العقد الإدارى بين التشريع والقضاء في اليمن

تلجأ الإدارة إلى الاتفاق مع الأفراد والهيئات الخاصة، بموجب عقود ترسم حقوق والتزامات الطرفين لمباشرة وظيفتها في إنشاء وتسيير المرافق العامة في الدولة، وذلك مع من يرغب في التعاون معها من المقاولين أو الموردين أو المتعهدين لتنفيذ المشروعات المتصلة بهذا المرافق.

غير أن عقود الإدارة لا تخضع جميعها لنظام قانوني واحد ، فالنظام القانوني الذي يحكم العقود الإدارية يختلف اختلافا جوهريا عن النظام القانوني للعقود المدنية أو التجارية، ذلك أن عقود الإدارة الأخيرة تخضع لقواعد القانون الخاص التي تطبق على عقود الأفراد العاديين أما بالنسبة للعقود الإدارية فإنها تخضع لقواعد القانون العام.

وفي اليمن تتأكد أهمية العقود الإدارية خاصة في الوقت الحاضر ؛ نظراً لأن سياسة الدولة وخطة الإصلاح الاقتصادي التي انتهجتها الحكومة اليمنية تتجه إلى التطبيق التدريجي لنظام الاقتصاد الحر وتشجيع الاستثمار في المجالات الاقتصادية المختلفة ؛ ولذا أصبحت الدولة تعهد إلى عدد من مقاولي الأشغال العامة ورجال الأعمال مهمة تنفيذ الكثير من المشروعات العامة الحيوية.

وإذا كانت للإدارة أن تلجأ إلى إبرام عقود إدارية تخضع لأحكام وقواعد القانون العام ، أو أن تلجأ إلى إبرام عقود مدنية تخضع لأحكام وقواعد القانون الخاص، فقد استلزم البحث تحديد مفهوم العقود الإدارية وضرورة التمييز بينها وبين عقود الإدارة المدنية .

ومن هنا تظهر أهمية هذه الرسالة التي تحمل عنوان: ” العقد الإداري بين التشريع والقضاء في اليمن ” دراسة مقارنة.

وقد احتوت على فصل تمهيدي وأربعة أبواب ثم الخاتمة التي تضمنت أهم النتائج والتوصيات ثم قائمة المراجع.

وقد بينا في الفصل التمهيدي ماهية العقد الإداري والحاجة إلى تمييزه، حيث قمنا بتعريف العقد عموما ثم تعريف العقد الإداري محل الدراسة من خلال الاستناد إلى تعريفات الفقه القانوني والقضاء في فرنسا ومصر ثم اليمن.

وتم التمييز بين عقد الإدارة الإداري والمدني، ثم قمنا بالتمييز بين العقد الإداري بين وبين القرار الإداري من خلال المعايير التي اعتمد عليها الفقه والقضاء وقد رجحنا المعيار النوعي في التمييز بين العقد والقرار الإداريين.

وأما الباب الأول فقد خصص لدراسة نشأة فكرة العقود الإدارية ومعايير تمييزها وأهم صورها ؛ حيث بينت الدراسة كيف خرج هذا العقد من رحم القضاء الإداري الفرنسي ونشأ وترعرع نشأة قضائية بين أحضان هذا القضاء العريق، ثم انتقل إلى حضن القضاء المصري العربي الرائد الذي أحسن تربيته إلى أن استوى على عوده وكبر وترعرع.

ثم بينت الدراسة نشأة العقود الإدارية في اليمن وكيف أنها كانت نشأة تشريعية بخلاف الوضع في فرنسا ومصر.

ثم تناولنا معايير القضاء في تمييز العقود الإدارية وكيف أن القضاء الفرنسي اعتمد على المعيار العضوي واكتفى بمعيار واحد بجواره وهو اتصال العقد بنشاط نرفق عام أو إتباع أساليب القانون العام من خلال تضمين العقد شروطاً غير مألوفة ، وأما القضاء المصري فعلى الرغم من تأخر نشأته عن القضاء الفرنسي إلا أنه كان أكثر استقرارا ، فقد اعتمد المعايير الثلاثة في تمييز العقد الإداري وهي المعيار العضوي واتصال العقد بالمرفق العام وتضمينه شروطا غير مألوفة في عود الأفراد. وقد أحسن القضاء اليمني عندما انتهج منهج القضاء الإداري المصري.

بعد ذلك تناولنا في الفصل الثاني من هذا الباب أهم صور العقود الإدارية من خلال دراسة أربعة عقود -على سبيل المثال لا الحصر- وهي عقد الأشغال العامة وعقد الالتزام وعقد التوريد وعقد البوت باعتباره صورة جديدة من عقود الالتزام.

وأما الباب الثاني فقد تناولنا فيه النظام القانوني للعقود الإدارية في القانون المقارن من خلال دراسة أساليب اختيار الإدارة للمتعاقد معها والقيود والإجراءات السابقة على التعاقد، وكيفية إبرام العقد الإداري من خلال التعاقد بطريقة المناقصات والمزايدات، والإجراءات والمراحل التي يمر بها هذا التعاقد من لحظة الإعلان عنه إلى حين إرساء العطاء وإبرام العقد خطوة خطوة، ثم تناولنا بعد ذلك التعاقد بطريق غير طريق المناقصة، كالاتفاق المباشر والممارسة.

وأما الباب الثالث فتناولنا فيه الآثار المترتبة على إبرام العقود الإدارية من خلال بيان سلطات الإدارة في مواجهة المتعاقد معها ومنها سلطتها في رقابة تنفيذ العقد وما تتضمنه من خروج على المألوف في العقد المدني، وسلطتها في تعديل شروط العقد بإرادتها المنفردة، حتى ولو لم يقع خطأ من المتعاقد ، ب

الإضافة إلى سلطتها في توقيع جزاءات على المتعاقد إذا أخل بالتزاماته التعاقدية، بحكم مسئولية الإدارة عن سير المرافق العامة، وضمان انتظامها ، وأخيرا سلطة الإدارة في إنهاء العقد الإداري بإرادتها المنفردة عندما ترى عدم تحقق المصلحة العامة من هذا العقد أو المرفق الذي يسعى العقد إلى خدمة سيره.

ثم تناولنا فيه ما يقابـل هذه السلطات غير المألوفة من حقوق خاصة للمتعاقد وأهمها ضمان مستحقاته الماليـة من خلال الثمن أو الرسم الذي يتقضاه ويعد الهدف الأساسي للمتعاقد مع الإدارة ، وحقه في الحصول على التعويض المناسب في حالة عدم تنفيذ الإدارة لالتزاماتها التعاقدية نحوه على نحو يلحق به الضرر ، وتحقيق التوازن المالي للعقد عند حدوث أي اختلال بسبب ظروف أجنبية عنه وعن الإدارة المتعاقدة ،

أو نتيجة فعل مشروع من جانب الإدارة ، أو بفعل صعوبات مادية غير متوقعة ، يكون من حقه الحصول على معاونة الإدارة لإعادة التوازن المالـي للعقد مرة أخــرى؛ لتمكينه من الاستمرار في تنفيذ التزاماته رغم الظروف المفاجئة التي طرأت أثناء تنفيذ العقد، وللمحافظة على استمرارية عمل المرفق العام محـل العقد بانتظام واطراد باعتبار أن هذه الضمانات يتمتع بها المتعاقد حتى دون حاجة إلى النص عليها في العقد.

وأخيرا الباب الرابع تم تخصيصه للقضاء والتحكيم، حيث تناولنا اختصاص القضاء بمنازعات العقود الإدارية وطبيعة هذا الاختصاص ، وأكدنا على انتماء العقود الإدارية للقضاء الكامل ، وصور تلك المنازعات في نطاق القضاء الكامل ، ثم شمول اختصاص القضاء الكامل للأمور المستعجلة واصل المنازعة وما يتفرع عنها، ثم بحثنا قضاء الإلغاء في منازعات العقود الإدارية وطبيعة القرارات المنفصلة عن العقد الإداري وجواز الطعن فيها استقلالا بدعوى الإلغاء.

وقد تناولنا دور القضاء اليمني تجاه هذه العقود كما تناولنا نظام التحكيم في منازعات العقود الإدارية ومدى جواز اللجوء إليه.

ومن أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها الدراسة ما يلي:
أن نظام العقود الإدارية موجود في اليمن من الناحية العملية كما هو موجود في كآفة الدول التي تعتنق النظام القضائي الموحد ، ولكن لا يزال يكتنفه الغموض وعدم وضوح المبادئ من الناحية النظرية كون المشرع لم يضع ثمة قوانين مستقلة تتناول العقود الإدارية والجهة القضائية المختصة بنظر منازعاتها.

توصلت الدراسة إلى أن موضوع التمييز بين العقود الإدارية والعقود المدنية لا يزال في الـيمن موضوعاً شائكاً لوجود خلط كبير بين كل منهما ، وهذا الموضوع لم توضع بصدده أي دراسات يمكن الرجوع إليها أثبتت الدراسة أن نشأة العقود الإدارية في فرنسا ومصر كانت قضائية، أما بالنسبة لليمن فقد كانت نشأة تشريعية.

تبين لنا أن القضاء اليمني قد اعترف باختلاف النظام القانوني لكل من العقود المدنية والعقود الإدارية التي تكون الدولة طرفا فيها ، كما اقر بالمبادئ التي اقرها القضاء المصري والفرنسي بخصوص العقود الإدارية.

بينت الدراسة أن ظهور نظرية متكاملة للعقد الإداري في مصر وفرنسا قد مر بمراحل طويلة، حتى بعد تبني هذه الدول للنظام المزدوج ، ولذا فإن وجود نظرية مستقلة للعقد الإداري في بلد كاليمن بدون وجود قضاء إداري مستقل أمر غير ممكن.

توصلت الدراسة إلى أن نظرية العقد الإدارية هي أكثر فائدة للمتعاقد مع الإدارة من عقود القانون الخاص لأنها تراعي ظروف ومصلحة المتعاقد توصلت الدراسة إلى أن منازعات العقود الإدارية وما يتفرع عنها إنما يكون النظر فيها – كقاعدة عامة – من اختصاص القضاء الكامل ، وأن دعوى الإلغاء لا توجه إلى العقود الإدارية.

ومن أهم التوصيـات التي اقترحناها ما يلي:
نوصي المشرع اليمني بسرعة إنشاء محاكم إدارية في اليمن على الأقل في عواصم المحافظات الرئيسية، كي تفصل في المنازعات الإدارية ومن ضمنها منازعات العقود الإدارية، وذلك كخطوة أولى سعياً نحو الاتجاه لإنشاء القضاء الإداري وهجر نظام القضاء الواحد .

نوصي المشرع اليمني بالعمل على إصدار تشريع متكامل خاص بالعقود الإدارية يحدد أسس ومعايير وقواعد هذه العقود وأنواعها ، وطرق وقواعد إبرام هذه العقود، وكآفة الجوانب التي يتطلبها النظام القانوني أو على الأقل إصدار قانون ينظم عقود التزام المرافق العامة كما هو الحال لدى المشرع المصري.

نقترح على المشرع اليمني إصدار قانون للإجراءات الإدارية مستقل عن قانون المرافعات المدنية، والقيام بالتوعية الواسعة بفكرة حق الأفراد في مقاضاة الإدارة أمام القضاء ، ويمكن الاكتفاء في الوقت الراهن بإضافة مواد تميز بين المنازعات الإدارية والمنازعات المدنية في قانون السلطة القضائية الحالي حتى يصدر قانون متعلق بالإجراءات الإدارية.

نقترح على المشرع المصري أن يترك الأمر في قرار إبرام وحدات الإدارة المحلية لذات الوحدات المحلية، بدلاً من جعل قرار إبرام هذه العقود بيد المحافظ ، فترك هذا الأمر للجان المناقصات بالوحدات المحلية أفضل لأنها الأقدر على معرفة الحاجات المحلية والطرق الأفضل لتحقيقها .

نوصي المشرعين اليمني والمصري بالتشدد في استخدام الإدارة لأسلوب الأمر المباشر في التعاقد وذلك من خلال تشريع يضبط هذه العملية من جميع الجوانب بحيث لا تترك أي مساحة للتلاعب.

نقترح إنشاء جهاز إداري متخصص يقوم على إعداد الأعمال التحضيرية ودراسات الجدوى للمشروعات المستقبلية والإشراف على تنفيذ مشروعات البنية الأساسية بنظام البوت.
نقترح على القضاء اليمني أن يراعي عند تطبيق المبادئ العامة للعقود في القانون المدني عدم تطبيقها بطريقة مطلقة ، بل ينبغي أن يكون التطبيق موافقا ومطابقا لمصلحة المرافق العامة في استقرار العقود التي تبرمها الجهات الإدارية وبالقدر الذي لا يتعارض نصاً وروحاً مع طبيعة المنازعات الإدارية والأوضاع الخاصة بها .

نوصي القضاء اليمني بالسعي إلى إقرار فكرة العقد الإداري من خلال المنازعات التي تعرض عليه لتخليص عقود الإدارة من ربقة القواعد المدنية، وذلك من خلال تحديد معيار تمييز العقد الإداري وإرساء قواعد تحكمه ، وان كان كل ذلك لا يتحقق بصورة كاملة إلا بإنشاء قضاء إداري مستقل.

نقترح جعل التعاقد عن طريق الممارسة مقتصراً على حالات معينة حصراً ، فجعل الممارسة طريقاً أصلياً للتعاقد إلى جانب المناقصة العامة قد يؤدي إلى التعسف وسوء الاستعمال السلطة التقديرية التي تملكها الإدارة عند اختيارها للمتعاقد معها.

(قام باعداد البحث الدكتورمطيع على حمود جبير بدولة اليمن العربية)