من المسلم به ان ما يتركه الميت قد يكون مالا” او حقا” او منفعةً . ولقد اختلفت كلمة الفقهاء فيما تشتمل عليه التركه، واجمالا” يمكن القول ان الخلاف في جوهره قائم بين الحنفية من جهة ،وجمهور الفقهاء من جهةٍ اخرى . وان ذلك الخلاف يكمن اساسا” حول المنافع وبعض انواع الحقوق ، فذهب الجمهور الى القول باْن التركة تشمل كل مايتركه الميت من الاموال والمنافع والحقوق ،بينما ذهب الحنفية الى ان التركة تشمل الاموال، والحقوق التي هي بمعنى المال او تابعة له ، دون الحقوق الاخرى والمنافع .وسنتناول القول في ذلك ،وهو مايستدعي القاء النظر على الاموال والحقوق والمنافع ليتسنى لنا معرفة سبب هذا الخلاف من جهة ، ومضمونه من جهةٍ اخرى.

الفقرة الأولى : الامــــــوال

الاموال جمع مال ، والمال في اللغة يطلق على كل ما يملكه الانسان من اشياء وتصغير المال مويل ،يقال رجل مال ومِيّل ومَيّل وَمّوِل أي كثير المال ،ومال الرجل يمول ويمال مولا” وموؤلا” اذا صار ذا مال ،وتمول مثله كذلك(1). وعرفه ابن الاثير بقوله :”المال في الاصل ،مايملك من الذهب والفضة ثم اطلق على كل ما يقتنى ويملك من الاعيان”(2).

اما في الاصطلاح فيمكن البحث فيه من خلال ناحيتين :

أ- في الإصطلاح الفقهي الشرعي :

في اصطلاح الفقهاء يمكن القول ان هنالك اصطلاحين رئيسين للمال، احدهما هو اصطلاح الحنفية ، والاخر هو اصطلاح الجمهور .

1.المال في اصطلاح فقهاء الحنفية:-

يعرف فقهاء الحنفية المال باْنه:” عين يجري فيه التنافس والابتذال (3). أي بذل العوض” . ومن هذا التعريف يمكن أن نستنتج ان الشىْ لايعد مالا” وفقا” للاصطلاح الحنفي الا اذا توفر فيه عنصران اثنان:

الاول: العينية: وذلك بأن يكون الشىْ ماديا”، له وجود خارجي ،وعلى هذا فأن منافع الاعيان كسكنى الدار وركوب السيارة لاتعد مالا” ،لان المنافع فوائد ليس لها جرم ولا يمكن حيازتها ، ومثل المنافع في هذا مثل الحقوق المحضة ، كحق المرور والشرب وحق الاخذ بالشفعة ، وكذلك الديون في الذمم لانها اوصاف شاغلة للذمة ولايتصور قبضها حقيقة وانما يقبض مايعادلها(4).

الثاني : التمول: يراد بالتمول التنافس وبذل العوض ،وذلك بأن تجري عادة الناس كلا” او بعضا” على التنافس على هذه العين وحيازتها وبذل المال بأزائها فان لم يكن ذلك لا يكون الشىء مالا” ،مثل الميتة(5). وحبة القمح ، والقليل من التراب والماء ماداما في محليهما(6). فأن هذه الاشياء لاتعد مالا” لان الناس لا يتنافسون عليها ، ولا يبذلون العوض في مقابلتها. فمتى توافر هذان العنصران تحققت مالية الشىْ ولو كان غير مباح شرعا” ، ومن ثم كان الخمر والخنزير ونحوهما من الاموال لتمّول غير المسلمين لهما.

2-المال في اصطلاح جمهور الفقهاء:

لقد عرف المال بعدة تعريفات يؤخذ منها ان المال يطلق ويراد به:

كل ماله قيمة مادية بين الناس واجاز الشارع الانتفاع به ف حالتي السعة والاختيار.

ويستنتج من تعريف الجمهور ان الشىء لايكون مالا” الا اذا توفر له عنصران:

الاول : ان تكون للشىء قيمة بين الناس ، عينا” كان او منفعة ، مادياً او معنوياً، اما اذا كان الشىء تافها” لاقيمة له بين الناس فأـنه لايكون مالا” مثل حبة القمح او منفعة الاستظلال بظل شجرة او حائط.

الثاني : ان يكون الشارع قد اباح الانتفاع بالشىء في حالتي السعة والاختيار ، اما ما كان محرما” مثل الخمر والخنزير وماشاكل فأنه لايكون مالا”(7). ومن هذين التعريفين للمال يتبين مدى الفرق بينهما ، ذلك ان فقهاء الحنفية لايعدون المنافع اموالا” من جهة لانها تتجدد بتجدد الزمان ولا يمكن احرازها. كما انهم يعدون الاشياء التي يتعامل فيها غير المسلمين مثل الخمر والخنزير اموالا” ، بينما ينحو فقهاء الجمهور منحى مغايرا”، اذ انهم يعدون المنافع اموالا” من جهة ، ذلك لان مصادرها وهي الاعيان يجري عليها الاحراز والحيازة ، ولان الاعيان لا تراد لذاتها بل لمنافعها ، ولولاها لما تنافس الناس عليها ولما بذلوا اموالهم بأزائها ، حتى يمكن القول ان مالا منفعة له ،لاطلب عليه ولا رغبة فيه. ومن جهة اخرى لاتعد الاشياء غير المباحة في الشريعة الاسلامية اموالا” سواء كان الامر متعلقا” بالمسلم او بغير المسلم من اهل الذمة فالامر سيان(8).

3.في الإصطلاح القانوني :

المال في اصطلاح القانون يقترب كثيرا” من اصطلاح الجمهور ، فالمال في القانون :

هو عبارة عن الحق ذي القيمة المادية(9). بعبارةٍ اخرى ان كل ماله قيمة مادية يعد في النظر القانوني مالا” ، عينا” كان او منفعةً ، او حقا” من الحقوق . وسواء كان ذلك الحق عينيا” او شخصيا”او حقا”معنويا” (فكريا”)(10). وبعد هذا التعريف الموجز للمال ، نعود فنقول ان كل ما يطلق عليه مال يعد جزءا” من التركة ينتقل الى خلفاء المورث ، والمال هو العنصر الجوهري في التركة. ولقد اتفقت كلمة الفقهاء ومعهم القانون على ان كل ماكان يملكه المورث من اموال قبل موته ينتقل الى خلفائه من بعده. وسواء كان ذلك المال عقارا” “كالمباني والاراضي” او منقولا” “كالنقود والاثاث” وسواء كان ذلك المنقول قيميا” او مثليا” ، لافرق في ذلك بين ما اذا كان ذلك المال تحت حيازة المورث عند وفاته ، او في حيازة غيره ممن يقوم مقامه كالمستأجر والمستعير والمرتهن ، بل حتى لو كان المال في يد غاصب او سارق. مادام في اصله مملوكا” ملكية حقيقية للمورث. ومن ناحية اخرى فأن المورث قد يكون مالكا” للمال قبل موته ملكية ناقصة لاتامة كأن يكون مالكا” لرقبة العين دون منفعتها ، ففي هذه الحالة تنتقل ملكية الرقبة فقط لخلفائه دون المنفعة ،بمعنى ان ملكية رقبة هذه العين تعد من الاعيان المالية التي تدخل في مفهوم التركة.

الفقرة الثانية : المنافــــــع

المنافع جمع منفعة ،والمنفعة اسمٌ من النفع ، والنفع هو الخير ، وهو ما يتوصل به الانسان الى مطلوبه ، يقال ينفعني نفعا” ونفيعة فهو نافع . اما في اصطلاح الفقهاء فأن المنفعة : هي كل ما يمكن ان يترتب على العين حسب وضعها من مصلحة كسكنى الدار ، وركوب السيارة ونحوهما(11). وحق المنفعة في القانون هو من الحقوق العينية الاصلية ويراد به : لقد اختلف الفقهاء في مسألة توريث المنافع ، فذهب الحنفية الى ان المنافع لا تورث ، بينما ذهب الجمهور الى انها تورث ،وفي الحقيقة أن مرد هذا الإختلاف، هو الاختلاف في تكييف المنفعة وهل انها تعد مالا” او لا. فالحنفية ما داموا لايعدون المنافع من الاموال لذا كان طبيعياً عندهم القول بعدم توريثها بخلاف الجمهور الذين يعدون المنافع من الأموال تبعا” لاعيانها.

ولقد تقدم القول ان فقهاء الحنفية يشترطون شرطين لثبوت المالية للشئ هما:-

العينية ، والتمول . وهذان الشرطان يستلزمان بطبيعة الحال امكانية حيازة الشئ واحرازه ، وهو امر غير متحقق في المنافع لانها ليست شيئا” ماديا” له وجود بحيث يحرز ويحاز ، وانما هي عرض من الاعراض يتجدد بتجدد الزمن ، ويحدث بحدوث اجزائه ، وهذا مايعني ان المنافع تتلاشى بمجرد وجودها فلا يمكن احرازها على ذلك ، وماكان كذلك فلا يتصور كونه مالا” ، وماليس بمال فانه لايورث لان التوارث”عند الحنفية” انما يكون في مالٍ او حقٍ مالي(12). وبناءا” على ذلك فأن من استأجر ارضا” او دارا” مدة من الزمن ، ثم يتوفى قبل انتهاء مدة الاجارة فأن الاجارة تنتهي بموته ، ولا ينتقل حق الاجارة الى ورثتة ،وكذا من اوصي له بمنفعة عقار كسكنى دار مدة من الزمن ، ثم توفي في اثناء المدة، فأن الوصية تننتهي بوفاته ولا تنتقل الى ورثتة. اما جمهور الفقهاء فأنهم يذهبون الى ان المنافع تعد من الاموال ، وبالتالي فأنها تكون عنصرا” من عناصر التركة تنتقل الى الورثة ،ودليلهم في ذلك انه يكفي في احراز المنافع وحيازتها ، ان يحرز ويحاز اصلها، ولان الاعيان المالية لاتقصد لذاتها بل لمنافعها ، فالعين التي لامنفعة لها لايقتنيها الناس ، ولا يرغبون فيها ، ولا يسعون لاحرازها وحيازتها(13). وفي الحقيقة أن ما ذهب اليه جمهور الفقهاء هو الارجح ، وذلك لان المقصود من تملك الاعيان المالية هو الانتفاع بها ، اذ ماهي قيمة العين التي لانفع فيها، فأن مما لاشك فيه ان لا أحد يرغب فيها ، ولايسعى الى حيازتها ، بل قد يحاول التخلص منها ان كانت في حيازته ، وبطبيعة الحال فأن ماقيل يتفق مع طبائع الاشياء ، ويتواءم مع عرف العقلاء ومعاملاتهم في الحصول على الاعيان المالية. اضافةً الى ذلك فأن الحنفية انفسهم خرجوا على اصلهم القائل بعدم مالية المنافع فيما يتعلق بأموال الاوقاف واليتامى والاموال المعدة للاستغلال حينما عدوها امولا”. هذا وقد سار القانون على نهج جمهور الفقهاء فعد المنافع اموالا” تدخل في تكوين التركة، وتنتقل الى الورثة ذلك ان المال في اصطلاح القانون (كما تقدم) هو الحق ذو القيمة المالية سواء كان حقا” عينيا” او شخصيا” او حقا” من حقوق الملكية الادبية والفنية والصناعية . فلقد جاء في تقرير اللجنة التحضيرية لمشروع قانون الوصية المصري ما يأتي:” المراد بالتركة: كل ما يخلف منه الوارث المورث ،مالا” كان او منفعةً اوحقا” من الحقوق الاخرى المتعلقة بالمال التي تنتقل بالموت من المورث الى الوارث”.

الفقرة الثالثة : الحقـــــوق

الحقوق جمع حق ،والحق في اللغة ورد بمعانٍ ،منها خلاف الباطل وهو مصدر حقَ الشىء من باب ضرب يقال حقَ الشئ يحق حقاً ،أي وجب وثبت ،يقال حقّت القيامة أي احاطت بالخلائق فهي حاقة ، ويقال حققت عليه القضاء أحقه حقاً إذا أوجبته، وحقيقة الشىء منتهاة واصله المشتمل عليه، واستحق فلان الامراستوجبه. ومن هنا يتبين ان المعنى اللغوي للحق يدور حول محور واحد الا وهو “الوجوب او الثبوت” فيراد بالحق وفقا” لهذا المعنى : ” الامر الثابت الذي لايسوغ انكاره”(14). اما في الإصطلاح الفقهي الشرعي فهنالك تعريفات متعددة للحق ولكن يمكن القول عموما” ان الظاهر من استعمال الفقهاء للحق انهم يطلقون لفظ الحق على كل ماهو ثابت باقرار الشارع وحمايته فأطلقوه على المال وهو عين سواء كان عقارا” او منقولا” فقالوا هذه الدار حق لفلان ، واطلقوه على المنفعة فقالوا سكنى هذه الدار حق لفلان، كما اطلقوه على المصلحة سواء كانت مالية ام أدبية فقالوا من حق البائع طلب الثمن من المشتري ، ومن حق فلان ان يبدي رأيه ، واطلقوه على مافيه معنى الاختصاص ،كحق الشرب والمجرى، وما الى ذلك. فيطلق الحق على الاعيان المملوكة للانسان ، وعلى الملك نفسه وعلى المصالح والمنافع ، فيقال هذه السيارة حقي ، وملكية هذه السيارة حق من حقوقي ، وطلب اليمين من المدعى عليه حق للمدعي ، وحضانة الصغير حق للام ، والولاية على النفس والمال حق للاب. وقد يستعمل الفقهاء لفظ “الحق” في مقابلة الاعيان والمنافع المملوكة ويراد بكلمة ” الحق” حينئذٍ المصلحة الاعتبارية الشرعية التي لاوجود لها الا بأعتبار الشارع وتقديره ، كحق الشفعة للشريك، وحق القصاص من القاتل لولي المقتول ، وحق الطلاق للزوج ، فأن هذه الحقوق ليس لها وجود خارجي ، وانما هي امور اعتبارية لاوجود لها الا بأعتبار الشارع وتقديره. اما في الإصطلاح الفقهي القانوني فأن للحق تعريفاتٍ متعددة، ونظرياتٍ قيلت فيه متنوعة ،ليس هنا مجال استقصاءها ، ولكن قدر تعلق الامر بموضوعنا فأنه يمكن القول ان الحقوق في هذا المجال اما ان تكون مالية او غير مالية. وقبل الدخول في التفصيل يجدر التنويه الى ان من الخطأ تعميم القول بأن فقهاء الحنفية يذهبون الى ان الذي يكّون التركة وينتقل الى الورثة هي الاموال فقط دون الحقوق مطلقا” . فأن الحقيقة هي ان الامر فيه شىء من التفصيل قد غاب عن ذهن البعض ممن لم يتعمق في الموضوع. وعموما” فأن الحقوق وقدر تعلق الامر بمجال البحث تقسم على قسمين اثنين : الحقوق غير المالية ، والحقوق المالية، سوف نقوم بعرضها، ثم بيان موقف الفقهاء والقانون من مسألة دخولها في التركة.

القسم الاول : الحقوق غير المالية :

وتسمى بالحقوق الشخصية المحضة، وهي التي تثبت للانسان بالنظر لذاته ، ولما له من مزايا وصفات تميزه عن غيره ،وغير قابلة للتداول والنزول بعوض او بدونه، مثل حق الولاية على النفس والمال، وحق الوظيفة والوكالة والحضانة والقصاص ،فأن هذه الحقوق وغيرها مما يشبها اسندت لاربابها لمعان ومميزات وجدت فيهم دون غيرهم . وليس لها شبه بالحقوق المالية مطلقا” ، ولذلك فأنها لاتعد تركة ولا تدخل ضمن موجوداتها بأتفاق الفقهاء(15).

القسم الثاني : الحقوق المالية :

وهي التي تنقلب في النهاية مالا” بالاقتضاء او القبض او المعاوضة ، وهي على اقسام هي:

1.الحقوق المالية المحضة : وهي التي تتعلق بمال المورث ، فهي تستحيل في مآلها الى مال لذا فأنها تعد جزءا” من التركة ، تنتقل الى الورثة وهي تشمل :

أ-الديون التي في ذمم المدينين فهي تنتقل الى الورثة بالصفة التي عليها.

ب-حق التعلي : وهو الحق في استعلاء بناء على بناء اخر .وهو حق مالي لانه في معنى المال بصيرورته كذلك بالمعاوضة فيورث كما يورث البناء نفسه.

ج-حقوق الارتفاق، كحق الشرب والمجري والمسيل سواء كانت تابعة للعقار ام منفردة عنه ،و هذه تورث لتعلقها بأعيان مالية .ولهذا يصح اخذ العوض عنها.

د-الدية(16) والارش(17).: فهي حقوق مالية تجب اولا” على الجاني او على حكم ملكه ان مات فيعد جميع ذلك من تركته التي تنتقل بالخلافة.

هـ- حق حبس الرهن لاستيفاء الدين ، فأنه متعلق بالمال المحبوس ، فمن مات دائنا” لغيره وعنده رهن بدين تنتقل العين المرهونة الى يد الوارث ومعها حق حبسها حتى يدفع المدين الدين الذي عليه ، ومثله في ذلك حق حبس المبيع(18).

2.الحقوق المالية المتعلقة بالشخصية : وهي الحقوق التي تجمع بين الجانب المالي والجانب الشخصي ،ولكن الجانب الشخصي فيها هو الغالب، لذلك فأن الفقهاء يذهبون الى عدم دخول هذه الحقوق في عناصر التركة وبالتالي عدم توريثها. مثل الانتفاع بسبب الاباحة كدار للسكنى او سيارة للركوب ، فأن الناحية المالية متوفرة لانه يعتاض عنه بالمال ، كما في اجارة الدار للسكنى ، وفي نفس الوقت يوجد فيه ناحية شخصية لانه لم يمنح لصاحبه الا لصفات فيه لاتوجد في غيره ، وان الناحية الشخصية هي الناحية الغالبة عند الفقهاء ، لذلك التحق هذا النوع عندهم بالحقوق غير المـالية (الشخصية) في عدم دخوله في عناصر التركة وبالتالي عدم توريثه . ومن هذا النوع ايضا” حق الرجوع في الهبة، ذلك انه وان كان حقا” ماليا” ، وبه يزداد مال الموهوب له ، الا ان الناحية الشخصية فيه الغالبة ، وذلك لما في الهبة من اغراض وغايات شخصية كتوثيق الصلة والمودة والبر بالموهوب له. ومن هذا النوع ايضا” اجازة تصرف الفضولي ، فأن حق اجازة التصرف حق شخصي لا يورث وانما يبطل العقد بموت المورث ، ومن هذا القسم ايضا” حق الاستحقاق في الوقف والولاية على المال وقد ادرج بعض الفقهاء في هذا القسم حق المدين في تأجيل الدين(19). فأن فيه جانبين، جانب شخصي وجانب مالي. اما الجانب الشخصي فيتمثل في كون تأجيل الدين روعي فيه حال المدين وشخصه وعلاقته وصلته بالدائن “لذا فأن الدائن يمنح هذا الاجل للمدين لاعتبارات شخصية ترجع اليه وبقدر ماهو وحده” وسواء كان المتوفى هو المدين او الدائن(20). واما الجانب المالي فيتمثل في كون العرف بين الناس في المعاملات جرى ان تكون الاثمان في الاجل اكثر وازيد من الاثمان الحالية ، وان تلك الزيادة هي في مقابلة الاجل . وقد ثار الخلاف بصدد اجل الدين ، فمنهم من ذهب الى سقوطه بموت المدين وعدم توريثه ترجيحاً للجانب الشخصي ، ومنهم من ذهب الى القول بتوريث حق الاجل في الدين كما هو رأي الفقه الغربي(21).

3-الحقوق المالية المتعلقة بالمشيئة والارادة لا بالشخصية:

وهي حقوق روعي في ثبوتها شخص الانسان ، ولكن لها شبه بالحقوق المالية ،لان من نتيجة ثبوتها أو قل من ثمراتها ، اكتساب بعض الاموال في نهاية الامر. ويمثلون لها بالخيارات المعروفة في البيع “خيار الشرط وخيار الرؤية وخيار التعيين وخيار العيب” ، وبحق الشفعة وبحق تحجير الارض الموات لاستصلاحها. لقد اختلف الفقهاء في عد هذه الحقوق عنصراً من عناصر التركة . والاساس الذي يقوم اختلافهم عليه هنا يكمن في كون هذه الحقوق قد اجتمع فيها جانبان: الجانب الشخصي ،ويتمثل بكون هذه الحقوق عبارة عن رغبةٍ ومشيئة، والجانب المالي، ويتمثل بكونها متعلقةً بالمال المبيع . فمن نظر الى الجانب الشخصي وغلّبه على غيره، قال بالحاق هذه الحقوق بالحقوق غير المالية، وهو مايعني بالضرورة القول بعدم دخولها في موجودات التركة. ومن نظر الى الجانب المالي وغلبه على غيره ، قال بالحاقها بالحقوق ، وبدخولها في موجودات التركة. ولقد ذهب فقهاء الحنفية والظاهرية الى الرأي الاول(22)،في حين ذهب الجمهور الى الرأي الاخر . وعلى هذا قال الحنفية بأن هذه الحقوق عبارة عن ارادة ومشيئة لمن ثبت له الحق، وهي بهذا الاعتبار لا تورث. وبناءأ” على ذلك اذا مات من له احد الخيارات في البيع ،سقط الخيار ولزم العقد ولا ينتقل الخيار الى وارثة ،وكذلك حق الشفعة ،فأن مات الشفيع قبل الحكم له بالشفعة ولو بعد المطالبة بها سقطت الشفعة ، وليس لورثته ان يطالبوا بالشفعة في العقار المشفوع فيه بسبب تملكهم ذلك العقار بطريق الارث عن مورثهم. في حين ان تلك الحقوق تنتقل الى الورثة على وفق رأي الجمهور. وان دليل الحنفية والظاهرية فيما ذهبوا اليه يتمثل في كون هذه الحقوق عبارة عن رغبة ومشيئة ،وهي تذهب بموت المورث ،لانهم يرجحون الجانب الشخصي فيها. وبهذا الاعتبار تعد حقوقا” شخصية لاتورث ،ذلك ان الارث حكم شرعي لايثبت الا بالنص وقد ورد النص به في المال فقط دون الحقوق وهو قوله” ص”: ” من ترك مالا”فلورثته” .وقد تمسك الحنفية بهذه الرواية فجعلوا الاصل فيما ينتقل من المورث الى الوارث ان يكون مالا” ، ويلحق به مافي معناه من الحقوق المالية. أما دليل الجمهور فيتمثل في قولهم أن الأموال والحقوق جميعها تورث عن صاحبها إلا ما قام الدليل على مفارقة الحق للمال ، من كون كل منهما يراد لمنفعته ، وان الحقوق المذكورة تعد حقوقاً مالية ،وذلك لتعلقها بالاعيان المالية ، وعلى هذا يحل الوارث محل المورث فيها ،وأما استدلال الحنفية بالحديث الانف ،فان الجمهور يذهبون الى أن الحديث لم يرد بهذه الصيغة وانما بصيغةٍ أخرى وهي قوله “ص” : “من ترك مالاً أو حقاً فلورثته ” .لذلك فانهم يوسعون من دائرة الحقوق التي تنتقل من المورث الى الوارث (23). ويبدو ان ماذهب اليه الجمهور هو الارجح ، وذلك لان كون هذه الحقوق تمثل الرغبة والمشيئة لمن تثبت له فأن ذلك لا تأثير له في الناحية المالية ولايضعفها لان هذا شأن الحقوق كلها فأن لصاحبها الحق في طلب استيفائها كما ان له الحق في تركها واسقاطها، ولا يؤثر ذلك في الناحية المالية .هذا فضلا” عن ان هذه الحقوق لم تثبت لصاحبها لخصوصية فيه وانما لما فيها من معنى المالية ، وهذا ناجم عن تعلقها بالمال ، هذا بالاضافة الى ان الجمهور يذهبون الى ان الرواية الصحيحة لحديث الرسول “ص” هي من “ترك مالا أو حقاً ” .

موقف القانون

اما بالنسبة لموقف القانون فأنه يمكن القول عموما” ان القانون يأخذ برأي الجمهور، فلقد تقدم القول ان المال في اصطلاح القانون هو الحق ذو القيمة المادية ،بمعنى انه يمكن تقديره بالنقود سواء كان حقا” عينيا” او شخصيا” او معنويا” “حقوق الملكية الادبية والفنية والصناعية” . وما دام امكن تقدير الحق بالنقود امكن القول بكونه مالا” من الأمول وبالتالي يدخل في موجودات التركة، وهذا ما ينسجم مع موقف جمهور الفقهاء في توسعهم من دائرة الحقوق التي تشكل موجودات التركة التي تنتقل الى الورثة. وفيما يتعلق بأنتقال حق الشفعة بالموت نجد ان القانون المدني المصري قد ترك هذه المسألة لاجتهاد القضاء ، ولقد اختلف ذلك القضاء بصدد هذا كثيرا” حتى استقر الامر على ما قررته محكمة النقض عام 1939 من ان حق الشفعة يورث اخيرا” . اما القانون العراقي فأنه نص صراحةً على عدم سقوط حق الشفعة بالموت، مما يعني القول بأنتقاله الى الورثة بالخلافة ، فلقد جاء في الفقرة (2) من المادة (1133) من القانون المدني العراقي ما نصه: “2-ومتى ثبتت الشفعة ،فلا تبطل بموت البائع او المشتري او الشفيع”.

اما فيما يتعلق بالخيارات فأن القوانين الوضعية قد نصت على انتقال الخيارات المتعلقة بالمال الى الورثة كخيار التعيين وخيار العيب وخيار فوات الوصف ، فلقد نصت المادة (300) من القانون المدني العراقي على ما يأتي : ” خيار التعيين ينتقل الى الوارث “.

ولقد استقر القضاء المصري على ذلك ايضا”. اما خيار الرؤية وخيار الشرط فانهما لاينتقلان الى الورثة ، فقد نصت الفقرة(1) من المادة (523) على انه : ” يسقط خيار الرؤية بموت المشتري ” ونصت المادة ( 51 )على الآتي: ” خيار الشرط لايورث فأذا مات من له الخيار سقط خياره”.

الخلاصــة

مما تقدم بصدد ما تشتمل عليه التركة يمكن الخلوص الى ان الفقهاء قد اتفقوا على امور واختلفوا على اخرى ، ولقد جاء القانون مرجحاً” هذا على ذاك ،وحسب الآتي:

اولا”- ما اتفق عليه الفقهاء :

1.لقد اتفق الفقهاء على ان جميع ما يتركه الميت من الاعيان المالية عقارا” كانت او منقولا” ،والحقوق التي الحقت بالحقوق المالية كحق حبس الرهن وحبس البيع هي من التركة.

2.واتفقوا ايضا” على ان الحقوق المتعلقة بشخص الانسان التي لاتتعدى الى غيره والتي اسموها بالحقوق الشخصية ليست من التركة اطلاقا” ،كحق الام في الحضانة وحق الاب في الولاية على المال وحق تولي الوظائف العامة وغيرها مما اتفق على انها ليست بمال ولا تابعة له ، لان هذا النوع من الحقوق ينتهي بوفاة صاحبه تاسيساً على انها لم تثبت للانسان حال حياته الا لميزة وصفة فيه، لذا فأنها تنتهي بوفاته ولا تدخل في تركته .

ثانيا” : ما أختلف عليه الفقهاء:

لقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك فكان هنالك فريقان، اولهما ،هو المتمثل برأي فقهاء الحنفية، وآخرهما هو المتمثل برأي فقهاء الجمهور، وكما ياتي :

1.لقد ذهب فقهاء الحنفية الى ان الحقوق الاخرى لا تدخل في موجودات التركة ومن ثم فأنها لاتورث الا ماكان منها ملحقا” بالمال او في معنى المال. في حين ذهب جمهور الفقهاء الى ان الحقوق كلها تدخل في تكوين التركة وتورث الا ماقام الدليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال ، وهذا مصداق للحديث الشريف ” من ترك مالاً أو حقاً فلورثته ” .

2-اما فيما يتعلق بالمنافع فالخلاف قائمٌ ايضا” بين الفريقين ، ومبنى ذلك الاختلاف يكمن في ان الحنفية لايورثون المنافع ،لانها لاتعد مالا” في نظرهم ، بخلاف الجمهور الذين يرون المنافع في عداد الاموال مما يعني بالقول بتوريثها.

3- لقد تبين رجحان رأي الجمهور فيما ذهبوا اليه من كون التركة تشمل بالاضافة الى الاموال الحقوق “بصورة عامة” ،والمنافع، ولقد دعم القانون هذا الرجحان حينما اخذ بهذا الرأي فعد كل ذلك جزءا” من التركة.

______________________

1- الجوهري ،الصحاح ،ج 5 ،ص1821 طبعة دار العلم للملايين .

2- ابن الاثير ، النهاية في غريب الحديث، ج 4 باب اللام مع الميم ،ص373.

3-الابتذال من البذل ، وبذل الشىْ اعطاه وجاد به ومنحه عن طيب نفس ،ينظر الفيومي، المصباح المنير ،الباء مع الذال ،ص56. ومن الجدير بالذكر أن هنالك تعاريف اخرى للمال منها تعريف رد المحتار:” المال مايميل اليه الطبع ويمكن ادخار ه لوقت الحاجة” ، ينظر: ج5 ص4 .

4- تنظر : المصادر المذكورة آنفا” . هذا ويذكر ان المنافع وبعض الحقوق وان لم تكن اموالا” الا انها تعد ملكا” لصاحبها ،لان الملك ما من شأنه ان يتصرف فيه بوصف الاختصاص. والمال ما من شأنه ان يدخر للانتفاع به وقت الحاجة ، ينظر: رد المحتار، ج5،ص5 .

5- المقصود بالميتة ، التي ماتت حتف انفها او بخنقٍ أو غيره.

6- قد تطرأ بعض الاوصاف على هذه الامور فتحولها الى مال.

7- لاشك في ان اباحة الانتفاع بالمحظورات في حالة الضرورة لاتأثير له على الحرمة ، ذلك ان جواز الانتفاع آنئذ انما مقصور على الضرورة وحدها ،وهي تقدر بقدرها. .

8- ينظر : أحمد فراح حسين، الملكية ونظرية العقد في الشريعة الاسلامية ،الدار الجامعية، 1986، الاسكندرية ،ص12 ، علي الخفيف ، احكام المعاملات الشرعية ، مطبعة السنة المحمدية ط4،1952 ، القاهرة ،ص3-4.

9- تنظر :المادة “65” من القانون المدني العراقي النافذ رقم 40 لسنة 1951 .

10- ينظر : محمد ابو زهرة ، احكام التركات والمواريث ، دار الفكر العربي ، 1963 ، بيروت ،ص48.

11- الفيومي ، المصباح المنير ،ص849 ، الكبيسي ،مصدر سابق ص62.

12- ينظر: الكاساني ،بدائع الصنائع ،ج7(كتاب الغصب)، طبعة دار الكتاب العربي ، بيروت ،ط2،1982 ،ص145 ، الزيلعي ،تبيين الحقائق ،ج5 ،ص234، ابن عابدين ،حاشية رد المحتار ،ج5 ص5، دار الفكر ،ج7 ،كتاب الغصب ،ص145 ،ابو زهرة ، احكام التركات والمواريث ، دار الفكر العربي ، القاهرة، ص5 ابو زهرة ، الملكية ونظرية العقد في الشريعة الاسلامية ،ص49.

13- ينظر: ابن قدامه ،المغني ،ج6،ص52 ، الزرقاني ،7،ص32 ، ابن رشد ، بداية المجتهد ،ج2،ص228 ،الزيلعي ،تبيين الحقائق ،ج5،ص134 ،ابو زهرة ، احكام التركات والمواريث ، ص50049 .

الموسوعة الفقهية ،ج21، وزارة الأوقاف الكويتية ،ص106.

14- ينظر الفيومي ، المصدر السابق ، الحاء مع القاف ، ص196-197 ،عمر عبد الله ، احكام المواريث ،ص34-35 .

15- ابن عابدين ، رد المحتار ،ج6، ص762 ،د. بدران أبو العينين ،أحكام التركات ،ص35 ،، الكبيسي ،التركة تكوينها ومدى تعلق الديون بها ،ص48.

16- الدية هي مايدفع من المال بدلا” عن النفس .

17- الأرش هو مايدفع من المال في نظير ماذهب من اطراف الانسان بأعتداء عليها .

18- ينظر: ابن عابدين ، رد المحتار ،ج6،ص759 ،وص762، د.أمين عبد المعبود زغلول ،أحكام الميراث والوصية في الشريعة الإسلامية ،ص58،محمد خيري المفتن ،علم الفرائض والمواريث في الشريعة الإسلامية والقانون السوري ،سوريا ص370 .

19- سوف نبحث هذا الموضوع بالتفصيل في الفصول القادمة.

20- ابن عابدين ، رد المحتار ،ج6،طبعة دار الفكر ،ص762،محمد زكريا البرديسي ، الميراث ،ص25 ، احمد الحصري ، التركات والوصايا ،ص9 “”،ج6ص762.

21- سنخصص مبحثاً مستقلاً للحديث عن هذا الموضوع ، في الفصل الثاني .

22- في الحقيقة هنالك بعض فقهاء الحنفية من اخذ برأي الجمهور بمعنى ان الرأي المنسوب الى الحنفية هو المشهور ، ومن الذين ذهبوا مذهب الجمهور في خيار العيب والرؤية والتعيين والوصف والقول بتوريثهما ابن عابدين ينظر، رد المختار ،ج6،ص762.

23- ينظر بصدد ماتقدم :الشيرازي ،المهذب (فقه شافعي) ،383/1،ابن رشد ، بداية المجتهد(فقـــــه مالكي)218/22 ، ابن قدامه ،المغني (فقه حنبلي)،ج5،ص347 ، البدائع(فقه حنفي)22/5 ،الزيلعي، تبييـن الحقائق ،ج5،ص257، اطفيش، شرح كتاب النيل(فقه اباضي )، ج11 ص453 ،دار الفتح ،بيروت ،ط2 ،72

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .