احكام الغلط في زمان الجريمة :

لا يمثل الوقت أو الزمان الذي يقارف الجاني فيه سلوكه الارادي أهمية للمشرع الجنائي، وهذا هو الأصل، فما وجه الفرق اذا ماقارف الجاني جريمة القتل أو الضرب أو الجرح أو الاحتيال في الليل أو في النهار ما دامت خطورة الفعل على الحق الذي يحميه القانون تظل ثابتة له ايّاً كان وقت ارتكابه وتنفيذه. بيد أن المشرّع يقدر في بعض الجرائم أن الفعل لا يشكل خطراً على الحق الذي يجرّم القانون اهداره الا اذا ارتكب الجاني جريمته في وقت أو في زمن معين، فلا تقوم الجريمة ولا تنطوي على خطر يهدد الحق محل الحماية الا بارتكابها في ذلك الوقت دون غيره؛ فيصير ذلك الوقت بمثابة شرط (أو عنصر) مفترض لازم لقيام الجريمة. وفي الواقع أن الغلط في زمان السلوك هو أمر لا يحصل كثيراً وباستمرار، وذلك لأن الوقت بطبيعته لا يقبل اللبس في معناه ولا الالتباس في مفهومه الصحيح المستقر في الاذهان، نظراً لوضوح الظروف وبساطة التعابير والمعايير التي تحدد مفهومه. ولكن ذلك لا يحول دون وجود ذلك اللبس والالتباس في بعض الجرائم التي يحتمل زمن ارتكابها أكثر من تأويل في تحديده، الأمر الذي يفسح المجال لوقوع الجاني في حالة من الخلط أو الشطط أو الغلط في ذلك الزمن أو الوقت (1) . وعلى الرغم مما تقدم، يكتسب الزمان فضلاً عن أهميته في كونه شرطاً (أو عنصراً) في الأُنموذج الاجرامي في الحالات التي يقتضيها المشرّع أحياناً، أهمية أخرى بوصفه يمثل شرطاً للعقاب أحياناً، كما في حالة ضبط السكران وهو في حالة سكر بيّن، اذ يجب أن يضبط في وقت التلبُّس بالذات لكي يستحق العقاب على وفق ما تنص عليه (المادة/386 /1 من قانون العقوبات العراقي) والمادة (385/2 من قانون العقوبات المصري). هذا علاوة على كون الوقت يؤدي دوراً بوصفه ظرفاً مشدداً أو مخففاً للعقاب؛ فظرف ارتكاب السرقة في الليل يشدد عقوبتها. كما أنه يدخل بكونه عنصراً محدداً لأحد موانع العقاب، وهو الرد على الســــب غير العلني، اذ يجب لإعفاء الجاني من العقاب في حالة ردّه على السب أن يحصل ذلك فور البدء بالسب من جانب من ثم الرد عليه في أثناء دفاعه عن حقوقه أمام المحاكم وسلطات التحقيق أو الهيئات الأخرى، أو حالة الرد عليه في حالة غضب فور وقوع الاعتداء الظالم عليه (المادة/436/1/2 عقوبات عراقي) والمادة (394/1 عقوبات مصري). وتظهر أهمية الزمن في حالات أخرى كثيرة، كحالة تعاقب القوانين وتحديد القانون الواجب تطبيقه، وحالة الدفاع الشرعي، وحالة التقادم وغيرها. بيد أن الذي يعنينا ويهمنا في هذا المقام هو الزمان بوصفه شرطاً (أو عنصراً) يدخل في تأليف أُنموذج الجريمة فحسب. وهو اما أن يتحدد في الأُنموذج ((صراحةً)) واما أن يتحدد ((ضمناً)) (2) .

1. الشرط المحدد صراحة لزمان السلوك في أُنموذج الجريمة

لعل من قبيل التحديد الصريح ما أوجبته بعض المواد القانونية من اشتراط أن تقع الجرائم في ((زمن الحرب)) أو في ((أثناء الحرب)) أو (( زمن النفير))(3) .او في((زمن الحركات العسكرية أو ((عند مجابهة العدو)) ونحوها. ومثال ذلك (المادة/157 عقوبات عراقي) التي تعاقب بالاعدام كل مواطن يلتحق بأي وجه بصفوف العدو أو بالقوات المسلحة لدولة في حالة حرب مع العراق. وكذلك (المادة/161 عقوبات عراقي) التي تعاقب بالسجن المؤبد من حرّض الجند في زمن الحرب على الانخراط في خدمة دولة أجنبية أو سهّل لهم ذلك، وبالاعدام كل من ساعد دولة في حالة حرب مع العراق في جمع الجند أو الاشخاص أو الأموال أو المؤن أو العتاد. وكذلك (المادة/165 عقوبات عراقي) التي تعاقب بالسجن المؤقت من التحق بغير اذن من الحكومة بحشد عسكري لدولة في حالة حرب مع دولة أجنبية. ومثل ذلك (المادة/167/2 عقوبات عراقي) التي تعاقب بالسجن المؤبد والغرامة الجاني المكلف بخدمة عامة اذا طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو اخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية أو من أحد ممن يعملون لمصلحتها نقوداً أو أية منفعة أخرى أو وعداً بشئ من ذلك بقصد ارتكاب عمل يعلم أن من شأنه الاضرار بمصلحة وطنية، اذا أُرتكبت الجريمة في زمن الحـــــــــــــرب. أما (المادة/171 عقوبات عراقي) فهي تشدد عقوبة الحبس بما لا يزيد على ضعف الحد الاقصى لها اذا تسبب الجاني في زمن الحرب باهماله أو رعونته أو عدم انتباهه اوعدم مراعاته القوانين والانظمة في ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في المـــــــواد (156 – 169)منه والماسة بأمن الدولة الخارجي. ولو ألفينا (المادة/172 عقوبات عراقي) لوجدناها تعاقب بالسجن المؤقت كل من قام مباشرة أو عن طريق بلد آخر في زمن الحرب بتصدير بضاعة أو منتوج أو أي مال آخر الى بلدٍ معادٍ أو قام باستيراد ذلك منه. ومثل ذلك ما انطوت عليه (المادة/174/1 عقوبات عراقي) من تحديد لوقت وقوعها بصفته شرطاً لا تقوم بخلافه؛ فهي لا تقع الا اذا حصل اخلال عمدي في زمن الحرب أو في زمن الحركات العسكرية الفعلية بتنفيذ كل أو بعض الالتزامات التي يفرضها على الجاني عند مقأولة أو نقل أو تجهيز أو التزام أو اشغال عامة ارتبط بها مع الحكومة أو مع احدى المؤسسات العامة ذات النفع العام لحاجات القوات المسلحة أو للحاجات الضرورية للمدنيين. أمــــــــا (المادة/210 عقوبات عراقي) فانها تعاقب بالحبس والغرامة من أدى اهماله في اداء الواجب في أثناء الحرب الى اذاعة أخباراً أو بيانات أو اشاعات كاذبة ومغرضة أو بث دعايات مثيرة، اذا كان من شأن ذلك تكدير الامن العام أو القاء الرعب بين الناس أو الحاق الضرر بالمصلحة العامة.

أما قانون العقوبات العسكري العراقي رقم (13) لسنة 1940 فهو زاخر بالأحكام المتعلقة بالجرائم التي تمثل فيها تعابير الزمن أهمية كبيرة، كزمن الحرب أو النفير أو الحركات العسكرية أو مجابهة العدو، (فالمادة/50 عقوبات عسكري) قد أوجبت أن تحصل جريمة غش مذخرات الجيش في ((زمن الحرب)) ليحق العقاب على الفاعل، فنصّت على أنه: ((كل من ركن الى الغش أو الاحتيال عند تسليمه مذخرات عسكرية في زمن الحرب يحكم عليه بالحبس مدة لا تزيد على خمس عشرة سنة)). وأكثر من ذلك، خصصت المواد من (49-66) من هذا القانون لحالات معاونة العدو أو الاضرار بالجيش أو ايقاع الجيش في خطر أو التغيب والهروب أو اعطاء وثائق مزورة باكمال الخدمة، في وقت النفير أو الحرب. أما (المادة/79/2 عقوبات عسكري) فقد نصت على حالة الاصرار على عدم اطاعة الاوأمر في ((اثناء النفير)) أو في ((مجابهة العدو)) وجعلت العقوبة في هاتين الحالتين مشدّدة. وقد قضت (المادة / 83 عقوبات عسكري) في الفقرة (1) بتشديد العقوبة اذا كان اعتداء الجاني قد حصل اثناء قيام الضابط الأرفع منه رتبة بالوظيفة أو في أثناء تجمع الافراد ، وقضت الفقرة (2) بتشديد العقوبة أكثر اذا حصل الاعتداء في ((أثناء النفير)). وقضت(المادة 85/ 3 عقوبات عسكري) بعقوبة الاعدام لجريمة التحريض على العصيان في ((أثناء النفير)). أما (المادة/91 عقوبات عسكري) فتعاقب بالاعدام على جريمة العصيان العسكري فــــي((أثناء النفير))،زكذلك(المادة/92)منه تعاقب بالاعدام على ذلك العصيان عند ((مجابهة العدو)). وقضت (المادة/117/2 منه) بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على خمس عشرة سنة على كل من يرتكب جريمة سرقة المواد أو الأرزاق أو النقود العسكرية في ((زمن النفير)) أو ((زمن الحركات الفعلية)) أو ((زمن الحرب)). وكذلك نجد أن (المادة/120 منه) تشدّد عقوبة الأمر أو الحرس الى الاعدام اذا ارتكب جريمة الاهمال أو القصد وكان من المحتمل أن ينشأ ضرر من ذلك الاهمال أو القصد، في حالة ((مجابهة العدو)). ومن قبيل التحديد الصريح للزمن ما اوجبته (المادتان/442 و443/ثانياً/ثالثاً/رابعاً عقوبات عراقي) والمادة (317/4 عقوبات مصري) من اشتراط وقوع السرقة ((ليلاً)) في سبيل تشديد العقوبة على السارق. واشتراط قتل الحيوانات ((ليلاً)) في (المادة/356 عقوبات مصري)، واتلاف المزروعات ((ليلاً)) في (المادة/368 عقوبات مصري) بوصفه ظرفاً مشدداً للعقوبة. ومن قبيل ذلك أيضاً ما استلزمه القانون في سبيل عد القتل جنحة بدل الجناية من ضرورة أن يحدث القتل من جانب الزوج ((في الحال)) أثر مفاجأة زوجته متلبسة بالزنا أو موجودة في فراش واحد مع شريكها، أو كل من يفاجأ احدى محارمه بذلك كما نصّت (المادة/409 عقوبات عراقي) على ذلك. أما (المادة/445 عقوبات عراقي) فتعاقب بالسجن ((على السرقة التي ترتكب في (اثناء خطر عام) أو(هياج) أو(فتنة) أو(كارثة) من قبل أحد أفراد القوات المسلحة أو الحراس الليليين المكلفين بحفظ الامن (اثناء قيامهم بواجباتهم) )) (4) .

2. الشرط المحدد ضمناً لزمان السلوك في أُنموذج الجريمة

ان وقت ارتكاب السلوك يمكن استخلاصه من بعض الكلمات التي يوردها المشرّع في بعض النصوص القانونية وتكون ذات دلالة واضحة على وقت معين دون غيره. ومثال ذلك كلمة ((العدو)) التي تعني أن السلوك واجب اتخاذه عادةً في زمن الحرب، ومثل ذلك مانصّت عليه (المادة/160 عقوبات عراقي) بقولها: ((يعاقب بالاعدام كل من ساعد العدو على دخول البلاد أو على تقدمه فيها… وكذلك كل من سلم أحد أفراد القوات المسلحة الى العدو))، وكذلك ما نصّت عليه (المادة/162 عقوبات عراقي) بقولها: ((يعاقب بالاعدام كل من سهّل للعدو دخول البلاد أو سلّمه جزءً من اراضيها أو مؤنها أو… )). ويعد زمان السلوك محدداً ضمناً في المخالفة المنصوص عليها في (المادة/492 عقوبات عراقي) التي تنص على أنه: ((يعاقب بغرامة… من وضع اعلاناً في غير المحلات المأذون بوضع الاعلانات فيها أو نزع أو أتلف أو شوّه بغير حق اعلاناً موضوعاً في تلك المحلات)). وهذه المخالفة تقع ممن ينزع أو يمزّق الاعلانات الملصقة على الحيطان بموافقة الجهات المختصة أو أنه يصيّرها لا تُقرأ، اذ المفهوم ضمناً انه يجب لتحقيق هذه المخالفة ان تكون الغاية والحاجة من الاعلانات لا تزال قائمة ولم ينتهِ الوقت المحدد الذي يكون الاعلان في خلاله مجدياً. ونجد هذا الأمر واضحاً في نص (المادة/239 عقوبات عراقي) اذ: ((يعاقب بالحبس… كل من نزع أو مزّق أو اتلف عمداً اعلاناً أو بياناً معلناً بأمر المحكمة أو السلطة القضائية أو موظف أو مكلف بخدمة عامة)). فيتعين أن تقع الجريمة في المدة (الوقت) التي تحددها المحكمة أو السلطة القضائية أو الموظف أو المكلف بخدمة عامة، أو في المدة التي يكون فيها الاعلان أو البيان مازال نافعاً ومجدياً وقائماً، فلو أعلنت المحكمة عن تبليغ أحد الهاربين ودعوته لحضور المرافقة الخاصة بجريمته فان اتلاف الاعلان بعد تبلغ الهارب وحضوره المرافعة لا يشكل جريمة. ومثال على الجرائم التي يمثل الزمن فيها أهمية قانونية ما قضت به (المادة/229 عقوبات عراقي) بقولها: ((يعاقب بالحبس كل من أهان أو هدد موظفاً أو أي شخص مكلف بخدمة عامة أو مجلساً أو هيئة رسمية أو محكمة قضائية أو ادارية أثناء تأدية واجباتهم أو بسبب ذلك))، وكذلك (المادة/230 منه) بقولها: ((يعاقب بالحبس… كل من اعتدى على موظف أو أي مكلف بخدمة عامة أو مجلس أو هيئة رسمية أو محكمة قضائية أو ادارية اثناء تأدية واجباتهم أو بسبب ذلك…)). وهكذا نجد أن القانون يعاقب على هاتين الجريمتين اللتين ترتكبا بحق الموظف ((بسبب تأدية واجبه)) بالعقوبة نفسها المقررة لها اذا ارتكبت ((في أثناء تأدية واجبه))، إلاّ أن الصورة الاخيرة تمس كرامة الوظيفة بصورة كبيرة وواضحة ومؤثرة لأنها تورث الاضطراب في الخدمة العامة وتتضمن الازدراء وتنطوي على الاستهانة بالسلطة. ولذا يتعين في الصورة الأولى على المحكمة أن تبين في حكمها ان التعدي قد وقع على الموظف في الوقت والزمن المحدد نفسه والذي كان يؤدي فيه أعمال وظيفته، وعليها أن تبين الظروف التي ركنت اليها في استنتاج ذلك. وان الوقت الذي يعتمده الفقه في تحديد مباشرة الموظف فيه وظيفته العمومية هو الوقت الذي يؤدي فيه الموظف أعماله بصفته موظفاً عمومياً، بأن يؤدي عمله داخلا في اختصاصه وشؤون وظيفته وضمن سلطته ومسؤوليته. ومن الموظفين من لا يباشر أعمال وظيفته إلاّ بصفة وقتية، فلا يعد أحدهم في ((أثناء تأدية وظيفته)) إلاّ اذا كان قائماً بالعمل الذي تقضي به الوظيفة ضمن المدة التي كان يعمل خلالها. ومن الموظفين من يدل مظهرهم الخارجي على أنهم يباشرون وظائفهم، ومنهم من لايدل مظهرهم الخارجي ولاتصرفاتهم على أنهم يؤدون عملا من أعمال وظيفتهم على حين قد يباشروا أعمال تلك الوظائف دون أن يكون لهم مثل ذلك المظهر، الأمر الذي يوحي بأن الوقت أو الزمن الذي يؤدي به الموظف أعمال وظيفته يمكن أن يكون موضع لبس وتأو يل، فيرتكب الجاني سلوكه الجرمي بحق الموظف معتقداً اعتقاداً يشوبه الغلط بأنه ليس في الوقت الذي يباشر فيه تأدية وظيفته بما يتعذر معه نسبة القصد الجرمي اليه، وان أمكن نسبة جريمة القذف أو السب واسنادها اليه اذا تكاملت شروطها القانونية. وبناءً على ذلك، إذا وقعت الجريمة ضد قاضٍ فاننا نتصور وقوعها ((في أثناء انعقاد جلسات المرافعة)) أو ((في أثناء وجوده في غرفته قبل أو بعد المرافعات)) عند ممارسة أعمال وظيفته في التحقيق أو اعداد واصدار القرارات أو قراءة الدعوى أو الطلبات أو عرائض الدعاوي، واذا ارتكبت بحق أحد المخمنين في الضريبة فنتصور وقوعها ((في أثناء خروجه للكشف على العقار)) أو ((في أثناء قيامه باعداد التقرير في دائرة الضريبة)). أما عبارة ((أو بسببها)) الواردة في النصّين المذكورين آنفاً فانها تفتح الباب على مصراعيه لتصور كل الأماكن التي يمكن أن يوجد فيها المجنى عليه الذي وقع عليه الاعتداء بسبب وظيفته، فقد يقع عليه الاعتداء وهو في البيت أو الشارع أو المقهى، فينطبق عليه النص مادام الاعتداء يرتبط برابطة السببية مع وظيفة المجني عليه ومسؤوليته والزمان الذي كانت له فيه هذه الوظيفة والمسؤولية. ومثال قانوني آخر لحالة الغلط في زمان السلوك يمكن تلمسه في ثنايا جريمة اعطاء صك من دون رصيد المنصوص عليها في (المادة/459/1/2/3 عقوبات عراقي)، اذ استلزم المشرّع في هذا النص أن يعطي الجاني الى المجنى عليه بسوء نيّة صكّاً وهو يعلم في وقت أو زمان اعطائه بأنه ((ليس له مقابل وفاءٍ كافٍ قائمٍ وقابلٍ للتصرّف فيه))، أو أن يُظَهِّر الجاني لغيره صكّاً أو يسلمّه صكّاً مستحق الدفع لحامله وهو يعلم في وقت وزمان ذلك أنه ((ليس له مقابل يفي بكل مبلغه)). أي أن يكون هناك تعاصر زمني بين لحظة اعطاء الصك ولحظة عدم وجود مقابل الوفاء. وهكذا يتعين أن يثبت للمحكمة بأن الجاني كان عالماً علماً فعلياً صحيحاً بماهية الوقت الذي يباشر فيه باعطاء الصك، أي يكون عالماً بأنه يعطي صكاً في الوقت الذي ليس له فيه رصيد كاف مقابلٍ للوفاء، على اعتبار أن ذلك الوقت يمثل شرطاً (أو عنصراً) مفترضاً لقيام الجريمة واذا ما اعتقد الفاعل اعتقاداً زائفاً أن له رصيد كافٍ وقت تحرير الصك أو تظهيره واعطائه، فان من شأن غلطه هذا أن ينفي عنه القصد الجرمي. ولذلك يتحقق القصد الجرمي (سوء النيّة) في هذه الجريمة بمجرد علم الساحب أنه ((في وقت اصدار الصك)) لم يكن له مقابل وفاء قابل للسحب. فاذا كان غلط الساحب بمقدار مقابل الوفاء بحسن نيّة ومبنياً على أسباب سائغة مقبولة ومعقولة فلا تقوم الجريمة لتخلّف القصد الجرمي لديه. أما بالنسبة لجرائم الامتناع (الجرائم السلبية)، فان عنصر الزمن فيها يعد لازماً لوجودها دوماً، لأنه لابد لقيام هذه الجرائم من وقت معين ينهض فيه الجاني الممتنع بالتزام معين، وقد تكون مدة الالتزام محدّدة بوقت معين تنتهي عنده حالة الالتزام القانوني أو العرفي أو الاتفاقي، أو قد يكون الالتزام لازماً ابتداءً من وقت معين من دون أن ينتهي في وقت محدّد، فنكون حينئذ بصدد جريمة سلبية مستمرة. وتظهر أهمية عنصر الزمن في هذا النوع من الجرائم من ناحية أن تنفيذ الالتزام بعد الوقت الذي كان محدداً للنهوض به، يعد كعدم تنفيذ. وقد نصّت (المادة/34/أ عقوبات عراقي) على هذا المعنى بقولها: ((… وتعد الجريمة عمدية كذلك أ. اذا فرض القانون أو الاتفاق واجباً على شخص وامتنع عن اداءه قاصداً احداث الجريمة التي نشأت مباشرة عن هذا الامتناع)). ويلزم أحياناً لتوافر جريمة ما في هذا السياق أن يكون السلوك المكوّن لها بحسب أُنموذجها قد امتد مدة معقولة لا يعد قد تحقق من دونها، كما هو الحال في جريمة ترك الموظف أو المكلف بخدمة عامة عمله ولو بصورة الاستقالة، أو امتنع عمداً عن واجب من واجبات وظيفته أو عمله متى كان من شأن الترك أو الامتناع أن يجعل حياة الناس أو صحتهم أو أمنهم في خطر، أو كان من شأن ذلك ان يحدث اضطراباً أو فتنة بين الناس، أو اذا عطّل مرفقاً عاماً (المادة/364/1 عقوبات عراقي)، اذ يفترض أن يكون هذا الترك قد حدث مدة تطول الى درجة يسوّغ معها القول بأن ترك العمل قد حدث على نحو يحقق معنى الجريمة المذكورة. وليس المقصود بالترك الذهاب لأخذ قدح من الشاي في مقهى مجاور لمقر العمل ثم العودة مثلاً (5) .

___________________

1- د. فخري عبد الرزاق الحديثي-شرح قانون العقوبات/القسم الخاص-مطبعة الزمان-بغداد-1996– ص 278. ويُنظر: د. محمد زكي محمود-آثار الجهل والغلط في المسؤولية الجنائية-دار الفكر العربي للطباعة والنشر-1967–ص 156 – 158. و د. محمود نجيب حسني-شرح قانون العقوبات اللبناني/القسم العام-المجلد الأول-ط3-منشورات الحلبي الحقوقية-بيروت/لبنان-1998 – ص 565.

2- د. نظرية التجريم في القانون الجنائي-معيار سلطة العقاب تشريعيا وتطبيقيا-منشأة المعارف-الأسكندرية-1971– ص669 ومابعدها. ويُنظر: د. محمد زكي محمود-آثار الجهل والغلط في المسؤولية الجنائية-دار الفكر العربي للطباعة والنشر-1967- ص 157.

3- نصّت المادة/8/أ من قانون العقوبات العسكري العراقي) على مايلي: ((النفير هو دعوة المكلفين في الاحتياط بعضهم أو كلهم الى الخدمة في الجيش عند اعتداء خارجي ويشمل الحركات الفعلية أيضاً)).

4- ينظر موقف قانون العقوبات المصري في مصدر: د. رمسيس بهنام – النظرية العامة للقانون الجنائي – ص669 -671. ود. محمد زكي محمود – المصدر السابق – ص 157.

5- يُنظر بالنسبة لموقف قانون العقوبات المصري من الموضوع : د. نظرية التجريم في القانون الجنائي-معيار سلطة العقاب تشريعيا وتطبيقيا-منشأة المعارف-الأسكندرية-1971– ص669 -672. ود. محمد زكي محمود – المصدر السابق – ص 156-163. أما موقف قانون العقوبات اللبناني فيُنظر: د. محمود نجيب حسني-شرح قانون العقوبات اللبناني/القسم العام-المجلد الأول-ط3-منشورات الحلبي الحقوقية-بيروت/لبنان-1998– ص533.

أحكام الغلط في مكان الجريمة

أن خطورة الفعل على الحق الذي يحميه القانون ثابتة أيّاً كان مكان اقترافه، فلا تتغير هذه الخطورة باختلاف مكان ارتكاب ذلك السلوك. ولذلك لا يهتم المشرع الجنائي عادةً بارتكاب الجاني سلوكه الإرادي في مكان معين دون غيره. واذا كان الأمر كذلك فان المشرع لا يشترط أن يحيط الجاني علماً بماهية مكان السلوك الذي ارتكبه للقول بتوافر القصد الجرمي لديه. فالأصل أن المكان لا يشكل أهمية قانونية في تكوين الجريمة لأنه ليس من عناصرها. بيد أن المشرع يقدر في بعض الجرائم أن الفعل لا يشكل خطراً على الحق ألا إذا ارتكبه الجاني في مكان محدد، فينص على تجريم الفعل إذا ارتكب في ذلك المكان، الأمر الذي يتعين معه أن يعلم الجاني بالمكان الذي يرتكب فيه جريمته علماً صحيحاً، فإذا اعتقد خلاف ذلك فلا ينسب قصد اليه (1) . ويتعين أن لا يختلط المكان بكونه جزء من أُنموذج الجريمة مع المكان بصفته حداً مبيناً لمدى سريان القاعدة القانونية الجنائية؛ فالمكان الأخير هو الذي يعبر عنه في النصوص عادةً بعبارة ((الخارج)) او بعبارة ((إقليم الدولة)). وتكمن أهمية التفرقة بين المدلولين للمكان في أنه حيث يكون المكان جزءاً يدخل في تكوين الأنموذج الإجرامي فلا بد من إطاحة الفاعل علماً به وبوصفه القانوني لغرض توافر القصد الجرمي باعتباره الركن المعنوي للجريمة، وذلك مثلاً أن يعلم الزوج وقت خيانته لزوجته في مكان ما أن هذا المكان يحق للزوجة أن تلجه وترتاده بصفته منزلاً للزوجية، والا فلا تعد جريمة الزنا قائمة في حقه. على حين لا يلزم لعد الجريمة واقعة داخل الدولة أو خارجها علم الفاعل بذلك، فحتى لو كانت الجريمة مرتكبة في جزء يدخل في إقليم الدولة على غير علم منه بذلك، فان الجريمة تعد في هذه الحالة واقعة داخل إقليم الدولة على الرغم من اعتقاده خلاف ذلك (2) .

وهكذا، فالجريمة بالنظر إلى مكان ارتكابها، اما جريمة ذات مكان مطلق (غير محدد)، واما جريمة ذات مكان خاص (محدد) يتطلبه المشرع لقيام الجريمة. والمشرع في جريمة المكان الخاص قد لا يحدد المكان تحديداً صريحاً إنما يحدده ضمناً، كما في جريمة زنا الزوج، وكما في جريمة الاعتداء بالضرب أو بالجرح على عامل بالسكك الحديد أو أي وسيلة من وسائل النقل العام وذلك وقت عمله وفي أثناء سيرها أو توقفها بالمحطات، فالمفهوم ضمناً أن مكان الاعتداء يلزم أن يكون هو مكان وجود وسيلة النقل (المادة / 356 عقوبات عراقي) و(المادة/243 عقوبات مصري). ومعيار تحديد المكان تارة يكون طبيعياً فعلياً وتارة أخرى يكون قانونياً. ومن قبيل تحديد المكان بمعيار طبيعي فعلي، عبارة ((في محل مسكون أو معد للسكنى أو أحد ملحقاته أو محل معد للعبادة أو في محطة سكة حديد أو ميناء او مطار)) الواردة في البند (أولا) من المادة (444 عقوبات عراقي) التي عدّت هذه الأماكن ظروف مشددة للسرقة. أما المعيار القانوني في تحديد المكان، فتارة ينتمي الى القانون العام، كما هو الحال في جريمة إدخال عمله مقلدة أو مزيفة الى العراق أو إخراجها منه، الواردة في المادة (280 عقوبات عراقي)، اذ ان تحديد ما يدخل في إقليم العراق من حيّز وما يخرج عنه أمر يقرره القانون العام. وتارة يرجع في تحديد المكان الى القانون الخاص، كما هو الحال في جريمة رعي المواشي في أرض تعود للغير فيها محصول أو في بستان أو أرض مهيأة للزراع أو مبذور فيها بذر أو كان زرع غير محصود، الواردة في (المادة/500 عقوبات عراقي). وتارة أخرى يرجع أمر تحديد المــكان الى القانون الإداري، كما هو الحال في جريمة الدخول الى محل يباشر فيه عمل لمصــــلحة الدفاع عن البلاد ((ويكون الجمهور ممنوعاً من دخوله))، الوارد في (المادة/280 عقوبــات مصري) أو تحديد معنى ((المؤسسات أو الهيئات التي تسهم الدولة في مالها بنصيب)) (الدوائر الرسمية وشبه الرسمية)، الواردة في (المادة/ 316 عقوبات عراقي) و (المادة/336 عقوبات عراقي) (3) .

وتبدو أهمية المكان حتى في جريمة السلوك المجرد، حين يتمثل السلوك في محض الانتقال من مكان الى آخر، كجرائم انتهاك حرمة مساكن الغير واملاكه والدخول فيها دون اذنه، الواردة في (المادتين/428 و429 عقوبات عراقي). وبعد فان من أمثلة الجرائم ذات المكان الخاص التي لا يحدد المشرع المكان فيها تحديداً صريحاً بل ضمنياً، ما ورد في نصوص (المواد/220 و221 و222 عقوبات عراقي) بصدد جريمة التجمهر في (محل عام) لزعزعة الأمن أو ارتكاب الجرائم أو منع تنفيذ القوانين. وكذلك (المادة/386/1 عقوبات عراقي) التي لا تعاقب على جريمة السكر البيّن ممن فقد صوابه أو أحدث شغباً أو إزعاجاً للغير الا إذا حصل ذلك في ((طريق عام أو محل مباح للجمهور)). وكذلك (المادة 402/1/ب عقوبات عراقي) التي اشترطت لقيام جريمة الفعل الفاضح المخلّ بالحياء أن يتعرض الجاني للأنثى في ((محل عام)) بأقوال أو أفعال أو إشارات على وجه يخدش حياءها. والجرائم التي يمثل المكان فيها أهمية قانونية كثيرة، ومن قبيل ذلك الجرائم الخاصة بالاعتداء على سلامة النقل ووسائل المواصلات العامة المشار اليها في (المواد/354 – 359 عقوبات عراقي)، فيشترط المشرع في هذه المواد أن ترتكب الجريمة في السفينة أو الطائرة أو وسائل النقل العام الأخرى. وكذلك الجرائم الخاصة بالاعتداء على وسائل المواصلات السلكية واللاسلكية في (المواد/361-363 عقوبات عراقي). أما (المادة/441 عقوبات عراقي) فقد اشترطت لقيام جريمة السرقة فيها ان تحصل هذه السرقة بحق شخص ((في الطريق العام خارج المدن والقصبات أو في قطارات السكك الحديد أو غيرها من وسائل النقل البرية او المائية حال وجودها بعيداً عن العمران)). كما قضت (المادة/238 عقوبات عراقي) بأن ((يعاقب بالحبس … كل من كان مكلّفاً قانوناً بالحضور بنفسه او بوكيل عنه في زمان ومكان معينين بمقتضى تبليغ أو أمر بيان صادر من محكمة أو سلطة قضائية أو من موظف أو مكلّف بخدمة عامة مختص قانوناً بإصداره فامتنع عمدا عن الحضور في الزمان والمكان المعينين أو ترك المكان المعين قبل الوقت الجائز فيه تركه))، ومثل ذلك نص المادة (الثامنة)من قانـــون تنظيم التجارة رقم (20) لسنة 1970 بقولها ((يعاقب بالحبس … كل من طلب منه الحضور أمام السلطة أو أمام هيئة مؤلفة بموجب أحكام هذا القانون فامتنع عمداً عن الحضور في الزمان والمكان المعينين أو ترك المكان المعين قبل الوقت الجائز فيه تركه)). ومن قبيل ذلك أيضا ما نصّت عليه (المادة الثالثة) من قانون مكافحة البغاء رقم (8) لسنة 1988 بقولها ((يعاقب بالسجن … ب. كل مستغل أو مدير لمحل عام او أي محل آخر يسمح لدخول الجمهور فيه استخدام أشخاصا يمارسون البغاء لغرض استغلالهم في التشويق لمحله ج. من يملك أو يدير منزلاً أو غرفاً أو فندقا سمح للغير بتعاطي البغاء فيه أو سهل أو ساعد على ذلك))، اذ يتعين أن يمارس البغاء في هذه الأماكن التي حددها النص لتقوم الجريمة. أما (المادة/80 عقوبات عسكري عراقي) فقد اشترطت لقيام جريمة عدم إطاعة أوامر ألما فوق أن تحصل في ساحة العرضات ونحوها حيث يتجمع الأفراد، بقولها ((يعاقب المجرم بالحبس … اذا ارتكبت الجريمة المبينة في المادة السابقة في أثناء تجمع الأفراد …)). والحق أنه يصعب في أغلب الأحوال تصديق ادعاء الجاني بأنه غلط في مكان السلوك، بالنظر لما تحمله هذه الأماكن في مظهرها الخارجي المحسوس من دلالة بديهية واضحة على ماهيتها الحقيقية كونها أماكن لا تقبل أن يلتبس مفهومها الحقيقي في الأذهان ومن ثم فلا تصلح في العادة أن تكون محلاً للغلط. بيد أن هذا القول لا يمنع حقيقة وجود أماكن أخرى ذات طبيعة تقبل اللبس والتأويل، ومن ثم تصلح لان تكون محلاً للغلط في ماهيتها الحقيقية0ومثال ذلك جريمة زنا الزوج الذي ألمَحنا أليها أنفا، المنصوص عليها في (المادة/377 /2عقوبات عراقي)، اذ استلزم النص لتوقيع عقوبة الحبس على الزوج الزاني أن يحصل الزنا في منزل الزوجية، اذ أضحت مباشرة الزوج لهذا الفعل المشين في أي مكان آخر أمراّ لا عقاب عليه، أما الزوجة فان زناها يشكل جريمة في أي مكان (المادة 377/1 منه). ولا يقتصر مفهوم منزل الزوجة على المسكن الذي يقيم فيه الزوجان عادة أو في أوقات معينة، وانما يشمل كل مكان أو محل يقيم فيه الزوج ولو لم تكن الزوجة مقيمة فيه فعلاً ما دام لها الحق والاستطاعة – بصفتها زوجة – أن تدخله من تلقاء نفسها لتعيش فيه معيشة زوجية، وما دام للزوج أن يطلبها للاقامة والمعيشة الزوجية معه فيه. ومن ثم لا تعد الأماكن الأخرى مثل المنزل والشقة والمحل منزلاً للزوجية إذا كانت عشيقة الزوج التي تقيم فيها مالكة لها أو مستأجرة لها من مالها الخاص. وعلى ذلك فان القصد الجرمي لا ينسب الى الزوج الا إذا كان عالماً علماً فعلياً صحيحاً بأن المكان الذي يباشر فيه فعل الزنا تصدق عليه صفة ((منزل الزوجية))، فلو ثبت أن الزوج كان يعتقد على سبيل الغلط بأن المنزل الذي يباشر فيه فعل الزنا يعود لعشيقته وقد استأجرته هي من مالها الخاص، في حين كان الواقع غير ذلك، فان غلطه في مكان السلوك الذي افترضه المشرع ينفي القصد الجرمي لدى الزوج، وكذلك لا ينسب قصد اليه إذا ما قام وكيله بدفع نفقات العشيقة من مال الزوج – موكله – دون علمه، حين كان ذلك المال تحت يده، معتقداً أنه سوف يرضى حين يعلم. وكذلك الحال لو كانت عشيقته تصرف المال على المنزل من مال الزوج العشيق الذي كانت تحصل عليه من خلال اختلاس أمواله من دون درايته (4) .

ومن الجرائم الأخرى التي تطلب المشرع لقيامها أن تحصل في مكان خاص هي جريمة شهادة الزور المنظوية تحت أحكام (المادة/251عقوبات عراقي) التي تقضي بان تحصل شهادة الزور أمام محكمة مدنية أو إدارية أو تأديبية أو أمام محكمة خاصة أو سلطة من سلطات التحقيق. وذلك يفيد ضمناًأن اداء الشهادة الكاذبة ينبغي أن يكون أمام هيأة قضائية أو تحقيقية مختصة في أثناء انعقادها للنظر في دعوى مرفوعة أمامها، بحيث لو باشرها الجاني في غير هذا المكان بالذات فان جريمة شهادة الزور لا تتكامل عناصرها المادية. وعلى ذلك ينبغي أن يكون الجاني قد علم علماً فعلياً صحيحاً بماهية المكان الذي يرتكب فيه فعله، فإذا اعتقد أنه يباشر شهادته الكاذبة أمام سلطة غير تحقيقية أو أمام خبير مثلاً، في حين كان الواقع غير ذلك، فان قصد الجاني يعد منتفياً ولا تقوم مسؤوليته العمدية عن هذه الجريمة. ومثال آخر نتلمسه في نصوص (المواد/440/4 و443/رابعاً و444/أولا عقوبات عراقي)، اذ تشدد العقوبة على الجاني إذا قام بالسرقة في ((محل مسكون أو معد للسكنى أو أحد ملحقاته أو محل معد للعبادة …)) وهذه أماكن ربما تكون قابلة لإثارة الخلط والغلط واللبس والتأويل. والمقصود بالمحل المسكون هو كل مكانمخصص بطبيعته للسكن فيه ليلاً ونهــاراً مدةً طالت أم قصرت، كالمنازل والفنادق والمستشفيات، بل ويشمل الأماكن غير المخصصة للسكن إذا كانت مسكونة وقت وقوع السرقة ((فالمدرسة التي وقعت فيها السرقة إذا كانت مسكونة ساعة وقوع الحادث من حارس أو أي شخص آخر فتكون السرقة مرتكبة في محل مسكون طبقاً للمادة 440 عقوبات)) (5) ،وتعد بناية الشركة محلا مسكونا اذا كان فيها حارس دائمي(6)، ويعد المرآب محلا للسكن ااذا كان قد خصص له حارس كذلك(7) .اما المحل المعد للسكن، فهو المحل الذي أكمل تشييده ووضع الأثاث والأدوات المنزلية فيه (8) .ويلاحظ أن المحل الخالي من الأثاث والمعد للإيجار لا يحسب محلاً معد للسكن. ولا عبرة بعد ذلك لوجود المجنى عليه وقت وقوع السرقة أو عدم وجوده، ما دام المحل كان معداً للسكن ولو في أوقات من السنة صيفاً أو شتاءً، لا بل حتى لو كان المحل بيتا في مزرعة يتردد اليه المجني عليه بين الفينه والأخرى.أما ملحقات محل السكن فهي ملحقات ملحقاته تلحق به وتعد مكملة له ويحيطها مع محل السكن سياج واحد. ومن أمثلتها مرآب السيارة والمخزن واعشاش الطيور وحظائر الحيوانات. وان السرقة التي تقع في أي من هذه الملحقات تأخذ حكم السرقة التي تقع في داخل محل السكن (9) . ولما كان الفقه والقضاء قد ذهبا الى القول بأن المتاجر والمصانع والمدارس والمسارح والمقاهي والدواوين والمكاتب والمصارف ونحوها تعد أمكنة مسكونة إذا كان يقوم على حراستها شخص يبيت فيها ليلاً بصفتها آنذاك قد اكتسبت صفة المكان المسكون، ولما كان المكان المعد للسكن وأماكن العبادة هي أيضا ذات معنى واسع غير محدد تحديدا متفقاً عليه، فانه من الجائز أن لا تحمل هذه الأماكن وغيرها الدلالة البديهية على ماهيتها الحقيقية، الأمر الذي يتسع للبس والتأويل ويحتمل الغلط، حتى غدا من غير المستعبد أن يعتقد الجــــــاني اعتقاداً زائفاً بأنه يباشر سلوكه في مكان غير مسكون مثلاً، في حين انه في الواقع كان مسكوناً إذ يبيت فيه الحارس من دون أن يحمل ذلك المكان مظاهر تلك السكنى، ومن ثم ينتفي القصد الجرمي لدى الجاني وتمتنع مسؤوليته الجنائية عن هذه الصورة المشددة للسرقة. وكذلك الحال إذا ما كان الجاني يباشر اختلاسه في محل للعبادة ثم يثبت أنه كان يعتقد اعتقاداً مشوباً بالغلط بأنه يختلس من محل غير معد للعبادة، كما لو كان المحل في الأصل معبداً ثم تعد تقام به شعائر دينية وصار مجرد أثر تأريخي، ومن بعد ذلك عاد أليه البعض وباتوا يمارسون طقوس العبادة فيه، وهو الأمر الذي كان يعتقد الجاني خلافه.

ومن المتصور أيضا أن يثور الغلط في المكان بالنسبة للجريمة المنصوص عليها في (المادة/383/2 عقوبات عراقي)، وهي جريمة تعريض الطفل أو العاجز للخطر عن طريق تركه في مكان (خالٍ من الناس) وهو الشرط الموضوعي الذي وضعه المشرع العراقي لتكامل هذه الجريمة وقيامها. والحقيقة أن المشرع قد ترك مسألة تحديد خلو المكان من الناس مـن عدمه الى السلطة التقديرية لقاضي الموضوع،على اعتبار أن المحل الموصوف بتلك الصفة يقبل اللبس والتأويل في فهمه، فضلاً عن اختلافه باختلاف الوقت الذي وقع فيه سلوك الترك أو التعريض للخطر وتبعاً لاختلاف ظروف الحال، فقد يكون المحل مأهولاً بالناس في أثناء النهار على حين يكون خالياً تماماً أثناء الليل، الأمر الذي يمكن معه أن يكون ذلك المحل ونحوه موضع غلط الجاني وسوء تقديره بما لا يطابق الحقيقة، ومن ثم يسوغ معه القول بعدم توافر القصد الجرمي لديه (10) . ولو تطلعنا الى قانون العقوبات وتصفحنا نصوصه لوجدنا كثير منها يشتمل على أماكن ذات أهمية قانونية استلزمها المشرع، وهي قابلة لسوء الفهم والتقدير واحتمال الغلط، مثل (المادة/181/أ/3 عقوبات عراقي) وقد نصت على أن ((أ. يعاقب…3. من دخل حصنا أو إحدى منشآت الدفاع أو معسكراً أو مكاناً خيمت أو استقرت فيه قوات مسلحة أو سفينة حربية أو تجارية أو طائرة أو سيارة حربية أو أي محل أو مصنع يباشر فيه لمصلحة الدفاع عن الوطن ويكون الجمهور ممنوعاً من دخوله4. من وجد في المواضع والأماكن التي حظرت السلطات العسكرية الوجود فيها)). وكذلك (المادة/342/2 منه) بقولها ((وتكون العقوبة…إذا كان إشعال النار في إحدى المحلات التالية:- أ . مصنع أو مستودع للذخائر والأسلحة أو ملحقاته أو في مخزن عسكري أو معدات عسكرية ب. منجم أو بئر للنفط ج. مستودع للوقود أو المواد القابلة للالتهاب أو المفرقعات د. محطة للقوة الكهربائية أو المائية أو الذرية هـ. محطة للسكك الحديدية أو ماكنة قطار أو في عربة فيها شخص أو في عربة من ضمن قطار فيه أشخاص أو في مطار أو في طائرة. ومبنى مسكون أو في محل أهل بجماعة من الناس ز. مبنى مشغول من دائرة رسمية أو شبه رسمية أو مؤسسة عامة أو ذات نفع عام…)).

وقصارى القول، أن المشرع إذا ما تطلب في جرائم معينة أن يباشر الجاني سلوكه الإرادي في مكان محدد، فإن ذلك المكان بالذات وبالصورة التي حدَدها المشرع يصير شرطاً (أو عنصراً) موضوعياً مفترضاً في الجريمة يتعين على الجاني معه أن يحيط به علماً فعلياً صحيحاً وعلماً بماهيته الحقيقية عند مباشرة سلوكه الإجرامي ليمكن نسبه القصد الجرمي اليه. أما إذا ساور الجاني غلط شاب ذلك العلم وصار به علما زائفا غير صحيح فلا يمكن نسبه ذلك القصد إلى الجاني.

_______________________

1- فخري عبد الرزاق الحديثي-شرح قانون العقوبات/القسم الخاص-مطبعة الزمان-بغداد-1996- ص 277 وما بعدها. وينظر د0 محمد زكي محمود-آثار الجهل والغلط في المسؤولية الجنائية-دار الفكر العربي للطباعة والنشر-1967- ص 145 0

2- د0 رمسيس بهنام-نظرية التجريم في القانون الجنائي-معيار سلطة العقاب تشريعياوتطبيقيا-منشأة المعارف-الأسكندرية-1971 – ص 668 – وينظر د0 محمد زكي محمود – لمصدر السابق – ص 146 0

3- للإطلاع على موقف القانون المصري ينظر :د0 رمسيس بهنام – النظرية العامة للقانون الجنائي – ص 667-669 و د0 محمد زكي محمود – المصدر السابق – ص 146 وما بعدها

4- د. محمد زكي محمود- المصدر السابق – ص 148-150

5- قرار محكمة تمييز العراق رقم 391 في 31/7/1977- مجموعة الأحكام العدلية – العدد الثالث والرابع – السنة الثامنة 1977 – ص 254 نقلاً عن د0 فخري الحديثي – القسم الخاص – ص 3150

6 – قرار محكمة تمييز العراق رقم 1635 في 14/10/1970 – النشرة القضائية – العدد الرابع – السنة الأولى – ص 236 نقلاً عن المصدر السابق – ص 315

7- قرار محكمة التمييز في العراق رقم 2940 في 30/12/1970 – النشرة القضائية – العدد الرابع – السنة الثانية ص 184. نقلاً عن المصدر السابق – ص 315.

8- قرار محكمة التمييز في العراق رقم 558 في 25/1/1986 – مجموعة الأحكام العدلية – العددان الأول والثاني السنة 1986 – ص 153. نقلاً عن المصدر السابق – ص 316

9- د0 فخري عبد الرزاق الحديثي-شرح قانون العقوبات/القسم الخاص-مطبعة أوفيست الزمان-بغداد-1992– ص 316

10- د0 محمد زكي محمود – المصدر السابق – ص 152-155 بالنسبة لموقف قانون العقوبات المصري

المؤلف : مجيد خضر احمد عبد الله
الكتاب أو المصدر : نظرية الغلط في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .