بحثا حول طرق و وسائل الإثبات في القضاء المدني الجزء الاول و الإداري

مذكرة تخرج لاحد الطلبة
المقدّمـــة
فالإثبات هو الذي يحقّق واقعيّة القانون بربط الوقائع اللاّمتناهية بالقواعد القانونيّة التي تحكمها[2] وقد دأبت تشاريع مختلف بلدان العالم على إحكام تنظيم قواعد الإثبات وجعلها تأخذ بعين الإعتبار واقع المعاملات ومختلف المراكز القانونيّة للأطراف التي تساهم فيها، وما يطرأ على أساليبها من مستجدّات تقنيّة وتحوّلات إقتصاديّة وإجتماعيّة.

ومتى حصل العكس وانفصلت الحقيقة القضائيّة عن الواقع، وبدت بعيدة عنه، يصبح القضاء مبعث حيرة وجدل.

ولقد عرف الإثبات القضائي مراحل متعدّدة، كانت أبرزها المرحلة المتولّدة عن اكتشاف الطّباعة والدّور الذي لعبته الكتابة والورق نتيجة ذلك في تثبيت الحقوق ودعم المعاملات ممّا جعل رجال القانون يؤرّخون باكتشاف ، إلاّ أنّ العالم يشهد اليوم تناميا ملحوظا لاستعمال الأجهزة الألكترونيّة وأدوات التوثيق الحديثة ممّا يدخل بنا في عصر العولمة، عصر الإدارة دون ورق، وخاصّة التّجارة دون ورق[4]، هذا الميدان الحيوي الذي يعيش اليوم تحوّلا مذ هلا أملاه تطوّر وسائل الاتّصال[5] لتظهر أشكال جديدة للتّجارة عن بعد ووسائل أجدّ لإثبات وقائعها.

ذلك أنّ هذه الأخيرة مارسها الإنسان منذ زمن بعيد لكنّها كانت تعتمد على طرق يدويّة تتطلّب بالضّرورة الانتقال المادّي للشّخص لإبرام الصّفقات وإنشاء المعاملات ومع تطوّر وسائل الإتّصال تخلّى الإنسان تدريجيّا عن الوسائل اليدويّة وأبدلها بوسائل إلكترونية كالهاتف والتّلغراف والتّلكس والفاكس والشبكات العصريّة وخاصة منها شبكة الأنترنات[6]

التي اكتسحت العالم في زمن قياسي مقارنة بوسائل الاتّصال الأخرى[7] منتجة نمطا جديدا من التّجارة يعرف بالتّجارة الألكترونيّة يتماشى وخاصيّة العالم الذي بدأ يقترب أكثر من أيّ وقت مضى نحو مفهوم “القرية الألكترونيّة” الذي تحدّث عنه مارش ماكلوهان[8] كوصف مقبل للكرة الأرضيّة في عصر إعجاز الإتّصالات والتّواصل.

فالأنترنات تنقل التّجارة إلى شاشات الكمبيوترات وتغيّر بنية الإقتصاد التّقليدي فلا حاجة في العمليّات التّجاريّة[9] سواء جمعت بين تاجرين[10] أو بين تاجر وغير تاجر[11] إلى استخدام القلم والورق أو حتّى رؤية الطّرف المقابل إذ تراجع الحضور الماديّ ليترك مكانه للحضور الإفتراضيّ اللاّماديّ في اتّجاه توفير متطلّبات التّجارة من سرعة وضغط على التّكلفة بالنّسبة للتّاجر يضاف إليها الرّاحة والهدوء بالنّسبة للمستهلك فالتّسوّق على صفحات “الواب” ضمن شبكة الأنترنات يتيح للمستعملين الإطّلاع على عناوين وأسعار الخدمات الأكثر انتشارا

مثل المصارف والفنادق والمسارح ووكالات الأسفار مع توفير إمكانيّة الحجز وقطع التّذاكر وإذا كانت بعض السّلع التّجاريّة تتطلّب دقّة أكثر على صعيد التّدقيق وكيفيّة الاختيار فإنّ البرامج الرّسوميّة الثّلاثية الابعاد على شبكة الأنترنات كفيلة بتحقيق الغرض المطلوب فعمليّة الشّراء تتمّ باختيار المستعمل الجناح الخاصّ بنوع السّلعة التّجاريّة المطلوبة ثم ينتقي الفئة المعيّنة داخل الجناح وأخيرا يختار السّلعة المنشودة تحديدا من اللاّئحة النّهائيّة التي تظهر على شاشة الحاسوب كما أنّ المستعمل يضع ما يشاء في سلّ التّبضّع الظّاهرة الواقعة عند أسفل الشّاشة ثم يقوم بضبط الكميّة حسب مبتغاه وتتمّ عمليّة الشّراء واحتساب السّعر طبقا لنوع كلّ سلعة تعقبها عمليّة الدّفع إلكترونيا.

وقد أجرى مركز دراسات المستجدّات في علم المال “سي إس إف آي” في بريطانيا أخيرا، دراسة حول التغييرات التي يمكن أن تحدثها شبكة الأنترنات على العمليّات الماليّة وكانت أبرز النّقاط في هذا الصدد :
Ø زيادة المنافسة في سوق الخدمات الماليّة مع إدخال أطراف جديدة وهذا ما يحصل في الوقت الحاضر.

Ø إطّلاع المستعملين بصورة أوسع على حقيقة العمليّات مع تزويدهم بالمزيد من المعلومات من مصادر مختلفة.

Ø تفوّق الشّركات التي تعتمد على التّقنيّات الجديدة وتعتمد أساليب تسويقيّة متطوّرة بواسطة الشّبكات المعلوماتيّة على تلك التي لا تزال تعتمد على الطّرق والوسائل التقليديّة.

Ø إزالة الحدود السّياسيّة والجغرافيّة القائمة بين المؤسّسات الماليّة، حيث يختار المستعمل المؤسّسة التي تناسبه على أساس الخدمات التي تؤمّنها وليس على أساس جنسيّتها.

ومن المعروف أنّ وسطاء البورصة والأسواق الماليّة يتقاضون عادة عمولات مرتفعة على الخدمات التي يؤدّونها من استشارات وإتمام صفقات بيع وشراء. وكانت نوعيّة ودقّة المعلومات التي يقدّمها الوسطاء هي المبرّر لفرض النّسبة المرتفعة من العمولات ويبدو أنّ هذه الحجّة لن يعود لها مبرّر في المستقبل وذلك بالنّظر إلى توافر جميع أنواع المعلومات المطلوبة على الأنترنات.

ومن جهة أخرى، تعدّ تجارة بيع السيّارات من أكثر أنواع التّجارة رواجا عبر الأنترنات خاصة في الولايات المتحدة حيث يستطيع المستهلكون الإتّصال بموقع متخصّص مع تحديد نوع السيّارة التي يرغبون بشرائها فيتلقّون إذ ذاك العروض من البائعين والشّركات ويختارون من يقدّم العرض الأفضل ليتمّ التّسليم إمّا في مقرّ البائع أو المشتري حسب الإتّفاق، كلّ ذلك في زمن جدّ قياسي.

وتقلّ أسعار السيّارات المعروضة عبر الأنترنات 10% تقريبا عن أسعار السيّارات المبيعة بالطّريقة التقليديّة والسبب في ذلك هو أن كلفة اشتراك بائع السيارات في شبكة لتأمين خدمات البيع عبر الشّبكة هي أدنى بكثير من تكاليف الدّعاية والتسويق بالاسلوب التّجاري التقليدي ولقد بلغت نسبة السيّارات التي تم بيعها بأسلوب التّجارة الألكترونيّة 13,24% في الولايات المتّحدة السّنة الماضية.

ويتوقّع الخبراء أن تشهد التّجارة الالكترونيّة إزدهارا واسعا خاصّة أنّ انخفاض أسعار أجهزة الكمبيوتر الشّخصيّة سيزيد من إقبال المستهلكين على شرائها وقد أصبحت التّجارة الألكترونيّة ركنا مهمّا في الاستراتيجيّة المتّبعة لدى قطاع الأعمال بشكل عام وتحاول الشركات الاستفادة من المقوّمات التي توفّرها الأنترنات في إنجاز التّعاملات التّجاريّة الكترونيّا بهدف خفض الكلفة وزيادة نسبة الأرباح ويتوقّع الخبراء تغييرات جذريّة خلال السّنوات الخمس القادمة تشمل كيفيّة استعمال الشبكة وتقنيّات الدّعم والبنية التحتيّة للشبكة.

أمّا صفقات الشّراء التي تمّت عبر الأنترنات في مختلف أنحاء العالم فقد بلغت قيمتها 10 بلايين دولار أمريكي خلال سنة 1997 ومن المتوقّع أن تصل هذه القيمة إلى 220 بليون دولار أمريكي بحلول سنة 2001 و327 بليون دولار أمريكي سنة 2002[12] وفي هذا الإطار عملت تونس على تعزيز قدراتها واستباق الأحداث واستشراف المستقبل بمواكبة المتغيّرات التّقنيّة والاقتصاديّة فرغم أنّ الواقع التّجاري التونسي لم يتشكّل الكترونيّا بعد وإن بدأت الخطوات حثيثة في اتجاه إتمام ذلك[13]، فقد ارتأى المشرّع التونسي، على خلاف بعض التّشاريع المقارنة[14]،إعداد الإطار القانوني الملائم حتّى يكون حافزا على الإقبال على التجارة الألكترونية، هذا النّمط التجاري الجديد الذي يستدعي فضلا عن السّرعة، تدعيم عنصر الثقة سواء بين المتعاقدين أو في نظم الإعلاميّة والتكنولوجيا المستخدمة.

فكان أن أصدر قانون المبادلات والتّجارة الألكترونية بتاريخ 9 أوت 2000 تحت عدد 83 الذي عرّف في فصله الثاني التجارة الألكترونية بأنّها العمليّات التجارية التي تتم عبر المبادلات الالكترونية التي عرّفها بدورها ذات الفصل بأنّها المبادلات التي تتمّ باستعمال الوثائق الألكترونية بما تكون معه هذه الأخيرة وسيلة الإثبات الحديثة في المادة التجارية المتسمة بحريّة الإثبات على معنى الفصل 597[15] من المجلّة التجارية إلا أن حريّة الإثبات لا تعني غياب الضّوابط بل يجب أن يكون مطابقا للقانون في وسائله لا مقيّدا كما هو الحال في المادّة المدنيّة[16].

لذلك بادر المشرع التونسي بتنقيح بعض الفصول من مجلّة الالتزامات والعقود بمقتضى القانون عدد 57 لسنة 2000 والمؤرخ في 13 جوان2000 لتنظيم الوثيقة الألكترونية فعرّفها ونظّرها بالكتب غير الرسمي بالفصل 453 مكرّر بعد أن أقرّ العمل بالإمضاء الألكتروني صلب الفقرة الثانية من الفصل 453 من ذات المجلّة.

ومبدأ حريّة الإثبات يحد تكريسا له سواء في الأعمال التّجاريّة الصّرفة التي تجمع بين تاجرين على معنى الفصل الثاني من المجلة التجارية أو في الأعمال التجارية المختلطة التي تجمع التاجر بغير التاجر وعليه فإن قواعد الإثبات لا تحدّد على أساس طبيعة الدّعوى إن كانت مدنيّة أو تجاريّة على معنى الفقرة الخامسة من الفصل 40 م.م.م.ت التي جاء فيها :

“وتعتبر دعاوى تجاريّة على معنى أحكام هذا الفصل الدّعاوى المتعلّقة بالنّزاعات بين التّجار، فيما يخصّ بعض نشاطهم التجاري.”

فالعبرة بنوع التّعامل وصفة الخصوم لا بالمحكمة المختصّة[17] إذ يمكن أن تنظر المحكمة المدنية في نزاع تجاري ويقع إعمال قواعد الإثبات الحر كما يمكن أن يطرح نزاع مدني أمام محكمة تجاريّة فتعمل قواعد الإثبات المدني.

وتجدر الإشارة إلى أن بادرة وضع إطار قانونيّ لكلّ هذه المسائل كانت صادرة من لجنة الأمم المتّحدة الخاصة بالقانون التجاري الدولي منذ سنة 1996 ووضعت قانونا نموذجيّا للتّجارة الالكترونيّة إهتدت به عدّة دول[18]، وحدّد هذا القانون الإطار العام للتّجارة الألكترونيّة،فضبط ميدانها ومفاهيمها ووضع المقاييس القانونيّة للإعتراف برسالة البيانات الألكترونيّة، فعرّف الوثيقة الإلكترونيّة وحدّد شروط الإعتراف بها وحجيّتها وعرّف الإمضاء الألكتروني وتبادل الرّضاء.

كما اتّخذ الإتحاد الأوروبي، في نفس الإطار، عدّة توصيات بلغت إلى الآن 13 توصية وذلك على امتداد عدّة سنوات[19] وبصرف النّظر عن استعمال أجهزة الهاتف[20] والفاكس والتليغراف والتّلكس[21]

في إجراء المفاوضات وإبرام العقود التّجاريّة، التي لا تطرح في حقيقة الأمر مسائل معقّدة لأنّ معظمها يترك أثرا كتابيّا بالمعنى التقليدي للكلمة، فإنّ أكثر ما يجلب التّساؤل هو مدى جدوى الإندماج في المنظومة اللاّماديّة التي يتأسّس عليها عمل الشّبكات الحديثة سواء كانت خاصّة أو عامّة ذلك أنّ أغلبها لا تترك أثرا كتابيّا خطيّا بل تخلّف وراءها وثيقة ألكترونيّة فهل ترى وسيلة الإثبات هذه، كفيلة بتحقيق المعادلة بين تطوّر المعاملات وتوفير الضّمانات؟

لئن كان عنصر التّطوّر حقيقة ملموسة تشهدها أغلب دول العالم وستعمّ حتما بقيّة الدّول الأخرى عاجلا أم آجلا تأسيسا لحضارة الحاسوب والأنترنات، فإن عنصر الضّمانات هو الذي بقي تحت المجهر ترتّب بمقتضاه درجة نجاعة الأنظمة القانونيّة ويحدّد بموجبه مصير تجربة التّجارة الالكترونيّة بين النّجاح والفشل.

وتتمثّل الضّمانات في كلّ ما من شأنه أن يطمئن المتعامل سواء أثناء سير المعاملة أو بعد انتهائها وخاصّة عند نشوب نزاع ناتج عن عدم تنفيذ أحد الاطراف لالتزاماته أو نكرانه لبعضها فهو في حاجة إلى التعّرف على معاقده للإطمئنان على سمعته التّجاريّة إن كان تاجرا أو على قدرته على الدّفع والوفاء إن كان مستهلكا، هذا في المرحلة السّابقة للتعاقد. أماّ إذا تمّ التّعاقد، فكلا الطرفين بحاجة إلى الإطمئنان إلى أنّ الإلتزامات المتبادلة سيقع تنفيذها وفي كلّ الحالات سيبقى لديهما أثر يعارض كلّ منهما الآخر بمحتواه.

وهي ضمانات يوفّرها العنصر الورقي المادّي والملموس للحجّة العاديّة، فما مدى قدرة الوثيقة الالكترونيّة على الحلول محلّ هذه الأخيرة في ضمان سلامة البيانات المتبادلة من التغيير والإتلاف من طرف الغير، والتّعريف بالطّرفين : واستثباتهما أي مراقبة هويّتهما وعدم إنكار المراسلة وما تحتويه من التزامات
La non répudiation ؟

وهنا يجدر التمييز بين الشّبكات المغلقة و الشّبكات المفتوحة حيث إنّ الشّبكات المغلقة (Intranetخلافا للشبكات المفتوحة (Internet) تضمن جانبا كبيرا من الامان والمصداقيّة فهي عبارة عن جملة من الحواسيب المرتبطة ببعضها بواسطة وسائل فنيّة وتديرها سلطة مركزيّة تتحكّم في الأشخاص الّذين بإمكانهم الدّخول إلى الشبكة عبر كلمة عبور تمكّنهم منها طبعا للإتفاقات المبرمة مسبّقا وتضمن هذه الشّبكات قدرا عاليا من الاستثبات والسريّة والأمان والدقّة طبقا للوسائل الفنيّة المستعملة وتمكّن في نفس الوقت من ضمان التعرّف على الحرفاء بواسطة الأرقام الشّخصيّة المسندة إلى كلّ واحد منهم مسبّقا.

في حين أنّ شبكة الأنترنات تمتاز بطابعها اللاماديّ وعنصرها الدّولي المفتوح إذ يجوز بالتّالي للكافّة الإبحار عبر مواقعها والإطلاع على مضامينها وليس من المستبعد أن يطّلع الغير على مضمون الرّسائل المتبادلة وقد يعمد إلى تغيير محتواها أو تحويره وذلك من الأمور الهيّنة وعليه تطلّب العمل أوّلا على ضمان سلامة الرّسائل المتبادلة من التّغيير والتّوقّي من تدخّل الغير غير المشروع بمضمون الوثيقة.

ويجب التأكّد من هويّة الطّرف المقابل بمعنى التّعرّف على حالته المدنيّة وأهليّته وسلطته القانونيّة وإن كان يجلس وراء شاشته في مكان بعيد من هذا العالم وإذا حاول إنكار قيامه بالمعاملة يتطلّب الأمر وضع الآليّات النّاجعة لمعارضته ومواجهته.

ووعيا منه بأنّ توفير أكبر قدر من الضّمانات هو الكفيل بدفع تجربة التّجارة الالكترونيّة نحو الإنتشار، حرص المشرّع على تنظيم الوثيقة الألكترونيّة منذ نشأتها مرورا بالتّعامل بها وإنتهاء بحفظها والإحتجاج بها أمام القضاء في جميع صيغها ففضلا عن قانون المبادلات والتّجارة الألكترونيّة وتنقيح مجلّة الالتزامات والعقود، نقّح المشرّع بعض فصول المجلّة التّجاريّة في اتّجاه إرساء المقاصّة الألكترونيّة وتمّم المجلّة الجنائيّة بإرساء الجرائم المعلوماتيةّ إلى جانب القرارات التطبيقيّة التي اعتنت بالجانب التقنيّ.

وبمقاربة جميع هذه النّصوص القانونيّة يتّضح أنّ التّوفيق بين مواكبة التّطوّرات الحاصلة في عالم المال والأعمال على مستوى تقنيّات التّعامل من جهة وبين إرساء مناخ آمن يوفّر أكبر قدر ممكن من الضّمانات من جهة أخرى، ممكن التحقيق ويجد لـه أساسا قانونيّا (الجزء الأوّل) غير أنّه بإعمال قاعدة الجدليّة بين القانون والواقع نقف على بعض الصّعوبات التي من شأنها أن تعرقل تحقيق تلك المعادلة ما لم يقع تجاوزها
(الجزء الثّاني).

الجزء الأول : وسائل الإثبات التجاري : تطور وضمانات : معادلة أسّس لها القانون

بقطع النّظر عن محيط التعامل سواء كان ماديا (Matériel) أو لامادّيا (immatériel) فإن المعاملة التجارية ، على غرار التعاقد في المادّة المدنية ، تمرّ زمنيّا بمرحلتين يتّم خلال أولاهما الإتفاق على إلتزامات كل طرف فيما يقع خلال الثانية تنفيذ تلك الإلتزامات والمتعاقد تاجرا كان أو حريفا في حاجة في كل مرحلة إلى الإحتفاظ بأثر يحرص على أن يكون كتابيا حتّى يتسنّى له الرّجوع إليه عند الإقتضاء للإستدلال به سواء على وجود الإلتزامات ونطاقها

( الفرع الأول ) أو على تنفيذها وبراءة الذّمة من عدمها ( الفرع الثاني ) .
الفرع الأول : إثبات الإلتزامات
ولئن إتّسمت المعاملة الإلكترونية بطابعها الاّمادي (Dématérialisation) باندثار السند الورقي فإنّ ذلك لا يعني غياب السّند مطلقا كما أسلفنا و إنّما تغيّر شكله ليصبح سندا إلكترونيا تمثّل الوثيقة الإلكترونية أحد تمظهراته

وأهمّها على الإطلاق على مستوى الإثبات لذلك و قبل التطرق إلى قوّتها الثبوتيّة مقارنة بالسند الورقي ( المبحث الثاني ) و مميّزاتها الأمنية ( المبحث الثالث ) وجب الوقوف أوّلا على ماهيّتها ( المبحث الأوّل ).

المبحث الأوّل : تعريف الوثيقة الإلكترونية
ويطلق عليها كذلك حسب عبارة بعض رجال القانون الوثيقة الرّقمية [22] أو الوثيقة المعلوماتية [23] و هي تعرف في إطار قانون الأونسيترال النّموذجي بشأن التجارة الإلكترونية برسالة البيانات التي يراد بها ” المعلومات التي يتم إنشاؤها أو إرسالها أو استلامها أو تخزينها بوسائل إلكترونية أو ضوئيّة أو بوسائل مشابهة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر تبادل البيانات الإلكترونية أو البريد الإلكتروني … “[24]

ومصطلح الوثيقة يطلق بصفة عامّة على كل كتب يشمل عنصر إثبات أو معلومة تحيل على الكتابة على سند ورقيّ وعلى هذا الأساس يرى ERIC.A.Caprioli أنّه طالما أصبحت المعطيات والمعلومات تتبادل بين الأطراف عن طريق وسائل ألكترونيّة فقد بات من الجدير التموقع في وسط اتصالي للحديث عن رسالة (message) بدل عبارة وثيقة(********) و مهما اختلفت التّسمية فهي تنطبق في كل الأحوال على نفس المسمّى المتمثّل فنيّا في سلسلة من الأرقام تعبّر عن حالة وجود كهرباء في السلك المجسّم أو مغناطيس في الذّاكرة المغناطيسية أو تباين ضوئي في ذاكرة القرص اللّيزري [25] ،

أمّا قانونيّا فوعيا منه بضرورة ملائمة وسائل الإثبات مع ما يشهده عالم المعاملات من تطور مطّرد أملته الثورة الرقمية والإتّصالية، أضاف المشرع التونسي فصلا لمجلة الالتزامات والعقود [26] عرّف في الفقرة الأولى منه الوثيقة الإلكترونية بكونها تلك ” المتكوّنة من مجموعة أحرف وأرقام أو أي إشارات رقمية أخرى بما في ذلك تلك المتبادلة عبر وسائل الاتصال تكون ذات محتوى يمكن فهمه ومحفوظة على حامل إلكتروني يؤمّن قراءتها والرّجوع إليها عند الحاجة ” .

وبالتّأمل في هذا المفهوم يتضح أنّ المشرع التونسي قد إرتأى ارساء مفهوم واسع للوثيقة الإلكترونية يستوعب جميع أشكال المعلومة وطرق نقلها عبر شتّى وسائل الإتّصال سواء الموجودة زمن إضافة هذا الفصل أوالتي من الممكن أن يفرزها التطور العلمي مستقبلا[27] .

هذا ما قصده المشرّع بصفة صريحة إلاّ أنّ التّأويل يمكن أن يذهب بنا إلى أبعد من ذلك, إلى صياغة مفهوم للكتب l’écrit و للكتابة المعتمدة قانونا كوسيلة إثبات على ضوء المستجدّات العلميّة المنعكسة ضرورة على طرق صياغة المعلومة سيّما و أنّ القانون التّونسي لم يتضمّن تعريفا للكتب و إنّما اقتصر على تعداد أصناف الكتائب المعتمدة كوسائل إثبات فحسب و ذلك صلب الفصلين 427 و 441 من مجلّة الالتزامات والعقود والّذين لم يشملها التّنقيح الأخير[28] على خلاف القانون الفرنسي الذّي اغتنم فرصة تنقيح بعض فصول المجلّة المدنيّة لملاءمتها مع تطوّر تكنولوجيا المعلومات ليورد تعريفا للبيّنة بالكتابة صلب الفصل 1316 من المجلّة المدنيّة والآتي نصّه :

« la preuve littérale ou preuve par écrit, résulte d’une suite de lettres, de caractères, de chiffres ou de tous autres signes ou symboles dotés d’une signification intelligible, quels que soient leur support et leurs modalités de transmission ».

وهو تعريف استغنى به المشرّع الفرنسي عن تعريف الوثيقة الإلكترونية بذاتها[29] بل ركّز مفهوما واسعا للكتب المعدّ للإثبات من شأنه أن يستوعب جميع أشكال الكتابة ومن ضمنها شكلها الإلكترونـي وذلك بقطع النظـر عن السّند

الذي يحملها وطريقة نقلها ممّا يؤسّس لنظرية متكاملة للبيّنة بالكتابة مرتكزة على مبدئين جوهريّين يتمثّل أولهما في الحياد التّقني(Le principe de la neutralité technique )
فبما يتمثّل ثانيهما في عدم التّمييز بالنظر إلى نوعية السّند ووسيلة الاتصال المعتمدة (Le principe de la non–discrimination à l’encontre d’un support ou d’un média).[30]
وبالرّجوع إلى نصوصنا القانونيّة وإجراء المقاربة بينها يمكن الخروج بنفس هذه النظرية الجديدة للبيّنة بالكتابة ذلك أنّ الفصل 453 مكرّر أورده المشرّع ضمن القسم الثاني من الباب الأوّل من المقالة الثامنة من مجلّة الالتزامات والعقود تحت عنوان “في البيّنة بالكتابة” وفي نفس هذا الاتجاه ورد بشرح الأسباب لمشروع القانون المتعلّق بتنقيح وإتمام بعض الفصول من مجلّة الالتزامات والعقود أنّه “

في نطاق مواكبة المشرّع لآخر المستجدّات خاصّة في مجال التّجارة الإلكترونية اقترح المشروع وضع تعريف للوثيقة الإلكترونية ونزّلها منزلة الكتب الخطّي ” وفعلا اعترف المشرّع بصفة صريحة صلب الفصل 453 مكرّر بأن الوثيقة الإلكترونية كتب[31]وبالتالي فإنّ تعريفها الواردة به مقتضيات الفقرة الأولى من ذات الفصل إنّما هو في الحقيقة تعريف للكتب والكتابة بما هي ” مجموعة من أحرف وأرقام أو أيّ إشارات رقمية أخرى بما في ذلك تلك المتبادلة عبر وسائل الاتّصال تكون ذات محتوى يمكن فهمه .”

وبالرّجوع إلى التّعريف اللّغوي للكتابة باعتبار أنّها مصدر كتب وكتب الرّجل كتبا وكتابا أي ” صوّر اللفظ بحروف الهجاء ” [32]يتّضح أنّ التعريف المذكور أعلاه صلب الفقرة الثانية من الفصل 453 مكرّر من مجلة الالتزامات والعقود ينسجم مع مفهوم الكتابة اللّغوي المتداول والمتفق عليه فالوثيقة الإلكترونية لم تخرج عن إطار تصوير الألفاظ والمعاني لكن بشكل يتوافق ومميّزاتها التقنيّة .

وطالما توصلنا إلى أن ّمحتوى الوثيقة الإلكترونية حسبما عرّفته الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر السّالف الذّكر يعدّ شكلا من أشكال الكتابة المعتمدة قانونا,[33] أمكن الاستنتاج أن الكتابة في القانون التونسي قد تحررت من سندها وأضحت مستقلة عنه [34].

بل وأكثر من ذلك أمكن اعتماد الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرر كتعريف للكتابة المعتمدة في الإثبات بصفة عامة ذلك أن تلك الفقرة لا تختلف في صياغتها عن صياغة الفصل 1316 من المجلة المدنية الفرنسية الذي جاء فيه أنّ ” الإثبات بالكتابة ينتج عن سلسلة من الأحرف والأرقام أو أيّ إشارات أو رموز أخرى يكون لها معنى يمكن فهمه مهما كان سندها أو طرق نقلها “

ومن ثمّ أمكن تحقيق مبدئي الحياد التقني والإتصالي
( La neutralité technique et médiatique ) الّذين تقوم عليهما نظرية الإثبات بالكتابة وهما مبدئان ولئن لم يتسنّى بعد لفقه القضاء التونسي التعرّض إليهما بالشّرح والبسط فإنّ فقه الفضاء الفرنسي كان سبّاقا في هذا الموضوع فمنذ سنة 1846 استقر فقه القضاء الفرنسي ، وسانده في ذلك الفقه ، على أنّ الكتب مستقل عن الأداة والمادّة المستخدمين في إحداثه [35] وكذلك كان موقف فقه القضاء الحديث الذي اعترف بصحّة الكتب بدون سند مادّي.[36]

إذن لم تزل الكتابة وإن انتفى القلم والورق غير أن الاعتراف بها في شكلها الجديد أضحى خاضعا لتوفر شرطين أملتهما متطلّباتها التّقنية وجسّمتها الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م.إ.ع فالمتعامل عبر الشّبكة المفتوحة يرسم عروضه وطلباته من خلال شاشة مرئية لجهاز الكمبيوتر وذلك باستعمال حروف هجاء أو أرقام أو إشارات رقمية تكون مفهومة ( الفقرة الأولى) ومحفوظة على حامل إلكتروني يؤمّن قراءتها والرّجوع إليها عند الحاجة ( الفقرة الثانية

الفقرة الأولى : قابلية محتوى الوثيقة الإلكترونية للفهم :
« Pour vivre heureux, il faut vivre caché »
هذه المقولة لـ ERIC.A.CAPRIOLI تختزل الأساس الذي يقوم عليه عالم الأعمال والتجارة والذي استعارته وجسمته الوثيقة الإلكترونية فالأمان والسرية هما سلاح كلّ رجل أعمال ومتعامل في المادّة التجارية لتحقيق نجاحه والتفوّق على منافسيه وقد يتراءى للبعض أنّ هاتين الخاصيتين تندثران كلّما ولجنا عالم التّجارة الإلكترونية ، عالم التعامل عبر أجهزة الحاسوب في إطار شبكة مفتوحة للعموم ، إلاّ أنّ المتأمّل في النّصوص القانونية المنظّمة للمادة وفي المسار التّقني الذي تسلكه المعاملة التجارية الإلكترونية ينتهي إلى أنّ أكثر ما يضمنه هذا الصنف من التعامل الأمانة والسرية وذلك بفضل استخدام تقنيّة التّشفير [37]

وقد شرّع لها القانون التونسي ونظّمها منذ سنة 1997 [38] لتصبح عماد التبادل والتخاطب الإلكتروني وتنسيقا مع هذا التمشي التشريعي جاءت الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرر من م.إ.ع ناصّة على أنّ الوثيقة الإلكترونية يجب أن تكون ذات محتوى يمكن فهمه. إلاّ أنّه بالإعتماد على مقتضيات الفصل 532 من م.إ.ع [39] يمكن أن نحوّر في عبارة النص لمزيد توضيح مقصد المشرّع وفق ما يتناسب والدّلالة اللّغوية والمنطق القانوني وذلك باستبدال جملة : ” تكون ذات محتوى يمكن فهمه “. بجملة : ” تكون ذات محتوى يمكن فهم معناه ” أو بجملة : ” تكون ذات محتوى له معنى يمكن فهمه ” . استئناسا بعبارة الفصل 1316 من المجلة المدنية الفرنسية التالية :
« … Dotés d’une signification intelligible … »

وهو الاتجاه الأصوب ومقصد المشرع الصحيح حسب رأينا ، فعبارة المحتوى تحيل إلى مطلع الفصل 453 مكرّر أي على تعريف الوثيقة الإلكترونية الشّكلي بما هي مجموعة أحرف[40] وأرقام[41] أو إشارات[42] ورموز[43] فإذا ما اقتصرنا على ربط الطّالع بنهاية الفقرة الأولى أصبح الشرط يتمثل في أنّ هذه الأحرف والأرقام

و الإشارات والرّموز يجب أن تكون مفهومة [44] أي يمكن قراءتها والتعرف عليها ويتسنّى ذلك بفضل استعمال مفاتيح التشفير التي عرّفها الفصل الأول من قرار وزير المواصلات لسنة 1997 المذكور سالفا بأنّها ” مجموعة الرّموز والإرشادات التي تمكّن من قراءة المعلومات المشفرة والبرامج أو الأجهزة المعلوماتية الخّاصة بها ” ذلك أنّه باستخدام تقنية التّشفير يصبح محتوى الوثيقة غير مفهوم أي أنّه لا يمكن تمييز مكوّناته وبإعمال مفاتيح التّشفير تصبح هذه الأخيرة واضحة فتصبح مثلا العلامة –X- بعد حلّ التشفير وفكّه

(Le déchiffrement ) تقابل حرف الهجاء – ب – وعلامة – Y – تقابل رقم 1…إلخ إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّنا أدركنا معنى هذه المكونات مجتمعة فعمليّة فهم المحتوى تقابلها عملية إيضاح المحتوى فحسب ونظلّ بالتالي في مستوى التّعريف الشكلي للوثيقة دون الولوج إلى جوهرها والمتمثل في معناها ودلالتها

(Sa signification ) وإلاّ فما جدواها في الإثبات إذ لا يكفي أن يكون محتوى الوثيقة واضحا ومقروءا ( Lisible ) بل يجب أن يكون منظّما ومرتّبا بصفة يؤدّي بها معنى ما يمكن فهمه (Intelligible)فالأحرف الواردة بصفة عشوائية أو الإشارات الوهميّة أو النصّ المكوّن على الحاسوب بصفة عرضيّة لا يمكن أن يمثّل وثيقة إلكترونيّة يعتدّ بها على صعيد الإثبات وعلى هذا الأساس وتأكيدا على عنصري تعريف الوثيقة الإلكترونيّة شكلا وأصلا كان من الأجدر استعمال عبارة ” سلسلة من الأحرف و…” (Suite de……) بدلا من عبارة “مجموعة من الأحرف و…..” (Ensemble de ….) إذ الأولى تفترض وجود تناسق وأنسجام وترتيب بين مكوّنات محتوى الوثيقة في حين أنّ الثانية لا تفترض بالضّرورة ذلك .

إنّ الخوض ، في إطار تعريف الوثيقة الإلكترونيّة , في مناقشة محتواها لا يخرج عن إطار المبدأ العامّ المعمول به والقائم على أنّ الكتب يجب أن يقدّم للقاضي بلغة واضحة ومفهومة (compréhensible) وذلك بقطع النّظر عن سنده ورقيّا كان أو إلكترونيّا وإلاّ فإنّه لن يعتمد في إطار الإثبات بالكتابة.

وأن يكون الكتب ذا معنى مفهوم يقتضي بالضّرورة توفر سند يؤمن قراءته والرجوع إليه, سندا تغيّر بتغيّر شكل الكتابة وطرق نقلها , سندا فرضته التقنيات المعلوماتيّة المستجدّة يسمّى الحامل الإلكتروني .
الفقرة الثانية : ضرورة حفظ الوثيقة على حامل إلكتروني
« Ne pas être on ne peut être prouvé , c’est tout un »
هكذا اختار كلّ من Laurent Boyer و Henri Roland [45]صياغة الحكمة المستخلصة من القانون الرّوماني
« Idem est non esse et non probari . »

ومفادها أنّه في غياب الحجّة يندثر الحقّ ولا يمكن المطالبة به . وبالتالي كان لزاما على كل متعامل الحرص على الاحتفاظ بأثر يثبت حصول المعاملة وجميع أطوار تنفيذها ولا يكفي الحصول على ذاك الأثر بل يجب حفظه والعناية به [46]. إذ بفقدانه أو بتلفه تتلاشى كلّ إمكانيّة للإثبات خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بمعاملة لا ماديّة بين أطراف يتخاطبون فيتفاوضون ثمّ يتعاقدون عبر شاشات الحواسيب ومختلف قنوات الاتّصال الحديثة .

وممّا لا شكّ فيه أنّ الكتب يدخل في إطار وسائل الإثبات المهيّأة من قبل الأطراف قبل نشوب أيّ نزاع بينهم ومن ثمّ وسواء كان كتبا ورقيّا
أو إلكترونيّا فإنّه يستوجب الحفظ بطريقة تضمن سلامته إلى حين الإدلاء به . وقد أولى المشرّع التّونسي أهمية كبيرة لمسألة حفظ الكتب إذ جعل منها , في مرحلة أولى , شرطا للاعتراف القانوني بالوثيقة الإلكترونيّة صلب الفقرة الأولى من الفصل 453 مكرّر م- إ –ع وفي مرحلة ثانية اعتبرها شرطا للاحتجاج بالوثيقة الإلكترونيّة وتنزيلها منزلة الكتب غير الرسمي صلب الفقرة الثانية من ذات الفصل [47] وذلك على غرار ما ورد في المادّة 6 من القانون النموذجي للأمم المتّحدة من أنّه : ” عندما يشترط القانون أن تكون المعلومات مكتوبة , تستوفي رسالة البيانات ذلك الشرط إذا تيسّر الإطلاع على البيانات الواردة فيها على نحو يتيح إستخدامها بالرّجوع إليه لاحقا.” وكذلك الشأن بالنّسبة للقانون الفرنسيّ[48] .

والحفظ (La Conservation) قانونا التزام يوجب على الشخص المطالب به الإبقاء على الوثائق وعدم التصرف فيها بعد إقفالها (إذا كانت دفاتر تجارية مثلا) أو بعد استيفاء شكلها النهائي (ان كانت وثائق من صنف مغاير) وذلك إلى انقضاء فترة معينة[49]. وقد جرى العمل على استعمال عبارة أرشيف
(Archivage ) كمقابل لعبارة حفظ والحال أن لكلا المصطلحين دلالة خاصة فبالنسبة لحفظ الأعمال القانونية فيتمثل في عملية مسك وصيانة الوثائق كما هي ، على حالتها ووقايتها من كل تغيير أو تلف وهو أيضا العملية المادية التي باحترام جملة من القواعد القانونية ، تضمن حماية حقّ ما.

أمّا الارشيف فيمثل بصفة عامّة في مجموعة من الوثائق مهما كان تاريخها وشكلها وسندها بدون أن تتوفر أدنى دلالة قانونيّة [50] .

ونظرا لأهميّة آثار الحفظ القانونية على مستوى الاثبات والاحتجاج بالوثيقة الإلكترونية [51]، سعى المشرع إلى إيضاح بعض جوانب المسالة والخروج بها من دائرة الاختيار إلى منطقة الوجوب والإلزام فقد جاء بالفقرة الثانية من الفصل الرابع من القانون عدد 83 لسنة 2000 المؤرخ في 9 أوت 2000 والمتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونية أن كلاّ من المرسل والمرسل إليه يلتزم بحفظ الوثيقة الإلكترونية في الشكل الذي أرسلها أو تسلمها به .

والحديث عن الحفظ يجرنا إلى الخوض في مسألتين تتعلق أولاها بالطرق المعتمدة في صيانة الوثائق الإلكترونية )أ( صيانة قد تطول وقد تقصر بحسب الآجال المرتقبة )ب(.

أ – طــرق الحفـظ :
لم يشترط المشرّع حفظ الوثيقة الإلكترونية لمجرد الحفظ فحسب وإنّما لتحقيق أهداف تعرّض إليها متفرّقة بين مجلّة الالتزامات والعقود[52] وقانون المبادلات والتّجارة الإلكترونية [53] فقد جاء بالفصل 453 مكرّر من م.إ.ع أنّ الحفظ يجب أن يتسلّط على الوثيقة الإلكترونية في شكلها النّهائي وبطريقة موثوق بها وذلك على حامل إلكتروني [54] حدّد الفصل 4 من قانون المبادلات والتّجارة الإلكترونية مميّزاته صلب الفقرة الثالثة منه :
” ويتمّ حفظ الوثيقة الإلكترونية على حامل الكتروني يمكّن من :

– الإطّلاع على محتواها طيلة مدّة صلوحيتها
– حفظها في شكلها النهائي بصفة تضمن سلامة محتواها.

– حفظ المعلومات الخاصة بمصدرها وبوجهتها وكذلك تاريخ ومكان إرسالها أو استلامها ” .

ومن ثمّ يتّضح أنّه ولئن أقرّ المشرّع صراحة المساواة القانونية بين وسائل حفظ الوثيقة الإلكترونية ووسائل حفظ الوثيقة العادية صلب الفقرة الأولى من ذات الفصل [55] فإن هذه المساواة أضحت مساواة وظيفية بمعنى مشروطة بعدة وظائف تقدم ذكرها وعلى الحامل الالكتروني ضمانها. فماهي إذن الحوامل أو الأوعية الإلكترونية الكفيلة بتحقيق تلك الغايات ؟ .
لقد جاء بتقرير أجوبة وزارة المواصلات على أسئلة واستيضاحات لجنة التشريع العام والتنظيم العام للإدارة ولجنة التجهيز والخدمات ولجنة الفلاحة والصناعة والتّجارة حول مشروع القانون المتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونية[56] أنّه في مستوى الحفظ ، يتّم الحفظ على حوامل إلكترونية تضمن سلامة محتوى هذه الوثيقة .من بينها فرص ليّن ، قرص مضغوط، ميكروفيلم، ميكروفيش، هذا بالإضافة إلى إمكانية خزنها بذاكرة الحاسوب “.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ المشرّع التونسي لم يضبط قائمة للحوامل الإلكترونية وإنّما ترك المجال مفتوحا لإستيعاب كل ما يمكن أن يحدثه التطور الحاصل في عالم الإعلامية والاتصالات ونقل المعلومة من وسائل توثيق وخزن حديثة بشرط أن تضمن هذه الأخيرة سلامة محتوى الوثيقة الإلكترونية [57] وهو شرط يستخلص سواء من صريح من صريح عبارة الفصل 4 من ق.م.ت.أ : ” … حفظها في شكلها النهائي بصفة تضمن سلامة محتواها.” أو من مداولات مجلس النواب والتي جاء فيها كرد على أسئلة بعض السادة النواب حول الأهداف المرجوة من إرساء جميع هذه الوسائل التقنية المحيطة بالتجارة الإلكترونية ما يلي :

” … وهي وسائل تهدف إلى تحقيق الوظائف التالية :
– ضمان سرية المبادلات ،
– التعريف بهوية الأطراف المتدخّلة
– الحفاظ على سلامة محتوى المبادلات
– ضمان عدم إنكار أحد المتدخلين للمبادلة بعد إنجازها …”

لذلك يتّجه بادئ ذي بدء ، الوقوف على المقصود من عبارة السلامة ” ذلك أنّ رجال القانون يميّزون السلامة L’intégrité عن التعويل والثقة
[58]La fiabilité ويساندون استعمال المصطلح الأول دون ، وهو ما ذهبت إليه جلّ التشاريع حول الإمضاء الإلكتروني[59] بإعتبار أنّ المفهوم الثاني ضبابي وجدّ واسع ممّا من شأنه أن يفسح المجال أمام تأويلات مختلفة من طرف الخبراء العدليين عند قيامهم بمهامهم بتكليف من المحكمة والتي تعمل في غالب الأحيان بما توصّلوا إليه نظرا لخصوصية المادة وما تتطلبه من معارف تقنية متخصّصة.

ولئن لم يعرّف المشرّع التّونسي مفهوم السّلامة[60] فإنّه يمكن تجاوز الأمر لإعتبارين يتمثل أوّلهما في أنّ مصطلح السلامة مصطلح عام متفق حول المقصود به وهو عدم تغيير محتوى الوثيقة من معطيات وبيانات واردة بها منذ الوقت الذي أنشئت فيه المرة الأولى في شكلها النهائي إلى حين الإحتجاج بها أو إلى حين انتهاء مدة الحفظ [61] فيما يتمثل الإعتبار الثاني في أنّه يمكن استنتاج تعريف لهذا المصطلح بالرجوع إلى مداولات مجلس النواب حول قانون التجارة الإلكترونية.

إنّ بمناسبة استفسار أحد السّادة النواب عن مدلول عبارة ” منظومة موثوق بها” الواردة بالفصل 4 من ق.م.ت أو هي ذات العبارة تقريبا الواردة بالفقرة 2 من الفصل 453 مكرر من م.إ.ع ” محفوظة … بطريقة موثوق بها…”.جاء في الجواب أنّها تهدف إلى ” ضمان سلامة المعلومات وصحّتها وحمايتها من التّلف وتسرّب الأخطاء إليها حتّى العفويّة منها “.

وفي المقابل كان القانون النموذجي حول التجارة الإلكترونية أكثر وضوحا إذ جاء بالمادة 8 منه ما يلي :

” يكون معيار تقدير سلامة المعلومات هو تحديد ما إذا كانت قد بقيت مكتملة ودون تغيير باستثناء إضافة أيّ تظهير وأيّ تغيير يطرأ أثناء المجرى العادي للإبلاغ والتّخزين والعرض.

وتقدّر درجة التّعويل المطلوب ( le degré de la fiabilité ) على ضوء الغرض الذي أنشئت من أجله المعلومات وعلى ضوء جميع الظروف ذات الصلة.”

فالسّلامة تقتضي إذن :
أوّلا :أن يكون الكتب قد إتخذ شكله النّهائي وليس في طور الأخذ والردّ أو التّفاوض مثلا بمعنى أنّ المعاملة قد استقرّت سواء في مرحلة الإلتزام أو في مرحلة تمام التنفيذ.
ثانيا : أن تكون الوثيقة ذات تاريخ مثبّت بها يمثل تاريخ نشأتها بما تحمله من معطيات.
ثالثا : عدم ادخال أيّ تغيير على محتوى الوثيقة بداية من ذلك التاريخ [62]

وفي سياق الحديث عن تغيير المعلومة وتلفها ،تجدر الإشارة إلى أنّ عمليّة التغيير هذه يمكن أن تحصل بإحدى هذه الطّرق الثلاثة :

1-تغيير طبيعي مردّه وجود خلل في وسيلة نقل المعلومة ويمكن تجاوزه بصيانة جيّدة للخطوط والأجهزة الطرفية وبالنّسبة للوعاء الإلكتروني فمن المفروض أن يكون مستعمله عالما مسبقا بخاصياته بما في ذلك نقائصه وخاصّة منها مدّة حياة هذا الوعاء وبالتّالي يمكنه تفادي حصول التّلف أو الخلل قبل انقضاء ذلك الأجل.

وأمّا العطب الطّارىء على الأجهزة فيمكن تفاديه بالصّيانة الوقائيّة التّي أثبتت جدواها بفضل تطوّر تكنولوجيا المعلومات علما وأنّ درجة التّعويل على الأجهزة المؤشّر عليها من طرف المصنّعين تكون دائما أقل من 100 % لكنّها بفضل التطور العلمي المطرّد أضحت تقترب شيئا فشيئا من تلك النّسبة المطلقة .

2- الخطأ البشري : يمكن تفاديه بعدّة طرق سواء بإعادة العمليّة من جديد أو بالرّجوع إلى الحلول التّي تقدّمها مختلف البرامج المعلوماتية المختصّة .
3- التدّخل الإيجابي : ويتمثّل في أنّ المتدخّل لا يكتفي بمجرّد التنصّت وإنّما يقوم إمّا بإتلاف الإرسالية أو بتغيير بعض البيانات فيها كالّتي تهمّ هويّة المرسل أو التّاريخ ويقع العمل على الحدّ من هذا الصّنف من المخاطر بإستحداث طرق تقنيّة حمائيّة سنأتي على استعراض بعضها في بابها.وبصفة عملية تتخذ الحوامل الإلكترونية أشكالا متعدّدة من بينها:

1- الميكروفيلم (Microfilm) وهو عبارة عن شريط (Film) يحتوي على مصوّرات أوفوتوغرافيا في حجم جدّ صغير مكوّنة لوثائق .
2- الميكروفيش (Microfiche) وهو عبارة عن وثيقة في حجم مضبوط
( 105 × 148 مم ) تحتوي على عديد الميكروفوتوغرافيا.
3- الأقراص الضوئية الرقمية ( disques magnéto-numériques )
4- الأقراص المغناطيسية البصرية Disques magnéto-optiques) )
5- البطاقات الليزرية
6- البطاقات ذات الذّاكرة (Les cartes à puce )
7- الحوامل المغناطيسية وتشتمل على الأقراص الصلبة والأقراص المرنة وكذلك على الأشرطة المغناطيسية ويخول كلّ حامل من تخزين المعلومات والمنظومات لمدة طويلة .

إلى جانب هذه الحوامل هناك القرص المضغوط لمدة طويلة CD-ROM وهو قرص ليزري مضغوط طاقة استيعابه كبيرة جدّا نسبيّا وهو قرص يقرأ فقط ولا يمكن الكتابة عليه ويتمّ تعريف القرص الصلب بحرف : C والقرص المرن بحرف : A والقرص المضغوط بحرف : D أو E .

ولهذه الأقراص طاقة استيعاب تحدّد بـ MEGA OCTET أي مليون حرف و Gega Octet وهي تساوي مليار حرف ووحدة القياس octet تساوي حرف كتابة فحرف الألف وحرف A والرقم 0 إلى 9 والفاصل والنقطة تأخذ Octet عند الخزن وهذه الوحدة تتكون من ثمانية بيت BIT أصغر وحدة تخزين داخل الذاكرة وتأخذ قيمة 1 أو 0 أحد الأرقام الثنائيّة المستخدمة في السفرة.

وهنا نتوقف للتساؤل عن كيفية خزن المعلومة تقنيا.
إنّ عمليّة الخزن تعتمد على التّسجيل الرّقمي للمعلومة فلتسجيل التّعبير الرقمي لصورة أو لنصّ يقع نقل المعطيات الموجودة بالذّاكرة الحيّة للحاسوب R.A.M إلى ذاكرة DE MASSE ومثالها القرص البصري الرقمي[63].

وما تجدر الإشارة إليه أنّنا عند التسجيل لن نعيد كتابة النص المرئي على الشاشة على القرص بل ما يتم تسجيله هو عبارة عن سلسلة مرتّبة ومنظمة من” 1 ” و ” 0 ” فأبجدية اللغة التي تفهمها تلك المنظومات أبجدية ثنائية تتكون من الصفر والواحد ويتمّ تمثيلها بواسطة نبضات كهربيّة متقطّعة تسري في أوصالها أو يتمّ تجميدها وحفظها على وسائل ممغنطة ف” كهربة البيانات ” تعني تحويلها من الصورة المرئية كخطوط مرسومة على صفحات الأوراق إلى تيارات كهربية متقطعة سارية في دوائر الحاسوب أو مجمّدة على وسائط التّخزين فيه.[64]

ولمزيد التوضيح ، فإنّه عند تسجيل معطيات على حامل رقمي لا نكتب شيئا بل إنّ الأمر يقتصر على تغيير أو عدم تغيير في حالة سطح الحامل فعلامة ” 1 ” تعني التغيير في حين أن علامة ” 0 ” تفيد عدم التغيير.

أمّا عملية قراءة البيانات المسجلة لاحقا فهي تتم كالتالي : تقوم وحدة المعالجة المركزية وبالتحديد وحدة المراقبة أو التحكم (CONTROL UNIT ) للحاسوب بفحص سطح الحامل فعندما تكتشف جزءا وقع تغييره ترسل إِشارة ” 1 ” إلى ذاكرة الحاسوب الحية وعند اكتشافها لجزء لم يقع تغييره ، ترسل إِشارة ” 0 ” وانطلاقا من هذه الإشارات الرقمية يعيد البرنامج المعلوماتي إظهار المعلومة بصورة واضحة على الشاشة أو على مخرجات ورقية.

كما تجدر الإشارة إلى أنّ التسجيل الرقمي يمكن أن يكون له أثران :
1- تسجيل قابل للرّجوع فيه لأنّه تمّ على حامل مهيّء لإمكانية الفسخ وإعادة التسجيل لمرّات عديدة ومثاله النموذجي الحوامل المغناطيسية .
2- تسجيل غير قابل للرجوع فيه لأنه تم على حامل لا يمكن التغيير فيه إلاّ لمرة واحدة فحسب كما هو الشأن بالنسبة للحوامل المعروفة “بـ ” WORM ”
(WRITE ONCE READ MANY).

ويعدّ النّوع الثاني من التّسجيلات الرّقمية هو الذي يحقق الضّمانات الكافية للإثبات من حيث ضمان ديمومة المعلومة وسلامتها وعموما فالمسلم به حسب بعض الفنّيين أنّ درجة السّلامة تختلف ارتفاعا وانخفاضا بحسب نوع الوعاء الإلكتروني المستعمل وقد أجريت في الغرض عملية مقارنة تقنية بين بعض النّماذج من الأوعية بدءا بالوعاء الورقي [65].

احتلّ خلالها القرص المضغوط (CD-ROM) المرتبة الأولى في ضمان السّلامة فيما كانت المرتبة الثانية من نصيب CD-WORM بينما حازت البطاقة اللّيزرية المرتبة الثالثة وفي المقابل تراجع الوعاء الورقي ليستقرّ في المرتبة الثامنة ومن ثمّ نتبيّن وأنّ الحامل الإلكتروني يوفّر ضمانات تفوق بكثير تلك التي يوفرها الحامل الورقي.

نفس النتيجة توصل إليها بحث تقني فرنسي وجّهت خلاله أسئلة إلى عدد من المختصين في مجال الحاسوب وخدماته[66]شمل :
1- أربعة مصنّعين لأجهزة الحاسوب وهم Bull و Digital و IBM و ICL .
2- مصنّع القرص المضغوط CD.ROM : شركة Ddigidoc
3- مصمّم برامج معلوماتية تخص استعمال الأقراص الضوئية الرقمية DON : شركة Dorotech .
4- مزوّد خدمات الإعلامية البعديّة : شركة TRANSPAC
5- Une agence sécurité : CAP-SESA FINANCE
6- Un serveur de sécurité des transmissions de données : sté véridial.

فقد طرح السؤال التالي :
ماهي الطرق والتقنيات المقترحة اليوم للأرشيف ؟
فكان الإتفاق حاصلا على ترشيح القرص الضوئي الرقمي (DON) إلى جانب اقتراح الشريط الممغنط magnétique Bande
وبسؤالهم عن الحلول الواجب اتباعها لضمان ديمومة التسجيلات أجابت شركة DDIGIDOC أن DON-WORM هو الكفيل بتحقيق تلك الغاية وساندها في ذلك البقية. مركزين على الخاصية التي تميز هذا النوع من الأقراص وهي عدم قابلية للرجوع فيه : IRREVERSIBLE ولكن هل أنّ عدم قابلية العامل للرجوع فيه تعني ضرورة عدم قابليّة المعلومة نفسها للرجوع فيها ؟

هل أنّ الإثبات بمثل هاته الوسائل يقتضي أن يكون الحامل هو الغير قابل للرجوع فيه ( Irréversible ) أم المعلومة في حدّ ذاتها ؟ تساؤلات تولّد استفسارات أخرى تظلّ جميعها مطروحة إلى حين محاولة الإجابة عليها في بابها ضمن المباحث القادمة.

ب – آجــال الحــــفــظ :
عند دراسة مسألة الآجال في الحفظ فإنّه تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز وعدم الخلط بين مدة الحفظ الواجب احترامها بالنسبة للوثائق المدرجة بالأرشيف وبين مدة التقادم بالنسبة للحقوق والإلتزامات المتعلقة بها رغم أنهما يتطابقان بصفة عملية ويبقى الإختلاف الوحيد متمثلا حسب رأي الأستاذ JEAN –LOUIS RIVES –LANGE في أنّ أجل حفظ الأرشيف هو أجل محدد بصفة مسبقة وغير قابل للقطع في حين أن أجل التقادم سواء في المادّة المدنية أو التجارية يمكن قطعه وتعليقه وبصفة عامة ،

يجب أن يستمر حفظ الوثائق إلى حين إنقضاء جميع آجال التقادم القانوني أي إلى حين استغراق جميع الآثار القانونية للعمل القانوني ، بحيث تكون الدعوى المؤسسة على الوثيقة محل الحفظ قد سقطت بمرور الزمن وتختلف بداهة آجال التفاهم في المادة التجارية عنها في المادة المدنية [67] ولئن يبقى القانون المدني مجسّدا في مجلة الإلتزامات والعقود هو المرجع الأصلي في كلّ فروع القانون خاصة التجاري منها وذلك بصريح عبارة الفصل 597 من المجلّة التجارية :

“جميع العقود التجارية خاضعة لأحكام هذه المجلة وإذا لم يوجد بها نص فتكون خاضعة لمجلة الإلتزامات والعقود وإلاّ كانت متماشية مع أصول العرف التجارية.”

وقد ضبط القانون التجاري آجالا للحفظ إلزامية وهو في الحقيقة عبارة عن أجل واحد نصّ عليه الفصل 8 من م.ت.الذي جاء فيه : ” على الأشخاص الطبيعيين أو الإعتباريين الملزمين بمسك حسابية :

3) وأن يحتفظوا لمدّة عشرة أعوام بجميع الوثائق المثبتة للعمليات المقيدة بالدّفاتر المشار إليها[68]. “

بينما اكتفت بقية النصوص القانونية المنظمة لبعض الأنشطة التجارية بالإحالة إلى هذا الفصل من ذلك ما ورد بالفصل الأول من قرار وزير المالية المؤرخ في 2 جانفي 1993 والمتعلق بضبط مختلف وثائق المحاسبة والجداول الإحصائية الواردة بالفصلين 60 و 61 من مجلة التأمين من أنه ” على مؤسسات التأمين أن تقوم بمسك الدفاتر والسجلات ومجموعة البطاقات التالية :

1) دفتر يومي ودفتر حصر طبقا لأحكام الفصول 8 إلى 13 من المجلة التجارية .

إلاّ أنّ مدّة الحفظ يمكن أن تتجاوز العشر سنوات التي لا تعدو أن تكون سوى أجل أدنى حسبما يستشف من أحكام الفصل 25 من القانون
عــ 112 ـدد لسنة 1996 المؤرخ في 30 ديسمبر 1996 والمتعلق بنظام المحاسبة للمؤسسات الآتي نصّها : ” تحفظ لمدة عشر سنوات على الأقل القوائم المالية الخاصة بكل سنة محاسبيّة وكذلك كل الوثائق والدفاتر وموازين الحسابات والمستندات والمؤيدات المتعلقة بها .”

وعلى سبيل المقارنة تتراجع آجال الحفظ في القانون التّجاري الفرنسي بين السنة الواحدة والعشر سنوات [69] .

وقد قام المشرّع الفرنسي بمحاولة خلق نوع من الإنسجام بين آجال التقادم وآجال الحفظ في المادة التجارية إذ جاء بالفصل 189 مكرر من المجلة التجارية الفرنسية ما يلي :

« Les obligations nées à l’occasion de leur commerce entre commerçants, entre commerçants et non commerçants, se prescrivent par dix ans si elles ne sont pas soumises à des pre******ions spéciales plus courtes. »

إلاّ أنّه تجدر الإشارة أنّه حتّى بعد انقضاء أجل التّقادم ، يمكن للقاضي أو للمحكمة بصفة عامة طلب تقديم وثيقة من المفروض أن تكون محفوظة فاستعمال الوثائق لا يبقى حكرا على الدعاوى المنجرّة مباشرة عنها وإنّما يمكن أن تكون صالحة للإثبات في إطار دعاوى أخرى تكون ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمحتوى تلك الوثيقة وهو ما أكده فقه القضاء الفرنسي في احدى قراراته القديمة [70].

ويعد ذلك تفسيرا منطقيا لتمسك المتعاقد بالسند الورقي نظرا لديمومته في الزمان والمكان، ديمومة يمكن أن يوفرها الوعاء الإلكتروني إذا ما توفرت فيه بعض المواصفات التقنية حسب الفنيين لكن ذلك يستدعي تكاليف باهضة. وكأمثلة عن آجال تقادم[71] قصيرة نسبيا نذكر أن الدعاوى الناشئة عن عقد نقل الأشخاص تسقط بمرور الزمن بعد انقضاء 3 سنوات أو 3 أشهر بحسب تاريخ احتساب الأجل ونوع الدعوى وفقا لمقتضيات الفصل 666 من م.ت.

فيما يصبح هذا الأجل يتراوح بين العام الواحد والشهر الواحد في إطار عقد نقل الأشياء تطبيقا لمقتضيات الفصل 652 من م.ت [72] ويتراوح الأجل بالنسبة للدعاوى المتعلقة بالشيك والكمبيالة بين 6 أشهر و3 سنوات حسب الفصلين 335 و 398 من م.ت.

وعلى صعيد دول الإتّحاد الأوروبي تتراوح آجال الحفظ في المادة التجارية بين 5 و 10 سنوات [73] فيما تتراوح آجال التقادم في المادة التجارية بين 5 و 15 سنة وفي مادة التأمين بين عامين و 5 سنوات.

ومنذ 11 ديسمبر 1981 ، أصدر المجلس الوزاري الأوروبي توصية إلى الدول الأعضاء بتحديد أجل إلزامي لحفظ الوثائق والدفاتر التجارية لا يتجاوز مدة 10 سنوات وقد التزمت جميع الدول الأعضاء بفحوى هذه التوصية ماعدا البرتغال وفي إطار ضبط مسؤولية مزوّد الخدمات ذات القيمة المضافة، نصّ الفصل 9 من قرار وزير المواصلات المؤرخ في 22 مارس 1997 والمتعلّق بالمصادقة على كراس الشروط الضّابط للشّروط الخاصة بوضع واستغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للاتصالات من نوع أنترنات على أوّل أجل في الحفظ الإلكتروني إذ جاء فيه أنه يجوب على المدير الذي يعينه مزوّد الخدمات طبق القانون ” المحافظة تحت مسؤوليّته على نسخة من محتوى الصفحات ومن الموزعين الذين قام بإيوائهم وذلك في شكل وثائق مكتوبة وعلى وسائط مغناطيسية مدة سنة بداية من تاريخ توقف إرسالها لغاية تقديم الحجة. “

بيد أنّ الفراغ التشريعي يظلّ قائما مع غياب كلّ نظام قانوني يأطر عملية الحفظ والخزن الإلكتروني مع أنّ ق.م.ت.أ ألزم طرفي المعاملة بحفظ الوثيقة الإلكترونية على الحالة التي توصّلا بها لكن من دون تحديد لكيفية الحفظ وهنا تكون العبرة بالغاية المرجوة من الحفظ لا بطريقته فطالما إتّجهت إرادة المشرع، كما أسلفنا، إلى ضمان سلامة الوثيقة الإلكترونية فمن المسلم به أن يكون الشرط الوحيد لاختيار طريقة الحفظ هو أن تكون كفيلة بتحقيق تلك الغاية وهي مسألة يجب أن تبقى مفتوحة باعتبار أن المعيار الفيصل فيها هو التطور التقني وما يفرزه من تقنيات جديدة وبالتالي فإنه لا يمكن حصرها صلب نص قانوني يعددها فيكبح تطورها.

وفي نفس هذا الإطار يطرح التساؤل حول مدى انطباق النّظام القانوني الحالي للأرشيف [74]وعلى الحفظ الإلكتروني
مبدئيا، لا مانع يحول دون ذلك بإعتبار أنّ الفصل الأوّل من القانون
عـ95 ـدد المؤرخ في 2 أوت 1988 نص على أنّ ” الأرشيف هو مجموع الوثائق التي أنشأها أو تحصّل عليها أثناء ممارسة نشاطه كل تشخص طبيعي أو معنوي وكل مرفق عمومي أو هيئة عامة أو خاصة مهما كان تاريخ هذه الوثائق وشكلها ووعاؤها.”

ولكن لا يجب أن نتغاضى عن الفرق بين مفهوم الأرشيف ومفهوم الحفظ وقد سبق القول فيهما فلئن كانت الوثيقة الورقية تمرّ مباشرة إلى الأرشيف نظرا إلى الإتفاق الحاصل حول سندها الورقي فإنّ الوثيقة الإلكترونية يجب أن تمر عبر مرحلتين يتم خلال الأولى حفظها وخلال الثانية أرشفتها، لذلك ونظرا لتأثير الحفظ وارتباطه الشديد بمسألة الإثبات الإلكتروني وما يستدعيه من تقنيات خاصة يديرها أهل خبرة يضمنون سلامة الوثيقة الإلكترونية من كل تغيير وتلف فقد بات من الضروري إسناد هذه المهمة إلى طرف ثالث غير بالنسبة لطرفي المعاملة يعرف باسم Tiers d’archivage وهو ما نادى به جلّ رجال القانون ورجال الميدان على حدّ السّواء [75]

وفي ذلك ضمان واحترام للمبدأ القائل بأنّه ” لا يمكن لأي كان أن يهيّء حججه بنفسه ” أو أنّ ” ما يصدر من شخص لا يكون حجّة له .

وهو مبدأ أكّدته الدائرة التجارية بمحكمة التعقيب الفرنسية في قرار صادر عنها بتاريخ 6 ماي 1997 [77] جاء فيه أنّ : ” محكمة الإستئناف كانت على صواب عندما قضت بأنّ الدّفاتر المحاسبيّة الراجعة إلى التّاجر المدين المدّعى عليه الآن والمحتج بها من طرف الخبير المحاسب لاستخلاص باقي أجرته ، لا تكتسي أي قوة ثبوتيّة طالما ثبت أن هذه الدّفاتر قد أقيمت من طرف ذات الخبير المحاسب المدّعي الآن. “

ولكن من عساه يكون هذا الغير الحافظ ؟
لم يتعرض التشريع المتعلق بالإثبات الإلكتروني سواء صلب م.إ.ع أو في إطار ق.م.ت.أ إلى هذه المسألة [78] لكن بمراجعة مداولات مجلس النواب [79] وردّا على سؤال أحد السّادة النّواب حول الآليات الجديدة التي يمكن استخدامها في البحث عن الأدلّة الثبوتية في التجارة الإلكترونية جاء ما يلي :

” يمكن لمزوّد الخدمة، عند الطّلب، إحداث أدلّة أخرى للإثبات كالإحتفاظ لفائدة الأطراف المتبادلة بنسخة من الوثيقة أو المصادقة على تسلم الوثيقة وتسجيل توقيت المبادلة. “

بمعنى أن هيكل المصادقة والذي سنتولاه بالدّرس في مباحث قادمة ، يمكنه أن يضطلع ، فضلا عن مهامه واختصاصاته المنظّمة صلب ق.م.ت.أ ، بمهمة حفظ وأرشفة الوثائق الإلكترونية إذا ما طلب منه ذلك.

بينما ارتأت منظمة الأمم المتحدة في إطار القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية ترك المجال مفتوحا لإسناد هذه المهمة إلى كل شخص طبيعي أو معنوي شريطة أن تتوفر فيه الكفاءة التقنية التي تمكنه من ضمان سلامة رسالة البيانات والرجوع إليها عند الحاجة إذ جاء بالمادة 10 تحت عنوان الإحتفاظ بوسائل البيانات أنه : ” يجوز للشخص أن يستوفي المقتضى المشار إليه في الفقرة (1) بالإستعانة بخدمات أي شخص آخر شريطة مراعاة الشروط المنصوص عليها في الفقرات الفرعية (أ) و (ب) و (ج) من الفقرة (1).”

ولئن توصّلنا إلى ضرورة تدخل طرف ثالث نزيه ومختص تقنيا يتولى حفظ الوثائق الإلكترونية فإن الأمر يظل في حاجة إلى تدخل حاسم على صعيد النصوص القانونية لضبط الشروط القانونية وتحديد المسؤوليات خاصة فيما يتعلق بالإتفاقيات حول الإثبات التي اعترف المشرع الفرنسي بصحتها بمقتضى قانون 13 مارس 2000 صلب الفصل 2-1316 ويكون بذلك قد كرّس فقه قضاء سابق جسمه قرار Créditas الصادر عن الدائرة المدنية الأولى بمحكمة التعقيب الفرنسية في 8 نوفمبر 1989 [80] .

هذه الإتفاقيات يمكن أن تتضمن اتفاقا حول التمديد في آجال الحفظ وحتى حول الوسائل الممكن اعتمادها في الحفظ فضلا عن الشخص الثالث المزمع تعهيده بمهمة الحفظ، وكما يمكن أن تكون هذه الإتفاقات شرعية بل أبعد من ذلك مشروعة[81] يمكن لها أن تتضمن شروطا تعسفية ومجحفة قد تخلّ بمبدأ التوازن التعاقدي بين طرفي المعاملة.

وهكذا إذن نكون قد توصلنا إلى حل اللغز الذي طرحه Lucien PAULIAC في إحدى كتاباته [82] على النحو التالي :
« ça procède de l’écrit, ça utilise des claviers propres à l’écriture, ça s’enregistre et ça se conserve, ça se reconstitue sous la forme de l’écriture et une fois reconstitué, ça se lit comme on lit une écriture, et pourtant, ce n’est pas un écrit et pourtant ce n’est pas un écrit.
Qu’est-ce que c’est ? c’est du numérique.
وتتواصل الأحجية :
ÇA sert à prouver actes et faits juridiques,
c’est le concurrent juré de l’écrit papier et ça sera peut être, un jour,
le vainqueur. Qu’est ce que c’est ?
C’est l’écrit électronique –

المبحث الثاني:الوثيقة الإلكترونية تضاهي في حجيّتها الوثيقة الورقيّة
منذ ظهور الوثيقة الإلكترونية على السّاحة القانونيّة عبر بوّابة الإثبات ووسائله ، أصبح رجال القانون[83] يتحدثون عن تراجع مبدأ تفوّق الكتب:
Le principe de prééminence de l’écrit وكأنّ الوثيقة الإلكترونية هي أبعد ما يكون عن الكتب والحال أنّها لا تعدو أن تكون سوى شكل جديد من أشكال الكتابة[84]، كما قدّمنا، فهي بالعكس تدعّم مبدأ تفوّق الكتب وهو مبدأ معمّر يرجع إلى 400 سنة[85]

فرغم الثورة الرقميّة والإتّصالية التي قذفت بنا في عالم إفتراضي، لا مادّي وأدخلت أعرافا وأنماطا جديدة في التّعامل بين النّاس، فقد حافظ التشريع التونسي على علويّة الكتب كوسيلة إثبات تحتلّ الصّدارة بطبيعتها في المادّة المدنيّة تبعا لنظام الإثبات المقيّد[86] وتفرض نفسها في المادّة التّجاريّة لما توفّره من ضمانات واستقرار للمعاملات.

وتتجسّد هذه المحافظة في الإعتراف للوثيقة الإلكترونية بحجيّة تضاهي تلك المعترف بها للوثيقة الورقيّة مع احترام مبدأ تدرّج وسائل الإثبات وترتيبها من حيث درجة الحجيّة ،Le principe de la hiérarchie des preuves دون أن ينجرّ عن ذلك أدنى تمييز أو تفاضل بين الكتب الورقي والكتب الألكتروني وتأسيسا على ذلك نصّت الفقرة الثانية من الفصل 453 جديد م-ا-ع الى أنّه :”تعدّ الوثيقة الألكترونيّة كتبا غير رسمي إذا كانت محفوظة في شكلها النّهائي بطريقة موثوق بها ومدعّمة بإمضاء ألكتروني.”

وتجدر الإشارة أنّ الإعتراف بحجيّة الوثيقة الإلكترونية على النّحو السّابق الذّكر لم يكن وليد اللّحظة الأولى بل إنّ المشروع الأوّلي لتنقيح مجلّة الإلتزامات والعقود نصّ على تنقيح الفصل 477 م-ا-ع لغاية توسيع مفهوم بداية الحجّة ليشمل وسائل الإثبات الحديثة مثل التّسجيلات المعلوماتيّة والأشرطة الممغنطة[87]، وتنقيح الفصل 478 م-ا-ع لغاية إقرار مفهوم التّعذّر المادّي والمعنوي للحصول على حجّة مكتوبة بالنّسبة إلى المعاملات الإلكترونية[88].

ثمّ تراجع المشرّع عن هذا الإتّجاه، واتجهت عنايته إلى إدماج فصل جديد:”468 مكرّر ر-م-ا-ع” بالباب المتعلّق بالمحرّرات التي تعدّ حججا مكتوبة واشترط أن لا تكون للوثيقة الإلكترونية قوّة في الإثبات إلاّ إذا كانت تحمل إمضاء الشخص الذي أصدرها وفق شروط تضمن مصداقيّتها[89] وكذلك كان الشأن بالنسبة للقانون المقارن حيث مرّ الإعتراف بحجيّة الوثيقة الإلكترونية في إطار البيّنة بالكتابة بعدّة مراحل فقد اعتبرت أوّلا فرينة من جملة القرائن ثمّ بداية حجّة أو صورة من صور التعذّر المادّي والمعنوي لتحرير الكتائب بصفة مسبّقة[90] إلى أن تمّ تكريس نظريّة المعادل أو المرادف الوظيفي : L’approche dite de l’équivalent fonctionnel. التي أسّس لها تشريع الأمم المتّحدة حول التّجارة الإلكترونية سنة 1996 الذي نصّ في قراءة عموديّة للمادّتين السادسة والتّاسعة منه أنّ رسالة البيانات تعدّ كتبا ولا يطبّق، في أيّة إجراءات قانونيّة، أيّ حكم من أحكام قواعد الإثبات من أجل الحيلولة دون قبولها كدليل إثبات لمجرّد أنّها رسالة بيانات[91].

ثم كرّس فقه القضاء تلك النّظريّة وخاصّة القرار التعقيبي الفرنسي الصّادر في 2 ديسمبر 1997[92] بعباراته التّالية

« L’écrit constituant, …, l’acte d’acceptation de la cession ou de nantissement d’une créance professionnelle peut être établi et conservé sur tout support, y compris pour télécopies, dès lors que son intégrité et l’imputabilité de son contenu à son auteur désigné ont été vérifiées ou ne sont pas contestées. » وما لبثت مختلف التّشاريع في العديد من أصقاع العالم أن انتهجت نفس الإتّجاه ونسجت على نفس منوال القانون النّموذجي للأمم المتّحدة المذكور أعلاه ونذكر على سبيل المثال سنغفورة[93] جمهوريّة كوريا، كاليفورنيا، إيطاليا[94]، ألمانيا[95]، أمريكا[96]، بلجيكا[97]، النّمسا[98]، كلومبيا، فرنسا[99]، إلخ، وجميعها جعلت من الكتب الإلكتروني مرادفا للكتب الورقي إمّا في درجة معيّنة من الحجيّة كالقانون التّونسي الذّي نزّلها منزلة الحجّة غير الرسميّة وإمّا بصفة مطلقة كما هو الشّأن بالنّسبة للقانون الفرنسي ورغم ذلك يبقى الإتفاق سائدا على أنّ شرط المعادلة بين هذين الشكلين من الكتائب يتمثّل في ضرورة ضمان الكتب الإلكتروني لوظائف الكتب الورقي التّقليدي وأهمّها التعريف بالشخص الصّادر عنه الكتب وضمان سلامة المعطيات التي يحتويها.

فأمّا السّلامة فهي تخضع أساسا لطرق الحفظ المعتمدة وقد سبق القول في ذلك وأما التّعريف بصاحب العمل القانوني فتؤمّنه مؤسّسة الإمضاء (الفقرة الأولى) وإذا أردنا المواصلة في اتّجاه المعادلة بين الورقي والإلكتروني فإنّه لا بدّ من الوقوف على مسألة النسخ وحجيّتها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : على مستوى الإمضاء :
هل يمكننا اليوم مع المستجدّات التقنيّة والقانونيّة الحديث عن مؤسّسة للإمضاء بما هي مجموعة من القواعد القانونيّة التي تضبط النّظام القانوني لهذا الأخير؟

نعم، هي الإجابة المباشرة، فبتنقيح مجلّة الالتزامات والعقود الأخير بمقتضى القانون عـ57ـدد المؤرّخ في 13 جوان 2000 وبإرساء إطار تشريعي خاصّ بالمبادلات والتجارة الإلكترونية في 9 أوت 2000 نحت المشرّع ملامح النّظام القانوني للإمضاء ماهيّة (أ) وآثارا (ب) في انتظار أن ينهي التطبيق وما يفرزه من فقه قضاء صقله.

أ – ماهيّــــــة الإمضـــــــاء :
يعتبر التشريع التونسي سبّاقا في وضع تعريف للإمضاء جاءت به مقتضيات الفقرة الثانية[100] من الفصل 453 م-ا-ع.

“ويتمثّل الإمضاء في وضع اسم أو علامة خاصّة بخطّ يد العاقد نفسه مدمجة بالكتب المرسوم بها أو إذا كان الكترونيّا في استعمال منوال تعريف موثوق به يضمن صلة الإمضاء المذكور بالوثيقة الألكترونيّة المرتبطة به.”
وهو في الحقيقة تعريفان يتعلّق الأوّل بالإمضاء الخطّي :Signature manuscrite (1) فيما يهتمّ الثاني بالإمضاء الألكتروني :Signature électronique (2)

1 – الإمضاء الخطّي أو اليدوي :
تجدر الإشارة منذ البداية إلى أنّ صياغة الفصل 453 م-ا-ع في حاجة من المفروض الى تعديل وإعادة نظر إذ من المفروض أن يكون الطّالع المجسّد في الفقرة الأولى عامّا بمعنى يتضمّن حكما عامّا ثم يأتي التفصيل أو الإستثناءات في الفقرات الموالية فإذا اعتمدنا هذا المنهج في قراءة الفصل 453 م-ا-ع فإنّنا سنقع حتما في تناقض فالفقرة الأولى نصّت على أنّه : “يجب أن يكون الإمضاء بيد العاقد نفسه بأسفل الكتب والطّابع لا يقوم مقامه بحيث يعتبر وجوده كعدمه”.

فيما جاءت الفقرة الثانية بتعريف لكلّ من الإمضاء اليدوي والإمضاء الإلكتروني على النّحو السّالف الذّكر، بما تكون معه الفقرة الأولى متماشية بصورة حصريّة مع تعريف الإمضاء اليدوي بما هو وضع اسم أو علامة خاصّة بخطّ يد العاقد نفسه لتكون امتداد له.

كما أنّ صيغة الوجوب المستعملة في الفقرة الأولى تجعل من الإمضاء اليدوي هو وحده المقبول قانونا[101] وهو ما يتناقض مع إعتماد الثنائيّة في الإمضاء من خلال الاعتراف بالإمضاء الإلكتروني ممّا من شأنه أن يتعارض ومقصد المشرّع في اعتما د اعتماد تعريف واسع للإمضاء يواكب تطورات تقنيات الإتّصال ويتماشى مع تعريف الوثيقة الإلكترونية.

فكيف يمكن تجاوز هذا الإضطراب غير المقصود قطعا؟ الحلّ بسيط وهو لغوي صرف يتمثّل في استبدال عبارة “ممضى بيد العاقد نفسه” بعبارة “ممضى من طرف العاقد نفسه” على غرار المشرّع الفرنسي الذي أبدل عبارة

« de sa main » الواردة بالفصل 1326 من المجلّة المدنيّة الفرنسيّة بعبارة « par lui-même » بمقتضى التنقيح المؤرّخ في 13 مارس 2000 وذلك نظرا لشموليّة العبارة الثانية واستيعابها لجميع أشكال الكتابة والإمضاء.
ونعود الى تعريف الإمضاء اليدوي لنلاحظ أن التعاريف قد تعدّدت وإن كانت تصبّ جميعها في نفس الدّلتا وتعدّدها راجع إلى إعتماد أحد المعيارين أو كليهما في التعريف : معيار شكلي وآخر وظيفي فالأوّل يعني بكيفيّة الإمضاء والثاني يبيّن الغاية منه.

فشكليّا عرفه البعض على النّحو الآتي :
« La signature est un signe personnel suffisamment distinctif. »[102] فيما اعتبره السيّد علي كحلون : “تلك العلامة التي يمضيها الشخص على الكتب تحت أيّة صورة كانت للدّلالة على موافقته على مضمون الكتب.”[103]

وهو بالنسبة للأستاذ ERIC A. CAPRIOLI :
« Une in******ion qu’une personne fait de son nom (sous une forme particulière et constante) pour affirmer l’exactitude, la sincérité d’un écrit ou en assumer la responsabilité. »[104]
وهذا التعريف يتقارب الى حدّ بعيد مع التعريف الذي أرساه مشرّع الكيباك (Québec) صلب الفصل 2827 من مجلّته المدنيّة

« La signature consiste dans l’apposition qu’une personne fait sur un acte de son nom ou d’une marque qui lui est personnelle et qu’elle utilise de façon courante, pour manifester son consentement. »

وفي نفس هذا الإطار يعرّفه D.PONSOT على أنّه :
« Une in******ion (ou un graphisme) originale, personnelle, habituelle et notoire, par laquelle un individu manifeste son consentement au contenu d’un écrit. »[105]
وفي تعريف وظيفيّ أكثر منه شكلي يماثل CHRISTOPHE DEVYS الإمضاء بـ :

« Tout signe intimement lié à un acte permettant d’identifier et d’authentifier l’auteur de cet acte et traduisant une volonté non équivoque de consentir à cet acte »[106]

ولئن عرّف المشرّع التونسي الإمضاء اليدوي في الفقرة الثانية من الفصل 453 م-ا-ع فإنّ تعريفه كان شكليّا صرفا[107] وكأنّ الشكل الذي قدّمه يغني المحكمة عن التأكّد من تحقّق الغايات المرجوّة من ورائه والتي تضمنتها المفاهيم السالفة الذكر وهي التعريف بالعاقد، استثباته والتّعبير عن موافقته على مضمون الكتب وسنأتي على ذكرها تفصيلا في بابها.
هذا الإتّجاه الذي اعتمده المشرّع التونسي مجسّدا في أنّ الشّكل يخفي المضمون أو يدل عليه يجد له المناصر والمناهض في فقه القضاء المقارن خاصّة

فالمناصرة تقودها محكمة Nancy من خلال حكم صادر عنها في 1 مارس 1831[108] أكّدت فيه أنّه يمكن الاستغناء في الإمضاء عن ذكر الإسم العائلي والإستعاضة عنه بكلّ عبارة أخرى مميّزة وخاصّة .

وكتطبيقات لهذا التوجه أقرّ فقه القضاء إمكانيّة استعمال اسم مستعار [109](un pseudonyme) أو التوقيع بالحروف الأولى من الإسم (Les initiales)[110] أو بالإشارة إلى علاقة قرابة[111] أو حتى إلى وظيفة ما وقد ذهب فقه القضاء بالنّسبة لشكل الإمضاء إلى اعتبار الخطوط أو الرّسوم التي يقوم بها الممضي على إثر كتابة اسمه أو إحدى العلامات بغية إضفاء صبغة شخصيّة وخصوصيّة على الإمضاء، ليست وجوبيّة ولا يمسّ غيابها من صحّة الإمضاء وهو موقف استقرّ عليه فقه القضاء المقارن القديم والحديث على حدّ سواء[112] فمنذ سنة 1846 حصل الاتّفاق على أنّه :

« …Il y a signature, lorsque le nom d’une personne écrit de sa main est mis à la fin d’un acte pour le certifier… l’absence du parafe, c’est à dire d’un ou de plusieurs traits de plume que certaines personnes mettent ordinairement à la suite de leur signature, ne peut donc la vicier, la rendre nulle. »

ولا يهم إن كانت العلامة أو الإشارة غير مقروءة ما دامت تكتسي خصوصيّة[113]

وأمّا المناهضة، مناهضة إتّجاه الشكل في الإمضاء كفيل بضمان غاياته، جسّدتها عديد القرارات نذكر من أهمّها قرار محكمة التعقيب الفرنسيّة الصّادر بتاريخ 15 جويلية 1957[114] والذي أكّدت فيه أن مجرّد علامة لا تكفي لتكون إمضاء, وفي قرار آخر اعتبرت أن العنوان أو المعطيات المطبوعة بطالع الرّسالة (l’en-tête d’une lettre) لا يمكن لها تعويض الإمضاء.

وتجدر الإشارة أنّه على عكس القانون التونسي الذي منع اعتماد الختم أو الطّابع كإمضاء[115]، سمح المشرّع الفرنسي بذلك في إطار قانون 16 جوان 1966 وذلك بصفة استثنائيّة.

ومع ظهور تقنيّات الاتصال الحديثة واقتحامها عالم الأعمال والأموال اتّجه رجال القانون إلى تعريف الإمضاء تعريف واسعا لا يمتّ بالماديّة بصلة حتّى يشمل جميع أشكاله وخاصّة في التّشاريع التي لم تعرّف أصلا الإمضاء اليدوي أو التي لم تعرّفه تعريفا ضافيا حتى بعد الحمّى التشريعيّة التي يشهدها العالم اليوم ومثالها التشريع الفرنسي الذي تضمّن تنقيحا لأحكام الإثبات ومع ذلك تبنّى تعريفا فضفاضا للإمضاء اليدوي جاءت به مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل
4-1316 من م-م-ف :
« La signature nécessaire à la perfection d’un acte juridique identifie celui qui l’appose. Elle manifeste le consentement des parties aux obligations qui découlent de cet acte. Quand elle est apposée par un officier public, elle confère l’authenticité à l’acte. »
وهو تعريف واسع يعتمد على تعداد وظائف الإمضاء بصفة عامّة دون الوقوف على الشكل مما يجعل هذا المفهوم المحايد صالحا لكلّ أشكال الإمضاء يدويّا كان أو إلكترونيّا أو أيّ نوع آخر[116].

2- الإمضاء الألكتروني :

على خلاف الإمضاء اليدوي حضي الإمضاء الإلكتروني باهتمام تشريعي كبير على الصعيد العالمي والاوروبي والدّولي ويعود ذلك الى أن الإمضاء الإلكتروني أدخل اضطرابا في نظام الإثبات وأصبح تقنيّة يفرضها التطبيق والواقع العملي فظهرت بالتّالي ضرورة تأطيره قانونيّا حتّى تستقرّ المعاملات وتوفّر رصيدا من الضّمانات.

وفعلا اعترف القانون التونسي كسائر التّشاريع المقارنة بالإمضاء الإلكتروني فأشار اليه صلب الفصل 453 مكرّر م-ا-ع وعرّفه بالفقرة الثانية من الفصل 453 من ذات المجلّة فيما اهتمّ ق-م-ت-أ بضبط مكوّناته.
ولمزيد التعمّق في دراسة الإمضاء الإلكتروني يتّجه استعراض بعض المحطّات في تاريخ الإعتراف به (1-2) للوقوف فيما بعد على بعض تطبيقاته (2-2).