنقولة (وليس الخدمات)(28). وبعد أن استعرضنا موقف القانون المدني العراقي وبعض القوانين المدنية الأخرى، سنقوم بتوضيح بعض النقاط المهمة التي تساعد في ترجيح أحد الاتجاهات السابقة.

أولاً: قوة النصوص الإلزامية.

إن طبيعة النصوص المتعلقة بالتعاقد بين الغائبين سواء في القانون المدني العراقي أو في القوانين المدنية الأخرى التي نصت على هذه المسألة هي من النصوص المفسرة، فهذه المسألة لا تتعلق بالنظام العام، ومن ثم فللمتعاقدين الحرية في الاتفاق على ما يخالفها(29).

ثانياً: العلاقة بين زمان انعقاد العقد ومكانه.

من الطبيعي أن تكون هناك علاقة وثيقة ما بين زمان ومكان انعقاد العقد، فإذا تعين الوقت الذي يتم فيه العقد تعين أيضاً المكان الذي يتم فيه(30). ولذلك نرى أن الاتجاه الصحيح هو الأخذ بإحدى النظريات التي لا تفصل ما بين الزمان والمكان ، وذلك لأن غالبية القائلين بفكرة وجوب فصل زمان انعقاد العقد عن مكانه ومنهم شيفاليه ومالوري يعتقدون “أن العقد ليس إلا محض فكرة افتراضية لا وجود له في الواقع ككائن مستقل متميز له زمان ومكان واحد إذا قام صحيحاً أنتج كل الآثار وإذا لم يقم صحيحاً لم ينتج أي أثر، فالإرادتان المتوافقتان ليستا شيئاً أخر عن الإرادتين غير المتوافقتين، فلا ينشأ عنهما كائن يتولى هو توليد الالتزامات، وإذا قيل أن العقد هو نفسه الإرادتان المتوافقتان، قلنا، أن الالتزام لا ينشأ عن الإرادتين سوياً وإنما ينشأ عن إرادة واحدة مضافاً إليها الركن المادي(31). بمعنى أنهم لا يوافقون على نظرية العقد. وهذا ما يتعارض بصورة عامة مع ما استقر عليه الفقهاء سواء في الفقه الإسلامي أم في الفقه المدني. كما يتعارض بصورة خاصة مع فكرة مجلس العقد التي قال بها الفقه الإسلامي، واستمدتها غالبية القوانين المدنية. ولكن إن هذا القول لا يحل المشكلة، لأنه يتوجب علينا تحديد لحظة اقتران القبول بالإيجاب، فيجب ترجيح أي من النظريات المذكورة آنفاً التي يتعين علينا ترجيحها؟

ثالثاً: استبعاد نظريتي الإعلان والتسليم (الوصول).

قد يكون لنظرية الإعلان فائدة من الوجهة النظرية باعتبار أن لحظة الإعلان هي اللحظة التي يقترن بها الإيجاب بالقبول، إلا أن من الناحية العملية، لا يمكن الأخذ بها، لأنه ليس من سبيل لإثبات أن الموجه إليه الإيجاب قد قبل بالإيجاب، إن هو لم يُصدر قبوله إلى الموجب(32). وقد يثار التساؤل في هذا المجال عن السبب في استبعاد نظرية الإعلان في حالة صدور القبول باللفظ، مع العلم أن الفقه الإسلامي قد اعتنق هذه النظرية في تلك الحالة؟ وللجواب عن ذلك نقول إن اختلاف الحلول هو ناشئ من اختلاف طبيعة مجلس العقد الحكمي في المفهوم المدني عن مفهومه في الفقه الإسلامي. ففي حين أنه يتوجب على الموجه إليه الإيجاب في الفقه الإسلامي إعلان قبوله عند حضور الرسول أو حامل الرسالة، نجد أن الفقه المدني قد أعطى لمجلس العقد الحكمي خصوصية في بقائه لفترة معقولة لاقتران القبول بالإيجاب، ولا يشترط إعلان القبول عند حضور الرسول أو حامل الرسالة. ومن جهة ثانية، فإن نظرية التسليم (الوصول) ليست في الواقع نظرية مستقلة بحد ذاتها، بل هي تتذبذب بين نظريتي التصدير والعلم. وهي بين أن تأخذ بنظرية التصدير، ولكن لا ترى التصدير باتاً حتى يصل القبول إلى الموجب فيصبح ملكاً له لا يجوز استرداده، وبين أن تأخذ بنظرية العلم ولكن تكتفي من العلم بالقرينة عليه وهو استلام الموجب للقبول وتقف عند ذلك(33). كما أن نظرية التسليم (غير عادلة) للموجب وللموجه إليه الإيجاب على حد سواء، إذ تحمل الموجب واقعة لاحقة للتسليم أو الوصول، ولو كانت تلك الواقعة خارجة عن إرادته، كما أنها تحمل الموجه إليه الإيجاب، كل غش أو تقصير يصدر عن الموجه إليه التعبير بقصد منع التعبير عن الوصول(34). ونتيجة لذلك نرى وجوب استبعاد هاتين النظريتين وهما (الإعلان والتسليم) .

رابعاً: استبعاد نظرية الفصل ما بين انعقاد العقد ولزومه.

سنبين فيما يأتي الانتقادات التي يمكن توجيهها لهذه النظرية والتي تتمثل بالآتي:

1- يعيب هذه النظرية العيوب التي توصف بها نظرية الإعلان من حيث صعوبة الإثبات، والإخلال باستقرار المعاملات.

2-إن هذه النظرية تتعارض مع ما استقر عليه الفقه، فقد تبين لنا بأن الموجب في مجلس العقد الحكمي يبقى ملتزماً بأيجابه، ولا يستطيع الرجوع عنه، فإذا كان الحال كذلك ، كيف يعطى للموجب نقض العقد بعد تمامه، بمعنى هل من الصحيح أن يحرم الموجب من الرجوع عن أيجابه قبل أن يحدث هذا الإيجاب أثره في انعقاد العقد، ثم يمنح هذا الحق بعد ذلك.

3-إن هذه النظرية تتعارض مع ما استقر عليه القانون، من إن العقد يقع حكمه في الحال، إذا لم يكن معلقاً على شرط ولا مضافاً إلى وقت مستقبل(35).

ونتيجة لذلك نرى وجوب استبعاد هذه النظرية.

خامساُ: حجج أنصار نظرية العلم وتفنيد هذه الحجج.

1-يذهب جانب من الفقه(36). إلى القول بأنه يجب قياس انعقاد العقد ما بين غائبين في مجلس العقد الحكمي، على الزمان والمكان اللذين ينعقد فيهما العقد في التعاقد ما بين حاضرين في مجلس العقد الحقيقي، إذ لا تتم الرابطة العقدية في المجلس الحقيقي إلا بعلم الموجب بقبول القابل. وهكذا يجب أن يكون أيضاً في مجلس العقد الحكمي. خاصةً وأن هنالك فترة زمنية تفصل ما بين الإيجاب والقبول، سواء أكان التعاقد في مجلس العقد الحكمي أم الحقيقي، على أن هذه الفترة وإن كانت مدتها أقصر من الفترة التي تفصل ما بين التعبيرين في مجلس العقد الحكمي، إلا أنها تبقى هذه الفترة في مجلس العقد بصورتيه، ولذلك فمن غير الجائز أن يكون لهذا الظرف الواقعي أي أثر في سلامة القاعدة(37). ونتفق مع أحد الفقهاء(38). في أن هذا القياس هو قياس مع فارق، لأن التعاقد في مجلس العقد الحقيقي يكون فيه المتعاقدان حاضرين معاً في المجلس، فكان اشتراط العلم من متطلبات المجلس حتى يستكمل للعقد بنيانه في المجلس، مثلما سيتوضح لدينا لدى تناولنا لموضوع انعقاد العقد في مجلس العقد الحقيقي بخلاف التعاقد بين غائبين في مجلس العقد الحكمي، الذي يكون فيه المتعاقدان متباعدين، فتكون وسيلة الاتصال هي الرابطة فيما بينهما. كما أن هنالك خصوصية لمجلس العقد الحقيقي تميزه من الحكمي كما بينا ذلك في مسألة حق الموجب في الرجوع عن أيجابه، إذ ينحصر هذا الحق في الأحوال التي يسمح بها له بالرجوع في مجلس العقد الحقيقي، على الرغم من أن الإيجاب يقع ملزماً في مجلس العقد الحكمي، لا يحق للموجب الرجوع عنه، إلا إذا وجد شرط أو اتفاق على ذلك. وبالتالي فإن لصورة مجلس العقد الحكمي خصوصية تميزه من الحقيقي، فالقياس ما بين الصورتين، يكون مع فارق. وما يؤكد قولنا ما ذكره أحد الفقهاء(39). في أن “التوافق في العقود بالمراسلة غيره في العقود بين حاضرين، لاختلاف طبيعة كل من النوعين”.

2-اعتبرت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري، والعديد من الفقهاء(40). بأن نظرية العلم هي النظرية التي تتماشى مع إرادة الموجب المفترضة، فقد نصت هذه المذكرة الإيضاحية على ما يأتي: إن “مذهب العلم هو أقرب المذاهب إلى رعاية (مصلحة الموجب)، وذلك أن الموجب هو الذي يبتدئ التعاقد، فهو الذي يحدد مضمونه وشروطه ، فمن الطبيعي والحال هذه، أن يتولى تحديد زمان التعاقد ومكانه (ومن العدل) إذا لم يفعل أن تكون الإرادة المفترضة مطابقة لمصلحته عند عدم الاتفاق على ما يخالف ذلك(41)، بمعنى أن هذه الإرادة المفترضة قرينة في حالة عدم اتفاق المتعاقدين على تحديد زمان ومكان انعقاد العقد. إن اتجاه المذكرة الإيضاحية والفقهاء المؤيدين لها يثير تساؤلاً عملياً، يتعلق بمسألة جوهرية في فكرة التعاقد، وهذا التساؤل هو، لماذا جعل أصحاب هذا الرأي بأن (من العدل) أن تكون الإرادة المفترضة للموجب في الأخذ بنظرية العلم بالقبول هي الإرادة المطابقة لمصلحة الموجب؟ فالمقصود بالعدالة في مجال العقد “هي تحقيق التوازن بين المصالح المختلفة التي يظهر ما بينها من التضارب، والصراع، عند المركز القانوني المراد تنظيمه(42). ومن أجل الوصول إلى العدالة تجب موازنة مصالح المتعاقدين التي قد تتنازع فيما بينها خلال المدة التي تنقضي من وقت تصدير التعبير بالقبول إلى حين اتصاله بعلم الموجب، لكي نتحقق من وجوب الأخذ بنظرية العلم أو الابتعاد عنها والأخذ بغيرها من النظريات. فهل أن من مصلحة الموجب الأخذ بنظرية العلم بالقبول، أم أنها قد تتعارض مع مصلحته؟

يمكن القول أنه في بعض الحالات قد تكون من مصلحة الموجب الإسراع في إبرام العقد، قبل وصول القبول إلى علمه، لأن هذا الإسراع قد يساعده في تحقيق مصلحة جوهرية له.

وبعد أن بينا بأن الإيجاب الموجه في مجلس العقد الحكمي يبقى ملزماً للموجب بعدم الرجوع عنه لفترة معقولة لوصول القبول إلى علم الموجب – هذا بحسب نظرية العلم – لذلك فإن نظرية العلم توفر ميزة للموجه إليه الإيجاب، الذي صدر القبول، ولم يقترن قبوله بعلم الموجب في الرجوع عن قبوله. بينما إذا أخذنا بنظرية التصدير فإنه لا يجوز للقابل الرجوع عن قبوله، لأن العقد يعتبر قد أبرم. يتضح لنا أن الأخذ بنظرية العلم هي لمصلحة القابل أكثر مما قد تكون لمصلحة الموجب. فمصلحة الموجب هي وجوب عدم الأخذ بنظرية العلم تثبيتاً للانعقاد. ومن جهة ثانية، فإن الأخذ بنظرية العلم قد يعطي للموجب فرصة في الامتناع عن الإطلاع على رسالة القبول بعد وصولها إليه، فلا ينعقد العقد، وبذلك فإن مصلحة القابل تستوجب عدم منح الموجب هذه الفرصة في منع الانعقاد من دون وجه حق. وبذلك فإن للموجب كما للقابل على حد سواء، مصلحة جوهرية يجب توفير الحماية لها عن طريق عدم الأخذ بنظرية العلم بالقبول. وهكذا فإن القول بأن الأخذ بنظرية العلم أساسه مصلحة الموجب يتناقض مع الواقع.

3-يذهب بعض الفقهاء(34). إلى القول بأن نظرية العلم بالقبول هي النظرية التي تتماشى مع فكرة التوافق ما بين الإرادتين، فإذا كان القابل قد علم بإرادة الموجب عند وصول الإيجاب إليه، فإن من حق الموجب إن يعلم برد الفعل المترتب على إيجابه. إلا أن هذا القول سيؤدي وفقاً لمنطقه إلى إعدام مبدأ الروابط العقدية في التعاقد في مجلس العقد الحكمي بوجه عام. فما دام أن علم الموجب برضاء من توجه به إليه ضرورياً تحقيقاً لفكرة التوافق ما بين الإرادتين، فإنه يجب البناء على نفس الفكرة أن يعلم الأخير بدوره بأن تعبيره قد اتصل بعلم الأول، طالما أنه لا يجوز أن يرتبط الشخص إلا وهو على بينة من ارتباطه، ثم أن يعلم الموجب بعدئذ بتمام هذا العلم، وهكذا دواليك، وبذا يدخل الأمر في حلقة مفرغة ليس لها نهاية(44). كما أن نظرية العلم تتعارض مع فكرة توافق الإرادتين، بوصفها قد عدت وصول القبول قرينة على العلم به، بمعنى أنه قد يتم اعتبار العقد مبرماً في بعض الحالات، حتى ولو لم يعلم الموجب بالقبول علماً حقيقياً، ما دامت ظروف التعاقد قد دلت على العلم. لذلك فإن الاستناد إلى فكرة التوافق بين الإرادتين لا أساس لها من الصحة.

سادساً: عيوب نظرية العلم.

1-يؤدي الأخذ بنظرية العلم إلى الاعتماد في بعض الأحيان على ظروف خارجة عن إرادة المتعاقدين في تحديد انعقاد العقد من عدمه، كوفاة الموجب أو فقده لأهليته، فإذا تم العمل بموجب نظرية العلم بالقبول، فإن العقد لا ينعقد إذا أصدر القابل قبوله، ومن ثم توفى الموجب، وبذلك سيصيب القابل ضرر عدم إبرام العقد على الرغم من وضوح إرادة الموجب بإرساله إيجابه ووضوح إرادة القابل بإرساله قبوله.

2-إن الأخذ بنظرية العلم يجعلنا نتساءل، فيما إذا كان من الجائز اعتبار العقد مبرماً، إذا وصل القبول إلى علم الموجب بطرقه الخاصة، وقبل أن يقوم الموجه إليه الإيجاب بتصديره. فمثلاً قد يقوم الموجه إليه الإيجاب بكتابة رسالة بالقبول، وبعد ذلك يحتفظ بها دون إرسالها، ومن ثم يقوم الموجب بالحصول على هذه الرسالة دون علم القابل. ففي هذه الحالة فإن الأخذ بنظرية العلم سيجعل العقد منعقداً لتحقق العلم بالقبول، وهذا ما يجافي العدالة. وذلك لأن من المحتمل أن لا يقوم القابل بإرسال تلك الرسالة، ومن ثم فإن العقد سينعقد رغماً عنه. قد يقال بأن الموجب في هذه الحالة إنما يستعمل طرقاً غير قانونية وبالتالي فإن هذا القبول غير قانوني لا يجعل العقد منعقداً. ولكن ألا يتصور أن يحدث ذلك ومن ثم فإن عبء الإثبات سيقع على الموجه إليه الإيجاب في إثبات أنه لم يقم بإرسال تلك الرسالة. أما إذا أخذنا بنظرية التصدير فإن عبء الإثبات سيقع على عاتق الموجب ، لأنه يدعي خلاف الأصل.

3-يتناقض أصحاب نظرية العلم مع أنفسهم فمن جهة يعتبرون بأن الإرادة لا تنتج مفعولها إلا بوصولها إلى علم من وجهت إليه، ومن جهة ثانية يقولون بأن وصول الإرادة قرينة على العلم بها. بمعنى أنه حتى ولو لم يعلم الموجب بالقبول علماً حقيقياً، ودلت الظروف على العلم، فيحكم بانعقاد العقد ومن ثم فإن اشتراطهم العلم كشرط لانعقاد العقد ليس سليماً، لأنه قد لا يتحقق في بعض الأحيان.

سابعاً: حجج أنصار نظرية التصدير.

1-ذهب جانب من الفقه(45). إلى القول، بأن الأخذ بنظرية التصدير هو الأفضل لأنه يوفر سرعة انعقاد العقد ضماناً لاستقرار المعاملات وسرعتها، لاسيما وأن تأجيل انعقاد العقد إلى أن يصل القبول إلى علم الموجب، أمر فيه ضرر ، إذ قد يطرأ على الأسعار تغيير خطير في هذه الفترة، فليس من المنطق الملائم أن يؤجل انعقاد العقد إلى حين تمام علم الموجب بقبول القابل. لذلك فإن نظرية تصدير القبول هي النظرية الأقرب إلى العدالة(46).

2-ذكر جانب من الفقه(47). بأنه مما لا شك فيه وضوح الطابع العملي لنظرية التصدير وما يترتب على هذا الطابع من فائدة على صعيد التعامل التجاري، وذلك باعتبار أن التصدير دليلاً أكيداً وتعبيراً صريحاً عن إرادة القبول. فإذا كان الحال على ذلك في المعاملات التجارية، فما هو وجه الحرص للانتظار والتريث في عقود مدنية، إذ مهما كانت لا تبلغ في أهمية مبلغها وموضوعها أهمية العقود الاقتصادية، ثم ما هو وجه هذا التفريق في التعامل، فالمفروض أن يتعامل القانون مع العقود التجارية والمدنية بنظرية واحدة على حد سواء(48).

3-تؤدي نظرية التصدير إلى التخلص من بعض الظروف الخارجة عن إرادة المتعاقدين، والتي تسبب عدم انعقاد العقد. كوفاة الموجب أو فقده لأهليته، فإذا تم العمل بموجب نظرية العلم بالقبول فإن العقد لا ينعقد إذا أصدر القابل قبوله ومن ثم توفى الموجب، وبذلك سيصيب القابل ضرر عدم إبرام العقد على الرغم من وضوح إرادة الموجب بإرساله أيجابه ووضوح إرادة القابل بإرساله قبوله. أما إذا تم العمل بموجب نظرية التصدير، فإن العقد سينعقد لحظة تصدير القبول.

ثامناً: عيوب نظرية التصدير.

1-إن أهم العيوب الواضحة لنظرية التصدير، هي أن على الموجب أن يتحمل مخاطر رسالة الموافقة في حالة تأخيرها أو فقدانها. ففي قضية خاصة بشركة التأمين ضد غرانت: عرض المدعى عليه شراء أسهم من شركة المدعي. ومن جانبه قام سكرتير الشركة بكتابة رسالة تخصيص لمصلحة المدعى عليه وقام بإرسالها بالبريد إليه. إلا أن الرسالة لم تصل إلى الموجب (المدعى عليه). وبعد ذلك أصبحت الشركة مفلسة بسبب عدم شراء المدعى عليه للأسهم. إلا أن المدعى عليه أنكر مسؤوليته لدفع الأسهم، لأن القبول لم يصل إليه ولم يعلم به. ومع ذلك فإن محكمة الاستئناف البريطانية أكدت أن العقد قد انعقد لحظة تصديره، واعتبرته أنه مسؤول بوصفه حاملاً للأسهم المتنازع عليها(49).

2-لو نظرنا إلى نظرية التصدير من الناحية النظرية، فإن العقد سينعقد لحظة تصديره، وبالتالي فإن القابل مَصّدر القبول لا يستطيع الرجوع عن قبوله، إلا أن هذا الكلام سيتعارض من الناحية العملية مع مسألتين:

أ-إن الإرسال لا يمنع الاسترداد(50). فإذا كان القابل قد صدر قبوله عن طريق رسول فإن ذلك “لا يعتبر دليلاً على القبول النهائي، لأن الرسول يمكن إرجاعه أو إخطاره بعدم تسليم الكتاب المتضمن القبول(51). وكذلك الحال إذا أرسل الموجه إليه الإيجاب قبوله بالبريد، فإنه يستطيع أن يسترد الخطاب، وهذا ما تقضي به تعليمات البريد في كثير من بلدان العالم ومنها قانون البريد العراقي(52).

ب-إن الإرسال لا يمنع القابل من استخدام وسائل أكثر سرعة في العدول عن قبوله كالبرقية أو الانترنيت أو غيرهما من الوسائل في الفترة التي تنحصر ما بين تصدير القبول كتابة أو عن طريق رسول وما بين علم الموجب بهذا القبول. ومن ثم سيؤدي إلى إمكانية نقض العقد بعد انعقاده دون مبرر قانوني مشروع.

3-إن الأخذ بنظرية التصدير سيؤدي إلى الإخلال بين المتعاقدين في مسألة إثبات التعاقد، فيكون الحال بأن القابل يستطيع إثبات العقد بيسر وسهولة، لأنه هو من قام بتصدير القبول. أما الموجب فيقع عليه عبء ثقيل، إن أراد إثبات العقد وذلك لـ”صعوبة إثبات القبول الذي لم يكن قد اتصل بعلمه(53). إن نظرية التصدير تتعارض مع القاعدة القائلة بأن “الإنسان لا يصح أن يلتزم بعقد بغير علمه”(54). فهذه النظرية ستجعل الموجب ملتزماً بالعقد، قبل علمه باقتران أيجابه بالقبول. كما تتعارض مع ما ذهب إليه بعض الفقهاء(55). من أن استقرار المعاملات يستوجب علم الموجب بالقبول. وبعد أن توضح لنا وجوب استبعاد النظريات الثنائية في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد، وتبين لنا عدم صلاحية نظرية الإعلان، والتسليم (الوصول)، وكذلك نظرية الفصل ما بين انعقاد العقد ولزومه. ومن خلال استعراضنا لنظريتي العلم والتصدير، وما تبين فيهما من مآخذ جدية ذكرناها آنفاً، والتي تلحق بهاتين النظريتين، نتفق مع أحد الشراح(56).في وجوب “التخلي عن كلتا النظريتين بوضعهما الحالي والمعيب” فلا نظرية العلم بمصيبة، لعدم اتفاقها مع توافق الإرادتين(57). ولا نظرية التصدير بمصيبة أيضاً في تعجيلها بالبتات في نفاذ العقد، بمجرد تصدير القبول. ومن أجل الوصول إلى الاتجاه الراجح، نعتقد بأنه من الضروري الإجابة عن السؤالين الآتيين:

أولاً: هل إن علم الموجب بالقبول هو من العناصر المكونة للتراضي في العقد؟

ثانياً: هل إن علم الموجب بالقبول هو أمر ضروري في نفاذ العقد؟

ففيما يخص السؤال الأول، نعتقد أن علم الموجب بالقبول ليس عنصراً من العناصر المكونة للعقد، والدليل على ذلك النقاط الآتية:

1-لو أردنا تحليل معنى التراضي أو الاقتران ما بين الإيجاب والقبول لوجدنا، أن علم الموجب بالقبول هو عنصر خارج عن معنى الاقتران، ولذلك فإن انعقاد العقد يتم لحظة استكمال عناصر الاقتران (الإيجاب والقبول) والتي يتم استكمالها لحظة تصدير القبول، باعتبار أن الموجه إليه الإيجاب قد أصدر قبوله، وعبر عن رأيه بصورة واضحة، وبذلك يتم اقتران الإرادتين وانعقاد العقد. وهذا ما أكده الفقه(58). بالقول “إن العقد يظهر إلى الوجود عندما تتقابل وتتوافق الإرادتان، إرادة الموجب، وإرادة الموجه إليه الإيجاب، وليس من العناصر المكونة للعقد، أن يطلع الموجب على جواب القابل” والقابل لا يكشف عن قصده النهائي في الارتباط، إلا من وقت إطلاقه في وجه المرسل إليه، وعندئذٍ يتحقق الاتفاق ما بين الإرادتين على استهداف ذات الغاية، فينعقد العقد بينهما فوراً(59). “لأن العقود التي تتكون بالمراسلة يفيد الحكم فيها من تاريخ إرسال جواب القبول”(60).

2-يمكن استنتاج أن العلم ليس عنصراً من العناصر المكونة للتراضي في العقد، من خلال فكرة أصحاب نظرية العلم أنفسهم، فمن ناحية يقولون أن القبول لا ينتج مفعوله إلا بوصوله إلى علم من وجه إليه، ومن ناحية أخرى، يعتبرون بأن وصول القبول قرينة على العلم به (العلم الافتراضي)، بمعنى أنه حتى ولو لم يعلم الموجب بالقبول علماً حقيقياً، ودلت الظروف على العلم فيحكم بانعقاد العقد. وبذلك يمكن القول بأن العلم، لو أنه يعتبر من العناصر المكونة للتراضي في العقد، لما تحقق الانعقاد إلا بالعلم الحقيقي، والقول بعكس ذلك يجعل من الممكن انعقاد العقد دون تحقق عنصر من عناصره الأساسية (وهو العلم).

3-كما يمكن استنتاج أن العلم ليس عنصراً من العناصر المكونة للتراضي في العقد، من خلال موقف القانون المدني العراقي(61). والقوانين المشابهة له كالقانون المدني المصري(62). إذ أعطت هذه القوانين الحرية للمتعاقدين في الاتفاق على تحديد زمان انعقاد العقد ومكانه، ولو أن العلم عنصر من عناصر العقد لما كان من الممكن تجاوز هذا العنصر. أما فيما يخص السؤال الثاني، فإنه مما لا شك فيه أن لعلم الموجب بالقبول أهمية كبيرة، فمن غير المعقول أن يلتزم الموجب بالعقد دون علمه(63). كما أن لعلم الموجب بالقبول أهمية كبيرة في تحديد اللحظة التي لا يستطيع القابل بعدها الرجوع عن قبوله، كما أن لهذا العلم أهمية كبيرة في تفادي تحمل الموجب لمخاطر رسالة الموافقة في حالة تأخيرها أو فقدانها، والتي عيبت على نظرية التصدير. وما يؤكد أهمية العلم فضلاً عما سبق هو أنه على الرغم من اتجاه جانب من الفقه المدني إلى تبني نظرية التصدير في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد، إلا أنهم لم يغفلوا أهمية علم الموجب بالقبول، فقد ذكر بعض الفقهاء(64). أن الاتجاه الواجب الأتباع هو “مذهب التصدير بدون منازع…….(ويسترسل أصحاب هذا الرأي)…… يقولون أن علم الموجب بالقبول متعين أمره. وهل أنكر عليه حقه في العلم أحد؟….. فلعلمه أهمية قصوى في كل الأحوال، ومن غير السائغ مطلقاً أن يترك في مركز سلبي في هذا الصدد، فيجب أن يوجه إليه القبول الصريح توجيهاً مادياً صحيحاً وسليماً، يبذل القابل بشأنه كل ما يمكن طلبه من تحوط الرجل الحريص لتأمين وصوله أليه. فيقع التصدير معدوم القيمة، ومن ثم لا انعقاد، متى لابسه أدنى إهمال أو خطأ مهما كان يسيراً، وينجم عنه ضياع الرسالة قبل استلامها. ولا يقال أن هذا أعمال للمبدأ الأساسي في مذهبي الوصول (نظرية التسليم ونظرية العلم)، ذلك بأن التصدير غير مطلوب في حد ذاته كفكرة مجردة، وإنما تحقيقاً لغاية تنحصر في أن يصل التعبير غير متأخر إلى الموجب بالذات، حتى يستطيع تحديد مركزه نهائياً بناء على إطلاعه عليه”. يتبين لنا بأنه على الرغم من اعتناق أصحاب هذا الرأي نظرية تصدير القبول، إلا أنهم قد أكدوا على ضرورة علم الموجب بالقبول. فاشتراط العلم، هو شرط ضروري يتوجب على المتعاقدين مراعاته، لكي يتحقق استقرار المعاملات، بحيث يكون القابل مطمئناً عند قبوله بأن الإيجاب لا يزال باقياً وأن مجلس العقد الحكمي لم ينفض بعد. كما يكون الموجب مطمئناً بـأن نفاذ العقد لا يبدأ إلا بعد علمه بالقبول. لذلك فإن اشتراط علم الموجب بالقبول هو لنفاذ العقد وليس لإنعقاده، وما اشترط العلم إلا لتعيين بدء نفاذه(65). يتبين لنا إذاً أن علم الموجب بالقبول ليس عنصراً في الاقتران لإبرام العقد، بل أنه عنصر ضروري في التعاقد ونفاذ العقد. ولذلك نرجح النظرية المختلطة. وهي نظرية وسط ما بين نظرية التصدير والعلم (66). ويتمثل الحل بموجب هذه النظرية على أساس الفصل ما بين اللحظة التي يتحدد بها زمان ومكان انعقاد العقد في مجلس العقد الحكمي، وما بين اعتبار هذا العقد منتجاً لأثاره القانونية ما بين المتعاقدين والغير، إذ أن العقد ينعقد بتصدير القبول من قبل الموجه إليه، ولكن هذا الانعقاد يبقى معلقاً على شرط واقف، هو وصول الرد بالقبول إلى علم الموجب، قبل انقضاء الوقت المناسب الذي يكفي عادة لوصوله إليه، أو قبل انقضاء الأجل الذي يكون الموجب قد حدده للقبول، فلو تحقق الشرط، ووصل الرد بالقبول في الوقت المناسب، أو داخل الأجل قام العقد بصورة نهائية وأنتج أثاره منذ تصدير القبول(67). وهذا الاتجاه ليس غريباً عن الفقه والقانون المدني “فإذا كان الالتزام العقدي مرتبطاً بشرط وأقف فأن زمان العقد يبقى هو زمان أتفاق الأرادتين لا زمان وقوع الشرط، وأن كانت أثار العقد لا تترتب قبل وقوع الشرط، ذلك لأن الشرط الواقف الذي يشترطه العاقدان لا يمنع انعقاد العقد في النظر القانوني، وإنما تقف أثار العقد معلقة تنتظر وقوع الشرط، فإذا وقع تثبت تلك الآثار مستندة إلى تاريخ العقد، لا مقتصرة على تاريخ وقوع الشرط ما لم يتفق على خلافه(68). وهذا ما نص على مضمونه القانون المدني العراقي في المادة (290) منه والتي جاء فيها “1- إذا تحقق الشرط واقفاً كان أو فاسخاً أستند أثره إلى الوقت الذي تم فيه العقد، إلا إذا تبين من إرادة المتعاقدين أو من طبيعة العقد أن وجود الالتزام أو زواله يكون في الوقت الذي تحقق فيه الشرط 2-………..”. ومع ذلك فقد يقال أن موقف المشرع العراقي والآراء الفقهية التي وضحت الشرط الواقف قد أوردت الحكم في العقد الذي يعتبر معلقاً على شرط واقف، أوردته على سبيل الحصر، وهو أن يكون من أشترط هذا الشرط هو أحد المتعاقدين أو كلاهما. إلا أنه ومع اتفاقنا على ذلك، نعتقد أن هذا القول يصبح لا مبرر له إذا أصبح أساس الاستناد في اعتبار علم الموجب بالقبول كشرطاً واقفاً هو نص القانون، فيما إذا أعتنق المشرع العراقي (النظرية المختلطة). وجدير بالذكر أن المشرعين السويسري والنمساوي(69). كما القانون المغربي، قد اتجهوا بالأخذ بهذه النظرية. وخلاصة لما سبق ذكره فيما يتعلق بنظرية الفصل ما بين انعقاد العقد ونفاذه، سندرج الأحكام التي تقوم عليها هذه النظرية. والتي تتمثل بالآتي:-

1-ينعقد العقد في اللحظة التي يصدر فيها الموجه إليه الإيجاب قبوله.

2-يشترط لنفاذ العقد وصول القبول إلى علم الموجب.

3-يعتبر وصول القبول إلى الموجب قرينة على العلم به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك.

4-يشترط تحقق علم الموجب بالقبول خلال الفترة المعقولة التي يبقى فيها الموجب ملتزماً بإيجابه.

5-يعتبر العقد نافذاً، إذا كان عدم علم الموجب بالقبول سببه إهمال الموجب أو تعمده.

6-يتحدد مكان انعقاد العقد بزمانه.

(مزايا النظرية المختلطة)

تحقق النظرية المختلطة العديد من المزايا، سواء النظرية منها أو العملية التي تساعد على إبرام العقد، كما وتساعد في التخلص من الانتقادات التي قيلت بصدد النظريات التي حاولت تحديد زمان ومكان انعقاد العقد. ومن هذه المزايا ما يأتي:-

1-تحقق النظرية المختلطة التوازن بين قولي أن العقد ينعقد لحظة اقتران الإيجاب بالقبول، وما بين أن استقرار المعاملات يستوجب علم الموجب بالقبول.

2-أن الآخذ بالنظرية المختلطة يؤدي إلى التخلص من الظروف الخارجة عن إرادة المتعاقدين، والتي تسبب عدم انعقاد العقد، كوفاة الموجب أو فقده لأهليته، فإذا حصلت تلك الظروف بعد تصدير القبول وقبل علم الموجب بها، فأن العقد سيصبح نافذاً، إذا وصل القبول إلى علم خلفه. لأن القبول أنتج أثره في انعقاد العقد بمجرد تصديره، وليس علم الموجب به، منشئاً للعقد، حتى يقال بأن التعبير عن القبول سيسقط، وإنما يقتصر دور العلم في ظل هذه النظرية على نفاذ عقد قد أبرم قبل هذا العلم في لحظة تصديره. لذلك فإذا توفى الموجب ينتقل شرط العلم في وجوب تحققه في مواجهة الورثة(70). أما القول بعكس ذلك(71). هو ما يتناقض مع الواقع، لأن الموجب قد عبر عن أرادته تعبيراً صريحاً وواضحاً عند إرساله أيجابه، والقابل قد عبر عن قبوله بتصديره هذا القبـول.

3-توفر النظرية المختلطة حماية للمتعاقدين.

فبالنسبة إلى الموجب، فأن هذه النظرية تحتم على القابل اتخاذ كافة وسائل الاحتياط والحذر في إيصال قبوله إلى الموجب، لكي يصبح العقد نافذاً. كما تعطي هذه النظرية للموجب، الحق في التخلص من إيجابه، والتصرف في الشيء إلى شخص أخر، إذا تأخر الموجه إليه الإيجاب عن أعلامه بالقبول، وفي ذلك دفع للضرر لا يخفى وهذه الفرصة التي تمنحها هذه النظرية لا يتمتع بها الموجب في ظل نظرية التصدير، لأن العقد في ظل هذه النظرية، يعتبر نافذاً بمجرد تصدير القبول. وبالنسبة إلى القابل، فأن هذه النظرية تمنحه ميزة في التراجع عن التعاقد بعد تصديره للقبول وانعقاد العقد. وبهذا يتم التخلص من الانتقاد الذي وجه لنظرية التصدير في اعتبار أن القابل يستطيع استرداد قبوله، أو استخدام وسائل أكثر سرعة في العدول عن قبوله، إذ يصبح الحال، بموجب النظرية المختلطة أن هذا العدول يعد حقاً أو ميزة للقابل، له الحق في الاستمرار في العقد أو نقضه. أي بمعنى سيمنح القابل الوقت الكافي لإعادة النظر فيما أبرمه من تصرف.

4-أن الأخذ بالنظرية المختلطة، يؤدي إلى اعتبار العقد مبرماً ونافذاً في حالة عدم علم الموجب بالقبول بسبب إهمال الموجب أو تعمده، وبهذا تتحقق العدالة، إذ ليس من العدل اعتبار الموجب متحللاً من إيجابه الموصل للعقد إذا أهمل أو تعمد في عدم العلم، وألا فتح ذلك الباب أمام الموجب لاستعمال الاحتيال والغش في التخلص من انعقاد العقد، إذا شعر أن العقد لا يسير على مصلحته، وفي هذا المجال قد يقال بأن الموجب إذا أهمل أو تعمد في عدم العلم فأن الحكم سيكون إلزامه بتعويض القابل. إلا أن ذلك لا يحل المشكلة فالقابل لدى تصديره القبول، لم تكن غايته هي الحصول على التعويض بل أبرام العقد. لذلك فسيخل عدم العلم في حالتي الإهمال والتعمد باستقرار المعاملات. فعالجت النظرية المختلطة هذه المسألة باعتبارها أن العقد سيعتبر نافذاً في حق المتعاقدين. أما بحسب نظرية العلم، فالأمر يقتصر على التعويض فقط ولا سبيل للقول بانعقاد العقد، لأن أصحاب هذه النظرية يعتبرون لحظة علم الموجب بالقبول هي اللحظة التي تحدد زمان ومكان انعقاد العقد.

5- أن النظرية المختلطة باعتبارها أن العقد سينعقد لحظة تصديره أي في مكان القابل، تتماشى مع “القاعدة التي تقضي بأنه لا يجوز أجبار القابل الذي لم يصدر منه الإيجاب إلى التقاضي بعيداً عن محل أقامته، فالموجب هو الذي يجب أن يسعى إلى محل أقامة القابل(72). تتحاشى النظرية المختلطة، عيب إلقاء نتائج إهمال إدارة البريد على الموجب، التي يؤخذ بها بحسب نظرية التصدير، إذ بموجب النظرية المختلطة، فأن نتائج هذا الإهمال، سيتحمل المتعاقدان – الموجب والقابل على حد سواء – عواقبه، وذلك باعتبار أن شرط العلم لم يتحقق فيعد العقد غير نافذ في حق الطرفين.

وختاماً لموضوع اقتران القبول بالإيجاب في مجلس العقد الحكمي نعتقد أن من الضروري، اعتناق المشرع العراقي لفكرة النظرية المختلطة. وذلك باستبدال نص المادة (87) منه، بما أورده المشرع المغربي في مضمون المادتين(24) و (30) منه، ومن ثم يكون النص المقترح كالآتي:-

“1- يعتبر العقد منعقداً ما بين غائبين في الزمان والمكان اللذين يُصدر فيهما من تلقى الإيجاب قبوله، ما لم يوجد أتفاق صريح أو ضمني أو نص قانوني يقضي بغير ذلك.

2- مع الأخذ بنظر الاعتبار بأنه:

أ-إذا صدر التصريح بالقبول في الوقت المناسب، ولكنه لم يصل إلى علم الموجب إلا بعد انتهاء الأجل الذي يكفي عادة لوصوله إليه، فلا ينعقد العقد، إلا إذا كان سبب عدم العلم هو إهمال الموجب أو تعمده ، فينعقد العقد حينئذٍ.

ب-يفترض أن الموجب قد علم بالقبول في الزمان وفي المكان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول”.

________________________

1- وهذا ما ذهبت إليه محكمة التمييز العراقية في قرارها الصادر في 21/9/1957 م والمنشور في مجلة القضاء، 1958م، العدد (1و2)، ص101.

2- د.عبد المجيد الحكيم، المصدر السابق، ص93.

3- د.عبد المنعم فرج الصدة، نظرية العقد، المصدر السابق، ص116 – د.محمد السعيد رشيد، المصدر السابق، ص47 – مصطفى الزرقا، محاضرات في القانون المدني السوري، المصدر السابق، ص57 – د.رمضان محمد أبو السعود، مبادئ الالتزام، المصدر السابق، ص94.

4- د.عبد السلام التونجي، المصدر السابق، ص261.

5- المذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري، ص11 – مشار إليها لدى: د.محمد كامل مرسي، المصدر السابق، ص112.

6- د.عبد السلام التونجي، المصدر السابق، ص262 – د.صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص210.

7- د.جورج سيوفي، المصدر السابق، ص78 – وبنفس المعنى: د.طوني ميشال عيسى، التنظيم القانوني لشبكة الانترنيت، المصدر السابق، ص273.

8- د.عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق، المصدر السابق، ج2، ص53.

9- د.محمد السعيد رشيد، المصدر السابق، ص48.

10- د.عمر السيد أحمد عبد الله، المصدر السابق، ص51.

11- د.أحمد حسن البرعي، المصدر السابق، ص80.

12- د.عبد السلام التونجي، المصدر السابق، ص259.

13- د.عبد السلام التونجي، المصدر السابق، ص259.

14- د.أحمد حسن البرعي، المصدر السابق، ص80.

-15 Gerard Legier ; Droit Civil ، OP. Cit. ، P.25

16- د.جاسم لفتة العبودي، حول التعاقد بالمراسلة والأختلاف فيه، المصدر السابق، ص77.

17- د.جورج سيوفي، المصدر السابق، ص77.

18- Gerard Legier ; Droit Civil ، OP. Cit. ، P.25

19- Frejaville ، Cours de Droit Civil ، Licence deuxie me anne ، Paris ، 1954-1955 ، P.114 .

20- Frejaville ، Cours de Droit Civil ، OP. Cit. ، P.114 .

-21 Gerard . OP. Cit . P.25 .

22- د.عبد الرحمن عياد، المصدر السابق، ص278.

23- لوش المدنية، 1945م، دالوز 1947م، ص113، تعليق A.C وأخذت بذات النظرية:

Trib. Com. Seine. 26 juill، 1934 . D.P. 1935، 2.12 note sale de la marnierre – Trib. Parit. Cont chateau – du – loir ، 17 juin 1949 . J.C.P. 1950 – 11 – 5595 – Douai ; 29 juin 1962. D. 1962. 56 O،note Pochon .

نقلاً عن: د.محمد السعيد رشدي، المصدر السابق، ص39.

-24Cass. Civ ; janvier 1981 ; Bull ; civ ; I ; n.14

نقلاً عن: د.طوني ميشال عيسى، المصدر السابق، ص273.

ومشار إلى هذا القرار لدى: Gerard Legier ، OP. Cit. ، P.25

25- د.جورج سيوفي، المصدر السابق، ص76.

-26 H.L et Jean mazeaud ، op. cit. T.2.P.116

نقلاً عن: د.مالك دوهان الحسن، شرح القانون المدني، ج1، مصادر الالتزام، مطبعة الجامعة، بغداد، 1973م، ص196.

27- د.أسامة أبو الحسن مجاهد، المصدر السابق، ص95.

-28 Jeff C.Dodd and James A.Hernandz ; contracting in cyberbasa ; computer

law Review and Technology Journal – Summer 1998; P.12

نقلاً عن: أياد أحمد البطاينة، النظام القانوني لعقود برامج الحاسوب، المصدر السابق، ص152.

29- د.عبد المجيد الحكيم / أ.عبد الباقي البكري / أ.محمد طه البشير، الوجيز في نظرية الالتزام في القانون المدني العراقي، المصدر السابق، ص52.

30- د.عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، المصدر السابق، ص238 – د.حسن الذنون، أصول الالتزام، المصدر السابق، ص66 – د.أحمد حشمت أبو ستيت، المصدر السابق، ص108 – د.محمد السعيد رشدي، المصدر السابق، ص30 – د.جاسم لفتة العبودي، حول التعاقد بالمراسلة والأختلاف فيه، المصدر السابق، ص56.

31-د.عبد الرحمن عياد، المصدر السابق، ص246.

32- د.جورج سيوفي، المصدر السابق، ص74 – د. يوسف قاسم، المصدر السابق، ص293.

33- د.حسن علي الذنون، المصدر السابق، ص74 – د.عمر السيد أحمد عبد الله، المصدر السابق، ص50.

34- أستاذنا الدكتور عباس زبون العبودي، المصدر السابق، ص145.

35- فقد نصت المادة (285) من القانون المدني العراقي على ما يأتي:

“العقد المنجز ما كان بصيغة مطلقة غير معلقة على شرط ولا مضافة إلى وقت مستقبل، ويقع حكمه في الحال”.

36- د.أحمد حشمت أبو ستيت، المصدر السابق، ص106 – د.عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق، المصدر السابق، ج2، ص57 – د.أحمد نجيب الهلالي، المصدر السابق، ص71.

37- لوران، ج15، الفقرة479 – وانظر كذلك تروبلونج، إذ قرر أن كتاب الغائب يؤدي عين وظيفة الخطاب ما بين الحاضرين، وليس من أثر للخطاب إلا أن يسمع المخاطب الكلام، فكذلك يجب أن لا يكون من أثر للكتاب إلا بقراءته، البيع، ج1، الفقرة24. نقلاً عن: د.صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص240.

38- د.جابر عبد الهادي سالم الشافعي، المصدر السابق، ص461.

39- د.عبد الرزاق السنهوري، مذكرات في الالتزامات، المصدر السابق، ص146.

40- د.محمد كامل مرسي، المصدر السابق، ص110 – د.عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، المصدر السابق، ج1، ص246.

41- المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري، بمجموعة أعماله التحضيرية، المصدر السابق، ج2، ص53-54.

42- د.صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص244.

43- د.حسن علي الذنون، المصدر السابق، ص75 – د.جاسم لفتة العبودي، حول التعاقد بالمراسلة والأختلاف فيه، المصدر السابق، ص55 – د.أحمد نجيب الهلالي، المصدر السابق، ص71.

44- Frejaville ، OP. Cit. ، P.114 .

45- د.فتحي عبد الرحيم عبد الله، المصدر السابق، ص117.

46- د.محمد صالح، أصول التعهدات، المصدر السابق، ص221.

47- د.جاسم لفتة العبودي، حول التعاقد بالمراسلة والأختلاف فيه، المصدر السابق، ص60.

وبنفس المعنى: ينظر – د.صبحي محمصاني، النظرية العامة للموجبات والعقود، المصدر السابق، ص319.

48- د.عبد السلام التونجي، المصدر السابق، ص273.

-49William R. Anson ; principles of the English of contract ; OP. Cit ; P46-47

50- د.سليمان مرقس، المصدر السابق، ص134.

51- د.عمر السيد أحمد عبد الله، المصدر السابق، ص49.

52- حيث جاء في المادة (15) من قانون البريد رقم (97) لسنة (1973 م) العراقي، بأنه “لمرسل أية مادة بريدية أن يطلب استردادها وأن يصحح عنوانها طالما لم تسلم إلى المرسل إليه”. واستلزمت تعليمات البريد رقم (7) لسنة (1973 م)، الشروط التي يجب توفرها في طلب استرداد الرسالة بما يأتي:

1-أن يقع الطلب خلال مدة النقل أو قبل أن تسلم الرسالة إلى المرسل إليه، وأن يتضمن الطلب مسوغات مقنعة للاسترجاع أو التعديل.

2-أن لا تكون الرسالة قد حجزت من قبل سلطة رسمية مختصة.

3-أن يستوفى رسم استرجاع الرسالة بطوابع بريدية تلصق على الطلب.

4-إذا قدم الطلب قبل إرسال الرسالة ، فعلى دائرة البريد، إيقاف إرسالها وإعادتها إلى المرسل بعد استحصال توقيعه على عريضة الطلب نفسها.

5-إذا كانت الرسالة المراد استرجاعها قد سجلت “مسجلة” فيجب استحصال وصل التسجيل.

نقلاً عن: أستاذنا الدكتور عباس زبون العبودي، المصدر السابق، ص142.

53- د.جاسم لفتة العبودي، حول التعاقد بالمراسلة والأختلاف فيه، المصدر السابق، ص55.

54- د.أحمد نجيب الهلالي بك، المصدر السابق، ص71.

55- د.عبد الحي حجازي، المصدر السابق، ص181.

56- محمد وحيد الدين سوار، التعبير عن الإرادة، المصدر السابق، ص123.

57- لأن العلم ليس عنصراً من العناصر المكونة للعقد، مثلما سنرى ذلك لاحقاً.

58- د.جورج سيوفي، المصدر السابق، ص77.

59- ديمولب، ج24، الفقرة 75 – اوبري ورو، ج4، فقرة343، ص486. نقلاً عن: د.عبد السلام التونجي، المصدر السابق، ص271. ومشار إليهما لدى: د.صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص285.

60- عبد العزيز السهيل، أحكام القضاء العراقي، ج1، مطبعة أوفيست دار التضامن للطباعة والتجارة والنشر، بغداد، 1962م، ص100.

61- ينظر – نص المادة (87) من القانون المدني العراقي.

62- ينظر – نص المادة (97) من القانون المدني المصري.

63- د.أحمد نجيب الهلالي بك، المصدر السابق، ص71.

64- د.صلاح الدين زكي، المصدر السابق، ص289.

65- د.عبد الواحد كرم علي، المصدر السابق ص369-370.

66- يراجع ما سبق ذكره ص 122 من هذه الرسالة.

67- د.أحمد حسن البرعي، المصدر السابق، ص80.

68- مصطفى الزرقا، محاضرات في القانون المدني السوري، المصدر السابق، ص56 – د.جاسم لفتة العبودي، حول التعاقد بالمراسلة والأختلاف فيه، المصدر السابق، ص51.

69- نقلاً عن:- د.صبحي محمصاني، النظرية العامة للموجبات والعقود، المصدر السابق، ص320.

70- د.عبد الواحد كرم علي، المصدر السابق، ص369.

71- أي القول بأن العقد في هذه الحالة لا ينعقد. كاتجاه نظرية العلم في هذه المسألة.

72- أستاذنا الدكتور عباس زبون العبودي، المصدر السابق، ص151.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .