أثر حكم الإلغاء في استحقاق الموظف لرواتبه

يترتب على الاثر الرجعي لحكم الغاء قرار انهاء العلاقة الوظيفية ان تعد خدمة المحكوم له متصلة ومقتضى ذلك استحقاقه لجميع المرتبات والمزايا المالية الاخرى التي حرم منها خلال فترة انهاء علاقته الوظيفية.(1) كما ان حكم الالغاء لا يكتفي بازالة الاثار التي رتبها القرار الملغي في الماضي مما اصطلح على تسميته بالرجعية الهادمة وانما يرتب بالاضافة إلى ذلك ضرورة القيام باجراء اخر من شانه اعادة بناء المركز الوظيفي لمن مسه القرار ومحاولة الوصول به إلى ما سيئول اليه لو لم يصدر هذا القرار وقد اصطلح على تسمية هذا الاثر بالرجعية البناءة لحكم الالغاء.(2)

ولا يجوز للادارة التملص من تنفيذ حكم الالغاء باعادة اصدار قرارها المحكوم بالغائه بعد تلافي عيوبه لان ذلك يولد احساسا لديها بان الحكم ليس له من القوة بحيث يلزمها وانها تستطيع ان تعيد القرار الملغي بحدود وفي هذا استخفاف شديد بحكم الالغاء(3) الذي يرتب على الادارة التزاما ايجابيا مقتضاه العمل على تنفيذ الحكم باتخاذ كل اجراء يقتضيه ذلك والتزاما سلبيا مؤداه الامتناع عن اتخاذ أي موقف ينم عنه الاعتداد بالقرار الملغي والتمسك به على أي وجه وذلك هو جوهر حجية حكم الالغاء واثره القانوني.

وتطبيقا لذلك يعد الموظف الذي الغى قرار فصله كما لو كان مستمرا بوظيفته خلال الفترة من تاريخ صدور قرار الفصل حتى تاريخ الحكم بالغائه ومن ثم يستحق راتبه عن هذه الفترة لان حرمانه من هذا الراتب يخالف مقتضى حكم الغاء قرار الفصل ويمثل اهدارا لحجيته.(4) وقد وجدنا من المناسب بحث هذا الموضوع في فرعين بحيث نتناوله في القانون المقارن في الفرع الاول فيما نتناوله في القانون العراقي في الفرع الثاني .

الفرع الاول / في القانون المقارن

يشكل انقضاء العقوبة الانضباطية قضائيا الفرصة الاخيرة المتاحة امام الموظف للتخلص من العقوبة واثارها اذ تتجه التشريعات المختلفة نحو الاعتراف ليس بحق الموظف في الطعن بالعقوبة لالغائها فحسب بل بالمطالبة بالتعويض عما اصابه من ضرر ان كان له مقتضى على وفق الاوضاع والشروط المقررة قانونا(5). وياتي ذلك كله في اطار توفير الحماية لحقوق الافراد وحرياتهم من اعتداء السلطات العامة عليها.(6)

ويعد حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية (Morton) الصادر بتاريخ 27/11/1891 من اكثر احكامه قدما في مجال ضمان حق الموظف الذي قضي بالغاء قرار انهاء علاقته الوظيفية في استرداد مرتبه كاملا.(7) ثم اعقب ذلك باصدار احكام اخرى في هذا الشان.(8) وتقوم احكام مجلس الدولة الفرنسي على فكرة الاثر الرجعي لحكم الالغاء بوصفها الوسيلة الوحيدة التي كانت تكفل حصول المحكوم له على حقوقه المالية نظرا لما كان سائدا من عدم مسؤولية الدولة عن (اعمال السلطة)، ومن بينها قرارات انهاء العلاقة الوظيفية.(9)

وبعد ان ارسى المجلس في حكمه في قضية (villenave) مبدا مسؤولية السلطة العامة عن فصل الموظفين(10) بعد ان كان ينكر حقهم في الحصول على أي تعويض(11) اصدر المجلس احكاما قرر بمقتضاها الحق في راتب كامل للموظف الذي يخضع لنظام وظيفي مقرر عن مدة فصله اذا حكم بالغاء قرار الفصل وبتعويض يتفاوت مقداره حسب ظروف الفصل اذا كان الموظف لا يخضع لنظام وظيفي معين.(12) وبعد ان الزم قانون 12/3/1930 جميع القرى بوضع انظمة لعمالها اتسع نطاق تطبيق نظرية المرتب وسادت قضاء مجلس الدولة الفرنسي.(13)

وبعد الانتقادات التي تعرضت لها نظرية المرتب اخذ المجلس يتجه نحو فكرة التعويض(14) وقد شكل حكمه الصادر في 7/4/1933 نقطة تحول في ذلك حيث قرر فيه ان من الغي قرار انهاء خدمته ليس له الحق في المطالبة بمرتب خلال فترة ابعاده عن الوظيفة- التي لم يؤد عملاً خلالها- وينحصر حقه في المطالبة بالتعويض عن الاضرار الفعلية التي لحقته نتيجة الاجراء غير المشروع الذي تعرض له(15) ، ومنذ ذلك التاريخ استقر قضاء مجلس الدولة على احلال مبدا التعويض محل استحقاق المرتب عن فترة الفصل(16) ، وقد قيلت عدة اراء فقهية بشان تقدير هذه النظرية لا يتسع نطاق البحث للخوض فيها.(17)

ولم يتردد مجلس الدولة المصري في اتباع الحل الذي انتهى اليه نظيره الفرنسي فقد قضت المحكمة الادارية العليا في حكمها الصادر في 13/1/1962 بالاتي: (ومن حيث ان المدعي يطلب الحكم له بمرتبه عن مدة الفصل بدعوى ان ذلك المرتب اثر من الاثار الحتمية المترتبة على الغاء قرار الفصل ومن حيث ان المرتب انما يمنح مقابل العمل فقد يصدر قرار بالتعيين في الوظيفة ومع ذلك لا يحتسب الاجر الا من تاريخ تسلم العمل وليس من صدور قرار التعيين ، وقد تطول الفترة بينهما، ولا تفيد المحاجة بان الحكم اذا قضى بالغاء قرار الفصل فان معناه عدم مشروعية القرار المذكور وان المدعي منع من مباشرة عمله نتيجة لهذا القرار المخالف للقانون، ويكون من حقه اذن ان يتقاضى مرتبه كاملا عن مدة فصله لان امتناعه كان لسبب خارج عن ارادته ، لاحجية في ذلك القول لان العمل غير المشروع او المخالف للقانون انما تسال عنه الادارة بدعوى تعويض متى توافرت عناصرها ومقوماتها التي توجب المسؤولية وهذا الامر متروك للمدعي اذا شاء ان يلج هذا الباب).(18)

وقد انتقد البعض هذا المسلك مطالبا بتقرير احقية من يلغى قرار انهاء خدمته برواتبه كاملة عن فترة وجوده خارج الخدمة.(19) وكانت المحكمة قد فرقت في قرارها الصادر في 4/4/1959 بصورة مطلقة بين طلب صرف المرتب عن مدة الفصل وبين طلب التعويض عن الضرر المترتب على قرار الفصل بسبب البطلان.(20)

الفرع الثاني / في القانون العراقي

لا يوجد في العراق نص تشريعي يخول مجلس الانضباط العام النظر بدعوى التعويض بل ان المشرع منحه سلطة الغاء القرار المطعون فيه امامه وترتيب الاثار التي ينبغي على الادارة الالتزام بها. غير ان هناك في قضاء المجلس عبارات تفيد ذلك. ويقدر صلة الامر بالراتب فقد ورد في قرار المجلس رقم 2/35 الصادر في 7/1/1935 والذي سبقت الاشارة اليه (… وحيث ان الموظف الموما اليه مثبت في وظيفته وتابع لاحكام قانون الانضباط فلا يجوز والحالة هذه فصله… لذا قرر المجلس باتفاق الاراء الزام وزارة المالية برواتبه من تاريخ اعادة تعيينه)(21).

وورد في قرار ديوان التدوين القانوني المرقم أ ج /321 في 22/3/1970 (ان الغاء امر الفصل يترتب عليه الغاء كافة الاثار الناتجة عن الفصل عدا الاثار التي نص القانون على ابقائها).(22) وفي قرار اخر للمجلس صدر بالرقم 71/64 في 3/6/1964 رفض المجلس فيه طلب احد موظفي وزارة التربية صرف روابته المتراكمة على اساس اعتباره مستمرا في الخدمة نتيجة الغاء الحكم الصادر في القضية 747/60 والذي ادى إلى عزله وقد سبب المجلس قراره على ان الموظف المذكور قد اعتبر مستغنى عن خدماته وليس معزولا لانه كان معلما تحت التجربة.(23) وهذا يعني بمفهوم المخالفة ان الموظف لو كان معزولا والغي قرار عزله لاستحق رواتبه.

وقد اكد مجلس شورى الدولة (الهيئة العامة) حق الموظف في الحصول على رواتبه عن المدة التي قضاها خارج الوظيفة بسبب القرار الانضباطي غير المشروع وذلك في القرار رقم 72/انضباط تمييز/2000 في 22/12/2000 والقرار رقم 40/انضباط تمييز/2000 في 10/7/2000.(24) وعلى الرغم من ان المشرع لم يمنح مجلس الانضباط العام سلطة الحكم في التعويض الامر الذي دعا جانبا من الفقه إلى المطالبة بتدخل تشريعي لمنح هذا الاختصاص للمجلس(25).الا ان البعض يرى ان المجلس بامكانه ممارسة هذه السلطة حتى في ظل عدم وجود النص التشريعي مبررا نظره هذا على اساس ان جبر الضرر الذي يصيب الموظف من عقوبة يباشر المجلس قضاء الالغاء بالنسبة لقرار فرضها حتم لازم اذا طالب به الموظف وان القضاء الاداري يجتهد في احيان كثيرة فيبسط رقابته على قرارات لم ينص المشرع على جعلها من حصته. لا بل ان هناك سابقات قضائية اكد فيها اختصاصه في نظر منازعات معينة نص المشرع صراحة على تحصينها من كل الطعون.( 26)

واذا كان الموظف قد سحبت يده قبل قرار انهاء علاقته الوظيفية فان الحكم بالغاء القرار يترتب عليه استحقاق الموظف لانصاف رواتبه الموقوفة خلال فترة سحب يده وذلك لان الامتناع عن دفع هذه الانصاف ما هو الا اثر رتبته المادة (19/اولا) من القانون رقم 14 لسنة 1991 على فصل او عزل الموظف بمقتضى هذا القانون او غيره ولما كان الغاء الفصل او العزل يعد بمثابة اعدام لاي منهما باثر رجعي فان ذلك يسري على انصاف الرواتب المؤقوتة بسبب سحب اليد شريطة ان يكون السحب قد وقع عن الفعل الذي انهيت خدمة الموظف بسببه ثم حكم المجلس بإلغائه. ويسري ذلك على حالة تخفيف العقوبة إلى غير الفصل او العزل مع مراعاة احكام المادة (19/ثالثا) من القانون رقم 14 لسنة 1991.

___________________

1- د. عبد المنعم عبد العظيم جيرة: اثار حكم الالغاء، دراسة مقارنة في القانونين المصري والفرنسي/ دار الفكر العربي/ القاهرة 1971ص508.

2- د. مصطفى كمال وصفي/ اصول اجراءات القضاء الاداري/ عالم الكتب/القاهرة 1978 ص553.

3- د. محسن خليل/ القضاء الاداري ورقابته لاعمال الادارة /قضاء الالغاء/ منشاة المعارف/ الاسكندرية 1962 ص372.

4- حكم محكمة القضاء الاداري في مصر رقم 1083 في 21/12/1960. احمد سمير ابو شادي/ مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها الجمعية العمومية بلقسم الاستشاري للفتوى والتشريع لمجلس الدولة معلق عليها في عشر سنوات (يناير 1960-يناير 1970) ج1 ص994.

5- د. مصطفى عفيفي: فلسفة العقوبة التاديبية واهدافها، دراسة مقارنة/ القاهرة 1976ص475.

6-Xavier Philppe، Droit administratif des liberter، Economica. 1998 p.6.

7- مشار اليه لدى د. وهيب عياد سلامة: الفصل بغير الطريق التاديبي ورقابته القضائية/ مكتبة الانكلو المصرية/ القاهرة/ بدون سنة طبع ص853.

8- الحكم الصادر في 9/6/1899 والحكم الصادر في 8/8/1899 والحكم الصادر في 15/11/1912. وهذه الاحكام اشار اليها د.عبد المنعم عبد العظيم جيرة/ مصدر سابق ص508.

9- المصدر نفسه ص509.

10- حكم المجلس في 11/9/1903. د.وهيب عياد سلامة/ مصدر سابق ص794-795.

11- حكم المجلس في قضية Cadot الصادر في 13/12/1899. المصدر نفسه ص795.

12- حكم المجلس في 13/3/1914. د.عبد المنعم عبد العظيم جيرة/ مصدر سابق ص509.

13- د. وهيب عباد سلامة/ مصدر سابق ص855.

14- لمزيد من التفاصيل حول هذه الانتقادات راجع المصدر نفسه ص856 وما بعدها.

15- د. عبد المنعم عبد العظيم جيرة/ مصدر سابق ص509.

16- حكم المجلس الصادر في 24/5/1933 في قضية Fraisse وحكمه الصادر في 11/7/1933 في قضية Dommergue. وحكمه الصادر في 19/7/1933 في قضية Sechere الاحكام مشار اليها لدى د.عبد المنعم عبد العظيم جيرة/ مصدر سابق ص510.

17- لمزيد من التفاصيل حول الاراء التي قيلت في شان تقدير هذه النظرية راجع المصدر نفسه ص511.

18- الحكم مشار اليه لدى د.عبد المنعم عبد العظيم جيرة/ مصدر سابق ص510 وانظر كذلك حكم محكمة القضاء الاداري رقم 1083 في 21/12/1960 الذي اشرنا اليه في بداية هذا المطلب.

19- المصدر نفسه ص599.

20- الحكم مشار اليه في المصدر نفسه ص511.

21- منشور لدى د. محمود خلف حسين: الحماية القانونية للافراد في مواجهة اعمال الادارة في العراق/ رسالة دكتوراه / جامعة بغداد 1986 ص354 وما بعدها.

22- منشور في مجلة القضاء / العدد الثالث/ السنة الخامسة والعشرون/ 1970 ص345 وما بعدها.

23- منشور في مجلة ديوان التدوين القانوني/ ع1و2/س4/1965 ص196 وما بعدها.

24- اشار اليهما د.علي احمد حسن اللهيبي/ اثر العقوبات وانقضائها على المركز القانوني للموظف/ رسالة دكتوراه/ كلية النهرين للحقوق/ بغداد 2003 ص193.

25- د. عصام عبد الوهاب البرزنجي: مجلس شورى الدولة وميلاد القضاء الاداري العراقي/ مجلة العلوم القانونية/ جامعة بغداد/ العددان الاول والثاني 1990ص143.

26- د. غازي فيصل مهدي: شرح احكام قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع الاشتراكي رقم 14 لسنة 1991/ مطبعة العزة/ بغداد 2001ص89..